فصل: التوحيد والتوكل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **


ثلاثون كتاب التوحيد والتوكل

بيان فضيلة التوكل

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏ 122‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏3‏]‏‏.‏

وفى الحديث‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً لا حساب عليهم، ثم قال‏:‏ “ هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون”‏.‏ أخرجاه فى “الصحيحين”‏.‏وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم يقول‏:‏ “ لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً”‏.‏وكان من دعاء النبى صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ “اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال، وصدق التوكل عليك، وحسن الظن بك” (1)والتوكل يبتنى على التوحيد، والتوحيد طبقات‏:‏منها أن يصدق القلب بالوحدانية المترجم عنها قولك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ‎، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، فيصدق بهذا اللفظ، لكن من غير معرفة دليل، فهو اعتقاد العامة‏.‏

الثانية‏:‏ أن يرى الأشياء المختلفة، فيراها صادرة عن الواحد، وهذا مقام المقربين‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يرى الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أن لا فاعل سوى الله، لم ينظر إلى غيره، بل يكون منه الخوف وله الرجاء وبه الثقة وعليه التوكل، لأنه فى الحقيقة هو الفاعل وحده، فسبحانه والكل مسخرون له، فلا يعتمد على المطر فى خروج الزرع، ولا على الغيم فى نزول المطر، ولا على الريح فى سير السفينة، فإن الاعتماد على ذلك جهل بحقائق الأمور‏.‏ ومن انكشفت له الحقائق، علم أن الريح لا تتحرك‏.‏بنفسها، ولا بد لها من محرك‏.‏ فالتفات العبد فى النجاة إلى الريح يضاهى التفات من أخذ لتضرب عنقه ، فوقع له الملك بالعفو عنه ، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي كتب به التوقيع ، ويقول‏:‏ لولا هذا القلم ما تخلصت ، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم، وهذا غاية الجهل‏.‏ ومن علم أن القلم لا حكم له فى نفسه، شكر الكاتب دون القلم، وكل المخلوقات فى قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم فى يد الكاتب، فسبحان مسبب الأسباب الفعال لما يريد‏.‏

1ـ فصل في بيان أحوال التوكل وأعماله وحده ونحو ذلك

اعلم‏:‏ أن التوكل مأخوذ من الوكالة، يقال‏:‏ وكل فلان أمره إلى فلان، أي فوض أمره إليه، واعتمد فيه عليه‏.‏

فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء‏:‏ الشفقة، والقوة، والهداية‏.‏ فإذا عرفت هذا، فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت فى نفسك أنك لا فاعل سواه واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة والرحمة، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه ، فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين ‏:‏إما ضعف اليقين بأحد هذه الخصال‏:‏وإما ضعف القلب باستيلاء الجبن عليه ، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة علية، فإن القلب قد ينزعج ببقاء الوهم وطاعته له من غير نقصان فى اليقين، فإنه من كان يتناول عسلاً، فشبه بين يديه بالعذرة، ربما نفر طبعه منه ، وتعذر عليه تناوله‏.‏ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت فى قبر أو فراش أو بيت ، نفر طبعه من ذلك، وإن كان متيقنا كونه ميتاً جماداً فى الحال، ولا ينفر طبعه عن سائر الجمادات، وذلك جبن فى القلب، وهو نوع ضعف قلما يخلو الإنسان منه، وقد يقوى ذلك حتى يصير مرضاً، حتى يخاف أن يبيت فى البيت وحده مع غلق الباب وإحكامه‏.‏

فإذا لا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوى اليقين جميعاً، فإذا انكشف لك معنى التوكل، وعلمت الحالة التي تسمى توكلاً، فاعلم أن تلك الحالة لها فى القوة والضعف ثلاث درجات‏:‏

الأولى‏:‏ ما ذكرناه ، وهو أن يكون حاله فى حق الله تعالى الثقة بكفالته وعنايته، كحاله فى الثقة بالوكيل‏.‏

الدرجة الثانية‏:‏ وهى أقوى، أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها، ولا يعتمد إلا إياها، وإن نابه أمر كان أول خاطر يخطر على قلبه، وأول سابق إلى لسانه ‏:‏ يا أماه‏.‏ فمن كان تألهه إلى الله، ونظره إليه، واعتماده عليه، كلف به كما يكلف الصبي بأمه، فيكون متوكلاً حقاً‏.‏والفرق بين هذا وبين الأول، أن هذا متوكل قد فني فى توكله عن توكله، إذا لا يلتفت إلى غير المتوكل عليه، ولا مجال فى قلبه لغيره‏.‏

وأما الأول ، فهو متوكل بالتكليف والكسب، وليس فانيا عن توكله، بل له التفات إليه ، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده‏.‏

الدرجة الثالثة‏:‏ وهى أعلى منهما، أن يكون بين يدي الله تعالى مثل الميت بين يدي الغاسل، لا يفارقه إلا أنه لا يرى نفسه ميتاً، وهذا يفارق حال الصبي مع أمه فإنه يفزع إلى أمه، ويصيح ويتعلق بذيلها‏.‏وهذه الأحوال توجد فى الخلق، إلا أن الدوام يبعد، ولاسيما المقام الثالث‏.‏

2ـ فصل في بيان أعمال المتوكلين

قد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة، وكلحم على وضم (2)‏ ،وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام فى الشرع‏.‏والشرع قد أثنى على المتوكلين، وإنما يظهر تأثير التوكل فى حركة العبد وسعيه إلى مقاصده، وسعى العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب، أو حفظ موجود كالادخار ، وإما لدفع ضرر لم ينزل، كدفع الصائل، أو لإزالة ضرر قد نزل، كالتداوى من المرض، فحركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة‏.‏

الفن الأول‏:‏ فى جلب المنافع ، فنقول‏:‏ الأسباب التي بها تجلب المنافع على ثلاث درجات

أحدها ‏:‏ سبب مقطوع به كالأسباب التي ارتبطت بها المسببات بتقدير الله تعالى ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف، مثاله، أن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع، فلا تمد يدك إليه وتقول‏:‏ أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومد اليد إلى الطعام سعى، وكذلك مضغه وابتلاعه، فهذا جنون محض، وليس من التوكل فى شئ، فإنك إذا انتظرت أن يخلق الله فيك شبعاً دون أكل الطعام، أو يخلق فى الطعام حركة إليك، أو يسخر ملكاً ليمضغه ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله‏.‏وكذلك لو لم تزرع، وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون، وليس التوكل فى هذا المقام ترك العمل، بل التوكل فيه بالعلم والحال‏.‏أما العلم ‏:‏ فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام، واليد، والأسباب، وقوة الحركة، وأنه الذي يطعمك ويسقيك‏.‏وأما الحال، فهو أن يكون قلبك واعتمادك على فضل الله تعالى، لا على اليد والطعام، لأنه ربما جفت يدك، وبطلت حركتك، وربما سلط الله عليك من يغلبك على الطعام، فمد اليد إلى الطعام لا ينافى التوكل‏.‏

الدرجة الثانية‏:‏ الأسباب التي ليست متيقنة، لكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها‏.‏ مثاله من يفارق الأمصار، ويخرج مسافرا إلى البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً، ولا يستصحب معه شيئاً من الزاد، فهذا كالمجرب على الله تعالى، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سافر تزود واستأجر دليلاً إلى المدينة‏.‏

الدرجة الثالثة‏:‏ ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي فى التدبيرات الدقيقة فى تفصيل الاكتساب ووجوهه، فمتى كان قصده صحيحاً وفعله لا يخرج عن الشرع، لم يخرج عن التوكل، لكنه ربما دخل في أهل الحرص إذا طلب فضول العيش‏.‏وترك التكسب ليس من التوكل فى شئ، إنما هو من فعل البطالين الذين آثروا الراحة، وتعللوا بالتوكل‏.‏قال عمر رضى الله عنه ‏:‏ المتوكل الذي يلقى حبه فى الأرض ويتوكل على الله‏.‏

الفن الثاني‏:‏

فى التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه، فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل، خصوصاً إذا كان له عائلة‏.‏وفى “ الصحيحين” من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيع نخل بنى النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم‏.‏فإن قيل‏:‏ فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يدخر، فالجواب‏:‏ أن الفقراء كانوا عنده كالضيف، فما كان ينبغي أن يدخر فيجوعون ، بل الجواب ‏:‏ أن حال بلال وأمثاله من أهل الصفة كان مقتضاها عدم الادخار، فإن خالفوا كان التوبيخ على الكذب فى دعوى الحال لا على الادخار الحلال‏.‏

الفن الثالث‏:‏ مباشرة الأسباب الدافعة للضرر‏.‏ ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم فى الأرض المسبعة (3) أو مجرى السيل، أو تحت الجدار الخراب، فكل ذلك منهي عنه‏.‏وكذلك لا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال‏.‏ وقال الله تعالى ‏{‏ وليأخذوا أسلحتهم‏}‏ ‏[‏النساء ‏:‏ 102‏]‏‏.‏وجاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقال ‏:‏ يارسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل‏؟‏ قال‏:‏ “اعقلها وتوكل”‏.‏ويتوكل فى ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضيا بكل ما يقضى الله عليه ومتى عرض له إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه ، فقد بان بعده عن التوكل‏.‏وليعلم أن القدر له كالطبيب ، فإن قدم إليه الطعام فرح، وقال ‏:‏ لولا أنه علم أن الغذاء ينفعني ما قدمه، وإن منعه فرح، وقال ‏:‏ لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني‏.‏واعلم‏:‏ أن كل من لا يعتقد فى لطف الله تعالى ما يعتقده المريض فى الطبيب الحاذق الشفيق، لم يصح توكله، فإن سرق متاعه رضى بالقضاء، وأحل الآخذ، شفقة على المسلمين‏.‏ فقد شكا بعض الناس إلى بعض العلماء أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله،

فقال‏:‏ إن لم يكن غمك كيف صار فى المسلمين من يفعل هذا أكثر من غمك بمالك، فما نصحت المسلمين‏.‏

الفن الرابع‏:‏ السعي فى إزالة الضرر، كمداواة المريض ونحو ذلك‏.‏

اعلم‏:‏ أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏

إلى مقطوع به ، كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا القسم ليس تركه من التوكل فى شئ‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن يكون مظنوناً، كالفصد، والحجامة، وشرب المسهل، ونحو ذلك‏.‏ فهذا لا يناقض التوكل، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تداوى وأمر بالتداوى‏.‏وقد تداوى خلق كثير من المسلمين ، وامتنع عنه أقوام توكلاً، كما روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قيل له ‏:‏ ألا ندعو لك طبيباً‏؟‏ فقال‏:‏ رآني الطبيب‏.‏ قيل‏:‏ فما قال لك ‏؟‏ قال‏:‏ إنى فعال لما أريد‏.‏قال المصنف رحمه الله ‏:‏ والذي ننصره أن التداوي أفضل، وتحمل حال أبى بكر رضى الله عنه أنه قد تداوى ثم أمسك بعد انتفاعه بالدواء، أو يكون قد علم قرب أجله بأمارات‏.‏واعلم‏:‏ أن الأدوية أسباب مسخرة بإذن الله تعالى‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أن يكون السبب موهوماً، كالكى، فيخرج عن التوكل، لأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم وصف المتوكلين بأنه لا يكتوون‏.‏وقد حمل بعض العلماء الكي المذكور فى قوله‏:‏ “ لا يكتوون” على ما كانوا يفعلونه فى الجاهلية، فإنهم كانوا يكتوون ويسترقون فى زمن العافية لئلا يمرضوا، فان النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقى الرقية بعد نزول المرض، وقد كوى أسعد بن زرارة رضى الله عنه ‏.‏وأما شكوى المريض، فهي مخرجة عن التوكل، وقد كانوا يكرهون أنين المريض، لأنه يترجم عن الشكوى، فكان الفضيل يقول‏:‏ أشتهي مرضا بلا عواد‏.‏وقال رجل للإمام أحمد‏:‏ كيف أنت ‏؟‏ قال ‏:‏ بخير‏.‏ قال حممت البارحة‏؟‏ قال‏:‏ إذا قلت لك‏:‏ أنا بخير، فلا تخرجني إلى ما أكره‏.‏فأما إذا وصف المريض للطبيب ما يجده، فإنه لا يضره‏.‏ وقد كان بعض السلف يفعل ذلك، ويقول‏:‏ إنما أصف قدرة الله في ، ويتصور أن يصف ذلك لتلميذ يقويه على الضراء ويرى ذلك نعمة، فيصف ذلك كما يصف النعمة شكراً لها، ولا يكون ذلك شكوى‏.‏وقد روينا أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ “ إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم”‏.‏