فصل: مقدمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ثلاثون طريقة لخدمة الدين **


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

كلمةٌ قالها اليهود عندما استولوا على القدس في عام 67 ، حيث عبروا عن فرحهم وخرجوا في مظاهرات عارِمة وصاحوا قائلين ‏:‏ محمد مات مات ‏.‏‏.‏ محمد خلَّف بنات ‏.‏

قرأت تلك الكلمة – في إحدى الكتب - وأنا بعد غَضُّ الإِهاب ، لا أفقه المَعْنِيَّ بالكَلِم ، ولكنها وقعت في قلبي كالإعصار المدمر الذي غير كثيرا من توجهات حياتي ومستقبلي الذي كنت أحلم به كأي فتى يافع ، وبكيت ساعتها وقلت في نفسي ‏:‏ لا ‏.‏ محمد صلى الله عليه وسلم لم يخلف بنات ‏.‏

ومرت الأيام ‏.‏‏.‏ بل السنون ، وتعاظم إدراكي للورطة التي تعيش فيها أمتي ، وصرت أرقب بحرقة ما يدور حولي ‏:‏

فأنَّـا التفتُّ فحقٌ سليبْ وأنَّا أَصَخْتُ فرَجْعُ النَّحيبْ

وأنَّا سَرَيتُ فدَرْبٌ مُريبْ وَصَفٌّ عجيبٌ ولُؤْمٌ رهيبْ

أَصِيْحُ بِقَومي إلى المَكْرُمَاتْ فَمَا مِنْ مُلَبٍّ وما مِنْ مُجيبْ

وصارت نفسي تشك وتذهب بها الظنون كل مَذهب ، هَلْ مَن حولنا رجال ‏؟‏ هل مَن يعيش بيننا ذكور ‏؟‏

عايشت نكباتٍ كثيرةً أَلَمَّت بأمتي وأنا ذو عقل وَاعٍ ، شاهدتُ اقتحام اليهود لبيروت ، ومرت بي أحداث صَبْرا وشاتيلا كَمَا الكابوس المريع ، دَرَسْتُ أزمة الخليج بِتَدَاعِيَاتِهَا ، وشاهدت مأساة البوسنة بنكباتها ، وتابعت كارثة الصومال وتَبِعَاتِهَا ، وعاصرتُ زلزال كوسوفا وتوابعَـه ، ورأيت الأشباح هي الأشباح ، والديار هي الديار ، ولكنني لاحظت أمرا مستنكرا لم ألاحظه قبل ، لقد صرتُ أَشَمُّ رائحة البَلادة ، وأجد نَتْنَها في أنفي أينما حلَلْتُ ، العامة يسمونها ‏(‏ التَنْبَلَـة ‏)‏ ، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم دِيَاثة ، وهو أن يرى الرجل المنكر في أهل بيته ولا يُغَيِّرُه ‏.‏

وقد رأيت أعراضَ أمتي تُنْتَهَك ، ومحارمَها تُستباح ، وثرواتِها تُنْتَهَب ، وإذا بصياح اليهود يقفز إلى خاطري مُذَكِّرا ‏.‏

أَتَسَمَّعُ أخبار المنصِّرين في كل حَدَبٍ وصَوْب تَخْرِق جدران قلبي ، عشرات المليارات تُنْفَق للتنصير ، أَتَرَقّبُ العَلْمَنَة تَجوْسُ خلال ديار الإسلام ، وأرى الإباحية والانحلال يتحولان إلى قانون وطريقة حياة في بلادي بلاد الإسلام ‏.‏

تابعت الإحصائيات التي تصدرها هيئات البحوث في البلاد الإسلامية ، فَرَاعَنِي انتشارُ الجريمة ، وتَدَنِّي مستوى الأخلاق ، وهبوطُ معدل الأمن الاجتماعي ، بل الأنكى من ذلك كله اعوجاجُ المفاهيم الإسلامية ، واستيرادُ العاداتِ من الغرب والشرق ، وجَعْلُها من طرائق حياة المسلمين التي لا يُراد عنها حِوَلاً ‏.‏

ثم رأيت الصحوة الإسلامية تَمْتَدُّ وتَتَجَذّر حتى أَضْحَتْ واقعا لا ينكره إلا معاند ، ولكنني

صرت أرى مع ذلك انتكاسا وقعودا وكسلا ، صرت أرى خمولاً يشبه خمول تنابلة السلطان – على نحو ما تقول العامة – ولكنني أبصره الآن بين صفوف الصحوة ‏.‏

نَفَضْتُ الغُبار وأَزَحْتُ الدِّثار ، وقلت ‏:‏ لا والله ، لَتَعْلَمَنَّ يَهُودُ أن نبينا ما خلف بنات ، وسيعلم العالمَُ أَجْمَعُ أنّ وراءَ الأَكَمَةِ ما وراءَها ‏.‏

يا أمّتي إن قسوتُ اليوم معذرةً فإن كَفِّـــيَ في النيران تلتهبُ

فَكَمْ يَحُزُّ بقلبي أن أرى أُمَمَـًا طارتْ إلى المجد والعُرْبانَ قد رَسَبُوا

ونحنُ كنا بهذا الكــون أَلْوِيَةً ونحن كنــا لِعِزِّ الشَمْسِ نَنْتَسِبُ

مَهْمَا دَجَى الليلُ فالتاريخُ أَنْبَأَني أنَّ النهـارَ بَأَحْشَاءِ الدُّجى يَثِبُ

إني لأَسْمَعُ وَقْعَ الخيـلِ في أُذُني وأُبْصِرُ الزمنَ الـموعـودَ يقتربُ

وفِتْيَةً في رياضِ الذِّكرِ مَرْتَعُهُـمْ للهِ ما جَمَعــوا للهِ ما وَهَبـوا

جاءوا على قَدَرٍ واللهُ يَحْرُسُهـمْ وشِرْعَةُ اللهِ نِعْمَ الغَـايُ والنَّسَبُ

وأَجْمَعْتُ أمري ولم يكن عَلَيّ غُمّةً ، وبحثتُ وتباحثتُ هذا الهَمَّ مع بعض الغيورين من حَمَلَة هذا الدين فقلنا ‏:‏ إن ثَمّة خلل ، فأمتي عددها يربو على الألف مليون ، وثرواتها الطبيعية ‏(‏ كالبترول والذهب والمعادن الأخرى ‏)‏ تُقَدّر بنصف ثروات العالم ، ومساحة الأراضي التي تسيطر عليها أمتي تقدر بثلُث بِخُمُس مساحة العالم أو أقل بقليل ‏.‏

وليس العِلْم ينقُصُها ، بل منها عباقرةٌ شاركوا في بناء حضارة القرن العشرين ، وزاحموا أساطين التقنية الحديثة ، ولهم نظريات علمية بأسمائهم ، تشهد أن عقل المسلم لا يَقِلُّ ذكاء عن عقول بني الأَصْفَر ‏.‏

ورُحْتُ أقلّب نظري في أزمات أمتي الكثيرة ، وطَفِقْت أستخلص العبرة من تاريخ أمتي القديم لعلي أَجِدُ ما يَدْرَأُ حَيْرَتي ويَقتل شكوكي ‏.‏

وقُدِّر لي أن أُكلَّف ببعض المهام الدعوية ، وكانت مهمة شاقة وعسيرة ، ولم أجد من يساعدُني في تلك المهمة ، فبدأت أفكر مَلِيَّاً في تلك المهمة كيف يمكن أن تُؤدَّى ، وبقليل من التحليل خَلُصْتُ إلى أنه لا بد لهذا العمل من فريق يقوم به ، ولا بد أن يكون هذا الفريق متفهِّما لطبيعة العمل ، ولديه الاستعداد للقيام به ‏.‏

وقد قمت باختيار من توسَّمْت فيهم تلك الصفتين ، وقمنا باستحداث أسلوب جديد لأداء ذلك العمل قائم على الدراسة المتأنية والإدارة الحازمة والتخطيط والمتابعة ، وتعاهدنا على ضرورة الصبر حتى يُؤْتِيَ المشروع أُكُلَه ، ويَبْدُوَ صلاحُه ‏.‏

وبِجَلَدٍ وصبرٍ وأَنَاةٍ قام ذلك الفريق بأداء العمل ، حتى بَدَى أثرُه ، وشَهِد القاصي والداني بنجاح الإدارة الجديدة في عملها ‏.‏

وكانت هذه التجربة هي التي ألْهمتني جانبا مهما من جوانب النفس الإنسانية ، وخللا ظاهرا – في نفس الوقت – في الآلية التي ارتضى بعض الدعاة أن تسير بها الصحوة الإسلامية المباركة ‏.‏

ذلك الجانب الإنساني أن النفس البشرية قادرةٌ على أداء أي عمل إذا تم تدريبُها كما ينبغي ، وهذا ما أثبتَتْه الدراساتُ النفسيةُ الحديثة ، وأقول ‏:‏ بل هذا ما أَمَرَ به الشرع المطهَّر ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ اسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجِزْ ‏)‏ ‏.‏ وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ اللهم إني أعوذ بك من العَجْزِ والكَسَل ‏)‏ ‏.‏

وفي أساليب الإدارة الحديثة ‏:‏ يُلَقَّنُ العامِل عبارةَ ‏:‏ سَأُحاول ، بدلا من عبارة ‏:‏ لا أستطيع ‏.‏ ويُعَلَّم أن يستعمل عبارة ‏:‏ هذا تَحَدٍّ ، بدل أن يقول ‏:‏ هذا الأمر صَعْب ‏.‏

والخلل هو أن تُهْمَلَ تلك النفس البشرية ، ويُهْمَلَ تدريبُها ، ويَرْضَى مَنْ حولَها بمستواها الـدون ، وإذا ما حاولت أمرا ترقّب الناس فشلها كأنه أجل محتوم ‏.‏

إن هذه هي المصيبة ، والرُّزْءُ المُعْضِل ، إن رجالَ أمتي كُثُرٌ ، وأبطالَها موفورون ، وكُمَاتَها يملئون الأفق ، ولكن أحدا لم يُجرِّبْهم ، كما أن أحدا لم يُكَلِّفْهم ، كما أن أحدا لم يكتشفْهم ‏.‏

فتوالت الأجيال على هذه الوتيرة من الإهمال والتناسي ، حتى تولّد في الشعور الجَمْعي تلك البَلادةُ التي ذكرتها ، وصار اليأسُ طَبْعاً ، والقنوطُ سَجِيّةً وخُلُقاً ، ولم يُجْدِ مع هذا الداء دواء ‏.‏

واسْتيقنْت أن شباب الإسلام يجب أن يُولَدوا ولادة جديدة ، ويتلقّوا عقائدهم الاجتماعية من جديد حتى تَزْدان نفوسُهم بفطرة سَوِيّة ، قابلةٍ لتَلقّي أوامر الشرع ، بل قادرة على فَهْم ما يدور حولها من كيد ومكر ‏.‏

وصار دَيْدَني وهِجِّيرَايَ اسْتنفار شبيبة الإسلام لتكذيب دعوى اليهود أن محمد صلى الله عليه وسلم خلف بنات ‏.‏ وكانت محاوراتي مع كل مَن حولي حول ضرورة تدريب كوادر الدعوة على الدعوة ، وضرورة احتراف خدمة الدين عبر إيجاد الجيل الدعوي الحاذق المحترف المدرب على كل المهارات الدعوية ‏.‏

ووجدت في البداية صدوداً ، ثم تَعَاظم الاقتناع بالفكرة لولا عوائق خارجة عن إرادة الدعاة ، وقلت في نفسي ‏:‏ إن الأمر لا يكفي فيه مجردُ الاقتناع ، بل لا بد أن يعمل الدعاة جميعا على الرُّقِيِّ بمستواهم فعلا ، وأن تكون خدمة الدين هَمَّاً شاغلا ، وليست هوايةً تُمَارَس في أوقات الفراغ ‏.‏

وعملْتُ على أن تكون كل كتاباتي ومحاضراتي عمليّةً وواقعيّة ، تشخّص الداء ، وتحلّل الواقع ، وتقترح الدواء المناسب ، وكيفية تناول ذلك الدواء ، وأحسَب أن هذا المسلك هو ما ينبغي أن يتبناه كل الدعاة في كتاباتهم ومحاضراتهم ‏.‏ فإن قضايا الدين لم تَعُدْ تحتمل التعميم والإطلاق ، ومشكلات الأمة ما عادت تصبر على التحليلات الجُزَافِيّة ، والتقديرات الهُلامية ، والمعالجات السطْحية ، بل تحتاج إلى تفصيل ، وتَرْنو إلى منهج دقيق للخروج من الأزمة ‏.‏

وبين يديك أيها القارئ ‏:‏ محاولة بَدائيّة ، أُجاري فيها آمالي ، وأُناطِح فيها أحلامي ، أَدَعُ السرابَ للهائمِ في الفَيافي بلا مَقْصِد ، وأُيَمِّمُ وجهي نحو الماء القُراح سالكا الجادّة السويّة والفَجَّ الموصِل للمراد ‏.‏

ثلاثون طريقة لخدمة الدين ، انتقيتُها لتكون أُنْموذَجا للطُّرُق الأخرى التي لم أذكرْها ، بأن تسْلُك على منوالها في الفَهم والتقعيد والتطبيق ، ولِتَقْطَعَ المعاذير على شيطانك وهواك ونفسك الأمّارة بالسوء ، ولِتعْلم أنك من جنود الحق ، لا يَسَعُكَ التَّوَلِّي يوم الزحف إلا مُتَحَرِّفا لقتال أو مُتَحَيِّزَا إلى فئـة ‏.‏

مجالاتٍ طَرَّقْتُها ، وفتحت بعض مغاليقها ، أدعو الدعاة أن يُديموا الدرْسَ فيها ، ويتوسعوا في التنظير لها والتطبيق والتخصُّص ‏.‏ وأحسب أن كل طريقة تحتاج إلى تخصص مستقل ، وتحتاج إلى تصنيف مستقل ، يستفيد منه الدعاة في مشارق الأرض ومغاربها ‏.‏

وإذا كانت العلوم العصرية تَجْنَحُ إلى التخصص الدقيق ، وتعتبره دليلا على الإتقان ، فأَجْدِرْ بدعاتنا أن يكونوا أَتْقَنَ الناس لعملهم ، وأكثر الناس استجابة لما تتطلبه دعوتهم ‏.‏

وأنا أدعو كلَّ داعية غيور أن يَنبِذ الارتجالية في دعوته ، ولْيَقصِد هذه الطُّرُق ، ولْيتخصص فيها أو في بعضها بل في واحدة منها ، وليصنف فيها مؤلفا مستقلا يضع فيه خبرته ، ويعالج فيه كل المشكلات التي واجهها والتي يتوقعُها ، بل إنني أدعو كل مثقف مسلم أن يُدْلِيَ بدلْوه في شئون الدعوة في حدود تخصصه غير متجاوز لها ، معاونا إخوانه الدعاة بخبْراته واطّلاعاته ، لعله أن يستفيد من علمه مستفيد أو ينجو به ناج ‏.‏

فها هي ذي مسالك خدمة الدين ، فَجَرِّدْ نفسك لها كلها ، ‏{‏ وما يُلَقّاها إلا الذين صبروا ، وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم ‏}‏ ‏.‏ أو انْتَقِ منها ما تُتْقُنُه ، أو تَخَصَّصْ فيما تَجدُ نفسك قادرةً عليه مستطيعةً إياه ‏.‏

واعلم أن ما أوردته هنا من اقتراحات وأفكار مُرْتَهَنٌ تطبيقُها بالاستطاعة والمناسبة ، وكلُّ داعيةٍ خبيرٌ بواقعه وما يلائمُه ‏.‏ وكلُّ داعيةٍ بصيرٌ بما يجب المصيرُ إليه من مسالك خدمة الدين ‏.‏

وما كان من أصول دعوية جامعة فهي مما لا يقبل النسخ والتخصيص ، بل يجب أن نُوجِد له الصيغةَ التي يحصل بها الإجماع ‏.‏ وما عاد وقتُ الدعاة يسمح بالخلافات اللفظية ، والمُمَاحَكَاتِ الكلامية ، والاعتراضاتِ الفلسفية الفارغة ، بل يجب البِدارُ إلى التّفاهُم ، والمسارعةُ إلى التعاون ، والسعيُ الحثيث إلى كلمةٍ سواءٍ تجمع بين المسلمين في كل مكان ‏.‏

وقد أطلْتُ النَّفَسَ في بعض الطرق للاحْتياج ، ولِغُموضٍ في فَهْم الناس لتلك الطريقة ، وقد أشير إلى كثير من الطرق الأخرى لخدمة الدين عبْر شرح طريقة معينة ، فليس عدد الثلاثين مقصودا لذاته ، فقد تكون طرق خدمة الدين بالمئات ، عَلِمَها مَن علِمَها وجَهِلهَا من جَهِلها ، والسعيد من وفقه الله للعلم والعمل ‏.‏

وفي بعض القضايا احتجت أن أُؤَصِّل لها من الناحية الشرعية ، فتوسَّعت في سَوْقِ الأدلة وَرَدِّ الاعتراضات لأن حَسْمَ النـزاع في تلك المسألة ينبني عليه عمل عظيم ‏.‏

ولا أُحِلُّ لأحد أن ينسب إليَّ ما سكتُّ عنه ، أو أن يستخدم مفهوم المخالفة بأنواعه ، أو دلالة الالتزام أو التضمّن ، بل المُعتمد هو مَنْصوصُ الكلام ومنطوقُه ، أو ما كان من قبيل قياس الأولى أو ما هو في حكم المنصوص عليه ‏.‏

وما كان من خطأ في التأصيل والتقدير والتحليل يراه القارئ لهذه الكتاب فَحَقِّي عليه النصيحـة ، وحقُّه عليَّ القَبول ، ‏{‏الله يجمع بيننا وإليه المصير ‏}‏ ‏.‏

وأنا مُلْتَمِسٌ من قارئ حازَ من هذا السِّفر نَفْعَاً ألا ينساني بدعوة صالحة خالصة في السَّحَر ، وليعلم أن ما في هذا الكتاب مِن غُنْم فحلال زُلال له ولغيره ، وما كان مِن غرم فهو عَلَى كاهلي وظهري ، وأبرأ إلى الله من كل خطأ مقصود ، وأستعيذه من كل مأثم ومغرم ‏.‏

فدونك أيها القارئ هذا الكتاب ، اقرأه واعمل بما فيه ، فإن عجزت فَأَقْرِأْهُ غيرَك وادْعُه أن يعمل بما فيه ، فإن عجزتَ – وما إِخَالُكَ بِعَاجِزٍ – فبطْن الأرض حينئذ خيرٌ لك من ظاهرها ‏.‏

ومن سويداء قلبي أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعك بما فيه وأن يقوّيَك على العمل بما انتفعت به ، وأن يرزقك الصبر على ما قد يلحقك من عَنَتٍ وأذى ، وأن يتقبل منك سعيك في خدمة الدين ، وعند الله اللقاء ، وعند الله الجزاء ‏.‏

القاعدة الأولى‏:‏ خدمة الدين من ضروريات الدين

نعم ‏!‏ إنها خدمة يَشْرُفُ بها العبد وليست مَهْنَةً قَسْرية يُهان بها ، أو منصبا تشريفيا يخيّر بين القبول به أو الإعراض عنه ، وليست تبرعا ولا فرض كفاية ولا مجرد أداء واجب ، وإنما خدمة الدين ركن من أركانه وضروريٌّ من ضرورياته وأساس من أسسه ‏.‏ ولقد كان هذا المعنى مستقرا عند السلف الصالح استقرارَ المعتقَد في القلوب ، ولم يحتاجوا أن يستدلوا له أو أن يقرِّروه لأنفسهم بشتى وجوه الاستدلال ، بل كان يكفي أن يُسْلِمَ الواحد منهم أو يستقرَّ الإسلام في قلبه ليعتبرَ نفسه بعد ذلك مَنْذورَةً لهذا الدين ، ويجنِّدَها في خدمته ، ويَصرِفَ مجهوداتِها في نصرته والذَّوْدِ عن حَوْزَتِه ‏.‏

إن هذا الدين إذا تأمّله المتأمِّل عَلم أنه صِيْغَ ليكون المتمسّكُ به داعيةً إليه ، ودَلاّلاً عليه ‏.‏ ومع مَزِيد تأمّل يرى المرء أن مَن أراد أن يكون مسلما دون تَبِعات ومسئوليات تجاه إسلامه فإنه رَامَ ضرْبا من التديّن شبيهاً بتدين الرهبان في الكهوف والصوامع والبِيَعِ ، وقد تقرر أنه لا رهبانية في الإسلام ‏.‏

إن من أوائل الأوامر الربانية التي نزلت في القرآن ‏:‏ الأمر بالنِّذارة وتبليغ الوحي للخليقة ، يقول تعالى ‏:‏ ‏(‏ يا أيها المدّثر ‏.‏ قُمْ فأنذِر ‏)‏ ‏.‏ ثم توالى بعد ذلك ما يمكن أن نسمّيَه فقهَ الدعوة ، حيث تضمّن التنـزيل أوامرَ عُنيتْ بالشأْن الدعوي مثل قوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ فاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عن المشركين ‏)‏ وقوله تعالى ‏:‏ ‏(‏ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ‏)‏ وقوله ‏:‏ ‏(‏ ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلْهم بالتي هي أحسـن ‏)‏ ، وهي آيات ترسم صورة المسلم الداعية الذي يتبع نهج نبيه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أوائل اهتماماته صِيَاغَةُ الشَّخصية الدعوية التي تحمل هَمَّ الدين وتبذُل له ‏.‏ وكان أول من دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فلم يكن ذلك الصديق عَالَةً على الدعوة وعِبْئَاً عليها ، بل تحرك من أول يوم ينشر هذا الدين حتى دخل بجهوده الدعوية في أول الأمر ستة من سادات قريش الشبان ، إضافةً إلى سعايته في فِكاك العبيد الذين أسلموا من أَسْر الرِّق ‏.‏

وإنّ تحرك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في أقطار الأرض لَدَليلٌ على أن الشخصية التي صاغها النبي صلى الله عليه وسلم ورباهم عليها هي الشخصية المتحركة للدين التي لا تعرف السكون ولا الكمون ‏.‏

‏(‏ وفي تفسير قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ يا أيها المدثر ‏.‏ قم فأنذر ‏}‏ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمـه الله - ‏:‏ فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أُنزل إليه ‏(‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏)‏ ، ويُنْذِروا كما أَنْذَرَ ، قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ فلولا نَفَر من كل فِرْقَةٍ منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ولينذِروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يَحْذرون ‏}‏ ، والجنُّ لما سمعوا القرآن ‏:‏‏{‏ وَلّوْا إلى قومهم منذرين ‏}‏ ‏.‏ ويقول ابن القيم رحمه الله ‏:‏ وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضلُ من تبليغ السهام إلى نحور العدو ، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس ، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه ‏.‏ ويقول الغزالي رحمه الله ‏:‏ اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليا في هذا الزمان عن مُنْكر ، من حيث التَّقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحمْلهم على المعروف ، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البـلاد ، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعرابُ والأكْراد والتُّرْكُمانِية ، وسائرُ أصناف الخلْق ، وواجبٌ أن يكون في كل مسجدٍ ومَحَلَّةٍ من البلد فقيهٌ يعلّم الناس دينَهم وكذا في كل قرية ، وواجب على كل فقيه – فرغ من فرض عينه لفرض الكفاية – أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ، ويعلِّمَهم دينهم وفرائض شرعهم ‏.‏ أهـ وعن جعفر بن سليمان قال ‏:‏ سمعت مالك بن دينار يقول ‏:‏ لو استطعت ألا أنامَ لَمْ أَنَمْ مَخافةَ أن يَنـزِلَ العذابُ وأنا نائم ، ولو وجدت أعوانا لفرَّقْتُهم ينادون في سائر الدنيا ‏:‏ يا أيها الناس ‏:‏ النارَ النارَ ‏.‏ وقال إبراهيم بن أَشْعَث ‏:‏ كنا إذا خرجنا مع الفُضيل ‏(‏ بن عِياض ‏)‏ في جنازة لا يزال يَعِظُ ويذكّر ويبكي حتى لَكَأَنّه يودّع أصحابه ذاهبٌ إلى الآخرة حتى يبلغَ المقابر ، فيجلس فكأنه بين الموتى ، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وَلَكَأَنّه رجع من الآخرة يُخْبِرُ عنها ‏.‏ وعن شجاع بن الوليد قال ‏:‏ كنت أخرج مع سفيان الثوري ، فما يكاد لسانُه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا ‏.‏ والإمام الزهري لم يَكْتَفِ بتربية الأجيال وتخريج أئمة الحديث ، بل كان ينـزل إلى الأعراب يعلّمهم ‏.‏ وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي – شقيق أبي حامد الغزالي رحمهما الله – كان يدخل القرى والضِّياع ويعظ لأهل البوادي تقربـا إلى الله ‏.‏ يقول الراشد حفظه الله ‏:‏ ولا ينبغي للداعية أن يَبْتَئِس إن لم يجد فَضْلَ وقت لقيام الليل يوميا ، والإكثار من ختْمات القرآن ، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خيرٌ وأجْزَلُ أجـرا ، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها ، ويبادئون الناس بالكلام ، ويحتكون بهم احتكاكا هادفا ، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم ‏.‏‏.‏ثم ذكر قصة الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قائلا ‏:‏ يا محمد أتانا رسولُك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أَرسلَك ‏؟‏ قال الراشد ‏:‏ أتاهم رسولُ رسولِ الله داعيا ، وكذلك الناس تُؤْتَى ، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية ، ولو فصّلت كلمة الأعرابي لتبين لك كيف فارق ذلك الصحابي الداعية المدينةَ لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقومِ هذا ، وكيف فَارَقَ أهلَه وبيتَه وأولادَه ، وكيف اجْتازَ المَفَاوِزَ وصحْراءَ مِن بعدِ صحْراء ، وكيف تعرّض للمخاطر والحر أو البرد ، ليبلّغ دعوة الإسلام ‏.‏ وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها ، لابد من تَحرّك ومُبادَأَة وغُدُوٍّ ورَوَاحٍ وتَكَلُّمٍ وزَعْمٍ ، ليس القعـودُ والتمني من الطرق الموصلة ، فافْقَهْ سيرةَ سلفك وقلّدْهم تَصِلْ ، وإلا فَرَاوِحْ مكانَك فإنك لن تَبْرَحَه ‏.‏‏.‏ ‏)‏ أهـ

إن التحرك للدين وبذل المجهود في الدعوة إلى الله والتمكين لشرع الله وإعلاء كلمته في الأرض يجب أن يكون عنصرا أصيلا في النسيج الإيماني لكل مسلم ، فلا يَفْتَأُ يحاسب نفسه في كل زمان ‏:‏ ماذا قدم لدين الله ‏؟‏ يَتَقَلَّبُ في مَضْجَعِه قَلِقَا ، لا يَهْنَأُ بِنَوْمَة ، ولا يطِيبُ له وَسَن ، ترتاده أخبار المسلمين فيَهْتَمُّ ويَغْتَمُّ ، يفكّر في سبل إيصال الحق إلى الخلق فيخافُ أن يقصّر ، يقلق من تنامي الكفر والفسق ، يَجْزَعُ من قلة الناصرين لدين الله ، إنه لا يفكر في جاره فقط أو صديقه كيف يدعـوه ، إنه يفكر في سكّان الكرة الأرضية كيف يُدخلهم في دين الله أفواجا ‏.‏ يالها من همة لو وجدت لها فؤادا ‏.‏ وأحسب أن مثل هذه النفس لو تَلِفت هَمّا على حال الدين لما كان ذلك كثيرا جَلَلاً ‏.‏

ومن أعظم مَن نرفعهم قدوة ومثالا في التحرك للتدين جماعة التبليغ العالمية ، التي ما فتئت تضرب لنا أروع الأمثلة في الحركة والتضحية وبذل الغالي والرخيص في خدمة الدين ‏.‏

يقول الشيخ محمد بن إسماعيل في كتابه علو الهمة ‏:‏ ‏(‏ بالرغم من التحفظات على فِكر ومنهج جماعة التبليغ إلا أننا نُقِرُّ بأنها أوْفرُ الجماعات حظا من علو الهمة في الحركة الواسعة الدَّءوب ، ولهم في ذلك إنجازات رائعة أثمرت إسلامَ كثير من المشركين وهداية كثير من الفاسقين ، وتبليغ دين الله في آفاق المعمورة ‏.‏

حكى من شَهِدَ مجلسا لهم قال ‏:‏ جلسنا يوما في المسجد للتعارف ، فقام شيخٌ وَقور يعرِّف نفسه ، وقد جاوز السبعين من عمره ‏:‏ اسمي الحاج وحيد الدين ، أعمل في التجارة ، وعمري الآن تسع سنوات ، فاستغربْنا ، وقلنا في دَهْشَة ‏:‏ تسع سنوات ‏؟‏‏!‏ قال ‏:‏ نعم ، لأنني أعتبر عمـري ضـائعا ‏.‏‏.‏ وكان هذا الرجل إذا وَعَظ قال ‏:‏ لا تضيّعوا أعماركم مثلي ، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تعالى ‏.‏

وقد حدث أن سألنا أميرَهم ‏:‏ لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس ‏.‏ قال ‏:‏ أرأيتم إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له ‏؟‏ قلنا ‏:‏ إن كان مرضُه ثقيلا نُحضر له الطبيب في المنـزل ، وأما إذا كان مرضه خفيفا فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب ‏.‏ قال ‏:‏ فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد ، مرضهم الإيماني ثقيل ، فنحن نذهب إليهم ‏.‏

وسمعت بعض مشايخهم يروي موقفا تعرض له ، إذْ خرج للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبيـة ، واسْتَهْدَفَ رجلا مسلما كان يُجالس امرأة وهو يشرب الخمر ، فوعظه ونصحه وذكّـره بالله ، حتى لان قلبه ودمعت عيناه ، فأخذ بذراعه ليقوده إلى المسجد ، وأخذت المرأة بذراعه الآخر تنازعه فيه ، وكانت الغَلَبَةُ له بعد تَجَاذُب شديد من الطرفين ، وأتى به إلى المسجد وعلّمه كيف يتطهر ويصلي ثم تاب وحَسُنَت توبته ‏.‏

وهم يجتهدون في ابتكار الحِيَل الخيرية لجذْب الناس إلى الدين ، كذلك التبليغي الذي أراد دعوة طبيب مشهور ، فدفع قيمة الفَحْص ، ولما جاءت نوبته دخل عليه ، فتهيأ الطبيب لفحصه ، فإذا به يخبره أنه ليس بمريض ، وإنما رَغِب أن يذكّره الله ، وينصحه في الدين ، وراح يفعل ذلك ، حتى رقّ قلب الطبيب ، وتأثر بموعظته ، وأراد أن يرد عليه قيمة الكشف ، فأبى قائلا ‏:‏ هذه قيمة ما استغرقته من وقتك ‏.‏

ومن ذلك أنه لما صَعَّد الإنسان إلى القمر ، قال أحدهم ‏:‏ ولو صَعَّد الناس إلى القمر ، وتحول بعض منهم عن الأرض لَنُرْسِلَنَّ وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله ، وتَصَّعَّد إلى القمر لتدعوَهم ‏.‏

يقول الأستاذ الراشد حفظه الله ‏:‏ حركة التبليغ أجادت غرس الثقة في دعاتها ، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق ويواجهون المجتمع ، وآخرون يأمرون وإخوانهم بضمّ الرأس ، ويقولون لفتى الصحوة ‏:‏ أنت في خندق ، احْترِسْ وأَتْقِن الاخْتباء ‏!‏‏!‏ ‏.‏

وهذا أخ مؤذّن يأسَف ويحزن حزنا شديدا ، إذْ بَلَغَه أن بُرْج ‏(‏ بِجْ بِنْ ‏)‏ الشهير في لندن قد مـال ، وأنه مُهدّد بالانهيار فلما سُئل عن سر أسفه وحزنه قال ‏:‏ ما زِلْتُ أُؤَمِّل أن يُعِزَّ الله المسلمين ويفتحوا بريطانيا ، وأصعدَ على هذا البرج كي أُؤَذِّنَ فوقه ‏.‏

وأعرف ‏(‏ والكلام مازال للشيخ محمد بن إسماعيل ‏)‏ ‏:‏ أخا أمريكيا من أصل أسباني ممن أسلم لله ، وحسن إسلامه ، يعيش مع زوجته الأمريكية التي أسلمت أيضا في مدينة ‏(‏ نيويورك ‏)‏ وقد انتدب نفسه للدعوة إلى الله ، فيخرج هو وزوجته ويقفان أمام الكنيسة ليلتقط روادَها من الرجال ، ويدعوهم إلى الإسلام ، وكذلك تفعل زوجته مع النساء وذلك كل يوم أحد ‏.‏

وأعرف – والكلام ما زال للشيخ محمد إسماعيل حفظه الله - أخا يعيش في ألمانيا أحسبه – والله حسيبه – مجتهدا في الدعوة إلى الله غاية الاجتهاد ، حتى لا يكادُ يذوق طَعْمَا للراحة ، وقد اسْتَحْوَذَت الدعوة على كل كيانه ، حتى أَرْهَقَ نفسه ، وشُغِل عن بيته وأهله وولده ، فرأى إخوانُه أن يُمنح عطلة إجبارية ، وذهبوا به صحبةَ أسرته إلى مُنْتَجَع ناءٍ لا يعرفه فيه أحد ، ولا يعرف فيه أحدا كي يَهْنَأَ ببعض الراحـة ، وواعدوه أن يعودوا لإرجاعه بعد أيام ، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسّسَ جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلته بالدين ، ففتش عنهم في مَظَانّ وجودهم ودعاهم إلى طاعة الله وألّف بينهم وأقاموا مسجدا كان فيما بعد منطلقا للدعوة إلى لله في تلك البلدة ‏.‏‏.‏ثم ينقل عن الأستاذ الراشد قوله ‏:‏ وقد كنت في الأيام الخوالي ألاطف إخواني فأفتّش عن أحذيتهم ، ليس على نظافتها وصَبْغها ورَوْنَقِها كالتفتيش العسكري ، بل على استهلاكها وتقطّعها والغبار الذي عليها ، وأقلّبها فأرى النَّعْل ، فمن كان أسفل حذائه مُتَهَرِّئا تالفا فهو الناجح ، وأقول له ‏:‏ شاهدُك معك ، حذاؤك يشهد لك أنك تعمل وتغدو في مصالح الدعوة وتروح ، وتطبق قاعدة ‏:‏ ‏{‏ وجاء من أقصى المدينة رجل يَسْعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ‏}‏ ، وبكثرة حركتك تلف حذاؤك فأنت المجتاز المرضي عندي ‏.‏ قال صباح ‏(‏ من تلاميذ الأستاذ ‏)‏ ‏:‏ قد – والله – بعد عشرين سنة يأخذني تأنيب الضمير كلما رأيت حذائي لا غبار عليه وأتذكر ذاك التفتيش ‏.‏ ‏)‏ أهـ

وإذا تأملنا بعض النصوص الشرعية التي عالجت الوضع الاجتماعي المسلم نجد أنها تركز على الإصلاح كجانب أساس في قيام الدين ، وكما أنه لا إِصلاح بدون صلاح فلا صلاح بدون إِصــلاح ، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ‏}‏ ويقول صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ الدين النصيحة ‏)‏ رواه مسلم ‏.‏

فتأمّل – يرعاك الله – كيف أن خيريّة الأمة مبنية على القيام بواجب الإصلاح وأن الدين مشتمل على أُسُسٍ من أهمها النصيحة ، وعلى هذا بايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعضُ الصحابة ‏:‏ أن ينصح لكل مسلم ‏.‏

وقد قرَّرَ علماء الأصول أن الحكمة التي لأجلها شرع الله الأحكام منها ما هو ضروري ومنها ما هو حَاجِيٌّ ومنها ما هو تَحْسِيْنِي ، فأما الضروري فهو أصول المصالح التي لا تقوم الحياة إلا بها ، ولو تُصُوِّر زوالها لأدى إلى فَوات حياة الناس ويصبح عيشهم تَهَارُجا وفوضى ‏.‏

وأصول الضروريات ترجع إلى حفظ خمسة أمور هي ‏:‏ الدين والنفس والعقل والنسب والمــال ، وبدون حفظ هذه الأمور يعيش الناس عِيشة البهائم الرتّع ، وتفوت حياتهم الكريمة التي أرادها الله لهم ‏.‏

وجعل العلماء حفظ الدين من أولى الضروريات التي اهتم بها الشرع ، فإن مَدار الأحكام الشرعية على هذا الضروري مثل وجوب لزوم الاعتقاد الصحيح الذي هو أُسُّ الدِّيانة ومرورا بالأركان الخمسة التي عليها يقوم بناء الدين وأركان الإيمان التي بها يصح العمل والإحسان الذي به يقبل العمل ، وكذلك الجهاد الذي هو ذِرْوَةُ سَنَام الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو رُوح الشرع والنصيحة التي هي الدين كما قال صلى الله عليه وسلم ‏.‏

كل تلك التكاليف الشرعية مقصودها حفظ الدين ، وفي سياق ذلك يُفهم أن أعمال المكلف لابد أن تدور حول هذا الضروري ‏(‏ حفظ الدين ‏)‏ ، والذي يتخيل حياةً حافلة بالأعمال الصالحة دون أن يستحضر هذه النية فيخشى عليه أن يكون داخلا في قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ ألم تر إلى الذين قيل لهم كُفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ‏}‏ ‏.‏

بل إنني أزعم أن من سمات العلمانية الواضحة أنها تريد من المسلم أن يعيش إسلامه كطقوس منـزوعةِ المعنى ، بعيدةٍ عن هذا المَقْصِد الذي نحن بصدده ، فيصير الإسلام مجرد فكرة جميلة المبادئ يعيشها المسلم دون التزام بنصرة هذه الفكرة التي يحياها كعاشق حالم ، وإذا بنا نبصر هذه الشخصيات المسلمة الممسوخة التي ليس عندها أدنى استعداد لتقديم أي شيء في سبيل نُصرة قضايا دينها وأمتها ‏.‏

وليس خافيا أن مجهودات وسائل الإعلام – المعادية للدين – تركّز على جانب خبيث في الفكر الإعلامي يعرف بمصطلح ‏:‏ ‏(‏ حشد اهتمام الرأي العام ‏)‏ ، ولو تتبع أيُّ أحد اتجاهات الإعلام ‏(‏ لا أقول في دول الكفر بل في الدول التي تستظل بمظلة الإسلام ‏)‏ سيجدها في أقل أحوالها منصبّة في تخدير الشعور الديني ، وإذا زاد الخُبث قليلا فإنهم يعملون على إثارة الغرائز وإغراق النفوس بالشهوات الحيوانية ، وإذا تعاظم الخبث فإنهم يعملون حينئذ على تشويه معالم الدين وقلْب الحقائق ، وهذا لَعَمْري أعظم الأَثَافي ‏.‏

وكما يحكي بعض الدعاة ‏:‏ أن البرامج الإعلامية غدت ذات تناقضات من قبيل المضحك المبكي ، فلا غَضَاضَةَ عند القوم أن يكون بعد الحديث الديني فيلم أمريكي داعر ، ولا ملامة على مقدمة البرامج المتبرجة أن تُجري حديثا تلفزيونيا مع شيخ مُعَمّم ، ثم تستطيع أن تسمع مذهولا عن مسلسلات تسمى دينية يظهر فيها الأئمة عُشّاقا وأصحاب مزاج موسيقي وتذوق عال لجمال النساء والفن ‏!‏

إن هذه التناقضات المقصودة يراد منها أن يتجرع المسلم دواء يزيل عنه الجانب التطبيقي من تدينه ، فيصبح مسلما مصليا صائما حاجا لكنه لا يجد تعارضا بين ذلك وبين موالاة الكافرين ومصاحبة الفاسقين وأكل الربا وغشيان الفجور والتحاكم لغير شرع الله عز وجل ، وأصبح من العادي أن أسمع من كثير من الشباب يلبس ملابس لاتَنُمُّ عن دين وحياء وبجانبه اصْطَفَّ فريق النساء المترجلات أو الرجال المتخنثين يمسك بسيجارة عفراء أو يمضغ علكا بطريقة أنثوية ثم يقول ‏:‏ الحمد لله أنا لا أعمل شيئا يغضب الله ‏!‏

إن هذا الجيل قد تعرض لحملة من التشويه الإعلامي تضارع في شراستها حملة محاكم التفتيش في العصور الوسطى لإِثْنَاءِ الناس عن الإسلام إلى النصرانية ، ولكنها تغلّفت في القرن العشرين بميكيافيلية خبيثة ، إذ صار الفجور عَصْرَنَة وتطورا ، والالتزام تحجّرا ورجعيّة ، وصار حجاب المرأة المسلمة تخلفا والسفور تقدما ‏.‏ والأدهى والأمر أن الإعلام قد علم قوة الدين في قلوب الناس وسرعة استجابتهم لنداء الحق إذا سمعوه ، فأطفئوا ذاك النور الباقي ، ولقّحوا عقول الناس بمصلٍ يقي من التديـن ، فما أن يتعرض الواحد منهم إلى شعاع بسيط من نور الحق إلا ويبادره هواه بالردود المعلّبة ‏:‏ الدين يُسْر ، وإياك والغلو في الدين ، والتطرف عاقبته كذا وكذا ‏.‏‏.‏ هذا عدا من جعل بينه وبين التدين ستارا واقيا بزعم أن التدين يقود إلى السجون والمعتقلات ‏.‏

والأعجب من هذا – إذا لم تتعجب مما مضى – أن كثيرا من الأكاديميات الإسلامية العريقة تمارس ذات الدور الذي تمارسه وسائل الإعلام ، بل إنها قد تفوق بما تبثه في قلوب الشبيبة من احتكار المتخصصين في الشرع للدعوة وضرورة أن يحصل على إذن الدعوة من الجهات التي تُخَوِّلُ للناس أن يدعوا إلى الله ، ناهيك عن الدور التربوي القاصر الذي تقوم به تلك الأكاديميات مع الطلاب الذي يتوقع منهم أن يكونوا دعاة الغد ‏.‏

وفي بعض المخيمات الصيفية الشبابية التي تقيمها بعض تلك الأكاديميات تحدث المهازل والطوام التي يشيب لها الولدان ، فإذا ما سألت عن القوم وجدت منهم خريجي الشريعة والدعوة ونحوهما ‏.‏

ولقد سمعت بنفسي في الكلية الشرعية التي درست فيها من طلبتها من يسب دين الله ، أما المتخنثين وتاركي الصلاة والمدخنين فحدث عن ذا ولا حرج ‏.‏ أوليس من الغريب أن نرى تلك الألوف من خريجي الكليات الشرعية هي أول من يحارب الدين ويعاديه ، أوليس الغريب أن نرى العمائم هي التي تحارب صحوة الشباب المسلم ‏.‏

لقد ضبط في بعض البلاد الإسلامية تنظيما لعبدة الشيطان ، وقد ظهر من التحقيقات أن هذا التنظيم يمارس بالفعل عبادة الشيطان وتقديم القرابين له وفعل المنكرات الشنيعة التي يأمرهم بها شيطانـهم ‏.‏ ولم تكن مفاجأة كبيرة أن يفتي بعض المعممين بأن هؤلاء الشباب الطائش لا يقصد –حقيقةً – عبادةَ غيرِ الله ، وأن مثل هؤلاء لا يُقام عليهم حَدُّ الرِّدَّة ، فقد كان معظم التنظيم من الشباب الصغير الذي عانى من الثراء الفاحش والتفكك الأسري ، وتعرض لغسيل مخ من قبل بعض الأفراد في الخارج والداخل ‏.‏

ولكن الغريب المستهجن ، والذي ليس له تفسير ‏:‏ أن يفتي نفس ذلك المعمم في حق بعض الشباب المسلم المتهور في تغيير المنكر بأنهم من المحاربين الذين يجب أن يُقْتَلوا أو يُصَلَّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلاف ‏.‏

وهكذا تُخْتَزَلُ الحقائق ، ويطيش الميزان ، ويتبين لكل ذي لُبٍّ أن طريق خدمة الدين مآله تقطيع الرقاب ، وأما عبادة الشياطين فهو أمر يمكن للمجتمع أن يَغُضَّ عنه الطَّرْف ‏.‏

أَوَلَيْس كل ذلك مما يزهد الناس في خدمة دين ربهم وينأى بهم عن القيام بما يُمليه عليه واجبُ وجودهم في هذه الحياة أصــلا ‏.‏ وليس يخفى أن هناك أدوار أخرى خبيثة غرضها التأثير في أخلاق المسلمين ، بزرع الجُبْن والهَلَع والرضا بالضَّيْم ، ونَزْعِ المكارم والمثُل كالشجاعة والنَّجْدة والحَمِيَّة للدين ونحو ذلك ، مما استتبع وجود شخصيات قابلة للمسخ والتشويه ‏.‏

تبقى الإشكالية التي تحتاج إلى مجهودات ضخمة لعلاجها ‏:‏ وهو كيفية بث هـذه العقيــدة ‏(‏ أعني عقيدة خدمة الدين ‏)‏ في قلوب كل المسلمين فضلا عن الدعاة والغيورين على دين الله تعالى ‏.‏

إن مثل هذا الأمر لو حدث فإن الدعوة ستقطع شوطا واسعا في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ، إذ لا يزال من أهم العوائق التي تحول بين الدين وبين انتشاره في قلوب الناس أنهم يظنون الدعوة مهمةَ ذوي العمائم والِّلحى ، وأن الواحد ما دام محافظا على شعائر الدين فإنه غيرُ مسئول بعد ذلك عن أية قضية تُلِمُّ بالمسلمين ، وقد قرأنا وجهة النظر هذه بقلم كبار الكتاب والصحفيين يستعلنون بين الناس بأن قضية مثل قضية البوسنة لا يجب أن تشغلنا عن مشاكلنا الداخلية ، بينما نجد دولا مثل النرويج تعتني بمثل هذه القضية لتأثيرها عليها من ناحية نزوح اللاجئين ، فكيف لا تكون هذه القضية ذات أثر علينا نحن المسلمين وهم شركاؤنا في الدين ‏.‏

لقد رأينا البرتغال تدخل أنفها في قضية تيمور الشرقية ‏(‏ وهو إقليم ذو أكثرية نصرانية في إندونيسيا يطالب بالاستقلال ‏)‏ لا لشيء إلا أن هذا الإقليم إِرْث استعماري يربطه بالدولة الأم آصرة الديانة الكاثوليكية ‏.‏

إن الاهتمام بقضية الدين وبقضايا المسلمين لا تزال تشكل في مجتمعاتنا الإسلامية حِسَّا ثانويا يتوارى وراء الاهتمامات التافهة لشرائح المجتمع ، وكم رأينا أمتنا تَحْشِد شبابها عن بَكْرَةِ أبيهم لتنظيم دورة ألعاب أو استقبال مُطرب عالمي أو تنظيم مهرجان سينمائي أو غنائي ، ولكن عندما يُمس جَنَاب الدين فإن الجمل يَسْتَنْوِق ، وترى الهِرَّ يحْكي انتفاشا صَوْلةَ الأسد ‏:‏

فما المعنى بأن نَحْيَا فلا نُحْيِي بنا الدينا

وما المعنى بأن نجتـَـرَّ مجـدا ماضيا حينا

وحينا نطلق الآهـــات ترْويحا وتسْكينا

وقد نسي قِطاع كبير من أولئك الذي يهتمون بشعائر الإسلام الظاهرة ‏(‏ كالصلاة والصيام والحج ‏)‏ أن من أعظم شعائر الدين الاهتمام بأمر المسلمين ، حتى توعد الله تبارك وتعالى المتقاعسين عن خدمة الدين بالخزي في الحياة الدنيا والآخرة ، قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ‏.‏ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضرونه شيئا ، والله على كل شيء قدير ‏)‏ ‏.‏

إن خدمة الدين ليست قضية أصحاب العمائم واللحى – كما استقر في وجدان البعض خطأً – بل هي قضية كل مسلم ينتمي للإسلام لِمَحْضِ كونه مسلما ، وتَرْكِيْبَتَه كمسلم لن تستقيم إلا بتبني هذه القضية بحيث تُضحي حياة المسلم ممزوجة بهذا الهَمّ ، إذا سأل عن طعامه وشرابه فلن ينسى أن يسأل نفسه ماذا قدم لدين الله تبارك وتعالى ‏.‏

وسيبقى المسلمون يعانون ظُلْمَ الغَيْرِ وبَغْيَه ما لم يوجد هذا الحِسُّ في وجدانهم طَبْعَاً ، يُستنفر عند كل مُلِمَّة ، ويتعاظم عند كل دائرة تدور على المسلمين ‏.‏

‏(‏ إن الأمر لم يعد مجرد فساد خلقي وفجور وخمور يمكن أن ينحصر وعظ الواعظين إزاءها – كما يقول الراشد - بل صراع سياسي حزبي منظم لإقامة الدولة الجاهلية ، ولقد أقاموها ، وصراعهم مستمر لإدامتها ، وترسيخها وتربية الأجيال الجديدة على الكفر ، وفي هذا ما يوجب على أصحاب الغَيرة الإسلامية والعقيدة الإيمانية في كل مكان أشياء من التعاونِ والانتظامِ والتخطيطِ ، وتكميلِ النقص التربوي والتوسّع العددي ، في عمليةٍ اسْتِدْراكية ، من خلال ممارسة جهادية سياسية غير متهورة ، تقام بها دولة إسلامية رجالُها دعاةٌ حركيّون ‏.‏

وكل مسلم مُطالَب بإِبْدَاء أَثَر في هذا الاستدراك ، والمشاركة فيه بنوع من الخير ، حَسَبَ استطاعته ، ولا معنى لحياة امرئ سلبي يرتع في هذه الدنيا أكلا وشربا وتلذُّذا بالنساء والمفكّرون من حوله لا يحاول أن يبدي موقفه منهم ، والسياسيون عن يمينه وشماله بين صالح وطالح يَصْطَرِعون وهو يتفرج ‏.‏

إن السلبية والانعزالية والتفرج ما هي إلا تعابير مخففة مجازية يأباها الصادقون المحترقون على الأمة بل يعدون ذلك موتا ، فالمرء والسيف ما لم يُبْدِيَا أَثَرَاً ‏:‏ حَيٌّ كَمَيِّتٍ ، مَسْلُوْلٌ كَمَغْمُود ‏.‏

وبلغ الرافعي مبلغا أقصى ، فرأى وجود السلبي غير مبرَّر ، وأَنْذَرَكَ بوجوب الـجلاء ، وأنك ‏:‏ ‏(‏ إن لم تُزِدْ شيئا على الدنيا كنتَ أنت زائدا على الدنيا ‏)‏ أهـ

أين الخلل ‏؟‏‏!‏

وفي ظني أن العصبية للدين توارت وراء العصبيات الأخرى التي تَرَبَّى عليها المسلمون ، كعُبِّيَاتِ الجاهلية الحديثة من قَوْمِيّة وشُعُوبيّة وقُطْرِيّة بل وحِزْبِيّات ضيقة ، حتى تضاءلت مساحة الإسلام في بُؤْرة الشعور ‏.‏ وردُّ الفِعْل التَّلْقائي عند أي أزمة تَنْـزِل بالإنسان يكون قويا بقدر المساحة التي تحتلها تلك الأزمة من بؤرة شعوره ، ولا شك أن مشاعر المسلمين تحتلها أولويات أخرى غير دين الله تعالى ، هذا ينبغي ألا نماري فيه – حتى على صعيد الملتزمين والغيورين على الدين – كنقطة انطلاق لعلاج هذا الخلل ، أما إذا توارينا زُوْرَاً وراء الادعاءات الكاذبة فإنها لن تخدع رب العباد ولن تغني عن واقع الأمر فتيلا ‏.‏

وأعياني أن أبحث في علاج هذا الداء العُضال الذي تعانيه الأمة الإسلامية حيث لا أستثني نفسي منه ، ولكنني من استقراء كثير من النصوص الشرعية ومن سيرة السلف ومراجعة حال النفس وأحوال كثير ممن حولي وجدت أن أساس تراجع الدين في سلم أولويات المسلمين يرجع إلى مزاحمة الدنيا للدين ، وهو ما يفهم من قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ‏}‏ في معرض لوم المتأخرين عن الجهاد في سبيل الله ‏.‏ ولعمري إنها آفة الأولين والآخرين ، وفي حُبِّها تَجَنْدَلَ الصَّنَاديد صَرْعَى كأنهم أعْجَازُ نخْل خاوية ، وما حَذِرَها امرؤٌ إلا كان أولَ فوْز يَحُوزُه تَفَرُّغُ قلبه للاهتمام بما أمره الله به ‏.‏

والعجيب أيضا أن الخلل في مسألة تفضيل الدنيا على الآخرة لا يرجع إلا عدم فهم النصوص أو عدم الاقتناع بها ، ولكنه يرجع إلا التركيبة النفسية والاجتماعية التي ينشأ عليها الإنسان ‏.‏

ولقد رأيت أفرادا من أُسَرٍ واسعة الثَّراء لكنهم تَرَبَّوْا على يَدِ آباء ذوي حصافة ودراية بمكائد الدنيا ، فنشأوا على البساطة وعدم التكلّف ، بل إنهم إذا تعرضوا لبلاء من بلاءات الدنيا لم نر لهم جزعا كجزع عبدة الدرهم والدينار ‏.‏

وآخرون من ذوي الإِمْلاق لكنهم تَنَشَّأوا على حب هذه الفانية والتعلق بملذاتها وتمني الحصول على كل شهواتها ، فإذا ما أَلَمَّتْ بهم مُلِمّة – وإن دَقّت – رأيتَ السَّخَطَ يعلن نفسه بعبارات كفرية جريئة لا يَلْفِظُها إلا من خلا قلبه من الإيمان والرضا بالقضاء والقدر ‏.‏

إن هذه التركيبة النفسية هي التي تسهّل وجود الخونة بين أفراد الأمة ، كما أن هذه التركيبة النفسية كفيلة بأن تجعل صاحبها يتخذُ من الدنيا كعْبةً يستقبلُها ، فيتعبّدَ في مِحْراب شهواتها مخْلِصا ، لا يخطُر له الدين على بال فضلا عن أن يبذل له أو يجاهد في سبيله ‏.‏

وكذلك التركيبة الاجتماعية التي وضعت مفاهيم في الرَّفاه ومستوى المعيشة لا يعرفها شرع ولا عرف ، فأضحى كل الناس يتسابقون ويتراكضون في حَلْبَة السَّبْق لتحقيق هذا المستوى فإذا ما عَرَضَ لهم من أزمات المسلمين عارض تحجّجوا بأن ضروريات حياتهم لما يسْتكملوها وأن للدين رب يحميه ‏.‏ ولن تَعْدَم أن تسمع أمثالا تُصاغ من قبيل ‏:‏ ما يحتاجه بيتك يكون حراما على المسجد ، وجُحَا أَوْلى بِلَحْمِ ثَوْرِه ، في خَسَاسَةٍ لا تُعْهَد إلا عند بني إسرائيل ‏.‏

وحتى نُصلِح هذا العِوَجَ فإننا لا بد أن نمارِس دورا تربويا واسع المدى ، على نطاق الأفراد والمجتمعات ، لإصلاح هذه التركيبة الخاطئة ، ومقاومة زحف الشهوات المهلك الذي هو عَرَضٌ من أعراض حب الدنيا وداء عُضال في نفس الوقت ‏.‏

ومن أساسيات الدور التربوي الذي يجب أن يمارَس على نطاق الأفراد والجماعات لإصلاح التركيبة النفسية والاجتماعية ما يلي ‏:‏

‏(‏1‏)‏ تربية النشأ الصغير على مثل التضحية في سبيل الدين والبذل له والجهاد في سبيله ‏:‏ ويكون ذلك بالأساليب الآتية ‏:‏

- تضمين المناهج العلمية والأدبية هذا المنحى التربوي ، سواء على نطاق التعليم الرسمي أو الأهلي ‏.‏

- وجود جهد أدبي قصصي للأطفال يعالج هذا الجانب في الإصدارات الأدبية ‏.‏

- تفعيل دور الناشئة عبر تشريكهم في قضايا المسلمين ومطالبتهم بالبذل ولو بالقليل ، ومما أبهجني أن أطفال النرويج استطاعوا جمع الملايين من الدولارات لأطفال البوسنة في حَمْلَةِ تبرُّعات مَرْعِيّة من وزارة التعليم أثبتت أن توجيه الناشئة كفيل بزرع نوازع الخير في قلوبهم ، وأَدْمَى قلبي أَنْ لم يكن من بين بلاد المسلمين من يوجّه أطفالَنا هذه الوِجْهـة ، وأنى لهم ذلك والكبار في سُبات ‏؟‏‏!‏

- تكثيف دور الأسرة في غَرْس قِيَمِ التضحية والبذل والعطاء للدين ، ولا شك أن أُولى المبادئ التي يتعلمها الطفل إنما هي التي يَرْضَعُها من والديه ارْتِضَاعـا ‏.‏

‏(‏2‏)‏ ممارسة دور مماثل لهذا الدور الذي يمارس مع النشأ الصغير مع الشباب ، وخاصة ذوي الميول الدينية ، لأن هؤلاء بطبعهم يميلون إلى تبنّي قضايا الدين ‏.‏

‏(‏3‏)‏ تكثيف الدور الإعلامي الإسلامي في عرض قضايا المسلمين ، بحيث يتواجد الصوت الإسلامي الذي يشرح القضية من وِجْهَة نظر المسلمين لا على هَوَى ‏:‏ ‏(‏ رُوْيْـتــَرْ ‏)‏ و ‏(‏ أَسُوْشِيْتِدْبرسْ ‏)‏‏.‏ ولنا مع هذا الدور عَوْد في وسائل الدعوة ‏.‏

‏(‏4‏)‏ تكثيف الأدبيات الراقية التي تخاطب كل المستويات ، فمن شأن هذه المؤلفات – من نثر وشعر – أن تستنفر الوجدان وتحفز الهمم ‏.‏

‏(‏5‏)‏ رعاية المؤتمرات التي تعقد لمناقشة أو مناصر قضايا المسلمين ، لأن مثل ذلك له دور في تحريك الهم ورفع مستوى الإحساس بالقضايا المعالجة ‏.‏

‏(‏6‏)‏ تحريك دور الهيئات والجمعيات الإسلامية وتطوير أدائها ومعالجة العقبات التي تعترض دورها التربوي في تناول قضايا المسلمين ‏.‏

‏(‏7‏)‏ ضرورة مراجعة مفردات الخطاب الديني المتمثل في الخطبة والدرس وتقويم الاتجاه الإصلاحي الذي يركّز على مسائل أساسية في الدين مع عدم الإحاطة به ، وضرورة أن يستشعر المستمع العادي ثِقَل الهَمِّ عبر الخطبة والدرس ليبدأ التشارك في قضايا المسلمين ‏.‏

‏(‏8‏)‏ على صعيد الموضوعات التي يجب تكثيف طرحها على الناس ‏:‏ الزهد في الدنيا وملذاتها ، ولعمري إن هذه القضية من أساسيات الدين ، ولم تكن مواعظ القرآن والسنة إلا مُدَنْدِنَةً حولهما ‏.‏ ومع وجود المواعظ الزهدية لا بد أن توجد النماذج الزاهدة التي تذكر الناس بالله والدار الآخرة ، ويجب استغلال المناسبات التي تحضر فيها القلوب كمناسبات احتضار المرضى وعند الموت والدفن في التزهيد في الدنيا والترغيب فيما عند الله تبارك وتعالى ‏.‏

‏(‏9‏)‏ تنشيط دور الكتيّب والشريط الإسلامي ، وأن تكون الموضوعات التي تتناولها تلك الوسيلتان ذات قسط من قضايا المسلمين ، وكذلك في علاج التركيبة النفسية والاجتماعية الخاطئة في المجتمع المسلم ‏.‏

‏(‏10‏)‏ استغلال المناسبات الاجتماعية – كعقود الزواج والزيارات ونحوها – في طرح الموضوعات ذات الصلة ‏.‏

وكما نرى من تلك المقترحات أنها رهينة الظرف ، فاجتهاد الداعية في استغلال الأفكار له دور في توليد كثير من الحلول والعلاجات التي من شأنها أن تؤثّر تأثيرا شديدا في تلافي الخطأ التربوي الذي أفرز هذا الجيل الذي لا يعْبأ إلا بشهواته ‏.‏

القاعدة الثانية‏:‏ ‏(‏تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيننا وبينكم ‏)

مما لا شك فيه أن الساحة تشهد زَخَمَاً في التحركات الدعوية النشطة ، ومنافسة في وجوه البرِّ والخير ، ومسابقة إلى صَبْغِ المجتمع بالصِّبْغَة الإسلامية ، وخلْع سِرْبَال الجاهلية عنه ‏.‏

ولن تخطئ عينك أيها القارئ الكريم رؤية اختلافات في موضوعات الخطاب الدعوي التي تسمعها من الدعاة على اختلاف مشاربهم ، مما قد يظنه البعض تناقضا أو خللا في مناهج تلك الحركات الإسلامية فيَعْمِد إلى التشغيب ووصف الحركات الإسلامية بصفات الأحزاب السياسية التي تسعى إلى الزعامة والكرسي وغير ذلك من الكلام المريض الذي لا يصدر إلا عن قلب مريض خلا عن الغَيْرة على دين الله تبارك وتعالى ‏.‏

ولاشك أن بعض الحركات تُصِرُّ على مسالك في الدعوة تتناقض مع توجهاتها الدعوية مما يفقدها المصداقية على مر الأيام ولكنه ليس بمسلك عام ، ولا قاعدة مطردة فالحق أن مناهج الحركات الإسلامية العاملة على صعيد الساحة الدعوية ممن ينتسب إلى أهل السنة والجماعة لا تتعارض في الخطوط العامة مع أصول أهل السنة والجماعة ، وغاية ما في الأمر أن الحركات الإسلامية تختلف فيما بينها حول الأولى بالاهتمام والصدارة في الخطاب الدعوي ‏.‏

ونود هنا أن نؤصل للخطاب الدعوي وآليته الذي بها تستقر اهتمامات الدعاة ، وتتوازى مفردات خطابهم بما لا يؤدي إلى خَلَلٍ مُرْبِك ، أو تصادم مُؤَخِّر ‏.‏

وما سنتحدث عنه ليس خطا نلزم به كل الحركات الدعوية بقدر ما هي رؤى أرى أنها محل إجماع ، أو ينبغي أن تكون محل إجماع ، أدعو الأفراد ‏(‏ أولا بحكم كون هذا الكتاب يخاطبهم بالدرجة الأولى ‏)‏ والجماعات أن تتجاوب معه ، أو تتبنى بحثه والتشاور في شأنه ، لعله قد يتمخض عنه استقامة وتعاونا على جادة وكلمة سواء ‏.‏

إن دين الإسلام واضح الأركان ، بَيِّنُ المعالم ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجهله إي داعية إلى الله تبارك وتعالى ‏.‏

وما إخال داعية يماري أن النبي صلى الله عليه وسلم دارت دعوته على التوحيد وكان قطب رحاها تمحيص التوجه إلى الله تعالى في العبادة والطاعة ، وعدم الحيد عن الإخلاص للمولى ، تجاه أي طاغوت يستحوذ على وجدان الإنسان وينال من تعظيمه المطلق لله عز وجل ‏.‏كما لا أحسب أن هناك من ينازع أن حاكمية الله تبارك وتعالى على الخلق ، وانضواء الخليقة تحت حكم شريعته من آكد ما أصله القرآن والحديث النبوي ، ولنطلق على هذا الخط أو الأصل ‏(‏ أصل التوحيد ‏)‏ ‏.‏

ولا يمكن أن يدور بخلد أي منتم لدين الله تبارك وتعالى أن يتخذ أسوة وقدوة حياتية في هذه الدنيا غير النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن يتلقى عن أحد شرعا أو طريقة حياة أو منهج اتباع خلا نبي الهدى صلوات الله وسلامه عليه ، ولنطلق على هذا الأصل ‏(‏ أصل الاتباع ‏)‏ ‏.‏

كما أن الجميع مجمع أن الأنبياء والرسل لم يأتوا بالشرائع لأجل أن تتزين بها الكتب ودور العبادة ، بل لأجل أن يوجد لها واقع ملموس في دنيا الناس ، ولأجل أن توجد النماذج البشرية الكاملة التي اصطبغت بمنهج التزكية الشرعي متأسية بالأسوة العليا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن أوصانا باتباعهم والتأسي بهم وهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين من أهل القرون الخيرية المباركة ، ولنطلق على هذا الأصل ‏(‏ أصل التزكية ‏)‏ ‏.‏

إن هذه الأولويات ليست من قبيل الأولويات المتغيرة ، أي التي تقبل النقل والتبديل عند حصول الغايات والأهداف ، بل هي من الأولويات المطلقة التي يسميها خبراء الاجتماع والسياسة بالاستراتيجيات الكبرى ، مثل أمن الدولة والأمان الاجتماعي والأمن الغذائي ، أو ما يسميه الفلاسفة بالثوابت المطلقة أو البدهيات أو المسلمات أو ما يمكن أن نستعير له اصطلاح الفقهاء ‏:‏ الضروريات الأصيلة ‏.‏ وعليه فإن الدعوة تتبنى مثل هذه الخطوط وإن رزقت التمكين ، لأنها من أصول الدين وثوابت الشرع المطهر ‏.‏

وبإزاء هذه الخطوط العريضة يمكننا أن نتصفح الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية بل البشرية على نهج سواء ‏.‏

فتوحيد الله مختل في القلوب ، والإخلاص في التوجه إلى الرب تبارك وتعالى غير متأصل في النفوس كمنهج حياة ، وحاكمية الله مهزوزة في نفوس الكثير من المسلمين أو قل ‏:‏ إنها غير واضحة المعالم ، ومرجعية النبي صلى الله عليه وسلم أو الشرع بمجمله أمر محتمل عند طائفة متكاثرة من المثقفين ‏.‏ وغالبية المسلمين لا يقومون بأي مجهود جاد في تطهير نفوسهم وتزكيتها بتطبيق أحكام الشرع المطهر والقيام بما أمر الوحي ونهى ، بل يهيمون في أودية الدنيا سعيا وراء المادة والشهوة ‏.‏

وكل ما نراه من ظواهر أخرى مختلة في المجتمع فما هي إلا نتاج لاختلال تلك الأصول ، واهتزاز تلك الثوابت في قلوب الناس أو لنقل ‏:‏ في ضمير المجتمع المسلم ‏.‏

وبعض هذه الظواهر آخذ بِحُجَزِ بعض ، ورابطة العقد إنما هي تلك الأصول والثوابت ، فمتى انقطع منها شيء انفرط العقد أيما انفراط ‏.‏

وعلى أساس هذا التنظير الذي استعرضنا فيه الواقع الإسلامي يجب أن يرتب الدعاة أولويات اهتماماتهم في الخطاب الدعوي العام ‏.‏ أما الخطاب الدعوي الخاص والذي يتضمن الدور التربوي الدقيق الذي يمارسه الدعاة في تهيئة وتنشئة أجناد الحق فله استراتيجية خاصة تناسبه ، وسنتحدث عنه بالتفصيل إن شاء الله في الطريقة الحادية والعشرون ‏(‏ العناية بالشباب ‏)‏ ‏.‏

ومعنى اهتمام الدعاة بهذه الأصول التي ذكرناها ‏(‏ التوحيد ، الاتباع ، التزكية ‏)‏ أن يكون خطابهم الدعوي ملاحظا لها متبنيا إياها في كل مداولة ، معتدا بمضمونها ، منافحا عن سمات هذه الأصول ومظاهرها رابطا كل فروع الدين بِآخِيَتِهَا ‏.‏

وأهداف الحركة الإسلامية ووسائلها يجب أن تتسق مع هذه الأصول الجامعة ولا تصطدم مع ثوابتها ، فالتمكين الذي ينشده كل مسلم وعاقبة النصر وظهور الدين وهيمنة أحكامه وتعبيد الخلق لرب الخلق ‏.‏‏.‏كل هذه الأهداف مستقاة من تلك الأصول دائرة في فلكها مهتدية بنورها ‏.‏

كما ينبغي أن تتبنى الحركات الإسلامية هذه الأصول دستورا عمليا تراقب على ضوئه الخطوط العامة التي ترسمها لكوادرها في أي مشروع إسلامي ‏.‏

وإذا كان الفقهاء يستخدمون عبارة ‏:‏ ‏(‏ هذا الفرع مخالف للأصول ‏)‏ أي الأدلة والقواعد العامة والنظريات الكلية ، فبإمكان الدعاة أن يستخدموها بذات النسق قائلين ‏:‏ هذا التصرف الدعوي مخالف للأصول الدعوية ، أي القواعد العامة التي تقوم عليها الدعوة الإسلامية ‏.‏

فإذا تناصح الدعاة مثلا فما أحراهم أن يجعلوا هذه الأصول مادة نصحهم ، فلو انتهج داعية منهجا مبتدعا في الدعوة – كالدعوة إلى الذكر الجماعي - فيذكر بأن هذا المسلك يخالف أصل الاتباع الذي جعلناه خطا أصيلا نتمسك به لضمان نقاوة الخط الدعوي وثبات مصداقيته ‏.‏

وليس معنى ما سبق أن نجحد إمكان الاختلاف بين صفوف الحركة الإسلامية فيما يسوغ فيه الاختلاف ، أو نحلم بواقع دعوي خال من أية اختلافات أو تباينات في الأفكار والرؤى ، فذلك فوق كونه غير واقع قدرا فهو غير مأمور شرعا ‏.‏

بل المأمور شرعا أن يُرد الخلاف إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم ؛ قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ‏}‏ ، وأن يبذل كل مجتهد الوسع في البحث عن الحق وسلوك دربه وسبيله ؛ قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ فاتقوا الله ما استطعتم ‏}‏ ، وما عليه من جناح بعد ذلك إن أصاب الحق عند الله أو أخطأه ، بل هو في كلتا الحالين مأجور غير مأزور مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ‏)‏ ‏.‏

والواجب أيضا أن يتغافر الدعاة فيما بينهم وأن يتخلقوا بآداب الإسلام وفضائل الأخوة الإيمانية ومهيع السلف الصالح في الخلاف الرشيد ‏.‏

وأنا أظن الصحوة الإسلامية في واقعنا الراهن قد تداركت كثيرا من مظاهر التعصب المقيت الذي هو من ميراث عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، وصار ورود الحق والصدور عنه جادة يتواصى عليها جل الدعاة شفقة منهم على حال الإسلام والمسلمين ، وغيرة على ما آل إليه أمرهم بسبب الاختلاف المذموم ‏.‏

ولكن ينقصهم أن يزيدوا من التواصي بالحق في هذا الباب ، وأن يجعلوا من مقاصد اهتماماتهم في المرحلة الراهنة والقادمة توحيد الصف وتصفية المناهج الفكرية والدعوية من رواسب الجاهلية الممقوتة وآثار المخالفات الشرعية وبقايا الحزبية الضيقة ‏.‏

ولعمري إن ذلك إن لم يكن واجبا شرعيا فهو ضرورة دعوية يمليها الواقع الذي انتهز فيه أعداء الإسلام تشرذم الدعاة وتفرق الحركات الإسلامية فرصة للكيد الخبيث والمكر السيء ‏.‏

ولئن لم يتدارك الدعاة فرصتهم في نبذ الجاهلية المنتنة المتمثلة في الأهواء الدفينة وشهوات النفس المسيطرة على إرادات العقل فليس لهم من أمل في كسر قوة الكفر والظلم ودحر جحافل الشر التي تمالأت على عداوتهم وحربهم ‏.‏