الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة كراهة الكحل للرجل: قال محمد بن رشد: قد مضى هذا فيما تقدم، والمعنى فيه بين، لأن في الاكتحال التشبه بالنساء، ويكره للرجال التشبه بالنساء، وللنساء التشبه بالرجال، لما جاء في ذلك، وبالله التوفيق. .مسألة مواكلة النصراني ومصادقته وتكنيته: قال محمد بن رشد: الوجه في كراهة مصادقة النصراني بين، لأن الله عز وجل يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، فواجب على كل مسلم أن يبغض في الله من يكفر به ويجعل معه إلها غيره ويكذب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومواكلته في إناء واحد تقتضي الألفة بينهما والمودة، فهي تكره من هذا الوجه وإن علمت طهارة يده. وأما تكنيته بأبي حكيم وبغيره من الكنى، فإذا كانت الكنية له كالاسم الذي يعرف به فتكنيته بها مباحة، إذ ليس في ذلك قصد إلى إكرامه وترفيعه، وقد قال الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] فلم يكن ذلك ثناء من الله عز وجل عليه ولا ترفيعا له، بل مقته بذلك وأوعده بما أوعده به. وأما تكنيته إذا كان له اسم يعرف به فمكروه، لأن تكنيته ترفيع به وإكرام له، وذلك خلاف ما يستحب من إذلالهم وإصغارهم لمحاربتهم الله عز وجل ورسوله. وقد وقع في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان أنه قد كان يرخص في ذلك، والترخيص ليس بإباحة. وإنما يرجع اختلاف قوله في ذلك إلى قوة الكراهة وضعفها، ولا حجة في إباحة ذلك دون كراهة، «لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصفوان بن أمية: انزل أبا وهب» لأنه إنما قال ذلك له استئلافا له رجاء أن يسلم. وكذلك قوله للذي كان يقبل عليه بحديثه من عظماء المشركين إذ دخل عليه عبد الله ابن أم مكتوم: يا أبا فلان، هل ترى بما أقول بأسا، لأنه إنما أقبل عليه بحديثه وكناه رجاء إسلامه وإسلام من وراءه بإسلامه، وبالله التوفيق. .مسألة الخروج لطلب العلم: قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أنه إنما يرجى الخير لمن خرج طالبا للعلم إذا حسنت في ذلك نيته، قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات» معناه إنما الأعمال التي يثاب عليها فاعلها ما خلصت فيه النية لله عز وجل. فطلب العلم مع خلوص النية في ذلك من أفضل أعمال البر وأجل نوافل الخير، قال الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وقال: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» وروي: «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع». والآثار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، وبالله التوفيق. .مسألة قرط الذهب للصبي: قال محمد بن رشد: الكراهة في هذا بينة، لأن الصبي وإن لم يكن متعبدا فوالده متعبد فيه، فكما لا يحل له أن يسقيه الخمر، فكذلك لا ينبغي له أن يحليه بالذهب ولا يلبسه الحرير، فإن حلاه بالذهب أو ألبسه الحرير لم يأثم، وإن ترك ذلك ولم يفعله لما جاء من تحريم ذلك على الذكور دون الإناث أجر. وأما إن سقاه خمرا أو أطعمه خنزيرا فهو آثم في ذلك كما لو شرب هو الخمر وأكل الخنزير أو الميتة من غير ضرورة. والفرق بين أن يسقيه الخمر ويكسوه الحرير، أن الخمر لا يحل تملكها ولا شربها لذكر ولا أنثى ولا صغير ولا كبير، بخلاف الحرير والذهب، وبالله التوفيق. .مسألة جواز الكي: قال محمد بن رشد: كذا وقع في الموطأ سعد بن زرارة، وإنما هو أسعد بن زرارة، وقال فيه إنه اكتوى في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الذبحة فمات. وقد روي عن أنس بن مالك «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كوى أسعد بن زرارة من الشوصة» والمعروف إنما هو من الشوكة الذبحة. وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر به أن يكوى من الشوكة طوق عنقه بالكي، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما مات: «بئس الميت ليهود يقولون ألا دفع عنه، ولا أملك له ولا لنفسي شيئا». وروي «عن أنس بن مالك قال: كواني أبو طلحة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا، فما نهانا عنه». وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية ابن عباس أنه قال: «إن كان الشفاء ففي ثلاث، أو قال الشفاء في ثلاث في شربة عسل أو كية نار أو شرطة محجم». وبعض رواته يزيد فيه: «وما أحب أن أكتوي». وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أنه نهى عن الكي» من رواية عمران بن حصين قال: «سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن الكي» قال فما زال البلاء بنا حتى اكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا. قال عمران وكان يسلم علي، فلما اكتويت فقدت ذلك، ثم راجعه بعد ذلك السلام. فيحتمل أن يكون معنى ذلك أنه نهى عن الكي في أمر ما أو في علة ما، أو أنه نهى عنه نهي أدب وإرشاد إلى التوكل على الله عز وجل والثقة به، فلا شافي سواه، ولا شيء إلا ما شاءه. ومن الدليل على ذلك ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية مغيرة بن شعبة أنه قال: «ما توكل من استرقى أو اكتوى» يريد، والله أعلم، ما توكل حق التوكل، لأن من لم يسترق ولا اكتوى أشد توكلا وإخلاصا للتوكل منه. ويعضد هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون». ومن هذا المعنى ما روي أن رجلا من العرب شاور عمر بن الخطاب في أن يكوي ابنه، فقال له لا تقرب ابنك النار، فإن له أجلا لا يعدوه. ومنه ما روي «عن جابر بن عبد الله قال: اشتكى رجل منا شكوى شديدة، فقال الأطباء لا يبرأ إلا بالكي، فأراد أهله أن يكووه، وقال بعضهم لا حتى نستأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأمره فقال لا يبرأ، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: هذا صاحب بني فلان؟ قالوا نعم، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن هذا لو كوي قال الناس إنما أبرأه الكي». وقد اكتوى جماعة من السلف، منهم خباب. قال قيس بن أبي حازم: دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبعا في بطنه، وقال قيس عن جرير أقسم علي عمر لأكتوين. واكتوى ابن عمر وكوى ابنه وهو محرم. وكوى الحسن بن علي نجيبة له قد مال سنامها على جنبها، فأمر أن تقطع وتكوى، وبالله التوفيق. .مسألة كراهة رفع البناء على البيت: قال محمد بن رشد: هذا يكره من ناحية التعظيم للبيت والحرمة له، وبالله التوفيق. .مسألة: في سلام الذي يمر بقبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه إنما يلزمه أن يسلم عليه كلما مر به وليس عليه أن يمر به ليسلم عليه إلا للوداع عند الخروج، ويكره له أن يكثر المرور به والسلام عليه والإتيان كل يوم إليه، لئلا يجعل القبر بفعله ذلك كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه. وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك بقوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وبالله التوفيق. .مسألة تقبيل الرجل يد أبيه أو عمه: قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول فيه مستوفى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق. .مسألة الوليمة يدعى إليها الرجل وفيها اللعب: قال محمد بن رشد: اللعب في الوليمة هو من ناحية ما رخص فيه من اللهو، وقد اختلف فيما رخص فيه من ذلك هل الرخصة فيه للنساء دون الرجال. أو للرجال والنساء؟ فقال أصبغ في سماعه من كتاب النكاح إن ذلك إنما يجوز للنساء دون الرجال، وإن الرجال لا يجوز لهم عمله ولا حضوره، وهو ظاهر ما في هذه الرواية. والمشهور أن عمله وحضوره جائز للرجال والنساء، وهو قول ابن القاسم في رسم سلف دينارا من سماع عيسى من كتاب النكاح. ومذهب مالك خلاف قول أصبغ، إلا أنه كره لذي الهيئة أن يحضر اللعب. وقد اختلف فيما جوز من ذلك في العرس هل هو من قبيل الجائز الذي تركه أحسن من فعله فيكره فعله لما في تركه من الثواب، لا أن في فعله حرجا أو عقابا؟ أو من قبيل الجائز الذي يستوي فعله وتركه في أنه لا حرج في فعله ولا ثواب في تركه، وبالله التوفيق. .مسألة هيئة العمامة: قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا اعتم يسدل عمامته بين كتفيه. قال نافع: وكان ابن عمر يسدل عمامته بين كتفيه. قال عبيد الله: ورأيت القاسم وسالما يفعلان ذلك، فلا وجه لكراهة ذلك إلا ما ذكره مالك من أن ذلك أجمل. وقول ربيعة إني لأجد العمة تزيد في العقل، ليس على ظاهره بأنها تزيد في العقل حقيقة. والمعنى في ذلك أن لابسها سلك من أجل لباسه إياها مسلك العقلاء. وذلك أنها لما كانت من هيئة العلماء والخيار، وأهل السمت والوقار، رأى لابسها من العار على نفسه أن يخالف طريقهم في السمت والوقار، فالتزم من ذلك فوق ما كان يلتزمه قبل، وبالله التوفيق. .مسألة سن عيسى ابن مريم عليه السلام: قال محمد بن رشد: قوله ومات ابن ثلاث وثلاثين سنة، معناه خرج من الدنيا ورفع إلى الله عز وجل وهو في هذا السن، قال الله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ} [النساء: 156]، يعني اليهود، {عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] إلى قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] أي ما قتلوا العلم بذلك يقينا، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، معناه حيا على ما قاله جماعة من أهل التفسير، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158]. وسينزل في آخر الزمان على ما تواترت به الآثار، من ذلك ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي وإنه نازل لا محالة فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع الخلق بين ممصرتين إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس كأن رأسه يقطر ماء وإن لم يصبه بلل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الإسلام فيهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام حتى تقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا». ويحتمل أن يكون معنى قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] أي رفع روحه إليه بعد أن مات ويحييه في آخر الزمان فينزله إلى الأرض على ما جاءت به الآثار، فيكون قول مالك على هذا ومات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على الحقيقة لا على المجاز، وبالله التوفيق. .مسألة مرور عبد الله بن عمر على راعي غنم فسأله أن يبيعه شاة: قال: ومر عبد الله بن عمر على راعي غنم فسأله أن يبيعه شاة، فقال لم أؤمر، فقال عبد الله وما علم أربابك، فقال له الراعي: فأين الله؟ فعجب ابن عمر ولم يزل في نفسه يسأل عنه حتى ابتاعه فأعتقه. قال محمد بن رشد: في هذا الرغبة في عتق الفاضل الخير من العبيد، وأن عتقه أفضل من عتق من دونه في الفضل. وهذا إذا استوت أثمانهما، وأما إن كان أحدهما أعلى ثمنا والآخر أحسن دينا فالأعلى ثمنا أفضل. وإنما اختلف في عتق النصراني والمسلم إذا كان النصراني أعلى ثمنا أيهما أفضل؟ وبالله التوفيق. .مسألة تفسير قول الله عز وجل وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] قال وسمعته يقول: سمعت أن هذه الآية نزلت في يوم الخندق: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]. قال محمد بن رشد: وقد قيل في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور: 62] الجمعة والعيدين والاستسقاء وكل شيء تكون فيه الخطبة، لم يذهبوا حتى يستأذنوا الرسول. وقوله عز وجل: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور: 62] قيل فيه إنه كناية عن الغائط والبول، وإنه إنما قال: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] وإن كان قد وجب عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى من بعده الإذن في ذلك إكراما منه له وإعظاما لمنزلته. والأظهر أن المراد بقوله: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور: 62] ما يعرض لهم من حوائج دنياهم، فله أن يأذن لمن شاء منهم في ذلك وأن ذلك كان في الغزو، فكان المنافقون يتسللون لواذا بغير إذن، وكان المؤمنون لا ينصرف أحد منهم في حاجة تعرض له إلا بإذن، فأثنى الله عز وجل على المؤمنين بقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62]، إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] وتوعد المنافقين بقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وبالله التوفيق. .مسألة المراد بالمحروم: قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول فيه في أول رسم من هذا السماع. في تفسير قول الله عز وجل: ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك وسئل عن قول الله عز وجل: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ما هو؟ قال: أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه في رأي. قال محمد بن رشد: قد مضى القول عليه أيضا في آخر الرسم الأول من هذا السماع، وبالله التوفيق. .مسألة تفسير قول الله عز وجل والراسخون في العلم: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ثم أخبر فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وليس يعلم تأويله إلا الله. قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم البز من سماع ابن القاسم فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق. .مسألة قول الرجل لأخيه في العيد تقبل الله مني ومنك: تقبل الله مني ومنك وسئل مالك هل يكره للرجل أن يقول لأخيه إذا انصرف من العيد: تقبل الله مني ومنك وغفر الله لنا ولك، ويرد عليه أخوه مثل ذلك، فقال لي: لا نكره مثل ذلك. قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك من رواية مطرف وابن كنانة أنه سئل عن ذلك فقال: لا أعرفه ولا أنكره، يريد أنه لا يعرفه في السنة، ولا ينكره لأنه قول حسن. قال ابن حبيب: وقد رأيت ذلك يقال لمن أدركت من أصحاب مالك فيردون منه ولا يستنكرونه، إلا أني لم أرهم يبدؤون به أحدا. قال ولا بأس أن يبدأ به لإخوانه، لأنه إن كان فطرا فهو على إثر خاتمة الصيام وأداء الفطرة، وإن كان أضحى فهو على إثر صيام العشر وعلى إثر التضحية. وإنما اشتقه من اشتقه أولا من دعاء الناس بعضهم لبعض بذلك في الحج أيام الحج، فاستفاض في غيرهم. ومنه اشتق أيضا القول الذي جرى في كلام الناس في الأضحى: أدركت ما أدرك الصالحون، معناه أدركت الحج كما أدركه الحجيج في هذا اليوم، وذلك أن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] قال ابن عباس وغيره: يقول فأصدق فأؤدي الزكاة، وأكن من الصالحين: أحج البيت. وقد روي عن بعض أصحاب مالك أنه كره أن يقول أدركت ما أدرك الصالحون، ولم ير بأسا أن يقول تقبل الله منا ومنك، وليس بين الأمرين فرق بين، لأنه دعاء بخير في الوجهين. وكأن المفرق بين الدعاء رأى أن الرجل أحوج إلى أن يتقبل منه عمله فيما مضى من أن يعيش فيعمل الخير فيما يستقبل، لأنه إن لم يتقبل منه أعماله المفروضات بقيت عليه فيها التباعات، وإن مات لم تكن عليه تباعة فيما لم يدرك وقته من المفروضات. وسئل عن التهادي للقرابة في يوم العيد والتزوار بعضهم بعض، فأجاز ذلك. ومعناه إذا لم يقصد زيارته في يوم العيد من أجل أنه يوم العيد حتى يجعل ذلك من سنة العيد، وإنما زار قريبه أو أخاه في الله عز وجل من أجل تفرغه لزيارته في ذلك اليوم. فما أحدث الناس اليوم من التزام التزوار في ذلك اليوم كالسنة التي تلزم المحافظة عليها وترك تضييعها، هو بدعة من البدع المكروهة، تركها أحسن من فعلها. وليس للرجل أن يستعمل عبده يوم الفطر ولا أيام النحر إلا في الخدمة اليسيرة من استقاء الماء وشبهه، فأما أن يبعثه للحرث والحصاد وشبه ذلك فلا. وأما الرجل في خاصة نفسه فيقال له إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله، فإن أبى إلا أن يعمل لم يكن بذلك بأس، وبالله التوفيق. .كتاب الجامع التاسع: .المفتين من التابعين في المدينة: كتاب الجامع التاسع من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده في المفتين من التابعين في المدينة وسمعته يذكر عن مالك أنه كان بهذا البلد، يعني المدينة، أربعة عشر من تابعي أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتون في هذا الشأن. فقيل لابن القاسم: أتسميهم؟ فقال: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وهذان إماما الناس من التابعين، وقد اختلف الناس في أعلمهما: فأما ربيعة، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومن أخذ بناحيتهما وأهل الكوفة فكانوا يقولون سليمان أفقههما، وأما مالك بن أنس ومن أخذ بناحيته فيقولون سعيد. ثم ذكر ابن القاسم سليمان قال كان أعلم بالحلال والحرام، قال ولم يأت أحد من التابعين من الأحاديث والسنن بمثل ما جاء به سعيد وعبيد الله بن عبد الله. ثم عدد القاسم، وسالما، وعروة بن الزبير، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومحمد بن علي بن حسين، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة. قال والصنف الآخر من التابعين في العبادة بشر بن سعيد، وكان يجالس عمر بن الخطاب، وعطاء بن يسار، وتلك الطبقة. ثم كان من تابعي هؤلاء الأربعة عشر صفوان بن سليم، وأبو حازم بن دينار، وابن المنكدر. قال وكان من تابعي الأولين في العلم ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وابن هرمز، وأبو الزناد، وتلك الطبقة، إلا أن ربيعة كان تابعا لبعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أدرك أنس بن مالك وسمع منه، وأبو حازم قد أدرك بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال محمد بن رشد: كذا وقع عن بشر بن سعيد أنه كان يجالس عمر بن الخطاب، وفي بعض الكتب أنه كان يجالس عبد الله بن عمر، وهو الصواب، لأنه لم يدرك عمر بن الخطاب. وذكر مالك أن المفتين من التابعين، يريد من كبار التابعين، أربعة عشر، سمى منهم ابن القاسم ثلاثة عشر رجلا، اشتهر منهم بالعبادة بشر بن سعيد، وعطاء بن يسار. والرابع عشر أراد، والله أعلم، أنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، لأنه ذكر أنه تابع للأولين في العلم، ومن التابعين لأنه أدرك أنس بن مالك، وبالله التوفيق. .مسألة ما يذكر من نجابة عمر بن عبد العزيز: قال محمد بن رشد: كان عبد الله بن عمر من أخوال عمر بن عبد العزيز، لأن أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب الذي نازعت جدته في حضانته عمر بن الخطاب على ما جاء من أنه وجده يلعب بفناء المسجد فأخذه بعضده فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق، فقال عمر: ابني، وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكرالصديق: خل بينها وبينه. قال: فما راجعه عمر الكلام. وهذا أصل في أن الجدة للأم أحق بالحضانة من الأب، وبالله التوفيق.
|