فصل: الصبروالشكر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **


كتاب الصبر والشكر

وهو شطران‏:‏

الأول‏:‏ فضل الصبر وحقيقته وأقسامه ونحو ذلك‏.‏ وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، فقال تعالى ‏:‏‏{‏وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال ‏:‏‏{‏وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏ وقال ‏:‏‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

فما من قربة إلا أجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال الله تعالى ‏(1):‏‏{‏الصوم لى وأنا أجزى به‏}‏‏.‏ وقد وعد الله الصابرين بأنه معهم، وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال ‏:‏‏{‏أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 157‏]‏ والآيات في هذا كثيرة‏.‏

وأما الأحاديث، ففى ‏"‏الصحيحين‏"‏ من حديث أبى سعيد رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ‏:‏‏"‏ما أعطى أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر‏"‏ وفى حديث آخر ‏:‏‏"‏الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد‏"(2)‏ وقال الحسن‏:‏ الصبر من خاصية الإنسان، ولا يتصور في البهائم لنقصانها، وغلبة الشهوات عليها من غير شئ يقابلها، ولا يتصور الصبر أيضاً في الملائكة لكمالها، فإن الملائكة جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصدها عن حضرة الجلال‏.‏

وأما الإنسان فإنه يخلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة، ثم شهوة النكاح، وليس له قوة الصبر، فإذا تحرك العقل وقوى، ظهرت مبادئ إشراق نور الهداية عند سن التمييز، ولكنها هداية قاصرة لا مرشد لها إلى المصالح الآخرة، فإذا عقد بمعرفة الشرع تلمح ما يتعلق بالآخرة وكثر سلاحه، إلا أن الطبع يقتضي ما يحب، وباعث الشرع والعقل يمنع، والحرب بينهما قائمة، ومعركة هذا القتال قلب العبد، فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوات، فإن ثبت حتى قهر الشهوة التحقق بالصابرين، وإن ضعف حتى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها، التحق بأتباع الشياطين، وإذا ثبت أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة الهوى، فهذه المقاومة من خاصية الآدميين‏.‏

1ـ فصل ‏[‏في أقسام الصبر‏]‏

اعلم أن الصبر على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ بدني، كتحمل المشاق بالبدن، وكتعاطي الأعمال الشاقة من العبادات أو من غيرها‏.‏

الضرب الآخر‏:‏ هو الصبر النفساني على مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى، وهذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج، سمى عفة، وإن كان الصبر في قتال، سمى شجاعة، وإن كان في كظم غيظ سمى حلماً، وإن كان في نائبة مضجرة، سمى سعة صدر، وإن كان في إخفاء أمر سمى كتمان سر، وإن كان في فضول عيش سمى زهداً، وإن كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمى قناعة‏.‏

وأما المصيبة، فإنه يقتصر فيها على اسم الصبر، فقد بان بما ذكرنا أن أكثر أخلاق الإيمان داخلة في الصبر، وإن اختلفت الأسماء باختلاف المتعلقات‏.‏

ثم اعلم أن العبد لا يستغني عن الصبر في كل حال من الأحوال، وذلك أن جميع ما يلقى العبد في الدنيا لا يخلو من نوعين‏:‏

النوع الأول‏:‏ ما يوافق هواه من الصحة، والسلامة والمال، والجاه، وكثرة العشيرة، والأتباع، وجميع ملاذ الدنيا، فالعبد محتاج إلى الصبر في جميع هذه الأمور، فلا يركن إليها، ولا ينهمك في التلذذ بها، ويراعى حق الله تعالى في ماله بالإنفاق، وفى بدنه بالمعونة للحق‏.‏

ومتى لم يضبط نفسه عن الانهماك في الملاذ والركون إليها، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان، حتى قال بعض العارفين‏:‏ المؤمن يصبر على البلاء، ولا يصبر على العافية إلا صدِّيق‏.‏

وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه‏:‏ ابتلينا بالضراء فصبرانا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر‏.‏

ولذلك قال الله تعالى ‏:‏‏{‏لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 9‏]‏ وقال تعالى ‏:‏‏{‏واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 28‏]‏ ‏{‏إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 14‏]‏

فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية، وهذا الصبر متصل بالشكر، فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر، وإنما كان الصبر على السراء شديداً، لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه عند حضور الطعام اللذيذ‏.‏

النوع الثاني المخالف للهوى وهو ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ الطاعات، فيحتاج العبد إلى الصبر عليها، لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية‏.‏

ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة، ومنا ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببها جميعاً كالحج والجهاد‏.‏

ويحتاج المريد إلى الصبر على طاعته في ثلاثة أحوال‏:‏

حال قبل العبادة، وهى تصحيح النية، والإخلاص والصبر على شوائب الرياء، وحال في نفس العبادة، وهى أن لا يغفل عن الله تعالى في أثناء العبادة، ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن، فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ من العمل‏.‏

الحالة الثالثة بعد الفراغ من العمل‏:‏ وهى الصبر عن إفشائه، والتظاهر به لأجل الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطل عمله، فمن لم يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى أبطلها‏.‏

القسم الثاني‏:‏ الصبر عن المعاصي، وما أحوج العبد إلى ذلك‏.‏

ثم إن كان الفعل مما تيسر فعله، كمعاصي اللسان من الغيبة، والكذب والمراء ونحوه، كان الصبر عليه أثقل، فترى الإنسان إذا لبس حريراً استنكر ذلك، ويغتاب أكثر نهاره، فلا يستنكر ذلك‏.‏ ومن لم يملك لسانه في المحاورات، ولم يقدر على الصبر، لم ينجه إلا العزلة‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما لا يدخل تحت الاختبار‏:‏ كالمصائب، مثل موت الأحبة، وهلاك الأموال، وعمى العين، وزوال الصحة، وسائر أنواع البلاء، فالصبر على ذلك من أعلى المقامات، لأن سنده اليقين‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏‏"‏من يرد الله به خيراً يصب به‏"‏‏.‏

وقريب من هذا القسم، الصبر على أذى الناس، كالذي يؤذى بقول أو فعل أو جناية على نفسه أو ماله، والصبر على ذلك يكون بترك المكافآت‏.‏

والصبر على أذى الناس من أعلى المراتب، قال الله تعالى ‏:‏‏{‏وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏ وقال ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 97‏]‏ وقال ‏:‏‏{‏ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏‏.‏

وقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ‏:‏‏{‏الصبر ثلاثة‏:‏ صبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر عن المصيبة حتى يردها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الأخرى كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتبت له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش مرتين‏"‏ ‏(‏‏(‏أخرجه ابن أبى الدنيا في ‏"‏فضل الصبر‏"‏ وأبو الشيخ في ‏"‏الثواب‏"‏ من حديث على رضى الله عنه وسنده ضعيف‏)‏‏)‏

والأحاديث في فضائل الصبر كثيرة، منها‏:‏ ما أخرجناه في ‏"‏الصحيحين‏"‏ عن عائشة رضى الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏‏"‏ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها‏"‏‏.‏

وفى حديث آخر ‏:‏ ‏"‏ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه‏"‏ أخرجاه في ‏"‏الصحيحين‏"‏‏.‏

وفى حديث آخر ‏:‏ ‏"‏لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده وفى ماله وفى ولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة‏"‏‏.‏

وفى حديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء‏؟‏ قال ‏"‏الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة‏"‏ قال الترمذى ‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

وروينا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ‏:‏ قال الله تعالى ‏:‏ ‏"‏إذا وجهت إلى عبد من عبادي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديواناً‏"‏ ‏(‏‏(‏أخرجه ابن عدى في ‏"‏الكامل‏"‏ والديلمى في مسند الفردوس، والحكيم الترمذى في النوادر من حديث أنس بن مالك، وسنده ضعيف كما قال الحافظ العراقي‏)‏‏)‏

2ـ فصل ‏[‏في آداب الصبر‏]‏

ومن آداب الصبر استعماله في أول صدمة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏‏"‏إنما الصبر عند الصدمة الأولى‏"‏ حديث صحيح‏.‏

ومن الآداب الاسترجاع عند المصيبة، لحديث أم سلمة رضى الله عنها وهو من رواية مسلم‏.‏

ومن الآداب سكون الجوارح واللسان، فأما البكاء فجائز‏.‏

قال بعض الحكماء‏:‏ الجزع لا يرد الفائت، ولكن يسر الشامت‏.‏

ومن حسن الصبر أن لا يظهر أثر المصيبة على المصاب، كما فعلت أم سليم امرأة أبى طلحة لما مات ابنها، وحديثها مشهور في صحيح ‏"‏مسلم‏"‏‏.‏

وقال ثابت البنانى‏:‏ مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا، وقالوا‏:‏ يموت عبد الله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدهنا‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ أفأستكين لها، وعدني ربى تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إلى من الدنيا وما فيها‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156و 157‏]‏‏.‏

وقال مطرف‏:‏ ما شىء أعطى به في الآخرة قدر كوز من ماء، إلا وددت أنه أخذ منى في الدنيا‏.‏

وكان صلة بن شيم في مغزىً له ومعه ابنه، فقال‏:‏ أي بنى‏!‏ تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم فقتل، فاجتمع النساء عند أمه معاذة العدوية، فقالت‏:‏ مرحباً إن كنتن جئتن تهنئننى، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن‏.‏

وإذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها، فكتمانها من نعم الله عز وجل الخفية‏.‏

وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فيقول‏:‏ انظروا ما يقوله لعواده، فإن هو حمد الله تعالى إذا دخلوا عليه، رفعا ذلك إلى الله تعالى وهو أعلم‏.‏ فيقول‏:‏ لعبدي إن أنا توفيته أن ادخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه خطاياه‏"‏ ‏(‏‏(‏أخرجه مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏ 2/940‏:‏ باب ما جاء في أجر المريض من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏‏.‏‏.‏ ورجاله ثقات إلا أنه مرسل، ووصله ابن عبد البر من طريق عباد بن كثير عن زيد عن عطاء عن أبى سعيد الخدري، وعباد بن كثير ليس بالقوى‏)‏‏)‏

وقال على رضى الله عنه‏:‏ من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك‏.‏

وقال الأحنف‏:‏ لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، ما ذكرتها لأحد‏.‏

وقال رجل للإمام أحمد‏:‏ كيف تجدك يا أبا عبد الله‏؟‏ قال‏:‏ بخير في عافية‏.‏ فقال له‏:‏ حممت البارحة‏؟‏ قال‏:‏ إذا قلت لك‏:‏ أنا في عافية فحسبك، لا تخرجني إلى ما أكره‏.‏

وقال شقيق البلخى‏:‏ من شكي مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبداً‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ من كنوز البر كتمان المصائب، وقد كانوا يفرحون بالمصائب نظراً إلى ثوابها، وحكاياتهم مشهورة في ذلك‏.‏

منها‏:‏ ما روى أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما مات دفنه عمر، وسوى عليه ثم استوى قائماً، فأحاط به الناس، فقال‏:‏ رحمك الله بابني‏!‏ قد كنت براً بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لى مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد بك سروراً، ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن كان المراد من الصبر عدم كراهية المصائب، فلا قدرة للآدمي على ذلك، وإن كان الفرح بوجودها كما حكيتم، فهو أبعد‏.‏

والجواب‏:‏ أن الصبر لا يكون إلا عن محبوب أو على مكروه، ولا ينهى عما لا يدخل تحت الكسب، وهو انزعاج الباطن، وإنما ينهى عن المكتسب، كشق الجيوب، ولطم الخدود، والقول باللسان، فأما ما ذكرنا من فرح بعضهم، فذلك فرح شرح لا طبعي، إذ الطبع لابد له من كراهة المصائب‏.‏

ومثال هذا رجل مريض له شربة لمرضه، فسعى في طلب حوائجها، وأنفق عليها مالاً، فلما تمت، فرح بتمامها وتناولها لما يرجو لها من العافية، فأما طبعه، فما زالت عنه كراهة التناول أصلاً‏.‏ ولو أن ملكاً قال لرجل فقير‏:‏ كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار، لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم، ولكن لما يرجوا من عاقبة، وإن أنكاه الضرب، فكذلك السلف تلمحوا الثواب، فهان عليهم البلاء‏.‏

3ـ فصل في بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه

اعلم أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد بالشفاء، فالصبر وإن كان شاقاً فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل، فمنهما تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها، فيحتاج كل مرض إلى علم وعمل يليق به، فإن العلل إذا اختلفت اختلف العلاج، إذ معنى العلاج‏:‏ مضادة العلة‏.‏

ونضرب لك مثالاً، فنقول‏:‏ إذا افتقر الإنسان إلى الصبر عن شهوة الجماع، وقد غلبت عليه بحيث لا يملك فرجه ولا عينه ولا قلبه، فعلاج ذلك بثلاثة أشياء‏:‏

أحدها‏:‏ مواظبة الصوم، والاقتصار عند الإفطار على قليل من الطعام‏.‏

الثاني‏:‏ قطع أسباب المهيجة، فإنه إنما يهيج بالنظر، والنظر بالقلب، والقلب يحرك الشهوة، ودواء هذا العزلة، والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة، فان النظر سهم مسموم من سهام إبليس، ولا يمنع عنه إلا غمض الجفن أو الهرب‏.‏

الثالث‏:‏ تسلية النفس بالمباح من جنس المشتهى، وذلك بالنكاح، وكل ما يشتهيه الطبع من الحرام، ففى المباحات غنية عنه، وهذا هو العلاج الأرفع في حق أكثر الناس، لأن قطع الغذاء يضعف ، ولا يقمع الشهوة بخلاف هذا‏.‏

وينبغى للإنسان أن يعود نفسه المجاهدة، فإن من عَّود نفسه مخالفة الهوى، غلبها متى أراد‏.‏

واعلم‏:‏ أن أشد أنواع الصبر والمجاهدة، كف الباطن من حديث النفس، وإنما يشتد ذلك على من تفرغ واعتزل، فان الوساوس لا تزال تجاذبه، ولا علاج لهذا إلا قطع العلائق ، وجعل الهم هماً واحداً، وصرف الفكر إلى ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع اللَّه تعالى، وجميع أبواب معرفة الله تعالى، حتى إذا استولى ذلك على قلبه، دفع اشتغاله مجاذبة الشيطان ووسواسة، وإن لم يكن له سير الباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة، من القراءة، والأذكار، والصلوات، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، فإن الفكر الباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة، فهذا الذي يمكن أن ينال بالاكتساب والجهد‏.‏

فأما مقادير ما ينكشف، ومبالغ ما يرد من لطف الله تعالى من الأحوال والأعمال، فذلك يجرى مجرى الصيد، وهو بحسب الرزق، فقد يقل الجهد، ويكثر الصيد، وقد يطول الجهد ويقل الصيد، والمعلوم وراء هذا الاجتهاد على جذبه من جذبات الرحمن عز وجل، فإنها توازى أعمال الثقلين، وليس ذلك اختيار العبد، بل اختياره أن يتعرض لتلك الجذبة، بأن يقلع عن قلبه جواذب الدنيا، فان المجذوب إلى أسفل سافلين، لا يجذب إلى أعلى عليين، وكل منهوم بالدنيا هو منجذب إليها، فقطع العلائق الجاذبة، هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها‏"‏ ‏‏‏.‏ فالذي علينا تفريغ المحل، والانتظار لنزول الرحمة، كالذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش، ويضع فيها البذر، وكل ذلك لا ينفع إلا بمطر، ولا يدرى متى يقدر الله أسباب المطر، إلا أنه يثق بفضل الله تعالى أنه لا يخلى سنة عن مطر، وكذلك قلما تخلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات‏.‏

فينبغي أن يكون العبد قد طهر القلب من حشيش الشهوات، وبذر الإرادة والإخلاص، وعرضه لمهاب ريح الرحمة، وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع عند ظهور الغيم، كذلك انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة، وعند اجتماع الهم ونشاط القلوب، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وفى رمضان‏.‏ والهمم والأنفاس أسباب لاستدرار رحمة الله تعالى بحكمته وتقديره‏.‏

الشطر الثاني من الكتاب

في الشكر وفضله وذكر النعم وأقسامها ونحو ذلك

قال الله تعالى‏:‏‏{‏وسنجزى الشَّاكريَن‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 145‏)‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يفعل اللَّه بِعَذَابكُم إِن شَكَرُتم َوآمنْتُم‏}‏‏(‏النساء‏:‏ 147 ‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏ وقَلَيلّ من عبادي الشكُّور‏}‏‏(‏سبأ‏:‏ 13‏)‏ وقطع بالمزيد مع الشكر فقال‏:‏ ‏{‏لَئن شكرتم لأزيدَّنكُم‏}‏‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏ مع كونه وقف أشياء كثيرة غيره على المشيئة كقوله‏:‏‏{‏فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء‏}‏‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏‏{‏والله يرزق من يشاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏212‏]‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏48‏]‏، ‏{‏ويتوب الله على من يشاء‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏15‏]‏‏.‏ولما عرف إبليس قدر الشكر في الطعن على بنى آدم‏:‏ ‏{‏ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وروى أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم قام حتى تفطرت قدماه، فقالت عائشة رضى الله عنها‏:‏ أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏أفلا أكون عبداً شاكراً‏"‏‏.‏

وعن معاذ رضى الله عنه قال‏:‏ قال لى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏إنى أحبك فقل‏:‏ اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏"‏‏.‏

5ـ فصل ‏[‏في كون الشكر بالقلب واللسان والجوارح‏]‏

والشكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح‏.‏

أما بالقلب، فهو إظهار الشكر لله بالتحميد‏.‏

وأما بالجوارح، فهو استعمال نعم الله في طاعته، والتوقى من الاستعانة بها على معصيته، فمن شكر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم، ومن شكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه، فهذا يدخل في جملة شكر هذه الأعضاء‏.‏

والشكر باللسان‏:‏ إظهار الرضى عن الله تعالى، وهو مأمور به‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏"‏ التحدث بالنعم شكر، وتركها كفر‏"‏ ‏‏.‏

وروى أن رجلين من الأنصار التقيا، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ كيف أصبحت‏؟‏ فقال‏:‏ الحمد لله ‏.‏ فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏قولوا هكذا‏"‏‏.‏

وروى أن رجلاً سلم على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فرد عليه، ثم قال له عمر‏:‏ كيف أصبحت‏؟‏ قال‏:‏ أحمد الله، فقال عمر‏:‏ ذاك الذي أرادت‏.‏

وقد كان السلف يتساءلون، ومرادهم استخراج الشكر لله، فيكون الشاكر مطيعاً، والمستنطق مطيعاً‏.‏

وقال أبو عبد الرحمن الحبلى‏:‏ إن الرجل إذا سلم على الرجل، وسأله كيف أصبحت‏؟‏ فقال له الآخر‏:‏ أحمد الله إليك، قال‏:‏ يقول الملك الذي عن يساره للذي عن يمينه‏:‏ كيف تكتبها‏؟‏ قال‏:‏ أكتبه من الحامدين‏.‏ فكان أبو عبد الرحمن إذا سئل‏:‏ كيف أصبحت‏؟‏ يقول‏:‏ أحمد الله إليك والى جميع خلقه‏.‏

6ـ فصل ‏[‏في فعل الشكر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله‏]‏

اعلم‏:‏ أن فعل الشكر وترك الكفران، لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله تعالى، إذ معنى الشكر استعمال نعمة في محابه، ومعنى الكفران نقيض ذلك، إما بترك الاستعمال، أو استعماله فيما يكرهه‏.‏

ولتمييز ما يحبه الله فيما يكرهه مدركان‏:‏

أحدهما‏:‏ السمع، ومستنده الآيات‏.‏

والثاني‏:‏ بصيرة القلب، وهو النظر بعين الاعتبار،وهذا الأخير عسير عزيز، ولذلك أرسل الله تعالى الرسل، وسهل بهم الطرق على الخلق، ومعرفة ذلك تبنى على معرفة جميع أحكام الشرع في‏.‏ أفعال العباد، فمن لا يطلع على حكم الشرع في جميع أفعاله، لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلاً‏.‏

وأما الثاني‏:‏ وهو النظر بعين الاعتبار، فهو إدراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه‏:‏ إذ ما خلق الله تعالى شيئاً في العالم إلا وفيه حكمة، وتحت الحكمة مقصود، وذلك المقصود هو المحبوب‏.‏ وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية‏.‏

أما الجلية، فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل الليل والنهار، فيكون النهار معاشاً، والليل سباتاً، فتتيسر الحركة عند الأبصار، والسكون عند الاستتار، فهذا من جملة حكم الشمس، لا كل الحكمة فيها، كذلك معرفة الحكمة في الغيم ونزول الأمطار‏.‏

وأما الحكمة في خلق الكواكب، فخفية لا يطلع عليها كل الخلق، وقد يطلعون على بعض ما فيها من الحكم، نحو كونها زينه للسماء، وجميع أجزاء العالم لا تخلو منه ذرة عن حكمة، وكذلك أعضاء الحيوان، منها ما تبين حكمته بياناً ظاهراً، كالعلم ،بأن العين للإبصار، واليد للبطش، والرجل للمشى‏.‏ فأما الأعضاء الباطنة، كالمرارة، والكلية والكبد، وآحاد العروق، والأعصاب وما فيها من التجاويف والرقة والغلظة، فلا يعرف الحكمة فيها كل الناس، والذين يعرفونها إنما يعرفون منها قدراً يسيراً بالنسبة إلي علم الله تعالى، فكل من استعمل شيئاً في جهة غير الجهة التي خلق لها ذلك الشيء على غير الوجه الذي أريد به، فقد كفر نعمة الله تعالى فيه، فمن ضرب غيره بيده بغير حق، فقد كفر نعمة الله تعالى في اليد لأنها خلقت ليدفع بها عن نفسه ما يؤذيه، ويتناول ما ينفعه، لا ليؤذى بها غيره، وكذلك العين إذا نظر بها إلى محرم، فقد كفر نعمتها، ونعمة الشمس أيضاً، إذا الإبصار يتم بها، فالعين والشمس خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويبقى بهما ما يضره فيهما‏.‏

واعلم‏:‏ أن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها، أن يستعين بها الخلق على الوصول إلى الله تعالى، ولا أنس إلا بدوام الذكر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالأرض والماء والهواء، ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق جميع الأعضاء الباطنة والظاهرة، وكل ذلك لأجل البدن، والبدن مطية النفس، والراجع إلى الله هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله، فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها، لإقدامه على تلك المعصية‏.‏

ولنذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء، حتى يعتبر بها، ويعلم طريق الشكر والكفران على النعم، فيقول‏:‏ من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير اللذين بهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعينهما، ولكن يضطر الخلق إليهما، من حيث كل إنسان يحتاج إلى أعيان كثيرة، في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومركبه، وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك قدراً من الزعفران مثلاً وهو يحتاج إلى جمل يركبه، وآخر يملك الجمل، وربما استغنى عنه، ويحتاج إلى الزعفران، فلا بد بينهما من معاوضة، ولابد في مقدار العوض من تقدير، إذا لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل، حتى يعطى مثله في الوزن والصورة‏.‏ وكذا من يشترى داراً بثياب، أو عبداً بخف، أو دقيقاً بحمار ، فهذه الأشياء لا تناسب بينهما ، فخلق الله تعالى الدراهم والدنانير، حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدر بهما، فيقال‏:‏ هذا الجمل يساوى مائة ، وهذا القدر من الزعفران يساوى مائة، فحصل التساوي بينهما حينئذ، وإنما أمكن التعديل بينهما بالنقدين ، إذ لا غرض في أعيانهما ، فإنه لو كان في أعيانهما فرض لم ينتظم الأمر، فخلقهما الله لتداولها الأيدي ، ويكون حاكمين بين الأموال بالعدل ، وجعلهما عزيزين في أنفسهما، ونسبتهما الى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما ، فكأنه ملك كل شئ‏.‏

إذا عرفت حكمتهما، فكل من عمل فيهما عملاً يخالف المقصود منهما، ولا يليق بحكمتهما، فقد كفر نعمة الله فيهما، فمن كنزهما فقد أبطلهما وأبطل الحكمة فيهما، ومنع الأيدى من تداولهما‏.‏ ولما كان كثير من الخلق عاجزين عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة على صفحات الموجودات بخط إلهي لا يدرك بعين البصر، بل بعين البصيرة، أخبرهم الله تعالى بكلام سمعوه بواسطة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم، فقال‏:‏ ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏34‏]‏‏.‏

وكل من اتخذ الدراهم والدنانير آنية، فقد كفر نعمة الله فيهما ،لأنه أسوأ حالاً ممن كنزهما‏.‏

ومثال ذلك من استعمل حاكم البلد في الحياكة والكنس والأعمال التي يقوم بها أخس الناس، وذلك أن الحديد والنحاس والخزف وغيرها يقوم مقام الذهب والفضة من كونهما قيم الأشياء، فمن لم تنكشف له هذه الحكمة بالرحمة الإلهية قيل له‏:‏ ‏"‏من شرب في إناء ذهب أوفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم‏"‏ وكذلك كل من عامل بالربا في الدراهم والدنانير، فقد أخرجهما عن مقصودهما، فهذا مثال لحكمة خفية من حكم النقدين‏.‏

فينبغي أن تعتبر شكر النعمة وكفرها بهذا المثال في غيره من جميع أمورك، في حركتك، وسكونك، ونطقك، وسكوتك في كل فصل صادر منك، إما شكراً أوعكسه، وهو الكفر وبعض ذلك تصفه بالكراهة، وبعضه بالحظر‏.‏

ومن ذلك أن الله تعالى خلق لك يدين، جعل إحداهما أقوى من الأخرى، فاستحقت بمزيد القوة رجحاناً وشرفاً على الأخرى، وقد أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال، بعضها شريفة، كأخذ المصحف، وبعضها خسيسة، كإزالة النجاسة، فإذا أخذت المصحف باليسار، وأزلت النجاسة باليمين، فقد عكست المقصود، وخصصت الشريف بما هو خسيس، فظلمته، وكذلك في الرجلين، إذا ابتدأت باليسرى في لبس الخف، فقد ظلمت اليمنى، لأن الخف وقاية الرجل، وقس على ذلك‏.‏

وكذلك نقول‏:‏ من كسر غصناً من شجرة لغير حاجة مهمة وغرض صحيح، فقد خالف الحكمة في خلق الأشجار، لأنها خلقت للمنفعة بها، فإن كان كسره لغرض صحيح، فلا بأس، وإن فعل ذلك في ملك غيره، فهو ظالم، وإن كان محتاجاً، إلا أن يأذن صاحبه‏.‏

7ـ فصل في بيان النعم وحقيقتها وأقسامها

واعلم‏:‏ أن كل مطلوب يسمى نعمة، ولكن النعمة في الحقيقة هي السعادة الأخروية، وتسمية ما عداها نعمة تجوز، والأمور كلها بالإضافة إلينا تنقسم أربعة أقسام‏:‏

أحدهما‏:‏ ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً، كالعلم، وحسن الخلق، وهو النعمة الحقيقية‏.‏

الثاني‏:‏ ما هو ضار فيهما جميعاً، وهو البلاء حقيقة‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما ينفع في الحال، ويضر في المآل، كالتلذذ، واتباع الشهوات، فهو بلاء عند ذوى الأبصار، والجاهل يظنه نعمة‏.‏

ومثاله‏:‏ الجائع إذا وجد عسلاً فيه سم، فأنه يعده نعمة إن كان جاهلاً، فإذا علم ذلك عدة بلاًء‏.‏

القسم الربع‏:‏ الضار فىالحال، النافع في المآل،وهو نعمة عند ذوى الألباب، بلاء عند الجهال‏.‏

ومثاله‏:‏ الدواء الشنيع مذاقه في الحال، الشافي في المآل من الأسقام، فالصبىالجاهل، إذا كلف شربه ظنه بلاء، والعاقل يعده نعمه، وكذلك إذا احتاج الصبي الى الحجامة، فإن الأب يدعوه إليها ويأمره بها، لما يلحظ في عاقبتها من الشفاء، والأم تمنعه من ذلك لفرط حبها وشفقتها، لكونها جاهلة بالمصلحة في ذلك، فالصبي يتقلد من أمه بجهله ، ويأنس إليها دون أبيه، ويقدر أباه عدواً، ولو عقل لعلم أن الأم هي العدو الباطن في صورة صديق، لأن من منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض أشد من ألم الحجامة، فالصديق الجاهل شر من العدو العاقل، وكل إنسان صديق نفسه، ولكن النفس صديق جاهل، فلذلك تعمل بما لا يعمل العدو‏.‏

8ـ فصل في بيان كثرة نعم الله وتسلسلها وخروجها عن الحصر والإحصاء

اعلم‏:‏ أن النعم تنقسم إلى ما هو غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هو مطلوب لأجل الغاية‏.‏

أما الغاية فهي سعادة الآخرة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور‏:‏ بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لاجهل معه، وغنى لا فقر بعده، وهى السعادة الحقيقية‏.‏

وأما القسم الثاني‏:‏ فهو الوسائل إلى السعادة المذكورة، وهى أربعة أقسام‏:‏

أعلاها‏:‏ فضائل النفس، كالإيمان وحسن الخلق‏.‏

الثاني‏:‏ فضائل البدن، من القوة والصحة ونحوهما‏.‏

الثالث‏:‏ النعم المطيفة للبدن، من المال والجاه والأهل‏.‏

الرابع‏:‏ الأسباب التي جمع بينها وبين ما يناسب الفضائل، من الهداية والإرشاد، والتسديد، والتأييد، وكل هذه نعم عظيمة‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة في المال والجاه ونحوهما‏؟‏

قلنا‏:‏ هذه الأشياء جارية مجرى الجناح المباح، والآلة المستعملة للمقصود‏.‏

أما المال، فإن طالب العلم إذا لم تكن معه كفاية، كان كساع إلى الهيجاء بغير سلاح، ولأنه يبقى مستغرق الأوقات في طلب القوت، فيشغله عن تحصيل العلم، وعن الذكر، والفكر، ونحو ذلك‏.‏

وأما الجاه فيه يدفع عن نفسه الذل والضيم، ولا ينفك عن عدو يؤذيه، وظالم يهوش عليه، فيشغل قلبه، وقلبه رأس ماله، وإنما تدفع هذه الشواغل بالعز والجاه‏.‏

وأما الصحة والقوة وطول العمر ونحوها، فهي نعم، إذ لا يتم علم ولا عمل إلا بذلك‏.‏

وقد قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏‏"‏نعمتان مغبون فيهما كثر من الناس‏:‏ الصحة، والفراغ‏"‏‏.‏

ولما سئل‏:‏ من خير الناس‏؟‏ قال ‏:‏ ‏"‏من طال عمره وحسن عمله‏"‏‏.‏

وأمال المال والجاه، وإن كانا نعمتين، فقد ذكرنا ما فيهما من الآفات فيما تقدم، وأنهما ليسا بمذمومين على الإطلاق‏.‏

وأما الهداية والرشد والتسديد والتأييد، فلا خفاء في كونهما من أعظم النعم، فلا يستغني أحد عن الحاجة إلى التوفيق، ولذلك قيل‏:‏

إذا لم يكن عون الله للفتى فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده

9ـ فصل ‏[‏من نعم الله الأسباب التي يتم بها الأكل‏]‏

واعلم‏:‏ أنا قد ذكرنا جملة من النعم، وجعلنا صحة البدن نعمة واحدة من النعم الواقعة في الرتبة الثانية، فلو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة، لم نقدر عليها، ولكن الأكل أحد أسباب الصحة، فلنذكر شيئاً من جملة الأسباب التي يتم بها الأكل على سبيل التلويح، لا على سبيل الاستقصاء، فنقول‏:‏ من جملة نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس، وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في الحواس الخمس، التي هي آلة للإدراك‏.‏

فأولهما‏:‏ حاسة اللمس، وهو أول حس يخلق للحيوان، وأنقص درجات الحس أن يحس بما يلاصقه، فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محالة، فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك، فخلق لك الشم تدرك الرائحة من بعيد، ولكن لا تدرى من أي ناحية جاءت الرائحة، فتحتاج أن تطوف كثيراً حتى تعثر على الذي شممت رائحته، وربما لم تعثر، فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك، وتدرك جهته فتقصدها بعينها، إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصاً، إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب، فربما قصدك عدو بينك وبينه حجاب، وقرب منك قبل أن يكشف الحجاب، فتعجز عن الهرب، فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الحجرات عند جريان الحركات، ولا يكفى ذلك، لو لم يكن لك حسن الذوق، إذ به تعلم ما يوافقك وما يضرك، بخلاف الشجرة، فإنه يصب في أصلها كل مائع، ولا ذوق له فتجذبه، وربما يكون ذلك سبب جفافها، ثم أكرمك الله تعالى بصفة أخرى، هي أشرف من الكل، وهو العقل، فبه تدرك الأطعمة ومنفعتها، وما يضر في المآل، وبه تدرك طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها، فتنتفع به في الأكل الذي هو سبب صحتك، وهو أدنى فوائد العقل، والحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى، وما ذكرنا من الحواس الخمس الظاهرة فهي بعض الحركات، ولا تظن أننا استوفينا شيئاً من ذلك، فإن البصر واحد من الحواس، والعين آلة له، وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية مختلفة، لكل واحد من الطبقات العشر صفة، وصورة، وشكل، وهيئة، وتدبير، وتركيب، لو اختلت طبقة واحدة أو صفة واحدة لاختل البصر، وعجز عنه الأطباء كلهم، فهذا في حس واحد، وقس حاسة السمع وسائر الحواس، ولا يمكن أن يستوفى ذلك في مجلدات، فكيف ظنك بجميع البدن‏؟‏‏!‏

ثم انظر بعد ذلك في خلق الإرادة والقدرة، وآلات الحركة في أصناف النعم، وذلك أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الطعام، ولم يخلق لك في الطبع شوق إليه وشهوة تستحثك على الحركة، كان البصر معطلاً، فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له، ولا يقدر على تناوله لسقوط شهوته، فخلق الله لك شهوة الطعام وسلطها عليك، كالمتقاضى الذي يضطرك إلى تناول الغذاء‏.‏

ثم إن الشهوة لو لم تسكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام، لأسرفت وأهلكت نفسك، فخلق لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها، وكذلك القول في شهوة الوقاع لحكمة بقاء النسل‏.‏

ثم خلق لك الأعضاء التي هي آلات الحركة في تناول الغذاء وغيره، منها اليدان،وهما مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات وتمتد وتنثني، ولا تكون كخشبة منصوبة‏.‏

ثم جعل رأس اليد عريضاً، وهو الكلف، وقسمه خمسة أقسام، وهى الأصابع وجعلها مختلفة في الطول والقصر، ووضعها في صفين، بحيث يكون الإبهام في جانب، ويدور على الأصابع البواقى، ولو كانت مجتمعة متراكمة، لم يحصل تمام الغرض، ثم خلق لها أظافر، وأسند إليها رؤوس الأصابع، لتقوى بها، ولتلتقط بها بعض الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع، ثم هب أنك أخذت الطعام باليد، فلا يكفيك حتى يصل إلى باطنك، فجعل لك الفم واللحيين، خلقهما من عظمين، وركب فيهما الأسنان، وقسمها بحسب ما يحتاج إليه الطعام، فبعضها قواطع كالرباعيات، وبعضها يصلح للكسر كالأنياب، وبعضها طواحن كالأضراس، وجعل اللحى الأسفل متحركاً حركة دورية، واللحى الأعلى ثابتاً لا يتحرك، فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى، وإن كل رحى صنعها الخلق يثبت منها الحجر الأسفل ويدور الأعلى، إلا هذه الرحى التي هي من صنع الله سبحانه وتعالى، فإنه يدور منها الأسفل على الأعلى، إذ لو دار الأعلى خوطر بالأعضاء، الشريفة التي يحتوى عليها‏.‏

ثم انظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان، فإنه يطوف في جوانب الفم، ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة، كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى، هذا مع ما فيه من عجائب قوة النطق‏.‏ ثم هب أنك قطعت الطعام وعجنته وهو يابس، فلا تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة‏.‏ انظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عيناً يفيض منها اللعاب، وينصب بقدر الحاجة حتى ينعجن به الطعام‏.‏ ثم هذا الطعام المطحون المعجون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم، فإنه لا يمكن إيصاله باليد، فهيأ الله تعالى المريء والحنجرة، وجعل رأسها طبقات ينفتح لأخذ الطعام، ثم ينطبق وينضغط حتى يقلب الطعام، فيهوى في دهليز المريء إلى المعدة، فإذا ورد الطعام إلى المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة، فلا يصلح أن يصير لحماً وعظماً ودماً على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخاً تاماً، فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام، فتحتوى عليه وتغلق عليه الأبواب، وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة، وهى الكبد من جانبها الأيمن، والطحال من جانبها الأيسر، والثرب ‏(3)‏ من أمامها، ولحم الصلب من خلفها، فينضج الطعام ويصير مائعاً متشابهاً يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، ثم ينصب الطعام من العروق إلى الكبد، فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر، ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثقل ثم يندفع‏.‏ولو استوفينا الكلام في ذلك لطال‏.‏

وفى الآدمي من العضلات والعروق ما لا يحصى، مختلف بالصغر والكبر والدقة والغلظ، ولا شئ منها إلا وفيه حكمة، وكل ذلك من الله سبحانه، ولو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن، لهلكت يا مسكين‏.‏

فانظر إلى نعم الله تعالى عليك، لتقوى على الشكر، فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل، وهى أخسها، ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع وتأكل، والبهيمة أيضاً تعرف أنها تجوع وتأكل، وتتعب فتنام، وتشتهى فتجامع، وإذ لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار، فكيف تقوم بشكر الله‏؟‏‍‍ وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر نعم الله تعالى ، فقس على ذلك‏.‏

وجملة ما عرفنا وعرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه، أقل من قطرة في بحر‏.‏ قال الله تعالى ‏:‏‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34 والنحل‏:‏ 17‏]‏‏.‏

10ـ فصل ‏[‏في عجائب الأغذية والأدوية‏]‏

واعلم‏:‏ أن الأطعمة كثيرة مختلفة، والله تعالى في خلقها عجائب لا تحصى، وهى تنقسم إلى أغذية وأدوية وفواكه وغيرها‏.‏

فنتكلم عن بعض الأغذية، فنقول‏:‏ إذا كان عندك شئ من الحنطة، فلو أكلتها لفنيت وبقيت جائعاً، فما أحوجك إلى عمل ينمى به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفي بتمام حاجتك، وهو زرعها، وهو أن تجعلها في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طيناً،ثم لا يكفى الماء والتراب، إذ لو تركت في الأرض ندية صلبة، لم تنبت لفقد الهواء، فيحتاج إلى تركها إلى أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها،ثم الهواء لا يتحرك إليه بنفسه، فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء، وتصرفه بقهر على الأرض، حتى ينفذ فيها، ثم كل ذلك لا يغنى، فيحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت‏.‏ ثم انظر إلى الماء الذي يحتاج إليها هذه الزراعة كيف خلقه الله تعالى‏؟‏ فجر العيون وأجرى منها الأنهار، ولما كان بعض الأرض مرتفعاً لا يناله الماء، أرسل إليها الغيوم، وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم، وهى سحب ثقال، ثم يرسله على الأرض مدراراً في وقت الحاجة‏.‏ وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء، تنفجر منها العيون تدريجاً، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره‏.‏

وانظر كيف سخر الشمس وخلقها، مع بعدها عن الأرض، مسخنة لها في وقت دون وقت، ليحصل البرد عند الحاجة إليه، والحر عند الحاجة إليه،

وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، كما جعل من خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، وكل كوكب خلق في السماء، فهو مسخر لنوع فائدة، كما سخرت الشمس والقمر، ولا يخلو كل واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها، وكذلك الشمس والقمر، فيهما حكم آخر غير ما ذكرنا لا تحصى‏.‏

ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار، وسلط عليهم الحرص على جمع المال، مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شئ، بل يجمعون الأموال، فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطرق، أو يموتون في بعض البلاد، فتأخذها السلاطين، وأحسن أحوالها أن يأخذها ورثتهم، وهم أشد أعدائهم لو عرفوا، فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة، حتى يقاسوا الشدائد في طلب الريح في ركوب البحار، وركوب الأخطار، فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك‏.‏

واعلم‏:‏ أن الخلق لم يقصروا عن شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها، ثم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه‏:‏ الحمد لله، والشكر لله،ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وهى طاعة الله تعالى‏.‏

أما الغفلة عن النعم فلها أسباب‏:‏

أحدها‏:‏ أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة، فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكرناه،من النعم، لأنها عامة للخلق، فلا يعده نعمة، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء، ولو أخذ بمخنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا، ولو حبسوا في حمام أو بئر ماتوا غماً، فإن ابتلى أحدهم بشيء من ذلك ثم نجا، قدر ذلك نعمة يشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل، إذ صار شكرهم موقوفاً على أن تسلب عنهم النعمة، ثم ترد إليهم في بعض الأحوال، فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر، فلا ترى البصير يشكر صحة البصر إلا أن يعمى، فإذا أعيد بصره أحس بالنعمة وشكرها حينئذ وعدها نعمة، وهو مثل عبد السوء يضرب دائماً، فإذا ترك ضربه ساعة، شكر وتقلد ذلك منة ، وإن ترك ضربه أصلا، غلبه البطر وترك الشكر، فصار الناس لا يشكرون إلا على المآل الذي يتطرق الاختصاص إليه م حيث الكثرة والقلة، وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم‏.‏ كما روى أن بعضهم شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة، وأظهر شدة اغتمامه بذلك، فقال له‏:‏ أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم‏؟‏ قال لا، قال‏:‏ أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفاً‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً‏.‏

وحكى عن بعض الفقراء أنه اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له‏:‏ أتود أن أنسيناك سورة الأنعام ولك ألف دينار‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فسورة هود‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فسورة يوسف‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال فمعك قيمة مائة ألف دينار وأنت تشكو‏؟‏ فأصبح وقد سرى عنه‏.‏

ودخل ابن السماك على الرشيد في عظة‏.‏ فبكى ثم دعا بماء في قدح فقال‏:‏ يا أمبر المؤمنين، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفديها بها، قال‏:‏ نعم، قال فاشرب رياً، بارك الله فيك‏.‏ فلما شرب، قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتدى ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه‏!‏

وهذا يبين أن نعمة الله على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها، ثم تسهيل خروج الحدث من أعظم النعم، وهذه إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة‏.‏

اعلم‏:‏ أن ما من عبد إلا إذا أمعن النظر رأى من نعم الله نعماً كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس، بل قد يشاركه في ذلك كثير منهم، من ذلك العقل، فما من عبد إلا وهو راضٍ عن الله سبحانه في عقله، يعتقد أنه أعقل الناس، وقلما يسأل الله العقل، وإذا كان ذلك اعتقاده، فيجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك‏.‏

ومن ذلك الخلق، فإنه ما من عبد إلا ويرى من غيره عيوباً يكرهها، وأخلاقاً يذمها، ويرى نفسه بريئاً منها، فينبغي أن يشكر الله تعالى على ذلك، حيث أحسن خلقه وابتلى غيره‏.‏

ومن ذلك أن ما من أحد إلا وهو يعرف من بواطن أمور نفسه وخفايا أركانها ما هو منفرد به، ولو كشف الغطاء عنه حتى أطلع عليه أحد من الخلق لافتضح، فكيف لو اطلع الناس كافة‏؟‏ فلم لا يشكر الله بستره الجميل على مساويه، حيث أظهر الجميل وستر القبيح‏.‏

ولننزل إلى طبقة أعم من هذا القبيل، فنقول‏:‏ ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته، أو أخلاقه أو صفاته، أو أهله، أو ولده، أو مسكنه أو بلده، أو رفيقه أو أقاربه، أو جاهه، أو سائر محابه، أموراً، لو سلب ذلك وأعطى ما خصص به من ذلك غيره، لكان لا يرضى به، وذلك مثل أن جعله مؤمناً لا كافراً، وحياً لا جماداً، وإنساناً لا بهيمة، وذكراً لا أنثى، وصحيحاً لا مريضاً، وسليماً لا معيباً، فإن كل هذه خصائص‏.‏

فإن كان لا يرى أن يبدل حاله بحال غيره، مثل أن يعرف شخصاً يرتضى لنفسه حاله بدلاً عن حال نفسه، إما على الجملة، أو في أمر خاص، فإن الله عليه نعماً ليست له على أحد من عباده سواه، وإن كان يرى انه يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون بعض، فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده، فإنه يراه عنده لا محالة أقل من غيرهم، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير ممن فوقه، فما باله ينظر فوقه ولا ينظر إلى من دونه‏؟‏‏!‏

وفى ‏"‏الصحيحين‏"‏ عن أبى هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏‏"‏إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه‏"‏ وقد رواه الترمذى بلفظ آخر ‏:‏‏"‏انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم‏"‏ ‏‏ فإن من اعتبر حال نفسه، وفتش على ما خص به، وجد لله تعالى نعماً كثيرة، لا سيما من خص الإيمان، والقرآن، والعلم، والسنة، ثم الفراغ، والصحة والأمن وغير ذلك‏.‏

وقد روى في بعض الأحاديث ‏"‏من قرأ القرآن فهو غنى‏"‏ وفى لفظ ‏"‏القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه‏"(4) ‏.‏

وفى حديث آخر ‏:‏‏"‏من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها‏"‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏

إذا ما القوت يأتى لـ ك والصحة والأمـن

وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحــزن

فإن قيل‏:‏ فما علاج القلوب الغافلة عن شكر نعم الله تعالى ‏؟‏

فالجواب‏:‏ أما القلوب المبصرة، فتتأمل ما رمز إليه من أصناف نعم الله عز وجل، وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا نزل بها البلاء، فسبيل صاحبها أن ينظر أبداً إلى من دونه، ويفعل ما كان يفعله بعض القدماء، فإنه كان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع البلاء عليهم، ثم يتأمل صحته وسلامته، ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أيديهم وأرجلهم ويعذبون، فيشكر الله على سلامته من تلك العقوبات، ويحضر المقابر، فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا، ليتدارك من عصا عصيانه، وليزيد في الطاعة من أطاع، فإن يوم القيامة يوم التغابن، فإذا شاهد المقابر، وعلم أحب الأشياء إليهم، فليصرف بقية عمره في طاعة الله تعالى وشكره في الإمهال، بأن يصرف العمر إلى ما خلق لأجله، وهو التزود للآخرة‏.‏

ومما ينبغي أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن يعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت‏.‏

كان الفضيل رحمه الله تعالى يقول ‏:‏ عليكم بمداومة الشكر على النعم، فقل نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم‏.‏

11ـ فصل في بيان اجتماع الصبر والشكر على وجه واحد

لعلك تقول‏:‏ قد ذكرت أن لله تعالى في كل موجود نعمة، وهذا يشير إلى أن البلاء لا وجود له أصلاً، فما معنى الصبر، وإن كان البلاء موجوداً، فما معنى الشكر على البلاء‏؟‏ وكيف يجتمع الصبر والشكر‏؟‏ فإن الصبر يستدعى ألماً والشكر يستدعى فرحاً، وهما متضادان‏.‏

فاعلم أن البلاء موجود، كما أن النعمة موجودة، وأنه ليس كل بلاء يأمر بالصبر عليه، مثل الكفر، فإنه بلاء، ولا معنى للصبر عليه، وكذا المعاصي، إلا أن الكافر لا يعلم أن كفره بلاء، فيكون كمن به علة، وهو لا يتألم بها، بسبب غشيته، والعاصي يعرف عصيانه، فعليه ترك المعصية، وكل بلاء يقدر الإنسان على دفعه لا يأمن الصبر عليه، فلو ترك شرب الماء مع العطش حتى عظم ألمه، لم يأمر بالصبر على ذلك، بل يأمر بإزالة الألم، وإنما يكون الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته، فإذن يرجع الصبر في الدنيا إلى ما ليس ببلاء مطلق، بل يجوز أن يكون نعمة من وجهه، فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الشكر ووظيفة الصبر، فإن الغنى مثلاً يجوز أن يصير سبب هلاك الإنسان، حتى يقصد قتله بسبب ماله، والصحة أيضاً كذلك، فما من نعمة من نعم الدنيا إلا ويجوز أن تصير بلاء وقد يكون على العبد في بعض الأمور بلاء وفيه نعمة‏.‏

مثال ذلك‏.‏ جهل الإنسان بأجله، فإنه نعمة عليه، إذ لو عرفه تنغص عليه العيش، وطال بذلك غمه، وكذلك جهله بما يضمره بعض الناس له، إذ لو اطلع عليه لطال ألمه وحقده وحسده واشتغاله بالانتقام، وكذلك جهله بالصفات المذمومة من غيره، إذ لو عرف منه ذلك، أبغضه وآذاه، فكان ذلك وبالاً عليه‏.‏

ومن ذلك إبهام القيامة، وليلة القدر، وساعة الجمعة، وكل ذلك نعمة، لأن الجهل يوفر الدواعي على الطلب والاجتهاد، فهذه وجوه نعم الله تعالى في الجهل، فكيف في العلم‏؟‏‏!‏

وقد قلنا‏:‏ إن لله سبحانه في كل موجود نعمة، حتى إن الآلام قد تكون نعمة في حق المتألم، وقد تكون نعمة في حق غيره، كألم الكفار في النار في الآخرة، فإنه نعمة في حق أهل الجنة، إذ لو لم يعذب قوم، ما عرف المتنعمون قدر نعيمهم، وإنما يتضاعف فرح أهل الجنة إذا ذكروا ألم أهل النار، ألا ترى أن أهل الدنيا لا يشتد فرحهم بنور الشمس، مع شدة حاجتهم إليها مع أنها عامة ومبذولة، ولا بالنظر إلى زينة السماء، وهى أحسن من كل نبت، لأنها عامة، فلذلك لم يشعروا بها، ولم يفرحوا بسببها، فإذا صح قولنا‏:‏ إن الله تعالى لم يخلق شيئاً إلا وفيه حكمة ونعمة، إما على جميع العباد، أو على بعضهم، ففى خلق الله تعالى البلاء نعمة أيضاً، إما على المبتلى، أو على غيره، فيجتمع على العبد وظيفة الشكر والصبر في كل حالة لا توصف بأنها بلاء مطلق، ولا نعمة مطلقة، فإن الإنسان قد يفرح بالشيء الواحد من وجه، ويغتم به من وجه آخر، فيكون الصبر من حيث الاغتمام، والشكر من حيث الفرح‏.‏

واعلم‏:‏ أن في كل فقر، ومرض، وخوف، وبلاء في الدنيا، خمسة أشياء ينبغي أن يفرح العاقل بها، ويشكر عليها‏:‏

أحدها‏:‏ أن كل مصيبة ومرض يتصور أن يكون عليها أكثر منها، لأن مقدورات الله تعالى لا تتناهى، فلو أضعفها الله عز وجل على العبد، فما كان يمنعه‏؟‏ فليشكر إذ لم يكن أعظم‏.‏

الثاني‏:‏ أن المصيبة لم تكن في الدين‏.‏

قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ‏:‏ ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علىّ فيه أربع

نعم، إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه‏.‏

قال رجل لسهل بن عبد الله‏:‏ دخل اللص بيتي وأخذ متاعي، فقال‏:‏ اشكر الله تعالى، لو دخل الشيطان قلبك فأفسد إيمانك، ماذا كنت تصنع‏؟‏ ومن استحق أن يضربك مائة سوط، فاقتصر على عشرة فهو مسحق للشكر‏.‏

الثالث‏:‏ أن ما من عقوبة إلا كان يتصور أن تؤخره إلى الآخرة، ومصائب الدنيا يتسلى عنها فتخفف، ومصيبة الآخرة دائمة، وإن لم تدم، فلا سبيل إلى تخفيفها، ومن عجلت عقوبته في الدنيا لم يعاقب ثانياً، كذا ورد في الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏

وفى ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ ‏:‏‏"‏إن كل ما يصاب به المسلم يكون كفارة له، حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها‏"‏‏.‏

الرابع‏:‏ أن هذه المصيبة كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب، ولم يكن بد من وصولها إليه، فقد وصلت واستراح منها، فهي نعمة‏.‏

الخامس‏:‏ أن ثوابها أكثر منها، فإن مصائب الدنيا طرق إلى الآخرة، كما يكون المنع من أسباب اللعب نعمة في حق الصبى، فإنه لو خلى واللعب، لكان يمنعه، ذلك من العلم والأدب، فكان يخسر طول عمره، وكذلك المال والأهل والأقارب والأعضاء، قد تكون سبباً لهلاكه، فالملحدون غداً يتمنون أن لو كانوا مجانين وصبياناً، ولم يتصرفوا بعقولهم في دين الله تعالى، فما من شئ من هذه الأسباب يوجد من العبد، إلا ويتصور أن يكون له في ذلك خبرة دينية، فعليه أن يحسن الظن بالله عز وجل، ويقدر الخيرة فيما أصابه، ويشكر الله تعالى عليه، فإن حكمة الله تعالى واسعة، وهو أعلم بمصالح العباد منهم، وغداً يشكره العباد على البلاء إذا رأوا ثوابه، كما يشكر الصبي بعد البلوغ أستاذه وأباه على ضربه وتأديبه، إذ رأى ثمرة ما استفاد من التأديب‏.‏

والبلاء تأديب من الله تعالى، ولطفه بعباده أتم وأوفى من عناية الآباء بالأولاد‏.‏

وفى الحديث ‏:‏ ‏"‏لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له‏"‏‏.‏

وأيضاً، فاعلم أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة التجافي بالقلب عنها، ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا والأنس بها، فإذا كثرت المصائب انزعج القلب عن الدنيا ولم يسكن إليها، فصارت سجناً له، فكانت نجاته منها غاية المراد كخلاص المسجون من السجن‏.‏

وأما التألم فهو ضروري وذلك يضاهى فرحك بمن يحجمك أو يسقيك دواء نافعاً بلا أجر فإنك تتألم وتفرح، فتصبر على الألم، وتشكر على سبب الفرح، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلاء، ومن لا يؤمن أن ثواب المصيبة أكثر منها لم يتصور منه الشكر على المصيبة‏.‏

وقد روى أن أعرابياً عزى ابن عباس رضى الله عنه بأبيه فقال‏:‏

اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس

خير من العباس صبرك بعده والله خير منك للعبــــــــــــاس

فقال ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ ما عزاني أحد أحسن من تعزيته‏.‏

وقد سبق ذكر أنواع البلاء، وثواب الصبر عليها‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ الأخبار الواردة في فضل الصبر تدل على أن البلاء في الدنيا خير من النعيم، فهل لنا أن نسأل الله عز وجل البلاء‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه لا وجه لذلك، فإن في الحديث من رواية أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد رجلاً من المسلمين صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏‏"‏هل كنت تدعو بشيء أو تسأله‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم، كنت أقول‏:‏ اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة،فعجله لى في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏‏"‏سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، فهلا قلت‏:‏ اللهم آتتا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏"‏‏.‏

ومن حديث أنس رضى الله عنه أيضاً، أن رجلاً قال‏:‏ يا نبى الله ‏:‏ أي الدعاء أفضل‏؟‏ قال ‏:‏‏"‏سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة‏"‏ ثم أتاه الغد، فقال يا رسول الله، أي الدعاء أفضل‏؟‏ قال ‏:‏‏"‏سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة‏"‏ ثم أتاه اليوم الثالث، فقال ‏:‏‏"‏سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فإن أعطيت العفو والعافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت‏"‏‏.‏

وفى ‏"‏الصحيحين‏"‏ انه صلى الله عليه وآله وسلم قال ‏:‏‏"‏تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشفاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء‏"‏‏.‏

وقال مطرف‏:‏ لأن أعافى فأشكر، أحب إلىّ من أن ابتلى فأصبر‏.‏

12ـ فصل في بيان أيهما أفضل الصبر أم الشكر

واختلف الناس‏:‏ هل الصبر أفضل من الشكر، أو بالعكس‏؟‏ وفى ذلك كلام طويل، ذكره المصنف رحمه الله، وتلخيص القول فيه‏:‏ أن لكل واحد من الصبر والشكر درجات‏.‏

فأقل درجات الصبر، ترك الشكوى مع الكراهة، ووراءها المرضى، وهو مقام وراء الصبر، ووراء ذلك الشكر على البلاء وهو وراء الرضى‏.‏

ودرجات الشكر كثيرة، فإن حياء العبد مع تتابع نعم الله عليه شكر، ومعرفته بالصبر عن الشكر شكر، والمعرفة بعظيم حلم الله وستره شكر، والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله بغير استحقاق شكر، والعلم بأن الشكر نعمة من نعم الله شكر، وحسن التواضع في النعم والتذلل فيها شكر، وشكر الوسائط شكر، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏” لا يشكر الله من لا يشكر الناس” وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقى النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر، فما يندرج من الأعمال والأقوال تحت اسم الشكر والصبر لا ينحصر، وهى درجات مختلفة، فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر‏؟‏

لكن نقول‏:‏ إذا أضيف إلى الشكر الذي هو صرف المال إلى الطاعة، فالشكر أفضل، لأنه تضمن الصبر أيضاً، وفيه فرح بنعمة الله عز وجل، وفيه احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء، وترك صرفه إلى التنعيم المباح، فهو أفضل من الصبر بهذا الاعتبار‏.‏

وأما إذا كان شكر المال ألا يستعين به على معصية، بل يصرفه إلى التنعيم المباح، فالصبر هنا أفضل من الشكر، والفقير الصابر أفضل من الممسك ماله الصارف له في المباحات، لأن الفقير قد جاهد نفسه وأحسن الصبر على بلاء الله تعالى، وجميع ما ورد من تفضيل أجزاء الصبر على الشكر، إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص، لأن السابق إلى إفهام الناس، من نعمة الأموال، والغنى بها، والسابق من الإفهام من الشكر أن يقول الإنسان‏:‏ الحمد لله، فإذن الصبر الذي يعتمده العامة أفضل من هذا الشكر الذي يفهمونه، ومتى لحظت المعنى الذي ذكرناه، علمت بأن لكل واحد من القولين وجهاً في بعض الأحوال، فرب فقير صابر أفضل من غنى شاكر كما ذكر، ورب غنى شاكر أفضل من فقير صابر، وذلك هو الغنى الذي يرى نفسه مثل الفقير الذي لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة، ويصرف الباقي في الخيرات، أو يمسكه على اعتقاده أنه خازن للمحتاجين، وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها، وإذا صرفه لم يصرفه لطلب جاه ولا تقليد منه، فهذا أفضل من الفقير الصابر، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏