.تفسير الآية رقم (19):
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}.قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرَ نَافِعٍ يُحْشَرُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَعْدَاءُ اللَّهِ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ.وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ، مِنَ السَّبْعَةِ نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، وَضَمِّ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَعْدَاءَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ وَاذْكُرْ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَيْ يُجْمَعُونَ إِلَى النَّارِ.وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ أَعْدَاءً، وَأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ- جَاءَ مَذْكُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ; فَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ لَهُ أَعْدَاءً، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ هُمْ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ جَزَاءَهُمُ النَّارُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [2/ 98]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [8/ 60]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} الْآيَةَ [60/ 1]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [20/ 39]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} الْآيَةَ [41/ 28]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ يُرَدُّ أَوَّلُهُمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَيَلْحَقُ آخِرُهُمْ بِأَوَّلِهِمْ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا جَمْيعًا، ثُمَّ يُدْفَعُونَ فِي النَّارِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: وَزَّعْتُ الْجَيْشَ، إِذَا حَبَسْتَ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ.وَأَصْلُ الْوَزَعِ الْكَفُّ، تَقُولُ الْعَرَبُ وَزَعَهُ يَزَعُهُ وَزَعًا فَهُوَ وَازِعٌ لَهُ، إِذَا كَفَّهُ عَنِ الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ** فَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحَ وَالشَّيْبُ وَازِعُوَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَلَنْ يَزَعَ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الْهَوَى ** مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَافِرُ الْعَقْلِ كَامِلُهُوَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى يُوزَعُونَ أَيْ يَكُفُّ أَوَّلَهُمْ عَنِ التَّقَدُّمِ وَآخِرَهُمْ عَنِ التَّأَخُّرِ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا جَمِيعًا.وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ سَوْقًا عَنِيفًا، يُجْمَعُ بِهِ أَوَّلُهُمْ مَعَ آخِرِهِمْ.وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ عِطَاشًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [19/ 86]. وَلَعَلَّ الْوَزَعَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ يَكُونُ فِي الزُّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ زُمَرِ أَهْلِ النَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ زُمَرًا زُمَرًا، كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} الْآيَةَ [39/ 71].
.تفسير الآية رقم (20):
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يس فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} الْآيَةَ [36/ 65]. وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [4/ 42].وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا مَعَ قَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [6/ 23].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}.قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ ص فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [38/ 27].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}.قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [16/ 84].
.تفسير الآية رقم (25):
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: قَيَّضْنَا عِبَارَاتٌ يَرْجِعُ بَعْضُهَا فِي الْمَعْنَى إِلَى بَعْضٍ.كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ أَيْ جِئْنَاهُمْ بِهِمْ، وَأَتَحْنَاهُمْ لَهُمْ.وَكَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ هَيَّأْنَا.وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ سَلَّطْنَا.وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَيْ بَعَثْنَا وَوَكَلْنَا.وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَيَّضْنَا أَيْ سَبَّبْنَا.وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَدَرْنَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ; فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَيَّأَ لِلْكَافِرِينَ قُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَيُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، وَقَدَّرَهُمْ عَلَيْهِمْ.وَالْقُرَنَاءُ: جَمْعُ قَرِينٍ، وَهُمْ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ عَلَى التَّحْقِيقِ.وَقَوْلُهُ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ- أَيْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا حَتَّى آثَرُوهُ عَلَى الْآخِرَةِ-وَمَا خَلْفَهُمْ أَيْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ.وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّضَ لِلْكُفَّارِ قُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْهُدَى- بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ.وَزَادَ فِي بَعْضِهَا سَبَبَ تَقْيِيضِهِمْ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَعَ إِضْلَالِهِمْ لَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَأَنَّ الْكَافِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِينِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ بُعْدٌ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ يَذُمُّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [43/ 36- 38].فَتَرْتِيبُهُ قَوْلَهُ:
{نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} عَلَى قَوْلِهِ:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ}- تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ تَقْيِيضِهِ لَهُ هُوَ غَفْلَتُهُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [114/ 4] لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ هُوَ كَثِيرُ الْوَسْوَسَةِ لِيُضِلَّ بِهَا النَّاسَ، وَالْخَنَّاسَ هُوَ كَثِيرُ التَّأَخُّرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ إِضْلَالِ النَّاسِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَنَسَ- بِالْفَتْحِ- يَخْنُسُ- بِالضَّمِّ- إِذَا تَأَخَّرَ.فَهُوَ وَسْوَاسٌ عِنْدَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، خَنَّاسٌ عِنْدَ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الزُّخْرُفِ الْمَذْكُورَةُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [16/ 99- 100] لِأَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ- غَافِلُونَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ قَيَّضَهُ اللَّهُ لَهُمْ فَأَضَلَّهُمْ.وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقْيِيضِ الشَّيَاطِينِ لِلْكُفَّارِ لِيُضِلُّوهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [19/ 83] وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} الْآيَةَ. وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَؤُزُّهُمْ أَزًّا.وَبَيَّنَّا أَيْضًا هُنَاكَ أَنَّ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} [6/ 128] أَيِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِضْلَالِ الْإِنْسِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ:
{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [7/ 202].وَمِنْهَا أَيضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} إِلَى قَوْلِهِ:
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [36/ 60- 62] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ:
{فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [43/ 38] عَلَى أَنَّ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ فُصِّلَتْ وَآيَةِ الزُّخْرُفِ وَغَيْرِهِمَا- جَدِيرِينَ بِالذَّمِّ الشَّدِيدِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ:
{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [4/ 38] لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَسَاءَ قَرِينًا بِمَعْنَى فَبِئْسَ الْقَرِينُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ سَاءَ وَبِئْسَ فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَاجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ وَاجْعَلْ فِعْلًا ** مِنْ ذِي ثَلَاثَةٍ كَنِعْمَ مُسْجَلَاوَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ قُرَنَاؤُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ- يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَشَدَّ الضَّلَالِ أَحْسَنَ الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ:
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [43/ 37] وَقَالَ تَعَالَى:
{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [7].وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ الْفَاسِدِ هُمْ أَخْسَرُ النَّاسِ أَعْمَالًا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [18/ 103- 104].وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [43/ 36] مِنْ قَوْلِهِمْ: عَشَا- بِالْفَتْحِ- عَنِ الشَّيْءِ يَعْشُو- بِالضَّمِّ- إِذَا ضَعُفَ بَصَرُهُ عَنْ إِدْرَاكِهِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ أَعْمَى الْقَلْبِ، فَبَصِيرَتُهُ تَضْعُفُ عَنِ الِاسْتِنَارَةِ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}.قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يس فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} الْآيَةَ [36/ 7].
.تفسير الآية رقم (26):
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [2/ 93].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}.مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِلَّذِينِ قَالُوا:
{رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}- ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَحْقَافِ:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [46/ 13- 14] لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالْوَعْدِ الصَّادِقِ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّةِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ الْأَحْقَافِ هَذِهِ- يَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.قَدْ أَوْضَحْنَاهُ مَعَ الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [7/ 199- 200].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ}.وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} الْآيَةَ [17/ 12] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} الْآيَةَ [41/ 37].قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [27/ 25].
.تفسير الآية رقم (38):
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} أَيْ فَإِنْ تَكَبَّرَ الْكُفَّارُ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ أَيْ يَعْبُدُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ أَيْ لَا يَمَلُّونَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ؛ لِاسْتِلْذَاذِهِمْ لَهَا وَحَلَاوَتِهَا عِنْدَهُمْ، مَعَ خَوْفِهِمْ مِنْهُ- جَلَّ وَعَلَا- كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [13/ 13].وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا- إِنْ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ خَلْقِهِ، فَإِنَّ بَعْضًا آخَرَ مِنْ خَلْقِهِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُطِيعُونَهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَيُلَازِمُونَ طَاعَتَهُ دَائِمًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيُطِيعُونَهُ دَائِمًا لَا يَفْتُرُونَ عَنْ ذَلِكَ.وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ دَلَّتْ عَلَيْهِمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ- قَدْ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: فَقَدْ ذَكَرَهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي قَوْلِهِ:
{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [6/ 89].وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَقَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ:
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [21/ 19- 20] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ:
{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [7/ 206] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ أَيْ لَا يَمَلُّونَ، وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ** ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمُ
.تفسير الآية رقم (39):
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}.هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مَعَ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَّا أَنَُُّ تِلْكَ الْآيَاتِ فِيهَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَكَرْنَا مَعَهَا الْآيَاتِ الَّتِي يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ بَرَاهِينَ قُرْآنِيَّةٍ.ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مَعَ مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} الْآيَةَ [15/ 15].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ}.قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [2/ 2] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ [17/ 82].
.تفسير الآية رقم (46):
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}.قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [41/ 7] وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [27/ 40].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.مَا ذَكَرَهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ:
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} [3/ 182]. وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْفَالِ:
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [8/ 51- 52]. وَقَوْلِهِ فِي الْحَجِّ:
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ} الْآيَةَ [22/ 10- 11]. وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ ق:
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [50/ 29].وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ ظَلَّامٍ فِيهَا صِيغَةُ مُبَالِغَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمُبَالِغَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ مِنْ أَصْلِهِ.فَقَوْلُكُ مَثَلًا: زِيدٌ لَيْسَ بِقَتَّالٍ لِلرِّجَالِ- لَا يَنْفِي إِلَّا مُبَالَغَتَهُ فِي قَتْلِهِمْ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ رُبَّمَا قَتَلَ بَعْضَ الرِّجَالِ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ- هُوَ نَفْيُ الظُّلْمِ مِنْ أَصْلِهِ.وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْيَ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ الظُّلْمِ مِنْ أَصْلِهِ.وَنَفْيُ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِذَا دَلَّتْ أَدِلَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ، فَلَا إِشْكَالَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُرَادِ.وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} الْآيَةَ [4/ 40]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [10/ 44]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [18/ 49]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الْآيَةَ [21/ 47]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَالْأَنْبِيَاءِ.الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا- نَفَى ظُلْمَهُ لِلْعَبِيدِ، وَالْعَبِيدُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالظُّلْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَتُهُمْ كَثْرَتَهُ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْمَنْفِيِّ التَّابِعَةِ لِكَثْرَةِ الْعَبِيدِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُمُ الظُّلْمُ، إِذْ لَوْ وَقَعَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ ظُلْمٌ، وَلَوْ قَلِيلًا، كَانَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، كَمَا تَرَى.وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ اتِّجَاهَ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ عَنْ كُلِّ عَبْدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ:
«يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» الْحَدِيثَ.الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسَوِّغَ لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ عَذَابَهُ تَعَالَى بَالِغٌ مِنَ الْعِظَمِ وَالشِّدَّةِ أَنَّهُ لَوْلَا اسْتِحْقَاقُ الْمُعَذَّبِينَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ بِكُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ- لَكَانَ مُعَذِّبُهُمْ بِهِ ظَلَّامًا بَلِيغَ الظُّلْمِ مُتَفَاقِمَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَشَارَ لَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نَفْيُ نِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَّالٍ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَتُغْنِي عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَمَعَ فَاعِلٍ وَفَعَّالٍ فَعِلَ ** فِي نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ الْيَا فَقُبِلْوَمَعْنَى الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الصِّيَغَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي هِيَ فَاعِلٌ كَظَالِمٍ وَفَعَّالٌ كَظَلَّامٍ وَفَعِلٌ كَفَرِحٍ- كُلٌّ مِنْهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، وَمِثَالُهُ فِي فَاعِلٍ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ فِي هَجْوِهِ الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ التَّمِيمِيِّ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ** وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِفَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الطَّاعِمُ الْكَاسِي- النِّسْبَةُ، أَيْ ذُو طَعَامٍ وَكُسْوَةٍ. وَقَوْلُ الْآخَرِ- وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ-:
وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ ** لَابِنٌ فِي الصَّيْفِ تَامِرْأَيْ ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ. وَقَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
كِلِينِي لَهُمْ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ ** وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِفَقَوْلُهُ: نَاصِبِ، أَيْ ذُو نَصَبٍ. وَمِثَالُهُ فِي فَعَّالٍ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعَنُنِي بِهِ ** وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّالِفَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ بِنَبَّالٍ، أَيْ لَيْسَ بِذِي نَبْلٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ، وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ.وَقَالَ الْأُشْمُونِيُّ بَعْدَ الِاسْتِشْهَادِ بِالْبَيْتِ الْمَذْكُورِ: قَالَ الْمُصَنَّفُ- يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ-: وَعَلَى هَذَا حَمَلَ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أَيْ بِذِي ظُلْمٍ. اهـ.وَمَا عَزَاهُ لِابْنِ مَالِكٍ جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَمِثَالُهُ فِي فَعِلٍ قَوْلُ الرَّاجِزِ- وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ-:
لَيْسَ بِلَيْلِي وَلَكِنِّي نَهِرٌ ** لَا أَدْلُجُ اللَّيْلَ وَلَكِنْ أَبْتَكِرْفَقَوْلُهُ: نَهِرٌ بِمَعْنَى نَهَارِيٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ مَعْنَى الظُّلْمِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ}.تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [7/ 187]. وَفِي الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [6/ 59].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}.قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} الْآيَةَ [13/ 8].