فصل: تفسير الآيات رقم (12- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

العبرة‏:‏ الاتعاظ يقال‏:‏ منه اعتبر، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه، واشتقاقها من العبور، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء، ومنه‏:‏ عبر النهر، وهو شطه، والمعبر‏:‏ السفينة، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني، وعبرت الرؤيا مخففاً ومثقلاً‏:‏ نقلت ما عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل‏:‏ وكان الاعتبار انتقالاً عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم، ومنه، العَبرة، وهي الدمع، لأنها تجاوز العين‏.‏

الشهوة‏:‏ ما تدعو النفس إليه، والفعل منه‏:‏ اشتهى، ويجمع بالألف والتاء فيقال‏:‏ شهوات، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على‏:‏ شُهى، نحو‏:‏ نزوة ونزى، و‏:‏ كوة وكوى، على قول من زعم أن‏:‏ كوى، جمع كوة بفتح الكاف، وهذا مع‏:‏ قرية وقرى، ذكره النحويون مما جاء على وزن فعلة معتل اللام، وجمع على فعل، واستدركت أنا‏:‏ شهى، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية‏:‏

فلولا الشَّهى والله كنت جديرة *** بأن أترك اللذات في كل مشهد

القنطار‏:‏ فنعال نونه زائدة، قاله ابن دريد، فيكون وزنه‏:‏ فنعالاً من‏:‏ قطر يقطر وقيل‏:‏ أصل ووزن فعلال، وفيه خلاف‏:‏ أهو واقع على عدد مخصوص‏؟‏ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر‏؟‏ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد، ويأتي ذلك في التفسير، إن شاء الله تعالى‏.‏

ويقال منه‏:‏ قنطر الرجل إذا كان عنده قناطير، أو قنطار من المال وقال الزجاج‏:‏ هو مأخوذ من‏:‏ قنطرت الشيء، عقدته وأحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقيل‏:‏ قنطرته‏:‏ عبيته شيئاً على شيء، ومنه سمي القنطرة‏.‏ فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة‏.‏

الذهب‏:‏ معروف، وهو مؤنث يجمع على ذهاب وذهوب‏.‏ وقيل‏:‏ الذهب جمع ذهبية‏.‏

والفضة‏:‏ معروفة، وجمعها فضض، فالذهب مشتق من الذهاب، والفضة من انفض الشيء‏:‏ تفرق، ومنه‏:‏ فضضت القوم‏.‏

الخيل‏:‏ جمع لا واحد له من لفظه، بل واحده‏:‏ فرس‏.‏ وقيل‏:‏ واحده خايل، كراكب وركب، قاله أبو عبيدة‏.‏ سميت بذلك لاختيالها في مشيها‏.‏ وقيل‏:‏ اشتقاقه من التخيل، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه‏.‏ وقيل‏:‏ الاختيال مأخوذ من التخيل‏.‏

النعم‏:‏ الإبل فقط، قال الفراء‏:‏ وهو مذكر ولا يؤنث، يقولون هذا نعم وارد‏.‏ وقال الهروي‏:‏ النعم، يذكر ويؤنث، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الأنعام‏:‏ الإبل والبقر والغنم، واحدها نعم، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها، ومنه‏:‏ الناعم، والنعامة، والنعامى‏:‏ الجنوب، سميت بذلك للين هبوبها‏.‏

المآب‏:‏ مفعل من آب يؤوب إياباً‏.‏ أي‏:‏ رجع، يكون للمصدر والمكان والزمان‏.‏

‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏}‏ سبب نزولها أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر‏:‏ إن قريشاً كانوا أغماراً، ولو حاربتنا لرأيت رجالاً‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في قريش قبل بدر بسنتين، فحقق الله تعالى ذلك وقيل‏:‏ لما غلب قريشاً ببدر، قالت اليهود‏:‏ هو النبي المبعوث الذي في كتابنا، لا تهزم له راية‏.‏ فقالت لهم شياطينهم‏:‏ لا تعجلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى‏.‏ فلما كانت أحد كفروا جميعهم، وقالوا‏:‏ ليس بالنبي المنصور‏.‏

وقيل‏:‏ في أبي سفيان وقومه، جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر، فنزلت‏.‏ ولما أخبر تعالى قيل‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار‏}‏ ناسب ذلك الوعد الصادق اتباعه هذا الوعد الصادق، وهو كالتوكيد لما قبله، فالغلبة تحصل بعدم انتفاعهم بالأموال والأولاد، والحشر لجهنم مبدأ كونهم يكونون لها وقوداً‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ سيغلبون ويحشرون، بالياء على الغيبة وقرأ باقي السبعة‏:‏ بالتاء، خطاباً، فتكون الجملة معمولاً للقول‏.‏ ومن قرأ بالياء فالظاهر أن الضمير‏:‏ للذين كفروا، وتكون الجملة إذ ذاك ليست محكية بقل، بل محكية بقول آخر، التقدير‏:‏ قل لهم قولي سيغلبون، وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏ فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيغلبون، وأجاز بعضهم، وهو‏:‏ الفراء، وأحمد بن يحيى، وأورده ابن عطية، إحتمالاً أن يعود الضمير في‏:‏ سيغلبون، في قراءة التاء على قريش، أي‏:‏ قل لليهود ستغلب قريش، وفيه بُعْدٌ‏.‏

والظاهر أن‏:‏ الذين كفروا، يعم الفريقين المشركين واليهود، وكل قد غلب بالسيف، والجزية، والذلة، وظهور الدلائل والحجج، وإلى معناها الغاية، وإن جهنم منتهى حشرهم، وأبعد من ذهب إلى أن‏:‏ إلى، في معنى‏:‏ في، فيكون المعنى‏:‏ إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد، يحتمل أن يكون من جملة المقول، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى، قاله الراغب؛ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير‏:‏ وبئس المهاد جهنم‏.‏ وكثيراً ما يحذف لفهم المعنى، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه‏:‏ أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر، إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها، وذلك لا يجوز، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة‏.‏ وأمّا من جعل‏:‏ المهاد، ما مهدوا لأنفسهم، أي‏:‏ بئسما مهدوا لأنفسهم، وكان المعنى عنده، و‏:‏ بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم، ففيه بُعْدٌ، ويروى عن مجاهد‏.‏

‏{‏قد كان لكم آية في فئتين التقتا‏}‏ قال في ‏(‏ري الظمآن‏)‏‏:‏ أجمع المفسرون على أنها وقعة بدر، والخطاب للمؤمنين، قاله ابن مسعود، والحسن‏.‏ فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين، كما قال‏:‏ من قال يوم الخندق‏:‏ يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن لا نأمن على النساء في المذهب، وكما قال عدي بن حاتم، حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالأمنة التي تأتي، فقلت في نفسي‏:‏ فأين ذعار طيء الذين سعروا البلاد‏؟‏ الحديث بكماله‏.‏

وقيل‏:‏ الخطاب للكافرين، وهو ظاهر، ولا سيما على قراءة من قرأ‏:‏ ستغلبون، بالتاء‏.‏ ويخرج ذلك من قول ابن عباس، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم، وإعلاماً بأن الله سينصر دينه‏.‏ وقد أراكم في ذلك مثالاً بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر‏.‏

وقيل‏:‏ الخطاب لليهود، قاله الفراء، وابن الأنباري وابن جرير، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم، كأنه قيل‏:‏ لا تغتروا بدربتكم في الحرب، ومنعة حصونكم، ومجالبتكم لمشركي قريش، فإن الله غالبكم، وقد علمتم ما حل بأهل بدر، ولم يلحق التاء‏:‏ كان، وإن كان قد أسند إلى مؤنث، وهو الآية، لأجل أنه تأنيث مجازي‏.‏ وازداد حسناً بالفصل، وإذا كان الفصل محسناً في المؤنث الحقيقي، فهو أولى في المؤنث المجازي، ومن كلامهم‏:‏ حضر القاضي امرأة وقال‏:‏

إن امرأ غره منكن واحدة *** بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

وقيل‏:‏ ذكر لأن معنى الآية البيان، فهو كما قال‏:‏

برهرهة رودة رخصة *** كخرعوبة البانة المنفطر

ذهب إلى القضيب، وفي قوله ‏{‏في فئتين‏}‏ محذوف تقديره في‏:‏ قصة فئتين، ومعنى‏:‏ التقتا، أي للحرب والقتال‏.‏

‏{‏فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة‏}‏ أي‏:‏ فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى، فذكر في الأولى لازم الإيمان، وهو القتال في سبيل الله‏.‏ وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان، وهو الكفر‏.‏

والجمهورُ برفع‏:‏ فئة، على القطع، التقدير‏:‏ إحداهما، فيكون‏:‏ فئة، على هذا خبر مبتدأ محذوف، أو التقدير‏:‏ منهما، فيكون مبتدأ محذوف الخبر‏.‏

وقيل‏:‏ الرفع على البدل من الضمير في التقتا‏.‏

وقرأ مجاهد، والحسن، والزهري وحميد‏:‏ فئةٍ، بالجر على البدل التفصيلي، وهو بدل كل من كل، كما قال‏:‏

وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة *** ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِ

ومنهم من رفع‏:‏ كافرة، ومنهم من خفضها على العطف، فعلى هذه القراءة تكون‏:‏ فئة، الأولى بدل بعض من كل، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي‏:‏ فئة منهما تقاتل في سبيل الله، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الإبتداء وإما على الخبر‏.‏

وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة‏:‏ فئة، بالنصب‏.‏ قالوا‏:‏ على المدح، وتمام هذا القول‏:‏ إنه انتصب الأول على المدح، والثاني على الذم، كأنه قيل‏:‏ أمدح فئة تقاتل في سبيل الله، وأذم أخرى كافرة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ النصب في‏:‏ فئة، على الاختصاص وليس بجيد، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً، وأجاز هو، وغيره قبله كالزجاج‏:‏ أن ينتصب على الحال من الضمير في‏:‏ التقتا، وذكر‏:‏ فئة، على سبيل التوطئة‏.‏

وقرأ الجمهور تقاتل بالتاء على تأنيث الفئة وقرأ مجاهد ومقاتل يقاتل بالياء على التذكير قالوا لأن معنى الفئة القوم فرد إليه وجرى على لفظه

يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ قرأ نافع ويعقوب وسهل ترونهم بالتاء على الخطاب وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة وقرأ ابن عباس وطلحة ترونهم بضم التاء على الخطاب وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب فيكون الضمير في لكم للمؤمنين والضمير المرفوع في ترونهم للمؤمنين أيضاً وضمير النصب في ترونهم وضمير الجر في مثليهم عائد على الكافرين والتقدير ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد فيكون ذلك أبلغ في الآية أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ومع ذلك نصرهم الله عليهم وأوقع المسلمون بهم وهذه حقيقة التأييد بالنصر كقوله تعالى كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية وآية الأنفال قصة واحدة وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين والضمير المنصوب في ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين والتقدير ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون ترونهم مثليكم

وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ ويحتمل أن يعود الضمير في مثليهم على الفئة المقاتلة في سبيل الله أي ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله وهم أنفسهم والمعنى ترونهم مثليكم وهذا تقليل إذا كانوا نيفاً على ألف والمسلمون في تقدير ثلث منهم فأرى الله المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ لتجترئوا عليهم

وإذن كان الضمير في لكم للكافرين وفي ترونهم الخطاب لهم والمنصوب والمجرور للمؤمنين والتقدير ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم

ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائداً على الفئة الكافرة أي مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم فيكون الله تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم وكانت تلك الرؤية مدداً من الله للمؤمنين كما أمدهم تعالى بالملائكة فإن كانت هذه وآية الأنفال في قصة واحدة فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين قللوا أولاً في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا كقوله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ وأما من قرأ بالياء المفتوحة فالظاهر أن الجملة صفة لقوله وأخرى كافرة وضمير الرفع عائد عليها على المعنى إذ لو عاد على اللفظ لكان تراهم وضمير النصب عائد على فئة تقاتل في سبيل الله وضمير الجرّ في مثليهم عائد على فئة أيضاً وذلك على معنى الفئة إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب تراها مثليها أي ترى الفئةُ الكافرُة الفئةَ المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها أي ستمائة ونيف وعشرين أو مثلي أنفس الفئة الكافرة أي ألفين أو قريباً من ألفين

ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على المعنى والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة على المعنى أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها

ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة أي مثلي الفئة الكافرة والجملة إذ ذاك صفة لقوله وأخرى كافرة ففي الوجه الأول الرابط الواو وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب وإذا كان الضمير في لكم لليهود فالآية كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم‏)‏ أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم وتثبيتاً لصورة الوعد السابق من أن الكفار سيغلبون

فمن قرأ بالتاء كان معناه لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل

والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد وانتصب مثليهم على الحال قاله أبو علي ومكي والمهدوي ويقوي ذلك ظاهر قوله رأي العين وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد

قال الزمخشري رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقيل الرؤية هنا من رؤية القلب فيتعدى لإثنين والثاني هو مثليهم ورد هذا بوجهين أحدهما قوله تعالى رأي العين والثاني أن رؤية القلب علم ومحال أن يعلم الشيء شيئين

وأجيب عن الأول بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي أي رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به وعن الثاني بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد فلا يكون ذلك محالاً وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى قال تعالى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ أي فإن اعتقدتم إيمانهن ويدل على هذا قراءة من قرأ ترونهم بضم التاء أو الباء قالوا فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً لا يقيناً فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك وذلك أن أُري بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر وإذا كان كذلك فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم يستحيل أن يحمل على النظر بالعين لأنه كما لا يقع العلم غير مطابق للمعلوم كذلك لا يقع النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم

شبه برؤية العين والرأي مصدر رأى يقال رأى رأياً ورؤية ورؤيا ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة ورأيا في الاعتقاد يقال هذا رأي فلان قال رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه

خوارج تراكين قصد المخارج

ومعنى مثليهم قدرهم مرتين وزعم الفراء أن معنى يرونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم كقول القائل عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها وغلطه الزجاج وقال إنما مثل الشيء مساو له ومثلاه مساويه مرتين

وقال ابن كيسان أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلاّ على عدتهم وهذا بعيد وليس المعنى عليه وإنما المعنى أراهم الله على غير عدتهم بجهتين إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك والأخرى أنه آية النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ انتهى كلام ابن كيسان

وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة والمؤمنين ثلثمائة وأربعة عشر وقيل وثلاثة عشرة لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من بقرب من الثلثين فذكر الله المثلين إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد وحكي عن ابن عباس أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال ‏(‏يوم بدر القوم ألف‏)‏ وقال ابن عباس نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً وقال في رواية لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا منهم رجلاً فقلنا كم كنتم قال ألفاً ونقل أن المشركين لما أسروا قالوا للمسلمين كم كنتم قالوا كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة قالوا ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا وتكثير كل طائفة في عين الأخرى وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز فلا يمتنع

وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء أي يقويه بعونه وقيل النصر الحجة ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ومفعول من يشاء محذوف أي من يشاء نصره

إِنَّ فِى ذَلِكَ أي النصر وقيل رؤية الجيش مثليهم لَعِبْرَةً أي اتعاظاً ودلالة لاِوْلِى الاْبْصَارِ إن كانت الرؤية بصرية فالمعنى للذين أبصروا الجمعين وإن كانت اعتقادية فالمعنى لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار

زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ قرأ الجمهور زين مبنياً للمفعول والفاعل محذوف فقيل هو الله تعالى قاله عمر لأنه قال حين نزلت الآن يا رب حين زينتها فنزلت قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ الآية ومعنى التزيين خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه وهذا كقوله إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ فزينها تعالى للابتلاء ويدل عليه قراءة زين للناس حب مبنياً للفاعل وهو الضمير العائد على الله في قوله وَاللَّهُ يُؤَيّدُ

وقيل المزين الشيطان وهو ظاهر قول الحسن قال من زينها ما أحد أشد ذماً لها من خالقها ويصح إسناد التزيين إلى الله تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة وتحصيلها من غير وجهها وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ من اليهود وغيرهم المفتونين بالدنيا وأضاف المصدر إلى المفعول وهو الكثير في القرآن وعبر عن المشتهيات بالشهوات مبالغة إذ جعلها نفس الأعيان وتنبيهاً على خستها لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم وناهيك لها ذماً قوله صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏(‏حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره‏)‏ وأتى بذكر الشهوات أولاً مجموعة على سبيل الإجمال ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلاّ شهوة دنيوية لا غير فيكون في ذلك تنفير عنها وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم بدأ بالنساء لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجاً ‏(‏ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء‏)‏ ‏(‏ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكنّ‏)‏ ويقال فيهنّ فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال

وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء وفروع عنهنّ وشقائق النساء في الفتن الولد مبخلة مجبنة وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمض

وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة قدمت الأموال على الأولاد

وظاهر قوله والبنين الذكران وقيل يشمل الإناث وغلب التذكير

وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة ولأنه يحصل به غالب الشهوات ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد

واختلف في القنطار أهو عدد مخصوص أم ليس كذلك فقيل ألف ومائتا أوقية وقيل اثنا عشر ألف أوقية وقيل ألف ومائتا دينار وكل هذه رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ الأول رواه أبيّ وقال به معاذ وابن عمر وعاصم بن أبي النجود والحسن في رواية والثاني رواه أبو هريرة وقال به والثالث رواه الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس

وقيل اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار ذهباً وروي عن ابن عباس وعن الحسن والضحاك

وقال ابن المسيب ثمانون ألفاً وقال مجاهد وروي عن ابن عمر سبعون ألف دينار وقال السدي ثمانية آلاف مثقال وهي مائة رطل وقال الكلبي ألف مثقال ذهب أو فضة وقال قتادة مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة وقال سعيد بن جبير وعكرمة مائة ألف ومائة منّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا وقيل أربعون أوقية من ذهب أو فضة ذكره مكي وقاله ابن سيده في ‏(‏المحكم‏)‏ وقيل ثمانية آلاف مثقال وهي مائة رطل وقال ابن سيده في ‏(‏المحكم‏)‏ القنطار بلغة بربر ألف مثقال وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في تفسير وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ قال ألف دينار وحكى الزجاج أنه قيل إن القنطار هو رطل ذهباً أو فضة قال ابن عطية وأظنه وهماً وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل انتهى وقال أبو حمزة الثمالي القنطار بلسان أفريقية والأندلس ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول

وأما الآن فهو عندنا مائة رطل والرطل عندنا ستة عشر أوقية وقال أبو بصرة وأبو عبيدة ملء مسك ثور ذهباً قال ابن سيده وكذا هو بالسريانية وقال ابن الكلبي وكذا هو بلغة الروم وقال الربيع بن أنس المال الكثير بعضه على بعض وقال ابن كيسان المال العظيم وقال أبو عبيدة القنطار عند العرب وزن لا يحد وقال الحكم القنطار ما بين السماء والأرض من مال وقال ابن عطية القنطار معيار يوزن به كما أن الرطل معيار

ويقال لما بلغ ذلك الوزن قنطاراً أي يعدل القنطار وأصح الأقوال الأول والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية انتهى

والمقنطرة مفعللة أو مفيعلة من القنطار ومعناه المجتمعة كما يقول الألوف المؤلفة والبدرة المبدرة اشتقوا منها وصفاً للتوكيد وقيل المقنطرة المضعفة قاله قتادة والطبري

وقيل المقنطرة تسعة قناطير لأنه جمع جمع قاله النقاش وهذا غير صحيح وقال ابن كيسان لا تكون المقنطرة أقل من تسعة وقال الفراء لا تكون أكثر من تسعة وهذا كله تحكم وقال السدي المقنطرة المضروبة دنانير أو دراهم وقال الربيع والضحاك المنضد الذي بعضه فوق بعض وقيل المخزونة المدخورة وقال يمان المدفونة المكنوزة وقيل الحاضرة العتيدة قاله ابن عطية

وقال مروان بن الحكم ما المال إلاَّ ما حازته العيان مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تبيين للقناطير وهو في موضع الحال منها أي كائناً من الذهب وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أي الراعية في المروج سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر على حال دون حال فيكون قد عدى الفعل بالتضعيف كما عدى بالهمزة في قولهم أسمتها قاله ابن عباس وابن جبير والحسن وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ومجاهد والربيع وروي عن مجاهد أنها المطهمة الحسان وقال السدي هي الرائقة من سيما الحسن وقال عكرمة سومها الحسن واختاره النحاس

من قولهم رجل وسيم ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين إلاَّ إن ادعى القلب وقال أبو عبيدة والكسائي المعلمة بالشيات وروي عن ابن عباس وهو من السومة وهي العلامة قال أبو طالب أمين محب للعباد مسوّم

بخاتم ربّ طاهر للخواتم

قال أبو زيد أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى وقال ابن فارس في ‏(‏المجمل‏)‏ المسومة هي المرسل عليها ركبانها وقال ابن زيد المعدّة للجهاد وقال ابن المبرد المعروفة في البلدان وقال ابن كيسان البلق وقيل ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل وقيل هي الهماليج

وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله والقناطير إلى آخرها غير ما أتى تبييناً معطوفاً على الشهوات أي وحب القناطير وكذا وكذا ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله من النساء فيكون مندرجاً في الشهودات ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل وقيل يراد به المفعول وتقدّم الكلام فيه عند قوله وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ

ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا أشار بذلك وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة لأنه أراد ذلك المذكور أو المتقدم ذكره والمعنى تحقير أمر الدنيا والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها وأدغم أبو عمر وفي الإدغام الكبير ثاء والحرث في ذال ذلك واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء

وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ أي المرجع وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفني ولا ينقطع

ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة فالنساء والبنون فيهم النفقة وباقيها فيها الصدقة قاله الماتريدي

وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة والبلاغة الخطاب العام ويراد به الخاص في قوله لِلَّذِينَ كَفَرُواْ على قول عامّة المفسرين هم اليهود وهذا من تلوين الخطاب والتجنيس المغاير في تَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ والاحتراس في رَأْىَ الْعَيْنِ قالوا لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب فهو من باب الحزر وغلبة الظن والإبهام في زُيّنَ لِلنَّاسِ والتجنيس المماثل في وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ والحذف في مواضع وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

الرضوان‏:‏ مصدر رضي، وكسر رائه لغة الحجاز، وضمها لغة تميم وبكر، وقيس، وغيلان‏.‏ وقيل‏:‏ الكسر للاسم، ومنه‏:‏ رِضوان خازن الجنة، والضم للمصدر‏.‏

السحر‏:‏ بفتح الحاء وسكونها، قال قوم منهم الزجاج‏:‏ الوقت قبل طلوع الفجر، ومنه يقال‏:‏ تسحر أكل في ذلك الوقت، واستحر‏:‏ سار فيه قال‏.‏

بكرن بكوراً واستحرت بسحرة *** فهنّ لوادي الرس كاليد للفم

واستحر الطائر صاح وتحرك فيه قال‏:‏

يعل به برد أنيابها *** اذا غرّد الطائر المستحر

وأسحر الرجل واستحر، دخل في السحر قال‏:‏

وأدلج من طيبة مسرعاً *** فجاء إلينا وقد أسحرا

وقال بعض اللغويين السحر‏:‏ من ثلث الليل الآخر إلى الفجر، وجاء في بعض الأشعار عن العرب أن السحر يستمر حكمه فيما بعد الفجر‏.‏ وقيل‏:‏ السحر عند العرب يكون من آخر الليل ثم يستمر إلى الاسفار‏.‏ وأصل السحر الخفاء للطفه، ومنه السحر والسحر‏.‏

‏{‏قل أؤنبئكم بخير من ذلك‏}‏ نزلت حين قال عمر عندما نزل‏:‏ ‏{‏زين للناس‏}‏ يا رب الآن حين زينتها‏.‏ ولما ذكر تعالى أن ‏{‏عنده حسن المآب‏}‏ ذكر المآب وأنه خير من متاع الدنيا، لأنه خير خال من شوب المضار، وباق لا ينقطع‏.‏ والهمزة في‏:‏ أؤنبئكم، الأولى همزة الاستفهام دخلت على همزة المضارعة‏.‏ وقرئ في السبعة بتحقيق الهمزتين من غير ادخال ألف بينهما، وبتحقيقهما، وادخال ألف بينهما، وبتسهيل الثانية من غير ألف بينهما‏.‏ ونقل ورش الحركة إلى اللام، وحذف الهمزة‏.‏ وبتسهيلها وإدخال ألف بينهما‏.‏

وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا، وتقوية لنفوس تاركها وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ولما قال‏:‏ ذلك متاع، فأفرد، جاء‏:‏ بخير من ذلكم، فأفرد اسم الإشارة، وإن كان هناك مشاراً به إلى ما تقدّم ذكره، وهو كثير‏.‏ فهذا مشار به إلى ما أشير بذلك، و‏:‏ خير، هنا أفعل التفضيل، ولا يجوز أن يراد به خير من الخيور، ويكون‏:‏ من ذلكم، صفة لما يلزم في ذلك من أن يكون ما رغبوا فيه بعضاً مما هدوا فيه‏.‏

‏{‏للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ يحتمل أن يكون للذين متعلقاً بقوله‏:‏ بخير من ذلكم، و‏:‏ جنات، خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هو جنات، فتكون ذلك تبييناً لما أبهم في قوله‏:‏ بخير من ذلكم ويؤيد ذلك قراءة يعقوب‏:‏ جنات، بالجر بدلاً من‏:‏ بخير، كما تقول‏:‏ مررت برجل زيد، بالرفع و‏:‏ زيد بالجر، وجوّز في قراءة يعقوب أن يكون‏:‏ جنات، منصوباً على إضمار‏:‏ أعني، ومنصوباً على البدل على موضع بخير، لأنه نصب‏.‏ ويحتمل أن يكون‏:‏ للذين، خبرا لجنات، على أن تكون مرتفعة على الابتداء، ويكون الكلام تم عند قوله‏:‏ بخير من ذلكم، ثم بين ذلك الخير لمن هو، فعلى هذا العامل في‏:‏ عند ربهم، العامل في‏:‏ للذين، وعلى القول الأول العامل فيه قوله‏:‏ بخير‏.‏

‏{‏خالدين فيها وأزواج مطهرة‏}‏ تقدّم تفسير هذا وما قبله‏.‏

‏{‏ورضوان من الله‏}‏ بدأ أولاً بذكر المقر، وهو الجنات التي قال فيها ‏{‏وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين‏}‏ «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني، حيث علم برضا الله عنه، كما جاء في الحديث أنه تعالى‏:‏ «يسأل أهل الجنة هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك‏؟‏ فيقول‏:‏ ألا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا رب وأي شيء أفضل من ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا»

ففي هذه الآية الانتقال من عال إلى أعلى منه، ولذلك جاء في سورة براءة، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال‏:‏ ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ يعنى أكبر مما ذكر من ذكر من الجنات والمساكن‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء علم الفناء، وهم خلقوا للبقاء، وخص النساء بالطهر لما فيهنّ في الدنيا من فضل المعايب والأذى‏.‏

وقال أبو بكر‏:‏ ورضوان، بالضم حيث وقع إلاَّ في ثاني العقود، فعنه خلاف‏.‏ وباقي السبعة بالكسر، وقد ذكرنا أنهما لغتان‏.‏

‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏ أي بصير بأعمالهم، مطلع عليها، فيجازي كلاً بعمله، فتضمنت الوعد والوعيد‏.‏ ولما ذكر المتقين أفهم مقابلهم فختم الآية بهذا‏.‏

‏{‏الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار‏}‏ لما ذكر أن الجنة للمتقين ذكر شيئاً من صفاتهم، فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى، وذكر دعاءهم ربهم عند الإخبار عن أنفسهم بالإيمان، وأكد الجملة ب‏:‏ إن مبالغة في الإخبار، ثم سألوا الغفران ووقايتهم من العذاب مرتباً ذلك على مجرد الإيمان، فدل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة، ولا يكون الإيمان عبارة عن سائر الطاعات، كما يذهب إليه بعضهم، لأن من تاب وأطاع الله لا يدخله النار بوعده الصادق، فكان يكون السؤال في أن لا يفعله مما لا ينبغي، ونظيرها، ‏{‏ربنا إننا سمعنا منادياً‏}‏ الآية، فالصفات الآتية بعد هذا ليست شرائط بل هي صفات تقتضي كمال الدرجات‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ مدحهم تعالى بهذا القول، وفيه تزكية أنفسهم بالإيمان، والله تعالى نهى عن تزكية الأنفس بالطاعات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏ فلو كان الإيمان إسما لجميع الطاعات لم يرض منهم التزكية بالإيمان، كما لم يرضها بسائر الطاعات، فالآية حجة من جعل الطاعات من الإيمان، وفيها دلالة على أن إدخال الاستثناء في الإيمان باطل، لأنه رضيه منهم دون استثناء‏.‏ إنتهى‏.‏

قيل‏:‏ ولا تدل على شيء من التزكية ولا من الاسثنتاء، لأن قولهم‏:‏ آمنا، هو اعتراف بما أمروا به، فلا يكون ذلك تزكية منهم لأنفسهم، ولأن الاستثناء إنما هو فيما يموت عليه المرء، لا فيما هو متصف به، ولا قائل بأن الإيمان الذي يتصف به العبد يجوز الاستثناء فيه، فإن ذلك محال عقلاً‏.‏

وأعرب‏:‏ الذين يقولون، صفة وبدلاً ومقطوعاً لرفع أو لنصب، ويكون ذلك من توابع‏:‏ ‏{‏الذين اتقوا‏}‏ أو من توابع‏:‏ العباد، والأول أظهر‏.‏

‏{‏الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار‏}‏ لما ذكر الإيمان بالقول، أخبر بالوصف الدّال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف، فصبروا على أداء الطاعة، وعن اجتناب المحارم، ثم بالوصف الدال على مطابقة الاعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان، فهم صادقون فيما أخبروا به من قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا إننا آمنا‏}‏ وفي جميع ما يخبرون‏.‏

وقيل‏:‏ هم الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السر والعلانية، وهذا راجع للقول الذي قبله، ثم بوصف القنوت، وتقدم تفسيره في قوله‏:‏ ‏{‏كل له قانتون‏}‏ فأغنى عن إعادته، ثم بوصف الإنفاق، لأن ما تقدم هو من الأوصاف التي نفعها مقتصر على المتصف بها لا يتعدى، فأبى في هذا بالوصف المتعدي إلى غيره، وهو الإنفاق، وحذفت متعلقات هذه الأوصاف للعلم بها، فالمعنى‏:‏ الصابرين على تكاليف ربهم، والصادقين في أقوالهم، والقانتين لربهم، والمنفقين أموالهم في طاعته، والمستغفرين الله لذنوبهم في الأسحار ولما ذكر أنهم رتبوا طلب المغفرة على الإيمان الذي هو أصل التقوى، أخبر أيضاً عنهم، أنهم عند اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة، هم مستغفرون بالأسحار، فليسوا يرون اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة مما يسقط عنهم طلب المغفرة، وخص السحر بالذكر، وإن كانوا مستغفرين دائماً، لأنه مظنة الإجابة، كما صح في الحديث‏:‏ «أنه تعالى، تنزه عن سمات الحدوث، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» وكانت الصحابة‏:‏ ابن مسعود، وابن عمر، وغيرهم يتحرون الأسحار ليستغفروا فيها، وكان السحر مستحباً فيه الإستغفار لأن العبادة فيه أشق، ألا تراهم يقولون‏:‏ إن إغفاءة الفجر من ألذ النوم‏؟‏‏!‏ ولأن النفس تكون إذ ذاك أصفى، والبدن أقل تعباً، والذهن أرق وأحد، إذ قد أجم عن الأشياء الشاقة الجسمانية والقلبية بسكون بدنه، وترك فكره بانغماره في وارد النوم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إنهم كانوا يقدمون قيام الليل، فيحسن طلب الحاجة فيه ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏ انتهى‏.‏ ومعناه، عن الحسن وهذه الأوصاف الخمسة هي لموصوف واحد وهم‏:‏ المؤمنون، وعطفت بالواو ولم تتبع دون عطف لتباين كل صفة من صفة، إذ ليست في معنى واحد، فينزل تغاير الصفات وتباينها منزلة تغاير الذوات فعطفت‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها‏.‏

انتهى ولا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال‏.‏

قال المفسرون في الصابرين‏:‏ صبروا عن المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ عن المصائب‏.‏ وقيل‏:‏ ثبتوا على العهد الأول‏.‏ وقيل‏:‏ هم الصائمون‏.‏

وقالوا في الصادقين‏:‏ في الأقوال‏.‏ وقيل‏:‏ في القول والفعل والنية‏.‏ وقيل‏:‏ في السر والعلانية‏.‏

وقالوا في القانتين‏:‏ الحافظين للغيب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القائمين على العبادة‏.‏ وقيل‏:‏ القائمين بالحق‏.‏ وقيل‏:‏ الداعين المتضرعين‏.‏ وقيل‏:‏ الخاشعين‏.‏ وقيل‏:‏ المصلين‏.‏

وقالوا في المنفقين‏:‏ المخرجين المال على وجه مشروع‏.‏ وقيل‏:‏ في الجهاد‏.‏ وقيل‏:‏ في جميع أنواع البر‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ في الصدقات‏.‏

وقالوا في المستغفرين‏:‏ السائلين المغفرة، قاله ابن عباس وقال ابن مسعود وابن عمر، وأنس، وقتادة السائلين المغفرة وقت فراغ البال وخفة الأشغال، وقال قتادة أيضاً‏:‏ المصلين بالأسحار‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ المصلين الصبح في جماعة‏.‏

وهذا الذي فسروه كله متقارب‏.‏

‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط‏}‏‏.‏

«سبب نزولها أن حبرين من الشام قدما المدينة، فقال أحدهما للآخر‏:‏ ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان، ثم عرفا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعت، فقالا‏:‏ أنت محمد‏؟‏ قال‏:‏» نعم «‏.‏ فقالا‏:‏ أنت أحمد‏؟‏ فقال‏:‏» نعم «‏.‏ فقالا‏:‏ نسألك عن شهادة إن أخبرتنا بها آمنا‏.‏ فقال‏:‏» سلاني «فقال أحدهما‏:‏ أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله، فنزلت وأسلما‏.‏» وقال ابن جبير‏:‏ كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فلما نزلت هذه الآية خرت سجدا‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في نصارى نجران لما حاجوا في أمر عيسى‏.‏

وقيل‏:‏ في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم قالوا‏:‏ ديننا أفضل من دينك، فنزلت‏.‏

وأصل‏:‏ شهد، حضر، ثم صرفت الكلمة في أداء ما تقرر علمه في النفس، فأي وجه تقرر من حضور أو غيره‏.‏ فقيل‏:‏ معنى‏:‏ شهد، هنا‏:‏ أعلم‏.‏ قاله المفضل وغيره، وقال الفرّاء، وأبو عبيدة‏:‏ قضى، وقال مجاهد‏:‏ حكم، وقيل‏:‏ بين‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ شهد بإظهار صنعه‏.‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد

قال الزمخشري‏:‏ شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص، وآية الكرسي وغيرهما‏.‏ بشهادة الشاهد في البيان والكشف، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك، واحتجاجهم عليه‏.‏ إنتهى‏.‏ وهو حسن‏.‏

وقال المروزي‏:‏ ذكر شهادته سبحانه على سبيل التعظيم لشهادة من ذكر بعده، كقوله‏:‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول‏}‏ إنتهى‏.‏

ومشاركة الملائكة وأولي العلم لله تعالى في الشهادة من حيث عطفا عليه لصحة نسبة الإعلام، أو صحة نسبة الإظهار والبيان، وإن اختلفت كيفية الإظهار والبيان من حيث أن إظهاره تعالى بخلق الدلائل، وإظهار الملائكة بتقريرها للرسل، والرسل لأولي العلم‏.‏

وقال الواحدي‏:‏ شهادة الله بيانه وإظهاره، والشاهد هو العالم الذي بيّن ما علمه، والله تعالى بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق، وشهادة الملائكة بمعنى الإقرار كقوله‏:‏

‏{‏قالوا شهدنا على أنفسنا‏}‏ أي‏:‏ أقررنا‏.‏ فنسق شهادة الملائكة على شهادة الله، وإن اختلفت معنىً، لتماثلهما لفظاً‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي‏}‏ لأنها من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار والداعاء وشهادة أولي العلم ويحتمل الإقرار ويحتمل التبيين، لأنهم أقرّوا وبينوا‏.‏ إنتهى‏.‏

وقال المؤرج‏:‏ شهد الله، بمعنى‏:‏ قال الله، بلغة قيس بن غيلان‏.‏

و ‏{‏أولوا العلم‏}‏ قيل‏:‏ هم الأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ المهاجرون والأنصار‏.‏ وقيل‏:‏ علماء المؤمنين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المؤمنون‏.‏

والمراد بأولي العلم‏:‏ من كان من البشر عالماً، لأنهم ينقسمون إلى‏:‏ عالم وجاهل، بخلاف الملائكة‏.‏ فإنهم في العلم سواء‏.‏

و ‏{‏أنه لا إله إلا هو‏}‏‏:‏ مفعول‏:‏ شهد، وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف، ليدل على الاعتناء بذكر المفعول، وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين، بحيث لا ينسقان متجاورين‏.‏ وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى، وعلمهم كله ضروري، بخلاف البشر، فإن علمهم ضروري وإكتسابي‏.‏

وقرأ أبو الشعثاء‏:‏ شهد، بضم الشين مبنياً للمفعول، فيكون‏:‏ أنه، في موضع البدل أي‏:‏ شهد وحدانية الله وألوهيته‏.‏ وارتفاع‏:‏ الملائكة، على هذه القراءة على الابتداء، والخبر محذوف تقديره‏:‏ والملائكة وأولو العلم يشهدون‏.‏ وحذف الخبر لدلال المعنى عليه، ويحتمل أن يكون فاعلاً بإضمار فعل محذوف لدلالة شهد عليه، لأنه إذا بني الفعل للمفعول فإنه قبل ذلك كان مبنياً للفاعل، والتقدير‏:‏ وشهد بذلك الملائكة وأولو العلم‏.‏

وقرأ أبو المهلب، عم محارب بن دثار‏:‏ شهداء الله، على وزن‏:‏ فعلاء، جمعاً منصوباً‏.‏

قال ابن جني‏:‏ على الحال من الضمير في المستغفرين‏.‏ وقيل‏:‏ نصب على المدح، وهو جمع شهداء، وجمع شاهد‏:‏ كظرفاء وعلماء‏.‏ وروي عنه، وعن أبي نهيك‏:‏ شهداء الله، بالرفع أي‏:‏ هم شهداء الله‏.‏ وفي القراءتين‏:‏ شهداء، مضاف إلى اسم الله‏.‏

وروي عن أبي المهلب‏:‏ شهد بضم الشين والهاء، جمع‏:‏ شهيد، كنذير ونذر، وهو منصوب على الحال، واسم الله منصوب‏.‏ وذكر النقاش‏:‏ أنه قرئ كذلك بضم الدال وبفتحها مضافاً لاسم الله في القراءتين‏.‏

وذكر الزمخشري، أنه قرئ‏:‏ شهداء لله، برفع الهمزة ونصبها، وبلام الجر داخلة على اسم الله، فوجه النصب على الحال من المذكورين، والرفع على إضمارهم، ووجه رفع الملائكة على هاتين القراءتين عطفاً على الضمير المستكن في شهداء، وأجاز ذلك لوقوع الفاصل بينهما‏.‏ وتقدم توجيه رفع الملائكة إما على الفاعلية، وإما على الابتداء‏.‏

وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه بإدغام‏:‏ واو، وهو في‏:‏ واو، والملائكة‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏أنه لا إله إلاَّ هو‏}‏ بكسر الهمزة في‏:‏ أنه، وخرج ذلك على أنه أجرى‏:‏ شهد، مجرى‏:‏ قال، لأن الشهادة في معنى القول، فلذلك كسر إن، أو على أن معمول‏:‏ شهد، هو ‏{‏ان الدين عند الله الإسلام‏}‏

ويكون قوله‏:‏ ‏{‏أنه لا إله إلاَّ هو‏}‏ جملة اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف، إذ فيها تسديد لمعنى الكلام وتقوية، هكذا خرجوه والضمير في‏:‏ أنه، يحتمل أن يكون عائداً على‏:‏ الله، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن، ويؤيد هذا قراءة عبد الله ‏{‏شهد الله أن لا إله إلا هو‏}‏ ففي هذه القراءة يتعين أن يكون المحذوف إذا خففت ضمير الشأن، لأنها إذا خففت لم تعمل في غيره إلاَّ ضرورة، وإذا عملت فيه لزم حذفه‏.‏

قالوا‏:‏ وانتصب‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ على الحال من اسم الله تعالى، أو من‏:‏ هو، أو من الجميع، على اعتبار كل واحد واحد، أو على المدح، أو صفة للمنفي، كأنه قيل‏:‏ لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو‏.‏ أو‏:‏ على القطع، لأن أصله‏:‏ القائم، وكذا قرأ ابن مسعود، فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏وله الدين واصباً‏}‏ أي الواصب‏.‏

وقرأ أبو حنيفة‏:‏ قيما، وانتصابه على ما ذكر‏.‏ وذكر السجاوندي‏:‏ أن قراءة عبد الله‏:‏ قائم، فأما انتصابه على الحال من اسم الله فعامها شهد، إذ هو العامل في الحال، وهي في هذا الوجه حال لازمة، لأن القيام بالقسط وصف ثابت لله تعالى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه، أي‏:‏ من الله، كقوله ‏{‏وهو الحق مصدقاً‏}‏ انتهى‏.‏ وليس من الحال المؤكدة، لأنه ليس من باب‏:‏ ‏{‏ويوم يبعث حياً‏}‏ ولا من باب‏:‏ أنا عبد الله شجاعاً‏.‏ فليس ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ بمعنى‏:‏ شهد، وليس مؤكداً مضمون الجملة السابقة في نحو‏:‏ أنا عبد الله شجاعاً، وهو زيد شجاعاً‏.‏ لكن في هذا التخريج قلق في التركيب، إذ يصير كقولك‏:‏ أكل زيد طعاماً وعائشة وفاطمة جائعاً‏.‏ فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف، لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد، وأما انتصابه على الحال من الضمير الذي هو‏:‏ هو، فجوّزه الزمخشري وابن عطية‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ قد جعلته حالاً من فاعل‏:‏ شهد، فهل يصح أن ينتصب حالاً من‏:‏ هو، في‏:‏ ‏{‏لا إله إلاَّ هو‏}‏‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏!‏ لأنها حال مؤكدة، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها، كقوله‏:‏ أنا عبد الله شجاعاً‏.‏ انتهى‏.‏ ويعني‏.‏ أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئاً من الجملة السابقة قبلها، وإنما ينتصب بعامل مضمر تقديره‏:‏ أحق، أو نحوه مضمراً بعد الجملة، وهذا قول الجمهور‏.‏ والحال المؤكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى ملازم للمسند إليه الحكم، أو شبيه بالملازم، فإن كان المتكلم بالجملة مخبراً عن نفسه، فيقدر الفعل‏:‏ أحق، مبنياً للمفعول، نحو‏:‏ أنا عبد الله شجاعاً، أي‏:‏ أحق شجاعاً‏.‏ وإن كان مخبراً عن غيره نحو‏:‏ هو زيد شجاعاً، فتقديره‏:‏ أحقه شجاعاً‏.‏

وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمن من معنى المسمى، وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى التنبيه‏.‏

وأما من جعله حالاً من الجميع، على ما ذكر، فرد بأنه لو جاز ذلك لجاز‏:‏ جاء القوم راكباً، أي‏:‏ كل واحد منهم‏.‏ وهذا لا تقوله العرب‏.‏

وأما انتصابه على المدح، فقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك‏:‏ الحمد لله الحميد، «إنا معشر الأنبياء لا نورث»

إنا بني نهشل لا ندعى لأب‏؟‏ *** قلت‏:‏ قد جاء نكرة في قول الهذلي‏:‏

ويأوي إلى نسوة عطل *** وشعثاً مراضيع مثل السعالي

انتهى سؤاله وجوابه‏.‏ وفي ذلك تخليط، وذلك أنه لم يفرّق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم، وبين المنصوب على الاختصاص، وجعل حكمهما واحداً، وأورد مثالاً من المنصوب على المدح وهو‏:‏ الحمد لله الحميد، ومثالين في المنصوب على الاختصاص وهما‏:‏ «إنا معشر الأنبياء لا نورث»

إنا بني نهشل لا ندعى لأب *** والذي ذكر النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد يكون معرفة، وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعاً لها، وقد لا يصلح، وقد يكون نكرة كذلك، وقد يكون نكرة وقبلها معرفة، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها نحو قول النابغة‏:‏

أقارعُ عوفٍ لا أحاولُ غيرَها *** وجوهَ قرودٍ يبتغي من يخادعُ

فانتصب‏:‏ وجوهَ قرودٍ، على الذم‏.‏ وقبله معرفة وهو قوله‏:‏ أقارع عوف‏.‏

وأما المنصوب على الاختصاص فنصبوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهماً، ولا يكون إلاَّ معرفاً بالألف واللام، أو بالإِضافة، أو بالعلمية، أو بأي، ولا يكون إلاَّ بعد ضمير متكلم مختص به، أو مشارك فيه، وربما أتى بعد ضمير مخاطب‏.‏ وأما انتصابه على أنه صفة للمنفي فقال الزمخشري‏.‏

فإن قلت‏:‏ هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل‏:‏ لا إله قائماً بالقسط إلا هو‏؟‏

قلت‏:‏ لا يبعد، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف، ثم قال‏:‏ وهو أوجه من انتصابه عن فاعل‏:‏ شهد، وكذلك انتصابه على المدح‏.‏ انتهى‏.‏ وكان قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله‏:‏ لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً‏.‏ ويعني أن انتصاب‏:‏ قائماً، على أنه صفة لقوله‏:‏ إله، أو لكونه انتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل‏:‏ شهد، وهو الله‏.‏ وهذا الذي ذكره لا يجوز، لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، وهو المعطوفان اللذان هما‏:‏ الملائكة وأولو العلم، وليسا معمولين من جملة ‏{‏لا إله إلا الله‏}‏ بل هما معمولان‏:‏ لشهد، وهو نظير‏:‏ عرف زيد أن هنداً خارجة وعمرو وجعفر التميمية‏.‏ فيفصل بين هنداً والتميمية بأجنبي ليس داخلاً فيما عمل فيها، وفي خبرها بأجنبي وهما‏:‏ عمرو وجعفر، المرفوعان بعرف، المعطوفان على زيد‏.‏

وأما المثال الذي مثل به وهو‏:‏ لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً، فليس نظير تخريجه في الآية، لأن قولك‏:‏ إلاَّ عبد الله، يدل على الموضع من‏:‏ لا رجل، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي‏.‏

على أن في جواز هذا التركيب نظراً، لأنه بدل، و‏:‏ شجاعاً، وصف، والقاعدة أنه‏:‏ إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح، فصار من جملة أخرى على المذهب‏.‏

وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلاَّ على مذهب الكوفيين، وقد أبطله البصريون‏.‏

والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوباً على الحال من اسم الله، والعامل فيه‏:‏ شهد، وهو قول الجمهور‏.‏

وأما قراءة عبد الله‏:‏ القائم بالقسط، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هو القائم بالقسط‏.‏ قال الزمخشري وغيره‏:‏ إنه بدل من‏:‏ هو، ولا يجوز ذلك، لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي‏.‏ وهو المعطوفان، لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضاً، لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف، لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك، لم يجز‏.‏ إنما الكلام‏:‏ جاء زيد أخوك وعائشة‏.‏

وقال الزمخشري فإن قلت‏:‏ لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه، ولو قلت‏:‏ جاءني زيد وعمر وراكباً لم يجز‏؟‏

قلت‏:‏ إنما جاز هذا لعدم الإلباس، كما جاز في قوله‏:‏ ‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة‏}‏ إن انتصب‏:‏ نافلة، حالاً عن‏:‏ يعقوب، ولو قلت‏:‏ جاءني زيد وهند راكباً، جاز لتميزه بالذكورة‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وما ذكر من قوله في‏:‏ جاءني زيد وعمرو راكباً، أنه لا يجوز ليس كما ذكر، بل هذا جائز، لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل، أو ما أشبه ذلك، وإذا كان قيداً فإنه يحمل على أقرب مذكور، ويكون راكباً حالاً مما يليه، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة، لو قلت‏:‏ جاءني زيد وعمرو الطويل‏.‏ لكان‏:‏ الطويل، صفة‏:‏ لعمرو، ولا تقول‏:‏ لا تجوز هذه المسألة، لأنه يلبس بل لا لبس في هذا، وهو جائز فكذلك الحال‏.‏

وأما قوله‏:‏ في‏:‏ نافلة، إنه انتصب حالاً عن‏:‏ يعقوب، فلا يتعين أن يكون حالاً عن‏:‏ يعقوب، إذ يحتمل أن يكون‏:‏ نافلة، مصدراً كالعافية والعاقبة‏.‏ ومعناه‏:‏ زيادة، فيكون ذلك شاملاً لإسحاق ويعقوب، لأنهما زيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره، إذ كان إنما جاء له إسحاق على الكبر، وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة، وأولاد إبراهيم غير إسماعيل وإسحاق مديان، ويقال‏:‏ مدين، ويشناق، وشواح، وهو خاضع، ورمران وهو محدان، ومدن، ويقشان وهو مصعب، فهؤلاء ولد إبراهيم لصلبه‏.‏ والعقب الباقي منهم لإسماعيل وإسحاق لا غير‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما المراد بأولي العلم، الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله‏؟‏

قلت‏:‏ هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، وهم علماء العدل والتوحيد‏.‏

انتهى‏.‏

ويعني بعلماء العدل والتوحيد‏:‏ المعتزلة، وهم يسمون أنفسهم بهذا الإسم كما أنشدنا شيخنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله بقراءتي عليه قال‏:‏ أنشدنا الصاحب أبو حامد عبد الحميد بن هبة بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد لنفسه‏:‏

لولا ثلاث لم أخف صرعتي *** ليست كما قال فتى العبد

أن أنصر التوحيد والعدل في *** كل مقام باذلاً جهدي

وأن أناجي الله مستمتعاً *** بخلوة أحلى من الشهد

وأن أتيه الدهر كبراً على *** كل لئيم أصعر الخدّ

لذاك أهوى لا فتاة ولا *** خمر ولا ذي ميعة نهد

‏{‏لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏ كرر التهليل توكيداً وقيل‏:‏ الأول شهادة الله، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم، وهذا بعيد جدّاً لأنه يؤدّي إلى قطع الملائكة عن العطف على الله تعالى، وعلى إضمار فعل رافع، أو على جعلهم مبتدأ، وعلى الفصل بين ما يتعلق بهم وبين التهليل بأجنبي، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ الأول جار مجرى الشهادة، والثاني جار مجرى الحكم وقيل‏:‏ هذا الكلام ينطوي على مقدّمتين، وهذا هو نتيجتهما، فكأنه قال‏:‏ شهد الله والملائكة وأولو العلم وما شهدوا به حق فلا إله إلا هو حق، فحذف إحدى المقدّمتين للدّلالة عليها، وهذا التقدير كله لا يساعد عليه اللفظ‏.‏

وقال الراغب‏:‏ إنما كرر ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد، فيصح وصفهم بها، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر، وأبلغ ما وصف به من التنزيه‏:‏ لا إله إلا الله، فتكريره هنا لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ لكون الثاني قطعاً للحكم، كقولك‏:‏ أشهد أن زيداً خارج، وهو خارج‏.‏ والثاني‏:‏ لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه، إذ قد يوصف بهما المخلوق انتهى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ صفتان مقرّرتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل، يعني أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله‏.‏ انتهى‏.‏ وهو تحويم على مذهب المعتزلة‏.‏

وارتفع‏:‏ العزيز، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ والعزيز، على الاستئناف قيل‏:‏ وليس بوصف، لأن الضمير لا يوصف، وليس هذا بالجمع عليه، بل ذهب الكسائي إلى أن ضمير الغائب كهذا يوصف‏.‏

وجوّزوا في إعراب‏:‏ العزيز، أن يكون بدلاً من‏:‏ هو‏.‏ وروي في حديث عن الأعمش أنه قام يتهجد، فقرأ هذه الآية، ثم قال‏:‏ وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً، فسئل، فقال‏:‏ حدّثني أبو وائل، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله‏:‏ عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى، أدخِلوا عبدي الجنة»

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي‏:‏ العزيز، إشارة إلى كمال القدرة، و‏:‏ الحكيم، إشار، إلى كمال العلم، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلاَّ معهما، لأن كونه ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ لا يتم إلاَّ إذا كان عالماً بمقادير الحاجات، فكان قادراً على تحصيل المهمات، وقدم العزيز في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية، وهذا الخطاب مع المستدل‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ أي الملة والشرع، والمعنى‏:‏ إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ إن، بكسر الهمزة وقرأ ابن عباس، والكسائي، ومحمد بن عيسى الأصبهاني‏:‏ أن، بالفتح، وتقدّمت قراءة ابن عباس‏:‏ شهد الله إنه، بكسر الهمزة، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف، وهي مؤكدة للجملة الأولى‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فان قلت‏:‏ ما فائدة هذا التوكيد‏؟‏

قلت‏:‏ فائدته أن قوله‏:‏ لا إله إلاَّ هو توحيد، وقوله‏:‏ قائماً بالقسط، تعديل، فإذا أردفه قوله‏:‏ إن الدين عند الله الإسلام، فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه، أو ما يؤدّي إليه، كإجازة الرؤية، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، وهذا بيِّن جلي كما ترى‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية، وقولهم‏:‏ إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى‏.‏

وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب‏:‏ أنه، وأن، فقال أبو علي الفارسي‏:‏ إن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى‏؟‏ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل‏.‏ وقال‏:‏ وإن شئت جعلته بدلاً من القسط، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة‏.‏ انتهت تخريجات أبي علي، وهو معتزلي، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه لا إله إلاَّ هو، خرجه غيره أيضاً وليس بجيد، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي مثله في كلام العرب، وهو‏:‏ عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو، و‏:‏ بنو تميم، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي، إن الخصلة الحميدة هي البسالة‏.‏ وتقريب هذا المثال‏:‏ ضرب زيد عائشة، والعمران حنقاً أختك‏.‏ فحنقاً‏:‏ حال من زيد، وأختك بدل من عائشة، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف، وهو لا يجوز‏.‏ وبالحال لغير المبدل منه، وهو لا يجوز، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل‏.‏ وخرجها الطبري على حذف حرف العطف، التقدير‏:‏ وأن الدين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف، ولم يبين وجه ضعفه، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية، وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو‏:‏ أكل زيد خبزاً وعمرو وسمكاً‏.‏ وأصل التركيب‏:‏ أكل زيد وعمرو خبراً وسمكاً‏.‏

فإن فصلنا بين قولك‏:‏ وعمرو، وبين قولك‏:‏ وسمكاً، يحصل شنع التركيب‏.‏ وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل‏:‏ شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بياناً صريحاً، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء‏.‏

وأما قراءة ابن عباس فخرج على ‏{‏أن الدين عند الله الإسلام‏}‏ هو معمول‏:‏ شهد، ويكون في الكلام اعتراضان‏:‏ أحدهما‏:‏ بين المعطوف عليه والمعطوف وهو ‏{‏أنه لا إله إلا هو‏}‏ والثاني‏:‏ بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو ‏{‏لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏ وإذا أعربنا‏:‏ العزيز، خبر مبتدأ محذوف، كان ذلك ثلاث اعتراضات، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب، وإنما حمل على ذلك العجمة، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب، وحفظ أشعارها‏.‏

وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب‏:‏ أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بدّ من الأطلاع على كلام العرب، والتطبع بطباعها، والاستكثار من ذلك، والذي خرجت عليه قراءة‏:‏ أن الدّين، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول‏:‏ للحكيم، على إسقاط حرف الجر، أي‏:‏ بأن، لأن الحكيم فعيل للمبالغة‏:‏ كالعليم والسميع والخبير، كما قال تعالى ‏{‏من لدن حكيم خبير‏}‏ وقال ‏{‏من لدن حكيم عليم‏}‏ والتقدير‏:‏ لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدّين عند الله الإسلام‏.‏ ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم، حكم أن الدّين المقبول عند الله هو الإسلام، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏ وعدل من صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة، ولمناسبة العزيز، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع أن الدين عنده هو الإسلام، إذ حكم في كل شريعة بذلك‏.‏

فإن قلت‏:‏ لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل، فيكون معناه المحكم، كما قالوا في‏:‏ أليم، إنه بمعنى مؤلم، وفي سميع من قول الشاعر‏:‏

أمن ريحانة الداعي السميع *** أي المسمع‏؟‏

فالجواب‏:‏ إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل، وقد يؤوّل‏:‏ أليم وسميع، على غير مفعل، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس، وأما فعيل المحوّل من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جداً، خارج عن الحصر‏:‏ كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ، في ألفاظ لا تحصى، وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حاكم، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا‏.‏

نكالاً من الله والله غفور رحيم‏}‏ أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق‏:‏ والله غفور رحيم فقيل له التلاوة‏:‏ ‏{‏والله عزيز حكيم‏}‏ فقال‏:‏ هكذا يكون عز فحكم، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه، وهذا تخريج سهل سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها‏.‏

وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل‏:‏ أن الدين معمولاً‏:‏ لشهد، كما فهموا، وأن‏:‏ أنه لا إله إلاَّ هو، اعتراض، وأنه بين المعطوف والحال وبين‏:‏ أن الدين، اعتراض آخر، أو اعتراضان، بل نقول‏:‏ معمول‏:‏ شهد، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراءً لها مجرى القول، أو نقول‏:‏ إنه معمولها، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً، فإنك تقول‏:‏ شهدت إن زيداً ألمنطلق، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت‏:‏ شهدت أن زيداً منطلق، فمن قرأ بفتح‏:‏ أنه، فإنه لم ينو التعليق، ومن كسر فإنه نوى التعليق‏.‏ ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا‏.‏

والإسلام‏:‏ هنا الإيمان والطاعات، قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين، وعبر عنه قتادة، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ إن الدين عند الله الحنيفية‏.‏

قال ابن الإنباري‏:‏ ولا يخفي على ذي تمييز أن هذا كلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات، وقد تقدّم الكلام في الإسلام والإيمان‏:‏ أهما شيء واحد أم هما مختلفان‏؟‏ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل‏.‏

‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏}‏ أي‏:‏ اليهود والنصارى، أو هما والمجوس، أقوال ثلاثة‏:‏

فعلى أنهم اليهود، وهو قول الربيع بن أنس، الذين اختلفوا فيه التوراة‏.‏ قال‏:‏ لما حضرت موسى عليه السلام الوفاة، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء، واستخلف يوشع، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم‏.‏

وقيل‏:‏ الذين اختلفوا فيه نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم‏:‏ بعث إلى العرب خاصة، وقال بعضهم‏:‏ ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق‏.‏

وعلى أنهم النصارى، وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير، فالذي اختلفوا فيه‏:‏ دينهم، أو أمر عيسى، أو دين الإسلام‏.‏ ثلاثة أقوال‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه، فثلثت النصارى ‏{‏وقالت اليهود عزير بن الله‏}‏، وقالوا‏:‏ كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أمّيون، ونحن أهل كتاب، وهذا تجوير لله تعالى‏.‏

إنتهى‏.‏

ثم قال‏:‏ وقيل‏:‏ اختلافهم في نبوة محمد عليه السلام، حيث آمن به بعض وكفر بعض، وقيل‏:‏ اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى، ومنهم من آمن بعيسى‏.‏ انتهى‏.‏

والذي يظهر أن اللفظ عام في ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏ وأن المختلف فيه هو‏:‏ الإسلام، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام، ثم قال‏:‏ ‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏}‏ أي‏:‏ في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان‏.‏

‏{‏إلا من بعد ما جآءهم العلم‏}‏ الذي هو سبب لاتباع الإسلام، والاتفاق على اعتقاده، والعمل به، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد، والاسئثار بالرياسة، وذهاب كل منهم مذهباً يخالف الإسلام حتى يصير رأساً يتبع فيه، فكانوا ممن ضل على علم‏.‏ وقد تقدّم ما يشبه هذا من قوله ‏{‏وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏

‏{‏بغياً بينهم‏}‏ وإعراب‏:‏ بغياً، فإنه أتى بعد إلاَّ شيئان ظاهرهما أنهما مستثنيان، وتخريج ذلك‏:‏ فأغنى عن إعادته هنا‏.‏

‏{‏ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏}‏ هذا عام في كل كافر بآيات الله، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم‏.‏

وآياته، هنا قيل‏:‏ حججه، وقيل‏:‏ التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن، وقال الماتريدي‏:‏ أي من المختلفين‏.‏

وتقدّم تفسير‏:‏ سريع الحساب، فأغنى عن إعادته، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على إسم الشرط محذوف تقديره‏:‏ سريع الحساب له‏.‏

‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله‏}‏ الضمير في‏:‏ حاجوك، الظاهر أنه يعود على ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏ وقال أبو مسلم‏:‏ يعود على جميع الناس، لقوله بعد ‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين‏}‏ وقيل‏:‏ يعود على نصارى نجران، قدموا المدينة للمحاجة‏.‏ وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام، لأنه السابق‏.‏ وجواب الشرط هو‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي لله‏}‏ والمعنى‏:‏ انقدت وأطعت وخضعت لله وحده، وعبر‏:‏ بالوجه، عن جميع ذاته، لأن الوجه أشرف الأعضاء، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع وقال المروزي، وسبقه الفراء إلى معناه‏:‏ معنى أسلمت وجهي، أي‏:‏ ديني، لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل، وجاء في التفسير أقوال لكم، كما قال ابن نعيم‏:‏ وقد أجمعتم على أنه محق ‏{‏قَال‏:‏ ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين‏}‏

وقال الزمخشري‏:‏ وأسلمت وجهي، أي‏:‏ أخلصت نفسي وعملي لله وحده، لم أجعل له شريكاً بأن أعبده وأدعوا إلها معه، يعني‏:‏ أن ديني التوحيد، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته، كما ثبت عندي‏.‏ وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه، ونحوه ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة‏}‏ الآية، فهو دفع للمجادلة‏.‏ إنتهى‏.‏

وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معاً، إلاَّ إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ، فيسوغ له ذلك‏.‏

وقال الرازي‏:‏ في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان‏:‏

الأول‏:‏ أنه إعراض عن المحاجة، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية، فإن هذه السورة مدنية، وذلك بإظهار المعجزات بالقرآن وغيره، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله‏:‏ ‏{‏الحيّ القيوم‏}‏ على فساد قول النصارى في إلهية عيسى، وبقوله ‏{‏نزل عليك الكتاب‏}‏ على صحة نبوّته، وذكر شُبَهَ القوم وأجاب عنها، وذكر معجزات أخرى، وهي ما شاهدوه يوم بدر، بين القول بالتوحيد بقوله‏:‏ شهد الله‏.‏

والطريق الثاني‏:‏ أنه إظهار للدليل، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة فكأنه قال‏:‏ أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه، والخلف فيما وراءه، وعلى المدعي الإثبات‏.‏ وأيضاً كانوا معظمين إبراهيم عليه السلام وأنه كان محقاً، وقد أمر أن يتبع ملته، وهنا أمر أن يقول كقوله، فيكون هذا من باب الإلزام، أي‏:‏ أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق، وهذا قاله أبو مسلم، وأيضاً لما تقدّم أن الدين هو الإسلام، قيل له‏:‏ إن نازعوك فقل‏:‏ الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية، فصح أن الدين الكامل الإسلام، وأيضاً فالآية مناسبة لقول إبراهيم ‏{‏لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر‏}‏ أي‏:‏ لا تجوز العبادة إلاَّ لمن يكون نافعاً وضاراً وقادراً على جميع الأشياء، وعيسى ليس كذلك، وأيضاً فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام ‏{‏إذ قال له ربه‏:‏ أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ وروي هذا عن ابن عباس‏.‏ إنتهى ما لخص من كلام الرازي‏.‏ وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها‏.‏

وفتح الياء‏:‏ من‏:‏ وجهي، هنا، وفي الأنعام نافع، وابن عامر، وحفص، وسكنها الباقون‏.‏

‏{‏ومن اتبعن‏}‏ قيل‏:‏ من، في موضع رفع، وقيل‏:‏ في موضع نصب على أنه مفعول معه، وقيل‏:‏ في موضع خفض عطفاً على اسم الله‏.‏

ومعناه‏:‏ جعلت مقصدي بالإيمان به، والطاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له، والتحفي بتعلمه، وصحته‏.‏

فأما الرفع فعطفاً على الفاعل في‏:‏ أسلمت، قاله الزمخشري، وبدأ به قال‏:‏ وحسن للفاصل، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلاَّ في الشعر، على رأي البصريين‏.‏ إلاَّ أنه فصل بين الضمير والمعطوف، فيحسن‏.‏ وقاله ابن عطية أيضاً، وبدأ به‏.‏ ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا عطف على الضمير في نحو‏:‏ أكلت رغيفاً وزيد، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو صلى الله عليه وسلم وجهه لله، وإنما المعنى‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله، وهم أسلموا وجوههم لله، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول‏:‏ أسلمت، التقدير‏:‏ ومن اتبعني وجهه‏.‏

أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، ومن اتبعني كذلك، أي‏:‏ أسلموا وجوههم لله، كما تقول‏:‏ قضى زيد نحبه وعمرو، أي‏:‏ وعمرو كذلك‏.‏ أي‏:‏ قضى نحبه‏.‏

ومن الجهة التي امتنع عطف‏.‏ ومن، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل، يمتنع كون‏:‏ من، منصوباً على أنه مفعول معه، لأنك إذا قلت‏:‏ أكلت رغيفاً وعمراً، أي‏:‏ مع عمرو، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية‏.‏

وأثبت ياء‏:‏ اتبعني، في الوصل أبو عمرو، ونافع، وحذفها الباقون، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف، ولأنها رأس آية كقوله‏:‏ أكرمن وأهانن، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر‏:‏

وهل يمنعنّي ارتيادُ البلا *** د من حذر الموت أن يأتيَنْ

‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب‏}‏ هم‏:‏ اليهود والنصارى باتفاق ‏{‏والأمّيين‏}‏ هم مشركو العرب، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له ‏{‏أأسلمتم‏}‏ تقدير في ضمنه الأمر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تهدّد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا حسن، لأن المعنى‏:‏ أأسلمتم له أم لا‏؟‏ وقال الزمخشري‏:‏ يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم‏؟‏ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة، ولم تبقِ من طرق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته، هل فهمتها لا أمّ لك‏؟‏ ومنه قوله عز وعلا‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ولم يتوقف إذعانه للحق، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان، وكذلك في‏:‏ هل فهمتها‏؟‏ توبيخ بالبلادة وكله القريحة، وفي ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وهو حسن، وأكثره من باب الخطابة‏.‏

‏{‏فإن أسلموا فقد اهتدوا‏}‏ أي إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بقد الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى، ومن الظلمة إلى النور‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وإن تولوا فإنما عليك البلاغ‏}‏ أي‏:‏ هم لا يضرونك بتوليهم، وما عليك أنت إلاَّ تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم وانتظامهم في عبادة الله وحده، وقيل‏:‏ إنها آية مواعدة منسوخة بآية السيف، ولا نحتاج إلى معرفة تاريخ النزول، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات، وهو وفود وفد نجران، فيكون المعنى‏:‏ فإنما عليك البلاغ بقتالٍ وغيره‏.‏

‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏ وفيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام، ووعد بالخير لمن أسلم، إذ معناه‏:‏ إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته‏.‏

‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين‏}‏ الآية هي في اليهود والنصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات‏:‏

إحداهما‏:‏ كفره بآيات الله وهم مقرون بالصانع، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع، أو يجعل‏:‏ بآيات الله، مخصوصاً بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثانية‏:‏ قتلهم الأنبياء، وقد تقدّمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله ‏{‏ويقتلون النبيين بغير الحق‏}‏ والألف واللام في‏:‏ النبيين، للعهد‏.‏

والثالثة‏:‏ قتل من أمر بالعدل‏.‏

فهذه ثلاثة أوصاف بدئ فيها بالأعظم فالأعظم، وبما هو سبب للآخر‏:‏ فأولها‏:‏ الكفر بآيات الله، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة، وثانيها‏:‏ قتل من أظهر آيات الله واستدل بها‏.‏ والثالث‏:‏ قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‏.‏

وهذه الآية جاءت وعيداً لمن كان في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل، ودخلت الفاء في خبر‏:‏ أن، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك، نسب إليهم ذلك، ولأنهم أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم، فقتل أتباعه، فأطلق ذلك عليهم مجازاً أي‏:‏ من شأنهم وإرادتهم ذلك‏.‏ ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم‏.‏

والمعنى‏:‏ إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم، فإنهم لم يكونوا على حق‏.‏ فذكر تقبيح الأوصاف، والتوعد عليها بالعقاب، مما ينفر عنها، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات الله وإجلال رسله وأتباعهم‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ ويقتلون النبيين، بالتشديد، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل وقرأ حمزة، وجماعة من غير السبعة‏:‏ ويقاتلون الثاني‏.‏ وقرأها الأعمش‏:‏ وقاتلوا الذين، وكذا هي في مصحف عبد الله وقرأ أبيّ‏:‏ يقتلون النبيين والذين يأمرون، ومن غاير بين الفعلين فمعناه واضح إذا لم يذكر أحدهما على سبيل التوكيد، ومن حذف اكتفى بذكر فعل واحد لأشتراكهم في القتل، ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وابراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع، لأن كل جملة مستقلة بنفسها، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان‏.‏

وقيل‏:‏ يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الرّوح، وبالآخر الإهانة وإماتة الذكر، فيكونان إذ ذاك مختلفين‏.‏

وجاء في هذه السورة ‏{‏بغير حق‏}‏ بصيغة التنكير، وفي البقرة ‏{‏بغير الحق‏}‏ بصيغة التعريف، لأن الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط، وهو عام لا يتخصص، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاماً، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين، وذلك قوله

‏{‏ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق‏}‏ فناسب أن يأتي بصيغة التعريف، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفاً، كقوله ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف، بخلاف ما في هذه السورة‏.‏

وقد تقدّم في البقرة أن قوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ هي حال مؤكدة، إذ لا يقع قتل نبي إلاَّ بغير الحق، وأوضحنا لك ذلك‏.‏ فأغنى عن إعادته وإيضاحه هنا‏.‏

ومعنى‏:‏ من الناس، أي‏:‏ غير الأنبياء، إذ لو قال‏:‏ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط، لكان مندرجاً في ذلك الأنبياء لصدق اللفظ عليهم، فجاء من الناس بمعنى‏:‏ من غير الأنبياء‏.‏ قال الحسن‏:‏ تدل الآية على أن القائم بالأمر بالمعروف تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء‏.‏ وعن أبيه عبيدة بن الجراح، «قلت يا رسول الله‏:‏ أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر «ثم قرأها‏.‏ ثم قال‏:‏» يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني اسرائيل، فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار «

‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على أن المراد معاصروه لا آباؤهم، فيكون إطلاق قتل الأنبياء مجازاً لأنهم لم يقتلوا أنبياء لكهنم رضوا ذلك وراموه‏.‏

وهذه الجملة هي خبر‏:‏ إن، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء، أعني‏:‏ إن‏.‏

ومع ذلك في المسألة خلاف‏:‏ الصحيح جواز دخول الفاء في خبر‏:‏ إن، إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط، وقد تقدّمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ، وتلك الشروط معتبرة هنا، ونظير هذه الآية في دخول الفاء ‏{‏إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم‏}‏ ‏{‏إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم‏}‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم‏}‏

ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة، ولم يقس زيادتها‏.‏ وتقدم أن البشارة هي أول خبر سار، فإذا استعملت مع ما ليس بسار، فقيل‏:‏ ذلك هو على سبيل التهكم والاستهزاء كقوله‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** أي‏:‏ القائم لهم مقام الخبر السار هو العذاب الأليم وقيل‏:‏ هو على معنى تأثر البشرة من ذلك، فلم يؤخذ فيه قيد السرور، بل لوحظ معنى الاشتقاق‏.‏

‏{‏أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏‏.‏ تقدم تفسير هذه الجملة عند قوله ومن ‏{‏يرتدد منكم عن دينه‏}‏ فأغنى عن إعادته‏.‏

وقرأ ابن عباس، وأبو السمال‏:‏ حبطت، بفتح الباء وهي لغة‏.‏

‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء الإفراد، لأنه رأس آية، ولأنه بإزاء من للمؤمنين من الشفعاء الذين هم الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين، أي‏:‏ ليس لهم كأمثال هؤلاء، والمعنى‏:‏ بانتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أَولى، وإذا كان جمع لا ينصر فأحرى أن لا ينصر واحد، ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة، ليقابل كل وصف بمناسبه، ولما كان الكفر بآيات الله أعظم، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم، وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والأخرة، ففي الدنيا بالقتل والسبي وأخذ المال والاسترقاق، وفي الآخرة بالعقاب الدائم، وقابل قتل الآمرين بالقسط، بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب‏.‏

وفي قوله‏:‏ أولئك، إشارة إلى من تقدم موصوفاً بتلك الأوصاف الذميمة، وأخبر عنه‏:‏ بالذين، إذ هو أبلغ من الخبر بالفعل، ولأن فيه نوع انحصار، ولأن جعل الفعل صلة يدل على كونها معلومة للسامع، معهودة عنده، فإذا أخبرت بالموصول عن اسم استفاد المخاطب أن ذلك الفعل المعهود المعلوم عنده المعهود هو منسوب للمخبر عنه بالموصول، بخلاف الإخبار بالفعل، فإنك تخبر المخاطب بصدوده عن من أخبرت به عنه، ولا يكون ذلك الفعل معلوماً عنده، فإن كان معلوماً عنده جعلته صلة، وأخبرت بالموصول عن الأسم‏.‏

قيل وجمعت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبلاغة‏.‏ أحدهما‏:‏ التقديم والتأخير في‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ قال ابن عباس التقدير‏:‏ شهد الله أن الدين عند الله الاسلام، أنه لا إله إلا هو، ولذلك قرأ إنه، بالكسر‏:‏ وأن الدين، بالفتح‏.‏

وأطلق اسم السبب على المسبب في قوله ‏{‏من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ عبر بالعلم عن التوراة والإنجيل أو النبي صلى الله عليه وسلم، على الخلاف الذي سبق‏.‏

وإسناد الفعل إلى غير فاعله في‏:‏ ‏{‏حبطت أعمالهم‏}‏ وأصحاب النار‏.‏

والإيماء في قوله‏:‏ ‏{‏بغياً بينهم‏}‏ فيه إيماء إلى أن النفي دائر شائع فيهم، وكل فرقة منهم تجاذب طرفاً منه‏.‏

والتعبير ببعض عن كل في‏:‏ ‏{‏أسلمت وجهي‏}‏‏.‏

والاستفهام الذي يراد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله ‏{‏أأسلمتم‏}‏‏.‏

والطباق المقدر في قوله‏:‏ ‏{‏فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ‏}‏ ووجهه‏:‏ أن الإسلام الانقياد إلى الإسلام، والإقبال عليه، والتولي ضد الإقبال‏.‏ والتقدير‏:‏ وإن تولوا فقد ضلوا، والضلالة ضد الهداية‏.‏

والحشو الحسن في قوله ‏{‏بغير حق‏}‏ فإنه لم يقتل قط نبي بحق، وإنما أتى بهذه الحشوة ليتأكد قبح قتل الأنبياء، ويعظم أمره في قلب العازم عليه‏.‏

والتكرار في ‏{‏ويقتلون الذين‏}‏ تأكيداً لقبح ذلك الفعل‏.‏

والزيادة في ‏{‏فبشرهم‏}‏ زاد الفاء إيذاناً بأن الموصول ضمن معنى الشرط‏.‏

والحذف في مواضع قد تكلمنا عليها فيما سبق‏.‏