الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ بَيْتُ الْقَصِيدَةِ، وَأَوَّلُ الْجَرِيدَةِ وَغُرَّةُ الْكَتِيبَةِ، وَوَاسِطَةُ الْقِلَادَةِ، وَدُرَّةُ التَّاجِ، وَإِنْسَانُ الْحَدَقَةِ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ لِلْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ شَرِيفُ الْمَحَلِّ، عَظِيمُ الْمَكَانِ، قَلِيلُ الطُّلَّابِ، ضَعِيفُ الْأَصْحَابِ، لَيْسَتْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ، وَلَا ذَوُو بَصِيرَةٍ تَسْتَقْصِيهِ، وَهُوَ أَرَقُّ مِنَ الشِّعْرِ وَأَهْوَلُ مِنَ الْبَحْرِ، وَأَعْجَبُ مِنَ السِّحْرِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ، وَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الْكَافِلُ بِإِبْرَازِ إِعْجَازِ النَّظْمِ الْمُبِينِ، مَا أُودِعَ مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ، وَبَرَاعَةِ التَّرْكِيبِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ فِي الْحَلَاوَةِ، وَجَلَّلَهُ فِي رَوْنَقِ الطَّلَاوَةِ؛ مَعَ سُهُولَةِ كَلِمِهِ وَجَزَالَتِهَا، وَعُذُوبَتِهَا وَسَلَاسَتِهَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَرْجِعُ الْحُسْنُ إِلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى. وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ صِنَاعَةِ الْبَلَاغَةِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْمَعَانِي، فَلَمْ يَعُدَّ الْأَسَالِيبَ الْبَلِيغَةَ وَالْمَحَاسِنَ اللَّفْظِيَّةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضُوعَ مَجْمُوعُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ إِذِ اللَّفْظُ مَادَّةُ الْكَلَامِ الَّذِي مِنْهُ يَتَأَلَّفُ، وَمَتَى أُخْرِجَتِ الْأَلْفَاظُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعًا خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ الْمُعْتَبَرَةِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ إِلَّا بِهَا. وَهَا أَنَا أُلْقِي إِلَيْكَ مِنْهُ مَا يَقْضِي لَهُ الْبَلِيغُ عَجَبًا، وَيَهْتَزُّ بِهِ الْكَاتِبُ طَرَبًا: فَمِنْهُ التَّوْكِيدُ بِأَقْسَامِهِ، وَالْحَذْفُ بِأَقْسَامِهِ، الْإِيجَازُ، التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، الْقَلْبُ، الْمُدْرَجُ، الِاقْتِصَاصُ، التَّرَقِّي، التَّغْلِيبُ، الِالْتِفَاتُ، التَّضْمِينُ، وَضْعُ الْخَبَرِ مَوْضِعَ الطَّلَبِ، وَضْعُ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ، وَضْعُ النِّدَاءِ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ، وَضْعُ جُمْلَةِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ، تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ، تَأْنِيثُ الْمُذَكِّرِ، التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي، عَكْسُهُ، مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، النَّحْتُ، الْإِبْدَالُ، الْمُحَاذَاةُ، قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ وَالصِّفَاتِ، إِخْرَاجُ الْكَلَامِ مُخْرَجَ الشَّكِّ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، الْإِعْرَاضُ عَنْ صَرِيحِ الْحُكْمِ، الْهَدْمُ، التَّوَسُّعُ، الِاسْتِدْرَاجُ، التَّشْبِيهُ، الِاسْتِعَارَةُ، التَّوْرِيَةُ، التَّجْرِيدُ، التَّجْنِيسُ، الطِّبَاقُ، الْمُقَابَلَةُ، إِلْجَامُ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ، التَّقْسِيمُ، التَّعْدِيدُ، مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، قَاعِدَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعًا تَارَةً وَمُفْرَدًا أُخْرَى وَحِكْمَةُ ذَلِكَ، قَاعِدَةٌ أُخْرَى فِي الضَّمَائِرِ، قَاعِدَةٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ، التَّأَدُّبُ فِي الْخِطَابِ، تَقْدِيمُ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ، الْخِطَابُ بِالِاسْمِ، الْخِطَابُ بِالْفِعْلِ، قَاعِدَةٌ فِي ذِكْرِ الْمَوْصُولَاتِ وَالظَّرْفِ تَارَةً وَحَذْفِهَا أُخْرَى، قَاعِدَةٌ فِي النَّهْيِ وَدَفْعِ التَّنَاقُضِ عَمَّا يُوهِمُ ذَلِكَ. وَمِلَاكُ ذَلِكَ الْإِيجَازُ وَالْإِطْنَابُ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ؛ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ، وَأَنْشَدَ الْجَاحِظُ: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً *** وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
وَالْقَصْدُ مِنْهُ الْحَمْلُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ، لِيَصِيرَ وَاقِعًا، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَأْكِيدُ الْمَاضِي وَلَا الْحَاضِرِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ؛ وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِيهِمَا تَأْكِيدٌ وَلَا فِي اللُّغَةِ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الْأَوَّلِ. وَاعْتَرَضَ الْمُلْحِدُونَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِمَا فِيهِمَا مِنَ التَّأْكِيدَاتِ، وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا، وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْبَلَاغَةِ فِي النَّظْمِ إِيجَازُ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْنَى، وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَا يُمَلُّ، وَالْإِفَادَةُ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ لِقُصُورِ النَّفَسِ عَنْ تَأْدِيَةِ الْمُرَادِ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ، وَلِهَذَا أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ. وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى لِسَانِ الْقَوْمِ وَفِي لِسَانِهِمُ التَّأْكِيدُ وَالتَّكْرَارُ، وَخِطَابُهُ أَكْثَرُ؛ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَرَاعَةِ، وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُكَابِرٌ، إِذْ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ تَأْكِيدًا فَائِدَةٌ، فَإِنَّ الِاسْمَ لَا يُوضَعُ إِلَّا لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، بَلْ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. الثَّانِيَةُ: حَيْثُ وَقَعَ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا أَفَادَهُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ، حَكَاهُ الطَّرْطُوشِيُّ فِي " الْعُمَدِ " ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ سَمَّى التَّأْكِيدَ مَجَازًا؟ فَيُقَالُ لَهُ: إِذَا كَانَ التَّأْكِيدُ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ، نَحْوُ عَجِّلْ عَجِّلْ وَنَحْوُهُ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَجَازًا جَازَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا بَطَلَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَجَازِ بَطَلَ حَمْلُ الثَّانِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَوَّلِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ؛ فَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى التَّأْكِيدِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى مُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ. الرَّابِعَةُ: يَكْتَفِي فِي تِلْكَ بِأَيْ مَعْنًى كَانَ وَشَرْطٍ. وَمَا قَالَهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ حَتَّى يَحْذُوَ بِهِ حَذْوَ الْأَلْفَاظِ. الْخَامِسَةُ: فِي تَقْسِيمِهِ: وَهُوَ صِنَاعِيٌّ- يَتَعَلَّقُ بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ- وَمَعْنَوِيٌّ، وَأَقْسَامُهُ كَثِيرَةٌ، فَلْنَذْكُرْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا.
وَهُوَ قِسْمَانِ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، مِنْ أَقْسَامِ التَّأْكِيدِ فَاللَّفْظِيِّ: تَقْرِيرُ مَعْنَى الْأَوَّلِ بِلَفْظِهِ أَوْ مُرَادِفِهِ؛ فَمِنَ الْمُرَادِفِ: {فِجَاجًا سُبُلًا} (الْأَنْبِيَاءِ: 31)، (ضَيِّقًا حَرِجًا) (الْأَنْعَامِ: 125) فِي قِرَاءَةِ كَسْرِ الرَّاءِ. {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (فَاطِرٍ: 27). وَجَعَلَ الصَّفَّارُ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (الْأَحْقَافِ: 26) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كِلَاهُمَا لِلنَّفْيِ. وَاللَّفْظِيُّ: يَكُونُ فِي الِاسْمِ النَّكِرَةِ بِالْإِجْمَاعِ، نَحْوُ: {قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا} (الْإِنْسَانِ: 15 وَ 16) وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُصْفُورٍ مِنْهُ: {دَكًّا دَكًّا} (الْفَجْرِ: 21) وَ{صَفًّا صَفًّا} (الْفَجْرِ: 22) وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنًى (دَكًّا دَكًّا) [دَكًّا] (الْفَجْرِ: 21) بَعْدَ دَكٍّ، وَأَنَّ الدَّكَّ كُرِّرَ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَأَنَّ مَعْنَى {صَفًّا صَفًّا} أَنَّهُ تَنَزَّلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ يَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، مُحَدِّقِينَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الثَّانِي مِنْهُمَا تَكْرَارًا لِلْأَوَّلِ؛ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ؛ نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ رَجُلًا رَجُلًا، وَعَلَّمْتُهُ الْحِسَابَ بَابًا بَابًا. وَقَدْ ذِكْرَ ابْنُ جِنِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الْوَاقِعَةِ: 1)، {إِذَا رُجَّتِ} (الْوَاقِعَةِ: 4) أَنْ (رُجَّتِ) بَدَلٌ مِنْ (وَقَعَتْ)، وَكُرِّرَتْ (إِذَا) تَأْكِيدًا لِشِدَّةِ امْتِزَاجِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَيَكُونُ فِي اسْمِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 36) وَفِي الْجُمْلَةِ، نَحْوُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الِانْشِرَاحُ: 5 وَ 6) وَلِكَوْنِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّوْكِيدِ سَقَطَتْ مِنْ مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ قِرَاءَتِهِ. وَالْأَكْثَرُ فَصْلُ الْجُمْلَتَيْنِ بِـ " ثُمَّ " كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمَ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ} (الِانْفِطَارِ: 17 وَ 18)، {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التَّكَاثُرِ: 3 وَ 4). يَكُونُ فِي الْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} (هُودٍ: 108) وَالْأَكْثَرُ فِيهِ اتِّصَالُهُ بِالْمَذْكُورِ. وَزَعَمَ الْكُوفِيُّونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ التَّوْكِيدِ الْمُؤَكَّدِ، قَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: وَالسَّمَاعُ يَرُدُّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (هُودٍ: 19) فَإِنَّ " هُمُ " الثَّانِيَةَ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى. وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} (هُودٍ: 108) وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (الْبَقَرَةِ: 89) أَلَّا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} (الْبَقَرَةِ: 89) فَأَكَّدَ (لَمَّا) وَبَيْنَهُمَا كَلَامٌ، وَأَصْلُهُ: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} (الْبَقَرَةِ: 89) فَكُرِّرَ لِلطُّولِ الَّذِي بَيْنَ " لَمَّا " وَجَوَابِهَا. وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 35) فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ " أَنَّ " بَعْدَ مَا فَصَلَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الْجَاثِيَةِ: 3). .................................................. رَيْبَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْهَلَاكِ، وَإِنَّ قَوْمَ مُوسَى اجْتَمَعُوا فِي النَّجَاةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (يُوسُفَ: 93) فَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ، وَإِنْ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ اجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَعْنَى إِلَيْهِ، وَأَلَّا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ. وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَفْظًا وَمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُ: {كُلُّهُمْ} (الْحِجْرِ: 30) يُفِيدُ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ (أَجْمَعُونَ) قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي السُّجُودِ؛ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَكُنْ لِيَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عِنْدَهُ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وُقَّتَ لَهُمْ بِوَقْتٍ وَحُدَّ لَهُمْ بِحَدٍّ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ وَنَفْخِ الرُّوحِ، فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ سَجَدُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ؛ فَعَلَى هَذَا يُخَرِّجُ كَلَامَ الْمُبَرِّدِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ السُّجُودَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ عَلَى الْكُلِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص: 75) مَرْدُودٌ؛ بَلْ " الْعَالُونَ " الْمُتَكَبِّرُونَ؛ وَفِي رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ أَنَّ الْعَالِينَ هُمُ الْعُقُولُ الْعَاقَّةُ الَّتِي لَمْ تَسْجُدُ، وَهَذَا تَحْرِيفٌ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُقُولِ الَّتِي تَدَّعِيهَا الْفَلَاسِفَةُ. وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي أَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنْهُ لَيْسَ مِنْهُمْ عُنْصُرًا، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَتِ الْجَانُّ مِنَ النَّارِ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ وَهُوَ مِنْهُمْ حُكْمًا لِدُخُولِهِ فِي الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مَعَهُمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} (الْحِجْرِ: 59) فَلَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهُ ((كُلُّهُمْ)) لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْآيَةِ لَمْ تَحْسُنِ الزِّيَادَةُ فِي التَّأْكِيدِ، بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِلَّا امْرَأَتَهُ} (الْحِجْرِ: 60). وَمِنْهَا قَصْدُ تَحْقِيقِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ} (الْبَقَرَةِ: 30) فَأُكِّدَ بِإِنَّ وَبَاسِمِ الْفَاعِلِ؛ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَاكِّينَ فِي الْخَبَرِ. وَمِثْلُهُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزُّمَرِ: 30). وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ نُوحٍ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} (نُوحٍ: 27). وَمِنْهَا قَصْدُ إِغَاظَةِ السَّامِعِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ؛ كَقَوْلِهِ: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يس: 3). وَمِنْهَا؛ التَّرْغِيبُ كَقَوْلِهِ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (الْبَقَرَةِ: 54) أَكَّدَهُ بِأَرْبَعِ تَأْكِيدَاتٍ، وَهِيَ: إِنَّ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَالْمُبَالَغَتَانِ مَعَ الصِّفَتَيْنِ لَهُ، لِيَدُلَّ عَلَى تَرْغِيبِ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي التَّوْبَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ طَمِعَ فِي عَفْوِهِ، وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التَّوْبَةِ: 40). وَمِنْهَا؛ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (الْبَقَرَةِ: 38) دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى (يَأْتِيَنَّكُمْ هُدًى) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (يُونُسَ: 57)، {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (النِّسَاءِ: 174). وَمِنْهَا؛ التَّعْرِيضُ بِأَمْرٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} (الْقَصَصِ: 16) وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مَنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (الْقَصَصِ: 24) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} (آلِ عِمْرَانَ: 36) تَعْرِيضًا بِسُؤَالِ قَبُولِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ تَطْلُبُ لِلنَّذْرِ ذَكَرًا. تنبيهانِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ لِلْحَاجَةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذِكْرِ مَا لَا فَائِدَةَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ سَاذَجًا أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ خَالِيًا عَنِ التَّأْكِيدِ، وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِيهِ حَسُنَ تَقْوِيَتُهُ بِمُؤَكَّدٍ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ تَأْكِيدُهُ. وَيُرَاعَى فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ حَالِ الْمُنْكِرِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ رُسُلِ عِيسَى: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} (يس: 16) الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَفَوْا رِسَالَتَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ أَحَدُهَا: قَوْلُهُمْ {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (يس: 15) وَالثَّانِي: قَوْلُهُمْ: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} (يس: 15) وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} (يس: 15) فَقُوبِلُوا عَلَى نَظِيرِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ أَحَدُهَا: قَوْلُهُمْ: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} (يس: 16) وُوجِهَ التَّأْكِيدُ فِيهِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى قَسَمٍ، وَ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 16) وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (يس: 17). وَقَدْ يَنْزِلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكَرِ، وَعَكْسُهُ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبْعَثُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 15 وَ 16) أُكِّدَتِ الْأَمَانَةُ تَأْكِيدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا، لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطِبِينَ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ الْمَوْتَ، وَأُكِّدَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَدِلَّتُهُ ظَاهِرَةً كَانَ جَدِيرًا بِأَلَّا يَتَكَرَّرَ وَيَتَرَدَّدَ فِيهِ، حَثًّا لَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهِ الْوَاضِحَةِ. الثَّانِي: قَالَ التَّنُوخِيُّ فِي أَقْصَى الْقَرِيبِ: إِذَا قَصَدُوا مُجَرَّدَ الْخَبَرِ أَتَوْا بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَإِنْ أَكَّدُوا فَبِالِاسْمِيَّةِ، ثُمَّ بِإِنَّ، ثُمَّ بِهَا، وَبِاللَّامِ. وَقَدْ تُؤَكَّدُ الْفِعْلِيَّةُ بِقَدْ، وَإِنِ احْتِيجَ بِأَكْثَرَ جِيءَ بِالْقَسَمِ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ؛ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الِاسْمِيَّةُ بِاللَّامِ فَقَطْ؛ نَحْوُ: لَزَيْدٌ قَائِمٌ، وَقَدْ تَجِيءُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ مُضْمَرَةً بَعْدَ اللَّامِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَلَى دَرَجَاتٍ: قَامَ زَيْدٌ، ثُمَّ لَقَدْ قَامَ. فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلِيَّةَ كَأَنَّهَا دُونَ الِاسْمِيَّةِ- ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَلَزَيْدٌ قَائِمٌ.
[مَا يَلْتَحِقُ بِالتَّأْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ] وَيَلْتَحِقُ بِالتَّأْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: تَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 63). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النِّسَاءِ: 164)، {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 56) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} (الطُّورِ: 9 وَ 10) {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النَّمْلِ: 88). {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الْحَاقَّةِ: 14)، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزَّلْزَلَةِ: 1)، {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} (يُوسُفَ: 5) وَهُوَ كَثِيرٌ. قَالُوا: وَهُوَ عِوَضٌ عَنْ تَكْرَارِ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ؛ فَقَوْلُكَ: ضَرَبْتُ ضَرْبًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ ضَرَبْتُ، ثُمَّ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ، وَاعْتَاضُوا عَنِ الْجُمْلَةِ بِالْمُفْرَدِ. وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظَّنُونَا} (الْأَحْزَابِ: 10) بَلْ هُوَ جَمْعُ ظَنٍّ، وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، قَالَهُ ابْنُ الدَّهَّانِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَائِدَتِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَرْفَعُ الْمَجَازَ عَنِ الْفَاعِلِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ اللِّصَّ، وَلَا يَكُونُ بَاشِرْ بَلْ أَمَرَ بِهِ؛ فَإِنْ قُلْتَ: ضَرَبًا، عُلِمَ أَنَّهُ بَاشَرَ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ثَعْلَبٌ فِي " أَمَالِيهِ "، وَابْنُ عُصْفُورٍ فِي شَرْحِ الْجَمَلِ الصَّغِيرِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْوَهْمَ عَنِ الْحَدِيثِ لَا عَنِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ؛ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ، احْتُمِلَ مَجَازَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِطْلَاقُ الضَّرْبِ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ، وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ الْأَمِيرِ عَلَى أَمْرِهِ، فَإِذَا أَرَدْتَ رَفْعَ الْأَوَّلِ أَتَيْتَ بِالْمَصْدَرِ، فَقُلْتَ: ضَرْبًا، وَإِنْ أَرَدْتَ الثَّانِيَ قُلْتَ: نَفْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ. وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ ضَعْفَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ لِمُوسَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النِّسَاءِ: 164) فَإِنَّهُ لِمَا أُرِيدَ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ، قَالَ: (تَكْلِيمًا) وَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ حَقِيقَةً؛ أَمَّا تَأْكِيدُ فَاعِلِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ. وَلَقَدْ سَخُفَ عَقْلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِأَظْفَارِ الْمِحَنِ؛ مِنَ الْكَلْمِ؛ وَهُوَ الْجُرْحُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي بَيَانِ الْوَحْيِ. وَيُحْكَى أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ التَّكْلِيمِ حَقِيقَةً بِالْآيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُؤَكِّدُ، فَسَلَّمَ الْمُعْتَزِلِيُّ لَهُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَأَرَادَ دَفْعَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَادَّعَى أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا هُوَ (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى) بِنَصْبِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَجَعَلَ مُوسَى فَاعِلًا بِـ " كَلَّمَ " وَأَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ وَكَابَرَ، فَقَالَ السُّنِّيُّ: فَمَاذَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (الْأَعْرَافِ: 143) فَانْقَطَعَ الْمُعْتَزِلِيُّ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَرَعْتُ ظَنَابِيبَ الْهَوَى يَوْمَ عَالِجٍ *** وَيَوْمَ اللِّوَى حَتَّى قَسَرْتُ الْهَوَى قَسْرًا قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} (النَّمْلِ: 50) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (نُوحٍ: 9) فَمَفْعُولُ (أَسْرَرْتُ) مَحْذُوفٌ، أَيِ الدُّعَاءَ وَالْإِنْذَارَ وَنَحْوَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: التَّأْكِيدُ يُنَافِي الْحَذْفَ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُصَدِّرَ لَمْ يُؤْتَ بِهِ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ، وَإِنْ كَانَ بِصُورَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ، وَلِهَذَا لَمْ يُؤْتَ بِمَصْدَرٍ (أَعْلَنْتُ) وَهُوَ مِثْلُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ " أَسْرَّ " وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْأَصْلِ، إِلَّا أَنَّهُ هُنَا قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ مَفْعُولِهِ، وَجُعِلَ نَسْيًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فُلَانٌ يُعْطَى وَيُمْنَعُ. فَصَارَ لِذَلِكَ كَاللَّازِمِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَجِيءِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ لَوْ كَانَ. ثُمَّ التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ تَارَةً يَجِيءُ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ، وَتَارَةً يَجِيءُ مِنْ مُرَادِفِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} (نُوحٍ: 8) فَإِنَّ الْجِهَارَ أَحَدُ نَوْعَيِ الدُّعَاءِ وَقَوْلُهُ: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} (النِّسَاءِ: 46) فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} (النِّسَاءِ: 46) لِأَنَّ (لَيًّا) نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا} (النِّسَاءِ: 20) لِأَنَّ الْبُهْتَانَ ظُلْمٌ، وَالْأَخْذُ عَلَى نَوْعَيْنِ: ظَلَمٌ وَغَيْرُهُ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: {نَافِلَةً لَكَ} (الْإِسْرَاءِ: 79) وُضِعَ مَوْضِعَ " تَهَجُّدًا "؛ لِأَنَّ التَّهَجُّدَ عِبَادَةٌ زَائِدَةٌ، فَكَانَ التَّهَجُّدُ وَالنَّافِلَةُ يَجْمَعُهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (النِّسَاءِ: 122) قِيلَ: كَانَ الْأَصْلُ تَكْرَارَ الصِّدْقِ بِلَفْظِهِ، فَاسْتُثْقِلَ التَّكْرَارُ لِلتَّقَارُبِ، فَعُدِلَ إِلَى مَا يُجَارِيهِ خِفَّةً وَلِتُجْرَى الْمَصَادِرُ الثَّلَاثَةُ مَجْرَى وَاحِدٍ، خِفَّةً وَوَزْنًا، إِحْرَازًا لِلتَّنَاسُبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (نُوحٍ: 17 وَ 18) فَفَائِدَةُ (إِخْرَاجًا) أَنَّ الْمَعَادَ فِي الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا بِعَيْنِهِ، دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْهَا أَمْثَالُهُمْ؛ وَأَنَّ الْمَبْعُوثَ الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَةُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَبْطُلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (نُوحٍ: 17) فَإِنَّهُ أَكَّدَ بِالْمَصْدَرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ النَّبَاتِ. قُلْتُ: لَا جَرَمَ حَيْثُ لَمْ يَرُدَّ الْحَقِيقَةَ هُنَا لَمْ يُؤَكِّدْهُ بِالْمَصْدَرِ الْحَقِيقِيِّ الْقِيَاسِيِّ؛ بَلْ عُدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْدَرَ أَنْبَتَ الْإِنْبَاتُ، وَالنَّبَاتُ اسْمُهُ لَا هُوَ، كَمَا قِيلَ فِي الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّسْلِيمُ؛ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (الْمُزَّمِّلِ: 8) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى تَبَتُّلٍ لَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى بِتَّلْ نَفْسَكَ تَبَتُّلًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (الْإِسْرَاءِ: 43) قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَوْضِعُ تَعَالِيًا لِأَنَّهُ مَصْدَرُ قَوْلِهِ: (وَتَعَالَى) وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مَعْنَاهُ، وَكَذَا قَالَ الرَّاغِبُ. قَالَ: وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّفَاعُلِ مِنَ التَّكَلُّفِ، كَمَا يَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} (الطُّورِ: 9 وَ 10) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجُمْلَةُ الْفَاعِلِيَّةُ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فِي مُفْرَدَيْهَا جَمِيعًا، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا؛ مِثَالُهُ هَاهُنَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ إِنَّ الْمَجَازَ فِي (تَمُورُ) وَأَنَّهَا مَا تَمُورُ، بَلْ تَكَادُ، أَوْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا تَمُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَجَازَ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ الْمَوْرَ الْحَقِيقِيَّ لِسُكَّانِهَا وَأَهْلِهَا لِشِدَّةِ الْأَمْرِ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} (الطُّورِ: 10) فَإِذَا رُفِعَ الْمَجَازُ عَنْ أَحَدِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ نُفِيَ احْتِمَالُهُ فِي الْآخَرِ، فَلَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ. وَأُجِيبَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ (مَوْرًا) فِي تَقْدِيرِ تَمُورُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَمُورُ السَّمَاءُ، تَمُورُ السَّمَاءُ. وَتَسِيرُ الْجِبَالُ، تَسِيرُ الْجِبَالُ. فَأَكَّدَ كُلًّا مِنَ الْجُزْأَيْنِ بِنَظِيرِهِ، وَزَالَ الْإِشْكَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} (الْأَنْعَامِ: 80) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ (شَيْئًا) مِنْ تَأْكِيدِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُ بَيْعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالتِّبْيَانِ؛ وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي أَمْرًا، أَوْ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ. وَانْظُرْ كَيْفَ ذُكِرَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ. وَقَوْلُ الْبَيَانِيَّيْنِ: إِنَّهُ يَجِبُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ عَامًّا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {دَكًّا دَكًّا} (الْفَجْرِ: 21) فَالْمُرَادُ بِهِ التَّتَابُعَ، أَيْ دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {صَفًّا صَفًّا} (الْفَجْرِ: 22) أَيْ صَفًّا يَتْلُوهُ صَفٌّ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاحِدِ لَا يَحْتَمِلُ صَفًّا وَاحِدًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزَّلْزَلَةِ: 1) فَإِنَّ إِضَافَةَ الزِّلْزَالِ إِلَيْهَا يُفِيدُ مَعْنَى ذَاتِهَا، وَهُوَ زِلْزَالُهَا الْمُخْتَصُّ بِهَا، الْمَعْرُوفُ مِنْهَا، الْمُتَوَقَّعُ كَمَا تَقُولُ: غَضِبَ زَيْدٌ غَضَبَهُ، وَقَاتَلَ زَيْدٌ قِتَالَهُ، أَيْ غَضَبَهُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ، وَقِتَالَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، كَقَوْلِهِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي *** وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الْمَصْدَرِ وَالْمُؤَكَّدِ أَنْ يَجِيءَ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ، نَحْوُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النِّسَاءِ: 164) وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (الْمُزَّمِّلُ: 8) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا} (الْمَائِدَةِ: 115) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (الْحَدِيدِ: 11) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (نُوحٍ: 17) وَلَمْ يَقُلْ تَبَتُّلًا وَتَعْذِيبًا وَإِقْرَاضًا وَإِنْبَاتًا. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَضَعَ الِاسْمَ مِنْهَا مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُجْرَى عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ دَلِيلًا عَلَى الْمُضْمَرِ، فَالْمَعْنَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (نُوحٍ: 17) فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ خَرُوفٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ يَعِيشَ، وَنَازِعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَارِيَةً عَلَيْهَا. وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلِ غَيْرُ مُعَبِّرٍ بِمَعْنَى مَصْدَرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (نُوحٍ: 17) أَيْ وَنَبَتُّمْ؛ أَيْ وَسَاغَ إِضْمَارُهُ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا أُنْبِتُوا فَقَدْ نَبَتُوا، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُنْصَبَ بِالظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْمَصْدَرِ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الَّذِي نَصَبَهُ، أَوْ تَبْيِينُ مَعْنَاهُ. وَإِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ مُغَايِرًا لِمَعْنَى الْفِعْلِ الظَّاهِرِ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِنْبَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَاهُ، فَكَيْفَ يُؤَكِّدُهُ أَوْ يُبَيِّنُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} (الْبَقَرَةِ: 282) فَإِنَّمَا ذِكْرُ قَوْلِهِ: (بِدَيْنٍ) مَعَ (تَدَايَنْتُمْ) يَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِيَعُودَ الضَّمِيرُ فِي (فَاكْتُبُوهُ) عَلَيْهِ إِذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَقَالَ: فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ (تَدَايَنْتُمْ) لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْنِ. الثَّانِي: أَنْ (تَدَايَنْتُمْ) مُفَاعَلَةٌ مِنَ الدَّيْنِ، وَمِنَ الدِّينِ، فَاحْتِيجَ إِلَى قَوْلِهِ: (بِدَيْنٍ) لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لَا مِنَ الدِّينِ. وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى إِرَادَةِ الدَّيْنِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: (بِدَيْنٍ) إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هُوَ بَيْعٌ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (تَدَايَنْتُمْ) مُفَاعَلَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُودَ الدَّيْنِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَلَمَّا قَالَ: بَدَيْنٍ، عُلِمَ أَنَّهُ دَيْنٌ وَاحِدٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْإِشْهَادَ مَطْلُوبٌ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا؛ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} (النِّسَاءِ: 176) وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} (الْبَقَرَةِ: 282). الْخَامِسُ: أَنَّ (تَدَايَنْتُمْ) مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاقْتِرَاضِ وَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُجَازَاةِ، وَذُكِرَ الدَّيْنُ لِتَمْيِيزِ الْمُرَادِ، قَالَ الْحَمَاسِيُّ: وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا *** نِ دَنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ مَعَ ظُهُورِهِ فِيمَا قَبْلَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 37) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} (التَّوْبَةِ: 111) وَقَوْلُهُ: {سَأَلَ سَائِلٌ} (الْمَعَارِجِ: 1) فَيُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ فِيهِمَا، أَوْ بِضَمِيرِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِمَّا قَبِلَهُ؟ وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النَّمْلِ: 88) فَإِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النَّمْلِ: 88) لِأَنَّ ذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعْدَ اللَّهِ} (الرُّومِ: 6) تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} (الرُّومِ: 4، 5) لِأَنَّ هَذَا وَعْدُ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (آلِ عِمْرَانَ: 145) انْتَصَبَ (كِتَابًا) عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيرُهُ: وَكَتَبَ اللَّهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 145) يَدُلُّ عَلَى كَتَبَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (النِّسَاءِ: 24) تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} (النِّسَاءِ: 23) الْآيَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا، وَانْتَصَبَ الْمَصْدَرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ، فَكَأَنَّهُ فَعْلٌ تَقْدِيرُهُ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ بِعَلَيْكُمْ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَقُدِّمَ الْمَنْصُوبُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ التَّقْدِيرِ. وَقَوْلُهُ: {صِبْغَةَ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 138) تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (الْبَقَرَةِ: 137) لِأَنَّ هَذَا دِينُ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزُّمَرِ: 3) مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ؛ لِأَنَّ الزُّلْفَى مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى، (وَيُقَرِّبُونَا) يَدُلُّ عَلَى يُزَلِّفُونَا، فَتَقْدِيرُهُ: يُزَلِّفُونَا زُلْفَى. وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ مَعَ حَذْفِ عَامِلِهِ، كَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 4) وَالْمَعْنَى: فَإِمَّا تَمُنُّوا مَنًّا، وَإِمَّا إِنْ تُفَادُوا فِدَاءً، فَهُمَا مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ. وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِنَفْسِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السَّجْدَةِ: 7) لِأَنَّهُ إِذَا أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا، فَيَكُونُ (خَلَقَهُ) عَلَى مَعْنَى خَلَقَهُ خَلْقًا، وَالضَّمِيرُ هُوَ اللَّهُ- تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ؛ أَيْ أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ الصَّفَّارُ: وَالَّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَنَّ فِي هَذَا إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَكْثَرُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْسِنُ الْخَلْقَ وَهُوَ الْمُحَاوَلَةُ، وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا، وَإِذَا قَالَ: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ، اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنٌ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ.
فَائِدَتَانِ الْأُولَى: هَلِ الْأَوْلَى التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ أَوِ الْفِعْلِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَصْدَرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ وَهُوَ أَخَفُّ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ الضَّمِيرَ فَيَكُونُ جُمْلَةً، فَيَزْدَادُ ثِقَلًا؛ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْفِعْلَ أَوْلَى لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ. الثَّانِيَةُ: حَيْثُ أُكِّدَ الْمَصْدَرُ النَّوْعِيُّ، فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُنْعَتَ بِالْوَصْفِ الْمُرَادِ مِنْهُ، نَحْوُ: قُمْتُ قِيَامًا حَسَنًا، {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الْأَحْزَابِ: 49) وَقَوْلُهُ: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الْأَحْزَابِ: 41). وَقَدْ يُضَافُ الْوَصْفُ إِلَى الْمَصْدَرِ فَيُعْطَى حُكْمَ الْمَصْدَرِ، قَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 102). الثَّانِي: الْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ، وَهِيَ الْآتِيَةُ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَعَكْسُ الْمُبِيِّنَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مُنْتَقِلَةً، وَهِيَ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِنَفْسِهِ؛ وَسُمِّيَتْ مُؤَكِّدَةً لِأَنَّهَا تُعْلَمُ قَبْلَ ذِكْرِهَا، فَيَكُونُ ذِكْرُهَا تَوْكِيدًا؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِهَا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (مَرْيَمَ: 33). وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 36). {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} (النَّمْلِ: 19) لِأَنَّ مَعْنَى تَبَسَّمَ: ضَحِكَ مَسْرُورًا. وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} (النِّسَاءِ: 79). {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (الْبَقَرَةِ: 83) وَذُكِرَ الْإِعْرَاضُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الضَّلَالِ. وَمِثْلُهُ: {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 84) إِذْ مَعْنَى الْإِقْرَارُ أَقْرَبُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ وَالشَّهَادَةَ حَالَانِ لَهُمْ عِنْدَ التَّوَلِّي وَالْإِقْرَارِ. وَقَوْلِهِ: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (ق: 31). وَقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (هُودٍ: 108) فَإِنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، لِقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} (هُودٍ: 108) وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحَالِ الِانْتِقَالُ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ شَرْطٌ فِي غَيْرِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَقِفِ ابْنُ جِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَدَّرَ مَحْذُوفًا؛ أَيْ مُعْتَقَدًا خُلُودَهُمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِهَذَا سَاغَ مَجِيئُهَا غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي التَّأْكِيدِ فِي بَعْضِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ الْمُؤَكِّدَةَ مَفْهُومَهَا مَفْهُومُ عَامِلِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّبَسُّمُ وَالضَّحِكُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْغَضْبَانِ. وَكَذَلِكَ: التَّوْلِيَةُ وَالْإِدْبَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَّى مُدْبِرًا} (النَّمْلِ: 10)، {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التَّوْبَةِ: 25) فَإِنَّهُمَا بِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ، فَالتَّوْلِيَةُ أَنْ يُوَلِّيَ الشَّيْءَ ظَهْرَهُ، وَالْإِدْبَارُ أَنْ يَهْرَبَ مِنْهُ، فَلَيْسَ كُلُّ مُوَلٍّ مُدْبِرًا، وَلَا كُلُّ مُدْبِرٍ مُوَلِّيًا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (النَّمْلِ: 80) فَلَوْ كَانَ أَصَمَّ مُقْبِلًا لَمْ يَسْمَعْ، فَإِذَا وَلَّى ظَهْرَهُ كَانَ أَبْعَدَ لَهُ مِنَ السَّمَاعِ، فَإِذَا أَدْبَرَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ لِبُعْدِهِ عَنِ السَّمَاعِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِدْبَارَ قَوْلُهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الْبَقَرَةِ: 144) فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْإِقْبَالِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} (النَّمْلِ: 10) إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي الْهُرُوبِ، وَعَدَمِ رُجُوعِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَلَّى إِذَا رَجَعَ، وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: لَمْ يَقِفْ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} (النِّسَاءِ: 79) قِيلَ: لَيْسَتْ بِمُؤَكَّدَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَلَ قَدْ لَا يَكُونُ رَسُولًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذَّارِيَاتِ: 41). وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} (الْبَقَرَةِ: 91) جَعَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْرِبِينَ مُؤَكَّدَةً؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْحَقِّ التَّصْدِيقُ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَأْكِيدَ الْعَامِلِ، وَأَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَأْكِيدَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ. وَدَعْوَى التَّأْكِيدِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا فِي نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَقًّا وَكَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ (مُصَدِّقًا) حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لَا مُؤَكِّدَةٌ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا الْحَقُّ، لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الثَّابِتِ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ " الْحَقُّ " لِتَأَوُّلِهِ بِالْمُشْتَقِّ. وَقَوْلِهِ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (آلِ عِمْرَانَ: 18) فَقَائِمًا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهِ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ}، فَهِيَ لَازِمَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَقَدْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى، عَلَى مَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَقَائِمٌ بِالْقِسْطِ، فَإِنَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالصِّفَتَيْنِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمَا، فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَالِ الِاتِّصَافِ بِالْأُخْرَى، وَهُوَ- سُبْحَانُهُ- لَمْ يَزَلْ بِهِمَا لِأَنَّ صِفَاتِهِ ذَاتِيَّةٌ قَدِيمَةٌ.
فَائِدَةٌ: [عَنْ صَاحِبِ الْمُفَصَّلِ فِي وُقُوعِ الْحَالِ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ] قَالَ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ: لَا تَقَعُ الْمُؤَكِّدَةُ إِلَّا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ: إِنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ الْجُمْلَتَيْنِ مُحْتَجًّا بِمَا سَبَقَ، وَكَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (النَّمْلِ: 80) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} (النَّمْلِ: 10) فَمُدْبِرِينَ، وَمُدْبِرًا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِفِعْلِ التَّوْلِيَةِ.
الْأَوَّلُ: التَّأْكِيدُ بِـ " إِنَّ " قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (فَاطِرٍ: 5) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الْحَجِّ: 1) وَهِيَ أَقْوَى مِنَ التَّأْكِيدِ بِاللَّامِ، كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، قَالَ: وَأَكْثَرُ مَوَاقِعِ " إِنَّ " بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاءِ هُوَ الْجَوَابُ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ " إِنْ " يَكُونُ لِلسَّائِلِ فِيهِ ظَنٌّ بِخِلَافِ مَا أَنْتَ تُجِيبُهُ بِهِ؛ فَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ مَرَدَّ الْجَوَابِ أَصْلًا فِيهَا فَلَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَوْلِكَ: صَالِحٌ فِي جَوَابِ: كَيْفَ زَيْدٌ؟ حَتَّى تَقُولَ: إِنَّهُ صَالِحٌ، وَلَا قَائِلَ بِهِ، بِخِلَافِ اللَّامِ فَإِنَّهُ لَا يُلْحَظُ فِيهَا غَيْرُ أَصْلِ الْجَوَابِ. وَقَدْ يَجِيءُ مَعَ التَّأْكِيدِ فِي تَقْدِيرِ سُؤَالِ السَّائِلِ إِذَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْكَلَامِ مَا يُلَوِّحُ نَفْسَهُ لِلنَّفْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الْحَجِّ: 1) أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى ثُمَّ عَلَّلَ وُجُوبَهَا مُجِيبًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِذِكْرِ السَّاعَةِ وَاصِفًا لَهَا بِأَهْوَلِ وَصْفٍ، لِيُقَرِّرَ عَلَيْهِ الْوُجُوبَ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هُودٍ: 37) أَيْ لَا تَدْعُنِي فِي شَأْنِهِمْ وَاسْتِدْفَاعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ بِشَفَاعَتِكَ، لِأَنَّهُمْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْرَاقِ، وَقَدْ جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَفِّهِ عَنْهُمْ. وَمِثْلُهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الدُّعَاءِ لِمَنْ وَجَبَتْ شَقَاوَتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} (هُودٍ: 76). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يُوسُفَ: 53) فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أَوْرَثَ لِلْمُخَاطَبِ حَيْرَةً: كَيْفَ لَا يُنَزِّهُ نَفْسَهُ مَعَ كَوْنِهَا مُطَمْئِنَةً زَكِيَّةً! فَأَزَالَ حَيْرَتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ} فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ (بِالسُّوءِ) إِلَّا الْمَعْصُومَ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 103). وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ صُدِّرَتْ بِـ إِنَّ لِإِظْهَارِ فَائِدَةٍ، الْأُولَى مُفِيدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَجَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ؛ فَإِنَّ الْفَاءَ يَصِحُّ أَنْ تَقُومَ فِيهَا مَقَامَ " إِنَّ " مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ، حَسُنَ تَجْرِيدُهَا عَنْ كَوْنِهَا جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ، كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. وَإِنْ صُدِّرَتْ لِإِظْهَارِ فَائِدَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ قِيَامُ الْفَاءِ مَقَامَهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 101) بَعْدَ قَوْلِهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 100). وَمِنْ فَوَائِدِهَا تَحْسِينُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَعَهَا إِذَا فُسِّرَ بِالْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ مَا لَا يَحْسُنُ بِدُونِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} (يُوسُفَ: 90)، {أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (التَّوْبَةِ: 63)، {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} (الْأَنْعَامِ: 54)، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 117) وَأَمَّا حُسْنُهُ بِدُونِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) فَلِفَوَاتِ الشَّرْطِ. الثَّانِي: " أَنَّ " الْمَفْتُوحَةُ، نَحْوُ: عَلِمْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَهِيَ حَرْفٌ مُؤَكِّدٌ كَالْمَكْسُورَةِ؛ نَصَّ عَلَيْهِ النُّحَاةُ، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ: لِأَنَّكَ لَوْ صَرَّحْتَ بِالْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا لَمْ يُفِدْ تَوْكِيدًا؛ وَيُقَالُ: التَّوْكِيدُ لِلْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِأَنَّ مَحَلَّهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا الْمُفْرَدُ؛ وَبِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ " إِنَّ " الْمَكْسُورَةِ؛ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ فِي الْمَكْسُورَةِ لِلْإِسْنَادِ، وَهَذِهِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. الثَّالِثُ: " كَأَنَّ " وَفِيهَا التَّشْبِيهُ الْمُؤَكِّدُ إِنْ كَانَتْ بَسِيطَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَ أَنَّ فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ، لِأَنَّ فِيهَا مَا سَبَقَ وَزِيَادَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ- أَيْ بَيْنِ قَوْلِكَ: كَأَنَّهُ أَسَدٌ، وَبَيْنَ: أَنَّهُ كَالْأَسَدِ، أَنَّكَ مَعَ كَأَنَّ بَانٍ عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ صَدْرِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ: اشْتَرَكَ الْكَافُ، وَكَأَنَّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّشْبِيهِ، وَكَأَنَّ أَبْلَغُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ حَازِمٌ فِي مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ، وَقَالَ: وَهِيَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَقْوَى الشَّبَهُ؛ حَتَّى يَكَادَ الرَّائِي يَشُكُّ فِي أَنَّ الْمُشَبَّهَ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَوْ غَيْرُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ بِلْقِيسُ: {كَأَنَّهُ هُوَ} (النَّمْلِ: 42). الرَّابِعُ: لَكِنْ لِتَأْكِيدِ الْجُمَلِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ، وَالتَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى: وَقِيلَ لِلتَّأْكِيدِ مَعَ الِاسْتِدْرَاكِ. وَقِيلَ: لِلِاسْتِدْرَاكِ الْمُجَرَّدِ، وَهِيَ أَنْ يُثْبِتَ لِمَا بَعْدَهَا حُكْمٌ يُخَالِفُ مَا قَبِلَهَا؛ وَمِثْلُهَا " لَيْتَ "، وَلَعَلَّ، وَ " لَعَنَّ " فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ هَمْزَةَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ عَيْنًا؛ وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ: التَّنُوخِيُّ. الْخَامِسُ: لَامُ الِابْتِدَاءِ نَحْوُ: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (إِبْرَاهِيمَ: 39) وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا زَحْلَقُوهَا فِي بَابِ " إِنَّ " عَنْ صَدْرِ الْجُمْلَةِ كَرَاهِيَةَ ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ بِمُؤَكِّدَيْنِ، وَلِأَنَّهَا تَدُلُّ بِجِهَةِ التَّأْكِيدِ، وَإِنَّ تَدُلُّ بِجِهَتَيْنِ: الْعَمَلُ وَالتَّأْكِيدُ، وَالدَّالُّ بِجِهَتَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِ بِجِهَةٍ كَنَظِيرِهِ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا جَاءَتْ مَعَ " إِنَّ " كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِأَنَّ " إِنَّ " أَفَادَتِ التَّكْرِيرَ مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا دَخَلَتِ اللَّامُ صَارَتْ ثَلَاثًا. وَعَنِ الْكِسَائِيُّ أَنَّ اللَّامَ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ، وَإِنَّ لِتَأْكِيدِ الِاسْمِ؛ وَفِيهِ تَجَوُّزٌ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ إِنَّمَا هُوَ لِلنِّسْبَةِ لَا لِلِاسْمِ وَالْخَبَرِ. السَّادِسُ: الْفَصْلُ؛ وَهُوَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الْجُمْلَةِ؛ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} (الْكَهْفِ: 39)، (أَنَا) وَصْفٌ لِلْيَاءِ فِي (تَرَنِ) يَزِيدُ تَأْكِيدًا وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُضْمَرَ يُؤَكِّدُ الضَّمِيرَ، وَأَمَّا تَأْكِيدُ الْمُظْهَرِ بِالْمُضْمَرِ فَلَمْ يُعْهَدْ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ " دُعَامَةً "، لِأَنَّهُ يُدَعَّمُ بِهِ الْكَلَامُ، أَيْ يَقْوَى، وَلِهَذَا قَالُوا: لَا يُجَاءُ مَعَ التَّوْكِيدِ، فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ نَفْسُهُ هُوَ الْفَاضِلُ. وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ، وَخَالَفَ فِي أَمَالِيهِ، فَقَالَ: ضَمِيرُ الْفَصْلِ لَيْسَ تَوْكِيدًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ، فَإِمَّا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا، لَأَنَّ اللَّفْظِيَّ إِعَادَةُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ كَزَيْدٍ زَيْدٍ، أَوْ مَعْنَاهُ كَقُمْتُ، وَالْفَصْلُ لَيْسَ هُوَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ وَلَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَنِّيًا عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَلَا مُفَسِّرًا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا، لِأَنَّ أَلْفَاظَهُ مَحْصُورَةٌ، كَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ، وَهَذَا مِنْهُ نَفْيٌ لِلتَّوْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ، وَلَبْسٌ لِلْكَلَامِ. وَفِي الْبَسِيطِ لِلْوَاحِدِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 5) قَالَ سِيبَوَيْهِ: دَخَلَ الْفَصْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} (الْمُزَّمِّلِ: 20) وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 180) وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (سَبَأٍ: 6). وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} (الْأَنْفَالِ: 32) وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 159) انْتَهَى. السَّابِعُ: ضَمِيرُ الْبَيَانِ لِلْمُذَكَّرِ، وَالْقِصَّةِ لِلْمُؤَنَّثِ، وَيُقَدِّمُونَهُ قَبْلَ الْجُمْلَةِ نَظَرًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ، وَالْإِطْنَابِ فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لَهُ: الشَّأْنُ وَالْقِصَّةُ، وَعَادَتُهُمْ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَ جُمْلَةٍ قَدْ يُقَدِّمُونَ قَبْلَهَا ضَمِيرًا يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ خَبَرًا عَنْهُ وَمُفَسِّرَةً لَهُ، وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِ التَّفْخِيمِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَتَطَلَّعَ السَّامِعُ إِلَى الْكَشْفِ عَنْهُ وَطَلَبِ تَفْسِيرِهِ، وَحِينَئِذٍ تُورَدُ الْجُمْلَةُ الْمُفَسِّرَةُ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (طه: 14). وَقَدْ يُفِيدُ مَعَهُ الِانْفِرَادُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) أَيِ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُحْدِيَّةِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّحَاةِ: (هُوَ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَاللَّهُ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَأَحَدٌ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي، وَالْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَخَبَرُهُ خَبَرُ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى عَائِدٍ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَلِكَوْنِهَا مُفَسِّرَةً لَمْ يَجِبْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ. وَمِنْهُ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} (الْجِنِّ: 19) وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مُؤَنَّثٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} (الْحَجِّ: 46) فَالْهَاءُ فِي: (فَإِنَّهَا) ضَمِيرُ الْقِصَّةِ، وَ{تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ إِنَّ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْلَمَ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشُّعَرَاءِ: 197) بِقِرَاءَةِ الْيَاءِ، وَ (أَنْ يَعْلَمَهُ) مُبْتَدَأٌ، وَ (آيَةً) الْخَبَرُ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ، وَأَنَّثَ لِوُجُودِ آيَةٍ فِي الْكَلَامِ. الثَّامِنُ: تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ؛ وَيَجِبُ أَنْ يُؤَكَّدَ الْمُتَّصِلُ بِالْمُنْفَصِلِ إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (الْبَقَرَةِ: 35) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} (الْمَائِدَةِ: 24). وَقِيلَ: لَا يَجِبُ التَّأْكِيدُ، بَلْ يُشْتَرَطُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (الْأَنْعَامِ: 148) فَعَطَفَ (آبَاؤُنَا) عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ؛ وَلَيْسَ هُنَا تَأْكِيدٌ بَلْ فَاصْلٌ وَهُوَ (لَا) وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَالَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَأْتِي قَبْلَ وَاوِ الْعَطْفِ، كَالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} (هُودٍ: 112). وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَاصِلًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (الْأَعْرَافِ: 115) فَأَكَدَّ السَّحَرَةُ ضَمِيرَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْإِلْقَاءِ دُونَ ضَمِيرِ مُوسَى، حَيْثُ لَمْ يَقُولُوا: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أَنْتَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَبُّوا التَّقْدِيمَ فِي الْإِلْقَاءِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ يُقَرِّرُ عَظَمَتَهُ فِي أَذْهَانِ الْحَاضِرِينَ، فَلَا يَرْفَعُهَا مَا يَأْتِي بَعْدَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ، وَإِنَّمَا ابْتَدَءُوا بِمُوسَى فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْبَدَاءَةَ بِالْإِلْقَاءِ عَلَى عَادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّنَّاعِ فِي تَأَدُّبِهِمْ مَعَ قُرَنَائِهِمْ! وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ تَأَدَّبُوا تَهَذَّبُوا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَكِّدْ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ التَّأْكِيدِ بِالتَّصْرِيحِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (طه: 65) وَهَذَا جَوَابٌ بَيَانِيٌّ لَا نَحْوِيٌّ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ هَذَا الْإِطْنَابِ، وَهَلَّا قَالُوا: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَفْظِيٌّ، وَهُوَ الْمُزَاوَجَةُ لِرُؤُوسِ الْآيِ عَلَى سِيَاقِ خَوَاتِمِهَا، مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا. وَالثَّانِي: مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ قُوَّةِ أَنْفُسِ السَّحَرَةِ وَاسْتِطَالَتِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى مُوسَى؛ فَجَاءَ عَنْهُمْ بِاللَّفْظِ أَتَمَّ وَأَوْفَى مِنْهُ فِي إِسْنَادِهِمُ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّي فِي خَاطِرَيَاتِهِ ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَهُوَ: إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ السَّحَرَةَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ لِسَانٍ فَيَذْهَبُ بِهِمْ هَذَا الْمَذْهَبُ مِنْ صِيغَةِ الْكَلَامِ! وَأَجَابَ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَعْرُوفِ مَعَانِيهِمْ: وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِمْ، وَلِهَذَا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} (طه: 63) أَنَّ هَذِهِ الْفَصَاحَةَ لَمْ تَجْرِ عَلَى لُغَةِ الْعَجَمِ. التَّاسِعُ: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرٍ مُبْتَدَأٍ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ؛ وَلِهَذَا قِيلَ بِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَشَّافِهِ. قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (الْبَقَرَةِ: 4) مَعْنَاهُ الْحَصْرُ، أَيْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ إِلَّا هُمْ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 21) أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُنْشِرُ إِلَّا هُمْ، وَإِنَّ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مَا يُلْزِمُهُمْ حَصَرَ الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِمْ. ثُمَّ خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَمَّا خَالَفَ مَذْهَبَهُ الْفَاسِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (الْبَقَرَةِ: 167) فَقَالَ: هُمْ هُنَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: هُمْ يَفْرِشُونَ اللُّبَدَ كُلَّ طِمْرَةٍ *** فِي دَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ أَمْرِهِمْ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ، لَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ. انْتَهَى. وَبَيَانُهُ أَنَّ مُقْتَضَى قَاعِدَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ الْفُسَّاقِ مِنَ النَّارِ؛ وَلَيْسَ هَذَا مُعْتَقَدُهُ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّأْوِيلِ لِلْآيَةِ بِفَائِدَةٍ تَتِمُّ لَهُ، فَجَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ نِسْبَةِ الْخُلُودِ لَهُمْ لَا اخْتِصَاصَهُ بِهِمْ؛ وَهُمْ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ خُلِّدُوا فِي النَّارِ عَلَى زَعْمِهِ إِلَّا أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَهُ أَحَقُّ بِالْخُلُودِ وَأَدْخُلُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَخَيَّلَ فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ الْمَعَانِي فِي اقْتِضَاءِ تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الِاخْتِصَاصِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ إِفَادَةَ تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ أَقْوَى وَأَشْهَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ إِفَادَةِ مُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ فِي الصِّفَةِ. وَقَدْ نَصَّ الْجُرْجَانِيُّ فِي دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ عَلَى أَنَّ إِفَادَةَ تَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ لِلِاخْتِصَاصِ جَلِيلَةً، وَأَمَّا إِرَادَةُ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهَا فَلَيْسَتْ جَلِيلَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ هُنَا مَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَ الْكَلَامِ عَنْ مَعْنَاهُ الْجَلِيِّ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ وَتَوَاتَرَتْ عَلَى أَنَّ الْعُصَاةَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مُوَحِّدٌ أَبَدًا! فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى انْفِرَادِ الْكُفَّارِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَاخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ، وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مُوَافَقَةٌ، وَلَا دَلِيلَ لِلْمُخَالِفِ سِوَى قَاعِدَةِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَإِلْزَامِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُلْزِمُوهُ مِنْ عَدَمِ الْعَفْوِ وَتَحْقِيقِ الْعِقَابِ وَالْخُلُودِ الْأَبَدِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. فَائِدَةٌ: لَا تُخَصُّ إِفَادَةُ الْحَصْرِ بِتَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ، بَلْ هُوَ كَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْفَاعِلُ، أَوِ الْمَفْعُولُ، أَوِ الْجَارُّ، أَوِ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقَاتُ بِالْفِعْلِ؛ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (الْمُلْكِ: 29) فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ رُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لِتَفَرُّدِهِ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ الْقَدِيمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ- قُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِيهِ لِيُؤْذِنَ بِاخْتِصَاصِ التَّوَكُّلِ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الظُّرُوفَ فِي قَوْلِهِ: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} (الصَّافَّاتِ: 47) لِيُفِيدَ النَّفْيَ عَنْهَا فَقَطْ وَاخْتِصَاصَهَا بِذَلِكَ، بِخِلَافِ تَأْخِيرِهِ فِي {لَا رَيْبَ فِيهِ} (الْبَقَرَةِ: 2) لِأَنَّ نَفْيَ الرَّيْبِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ، بَلْ سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كَذَلِكَ. الْعَاشِرُ: مِنْهَا هَاءُ التَّنْبِيهِ فِي النِّدَاءِ نَحْوُ: يَا أَيُّهَا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا الْأَلِفُ وَالْهَاءُ اللَّتَانِ لَحِقَتَا أَيًّا تَوْكِيدًا، فَكَأَنَّكَ كَرَّرْتَ " يَا " مَرَّتَيْنِ إِذَا قُلْتَ: يَا أَيُّهَا، وَصَارَ الِاسْمُ تَنْبِيهًا. هَذَا كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَكَلِمَةُ التَّنْبِيهِ الْمُقْحَمَةُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَمَوْصُوفِهَا لِفَائِدَةِ تَبْيِينِ مُعَاضَدَةِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَمُكَاتَفَتِهِ بِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ وَوُقُوعِهَا عِوَضًا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ، أَيْ مِنَ الْإِضَافَةِ. الْحَادِي عَشَرَ: يَا الْمَوْضُوعَةُ لِلْبَعِيدِ إِذَا نُودِيَ بِهَا الْقَرِيبُ الْفَطِنُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ الْمُؤَذِّنُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي يَتْلُوهُ مُعْتَنًى بِهِ جِدًّا. الثَّانِي عَشَرَ: الْوَاوُ، زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا تُدْخِلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِتَأْكِيدِ ثُبُوتِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} (الْحِجْرِ: 4) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (الْكَهْفِ: 22) وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَوْصُوفَ بِهَا لَا تَقْتَرِنُ بِالْوَاوِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ لَا يَقَعُ فِي الصِّفَاتِ بَلِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ (قَرْيَةٍ) لِكَوْنِهَا عَامَّةً بِتَقْدِيمِ (إِلَّا) عَلَيْهَا. الثَّالِثَ عَشَرَ: إِمَّا الْمَكْسُورَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (الْبَقَرَةِ: 38) أَصْلُهَا إِنَّ الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ مَا تَأْكِيدًا، وَكَلَامُ الزَّجَّاجِ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ اللَّحَاقِ نُونُ التَّوْكِيدِ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؛ لِمُشَابَهَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِدُخُولِ مَا لِلتَّأْكِيدِ بِالْفِعْلِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا كَالْعَدَمِ فِي الْقَسَمِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ. وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَ إِمَّا تَوْكِيدُهُ بِالنُّونِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ زِيَادَةَ (مَا) مُؤْذِنَةٌ بِإِرَادَةِ شِدَّةِ التَّوْكِيدِ، وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ أَتَلْزَمُ النُّونُ الْمُؤَكَّدَةُ فِعْلَ الشَّرْطِ عِنْدَ وَصْلِ إِمَّا أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: يَلْزَمُ وَلَا تُحْذَفُ إِلَّا ضَرُورَةً، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: لَا تَلْزَمُ فَيَجُوزُ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا، وَالْإِثْبَاتُ أَحْسَنُ. وَيَجُوزُ حَذْفُ " مَا " وَإِثْبَاتُ " النُّونِ ". قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنْ شِئْتَ لَمْ تُقْحِمِ النُّونَ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا شِئْتَ لَمْ تَجِئْ بِهَا. انْتَهَى. وَجَاءَ السَّمَاعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ إِمَّا، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةً *** فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا الرَّابِعَ عَشَرَ: أَمَّا الْمَفْتُوحَةَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 26) إِنَّهَا تُفِيدُ التَّأْكِيدَ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَلَا الِاسْتِفْتَاحِيَّةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 12) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لِلتَّحْقِيقِ؛ أَيْ تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، وَهَذَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِكَوْنِهَا بِهَذَا الْمَنْصِبِ مِنَ التَّحْقِيقِ لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، نَحْوُ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يُونُسَ: 62). السَّادِسَ عَشَرَ: مَا النَّافِيَةُ، نَحْوُ: مَا زَيْدٌ قَائِمًا أَوْ قَائِمٌ، عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ جَعَلَ سِيبَوَيْهِ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي النَّفْيِ جَوَابًا لِـ " قَدْ " فِي الْإِثْبَاتِ، كَمَا أَنَّ قَدْ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ، فَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ جَوَابًا لَهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ. السَّابِعَ عَشَرَ: الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ، نَحْوُ مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلَقٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ: هِيَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: قَوْلُكَ: مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلِقٍ، جَوَابُ إِنَّ زَيْدًا لِمُنْطَلَقٍ، مَا بِإِزَاءِ إِنَّ وَالْبَاءُ بِإِزَاءِ اللَّامِ؛ وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ الْإِيجَابِ، فَإِذَا كَانَتْ بِإِزَائِهَا كَانَتْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. هَذَا كُلُّهُ فِي مُؤَكِّدَاتِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ.
وَأَمَّا مُؤَكِّدَاتُ الْفِعْلِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: قَدْ فَإِنَّهَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَهُوَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 101) مَعْنَاهُ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى لَا مَحَالَةَ. وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهَا فِي شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مُتَشَوِّقًا إِلَى سَمَاعِهِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ يَتَشَوَّقُ سَمَاعَ قُدُومِ زَيْدٍ: قَدْ قَدِمَ زَيْدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، لَمْ يَحْسُنِ الْمَجِيءُ بِهَا، بَلْ تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (الْإِسْرَاءِ: 89) وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} (الْبَقَرَةِ: 65) قَدْ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا الْقَسَمُ، مِثْلُ إِنَّ وَاللَّامِ فِي الِاسْمِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا فِي إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي؛ نَحْوُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (الشَّمْسِ: 9). وَالْمُضَارِعِ، نَحْوُ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} (الْأَنْعَامِ: 33)، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (النُّورِ: 64) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتْ قَدْ لِتَوْكِيدِ الْعِلْمِ. وَيَرْجِعُ ذَلِكَ لِتَوْكِيدِ الْوَعِيدِ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا تُفِيدُ التَّعْلِيلَ مَعَ الْمُضَارِعِ. وَقَالَ ابْنُ أَبَانٍ: تُفِيدُ مَعَ الْمُسْتَقْبَلِ التَّعْلِيلَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ مُتَعَلِّقِهِ، فَالْأُولَى كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَدْ يَفْعَلُ كَذَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْكَثِيرِ، وَالثَّانِي؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (النُّورِ: 64) الْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. ثَانِيهَا: السِّينُ الَّتِي لِلتَّنْفِيسِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الْبَقَرَةِ: 137) مَعْنَى السِّينِ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى حِينٍ. وَجَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (التَّوْبَةِ: 71) السِّينُ تُفِيدُ وُجُودَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، فَهِيَ تُؤَكِّدُ الْوَعْدَ كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ، فِي قَوْلِكَ: سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا؛ يَعْنِي أَنَّكَ لَا تَفُوتَنِي، وَإِنْ تَبَطَّأْتُ، وَنَحْوُهُ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (مَرْيَمَ: 96)، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضُّحَى: 5)، {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} (النِّسَاءِ: 152) لَكِنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ الْعَطَاءَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ وُجُودَ الرَّحْمَةِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْفِعْلِ لَا مِنَ السِّينِ، وَبِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا مَحَالَةَ لَا إِشْعَارَ لِلسِّينِ بِهِ. وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّينَ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوُقُوعِ مَعَ التَّأَخُّرِ، فَإِذَا كَانَ الْمَقَامُ لَيْسَ مَقَامَ تَأْخِيرٍ لِكَوْنِهِ بِشَارَةً تَمَحَّضَتْ لِإِفَادَةِ الْوُقُوعِ، وَتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْوُجُوبِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ لَا مِنَ السِّينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السِّينَ يَحْصُلُ بِهَا تَرْتِيبُ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ أَمْرَيْنِ الْوَعِيدُ وَالْإِخْبَارُ بِطُرُقِهِ، وَأَنَّهُ مُتَرَاخٍ، فَهُوَ كَالْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ مَرَّتَيْنِ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالشَّيْءِ وَتَعْيِينَ طُرُقِهِ مُؤْذِنٌ بِتَحَقُّقِهِ عِنْدَ الْمُخْبِرِ بِهِ. ثَالِثًا: النُّونُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الْفِعْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَبِالْخَفِيفَةِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذَكْرِهِ مَرَّتَيْنِ. قِيلَ: وَهَذَانَ النُّونَانِ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ فِي مُقَابَلَةِ تَأْكِيدِ الِاسْمِ بِأَنَّ وَاللَّامِ؛ وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ التَّأْكِيدُ بِالْخَفِيفَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يُوسُفَ: 32)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (الْعَلَقِ: 15). وَلَمَّا لَمْ يُتَجَاوَزِ الثَّلَاثَةُ فِي تَأْكِيدِ الْأَسْمَاءِ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهَا فِي تَأْكِيدِ الْأَفْعَالِ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطَّارِقِ: 17) لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثَةٍ: مَهَّلَ وَأَمْهِلْ، وَرُوَيْدًا، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُنَّ: فِعْلَانِ، وَاسْمُ فِعْلٍ. رَابِعًا: (لَنْ) لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَإِنَّ فِي تَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، فَتَقُولُ: لَا أَبْرَحُ، فَإِذَا أَرَدْتَ تَأْكِيدَ النَّفْيِ، قُلْتَ: لَنْ أَبْرَحَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: سَيَفْعَلُ، يَعْنِي وَالسِّينُ لِلتَّأْكِيدِ فَجَوَابُهَا كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَنْ تَدُلَّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، بِخِلَافِ لَا وَكَذَا قَالَ فِي الْمُفَصَّلِ: لَنْ لِتَأْكِيدِ مَا تُعْطِيهِ، لَا مِنْ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَرَانِي} (الْأَعْرَافِ: 143) قَالَ: هُوَ دَلِيلٌ عَنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} (الْبَقَرَةِ: 94 وَ 95) ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عَامَّةِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الْآخِرَةَ، فَيَقُولُونَ: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} (الْحَاقَّةِ: 27) يَعْنِي الْمَوْتَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَنْفِي الْأَبَدَ، وَلَكِنْ إِلَى وَقْتٍ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَنَّ النَّفْيَ بِلَا أَطْوَلُ مِنَ النَّفْيِ بِلَنْ؛ لِأَنَّ آخِرَهَا أَلِفٌ، وَهُوَ حَرْفٌ يَطُولُ فِيهِ النَّفَسُ، فَنَاسَبَ طُولُ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ لَنْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {لَنْ تَرَانِي} (الْأَعْرَافِ: 143) وَهُوَ مُخَصَّصٌ بِدَارِ الدُّنْيَا. وَقَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الْأَنْعَامِ: 103) وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ تُشَاكِلُ الْمَعَانِيَ، وَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ لَا بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ. وَهَذَا أَلْطَفُ مِنْ رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِهَذَا أَشَارَ ابْنُ الزَّمْلِكَانِيُّ فِي التِّبْيَانِ بِقَوْلِهِ: لَا تَنْفِي مَا بَعُدَ، وَلَنْ تَنْفِي مَا قَرُبَ، وَبِحُسْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَوَّلُوا الْآيَتَيْنِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} (الْبَقَرَةِ: 95)، {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} (الْجُمُعَةِ: 7). وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ (لَا يَتَمَنَّوْنَهُ) جَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} (الْجُمُعَةِ: 6) وَحَرْفُ الشَّرْطِ يَعُمُّ كُلَّ الْأَزْمِنَةِ، فَقُوبِلَ بِـ " لَا " لِيُعَمَّمَ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ، أَيْ زَعَمُوا ذَلِكَ فِي وَقْتِ مَا قِيلَ لَهُمْ: تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، وَأَمَّا {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} (الْبَقَرَةِ: 95) فَجَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً} (الْبَقَرَةِ: 94) أَيْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الْآنَ، اسْتِعْجَالًا لِلسُّكُونِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ. وَعَلَى وَفْقِ هَذَا الْقَوْلِ جَاءَ قَوْلُهُ: {لَنْ تَرَانِي} (الْأَعْرَافِ: 143). قُلْتُ: وَالْحَقُّ أَنَّ لَا وَلَنْ لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَالتَّأْبِيدُ وَعَدَمُهُ يُؤْخَذَانِ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، وَمَنِ احْتَجَّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (الْبَقَرَةِ: 24) وَبِقَوْلِهِ: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} (الْحَجِّ: 73) عُورِضَ بِقَوْلِهِ: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (مَرْيَمَ: 26) وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ، وَبِقَوْلِهِ: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} (الْبَقَرَةِ: 95) وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ لَكَانَ ذِكْرُ الْأَبَدِ تَكْرِيرًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَبُقُولِهِ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (طه: 91) لَا يُقَالُ: هِيَ مُقَيَّدَةٌ فَلَمْ تُفِدِ التَّأْبِيدَ، وَالْكَلَامُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدَّعِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ، فَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْأَبَدِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (فَاطِرٍ: 36) وَقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (الْبَقَرَةِ: 255)، {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} (الْبَقَرَةِ: 255)، وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (الْأَعْرَافِ: 40) وَغَيْرُهُ مِمَّا هُوَ لِلتَّأْبِيدِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ " لَا " دُونَ " لَنْ "؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ، وَالتَّأْبِيدُ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ.
|