الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومثَّلْنا لتكوُّن السُّحُب بعملية التقطير التي نُجريها في الصيدليات لنحصل منها على الماء النقي المعقم، وهذه تقوم على نظرية استقبال بخار الماء من الماء المغلي، ثم تمريره على سطح بارد فيتكثف البخار مُكوّنًا الماء الصافي، إذن: فأنت حينما تستقبل ماء المطر إنما تستقبل ماءً مقطرًا في غاية الصفاء والنقاء، دون أن تشعر أنت بهذه العملية، ودون أن نُكلّفك فيها شيئًا.وتأمل هذه الهندسة الكونية العجيبة التي ينشأ عنها المطر، فحرارة الشمس على سطح الأرض تُبخّر الماء بالحرارة، وفي طبقات الجو العليا تنخفض الحرارة فيحدث تكثُّف للماء ويتكوَّن السحاب، ومن العجيب أننا كلما ارتفعنا 30 مترًا عن الأرض تقل الحرارة درجة، مع أننا نقترب من الشمس؛ ذلك لأن الشمس لا تُسخّن الجو، إنما تُسخّن سطح الأرض، وهو بدوره يعطي الحرارة للجو؛ لذلك كلما بَعُدنا عن الأرض قلَّتْ درجة الحرارة.ومن حكمة الله أنْ جعل ماء الأرض الذي يتبخر منه الماء العَذْب جعله مالحًا؛ لأن ملوحته تحفظه أنْ يأسن، أو يعطن، أو تتغير رائحته، تحفظه أن تنمو به الطفيليات الضارة، وليظلّ على صلاحه؛ لأنه مخزن للماء العذب الذي يروي بعذوبته الأرض.ثم يقول الحق سبحانه: {وَمنْ آيَاته أَن تَقُومَ السماء والأرض}.السماء هنا بمعنى السماوات السبع التي تقوم بلا عَمَد، وقلنا: إن الشيء الذي يعلوك إما أنْ يُحمل على أعمدة، وإما أنْ يُشدَّ إلى أعلى، مثل الكبارى المعلقة مثلًا، وكذلك السماء سقف مرفوع لا نرى له أعمدة. إذن: لا تبقى إلا الوسيلة الأخرى، وهي أن الله تعالى: {وَيُمْسكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إلاَّ بإذْنه} [الحج: 65] فهي قائمة بأمره.{وَمنْ آيَاته أَن تَقُومَ السماء والأرض بأَمْره} [الروم: 25] لا يهتز لها نظام أبدًا، ولا تجد فيها فروجًا، لأنها محْكَمة البناء، وانظر إليها حين صفاء السماء وخُلوّها من السحب تجدها ملساء ذات لون واحد على اتساعها، أيستطيع أحد من رجال الدهانات أن يطلي لنا مثل هذه المساحة بلون واحد لا يختلف؟وإذا أخذنا السماء على أنها كُلُّ ما علاك فأظلَّك، فانظر إلى الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وكيف أنها تقوم بأمر الله خالقها على نظام دقيق لا اختلالَ فيه، فلم نَر مثلًا كوكبًا اصطدم بآخر، ولا شيئًا منها خرج عن مساره.وصدق الله تعالى: {كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] فلكل منها سرعة، ولكل منها مداره الخاص ونظام بحسبان؛ ذلك لأنها تقوم بأمر الله وقدرته تعالى فهي منضبطة تؤدي مهمتها دون خلل، ودون تخلّف.فمعنى {تَقُومَ} [الروم: 25] يعني: تظل قائمة على حالها دون فساد، وهو فعل مضارع دالٌّ على استمرار. وحين تتأمل: قبل أن يخترع الإنسان المجاهر والميكروسكوبات لم نكن نرى من المجموعة الشمسية غير الشمس، فلما اخترعوا المجهر رأينا الكواكب الأخرى التي تدور حولها.والعجيب أنها لا تدور في دوائر متساوية، إنما في شكل إهليلي، يتسع من ناحية، ويضيق من ناحية، وهذه الكواكب لها دورة حول الشمس، ودورة أخرى حول نفسها. فالأرض مثلًا لها مدار حول الشمس ينشأ عنه الفصول الأربعة، ولها دورة حول نفسها ينشأ عنها الليل والنهار، وكل هذه الحركة المركبة تتم بنظام دقيق محكم منضبط غاية الانضباط.وهذه الكواكب تتفاوت في قُرْبها أو بُعْدها عن الشمس، فأقربها من الشمس عطارد، ثم الزهرة، ثم الأرض، ثم المشتري، ثم المريخ، ثم زحل، ثم أورانوس، ثم نبتون، ثم أبعدها عن الشمس بلوتو. ولكل منها مداره الخاص حول الشمس وتسمى عام، ودورة حول نفسه تسمى يوم.وعجيب أن يوم الزهرة، وهو ثاني كوكب من الشمس يُقدَّر ب 44 يومًا من أيام الأرض، في حين أن العام بالنسبة لها يُقدَّر ب 25 يومًا من أيام الأرض، فالعام أقل من اليوم، كيف؟ قالوا: لأن هذه دورة مستقلة، وهذه دورة مستقلة، فهي سريعة في دورانها حول الشمس، وبطيئة في دورانها حول نفسها.ولو علمتَ أن في الفضاء وفي كون الله الواسع مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية في سكة التبَّانة، وهذا كله في المجرة التي نعرفها- لو علمت ذلك لتبيَّن لك عظَم هذا الكون الذي لا نعرف عنه إلا القليل؛ لذلك حين تقرأ:{والسماء بَنَيْنَاهَا بأَييْدٍ وَإنَّا لَمُوسعُونَ} [الذاريات: 47] فاعلم أنها مسألة لا نهاية لها ولا حدودَ في علمنا وفي عقولنا، لكن لها نهاية عند الله.ولا أدلَّ على انضباط حركة هذه الكونيات من انضباط موعد الكسوف أو الخسوف الذي يحسبه العلماء فيأتي منضبطًا تمامًا، وهم يبنون حساباتهم على حركة الكواكب ودورانها؛ لذلك نقول لمن يكابر حتى الآن ويقول بعدم دوران الأرض: عليك أن تعترف إذن أن هؤلاء الذين يتنبأون بالكسوف والخسوف يعلمون الغيب. فالأقرب- إذن- أن نقول: إنها لله الذي خلقها على هذه الهيئة من الانضباط والدقة، فاجعلها لله بدل أنْ تجعلها للعلماء.ثم يقول سبحانه: {ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرض} [الروم: 25] معنى {دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرض} [الروم: 25] المراد النفخة الثانية، فالأولى التي يقول الله عنها: {إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحدَةً فَإذَا هُمْ خَامدُونَ} [يس: 29] والثانية يقول فيها: {إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحدَةً فَإذَا هُمْ جَميعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].فالأولى للموت الكلي، والثانية للبعث الكلي، ولو نظرت إلى هاتين النفختين وما جعل الله فيهما من أسرار تلتقي بما في الحياة الدنيا من أسرار لوجدتَ عجبًا.فكل لحظة من لحظات الزمن يحدث فيها ميلاد، ويحدث فيها موت، فنحن مختلفون في مواليدنا وفي آجالنا، أما في الآخرة فالأمر على الاتفاق، فالذين اختلفوا في المواليد سيتفقون في البعث {إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحدَةً فَإذَا هُمْ جَميعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].والذين اختلفوا في الموت سيتفقون في الخمود: {إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحدَةً فَإذَا هُمْ خَامدُونَ} [يس: 29] فالميلاد يقابله البعث، والموت يقابله الخمود. إذن: اختلاف هذه يعالج اتفاق هذه، واتفاق هذه يعالج اختلاف هذه؛ لذلك يقول: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ليَوْم الجمع} [التغابن: 9].والنفخة الثانية يؤديها إسرافيل بأمر الله؛ لأن الحق- سبحانه وتعالى- يزاول أشياء بذاته، ولا نعلم منها إلا أنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وسَّواه بيده، كما قال سبحانه: {ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لمَا خَلَقْتُ بيَدَيَّ} [ص: 75] أما غير ذلك فهو سبحانه يزاول الأشياء بواسطة خَلْقه في كل مسائل الكونيات.تأمل مثلًا: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حينَ مَوْتهَا} [الزمر: 42] فالمتوفّي هنا الله عز وجل، وفي موضع آخر: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بكُمْ} [السجدة: 11] فنقلها إلى ملَك الموت، وفي موضع آخر: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فنقلها إلى رسل الموت من الملائكة، وهم جنود لملَك الموت.وبيان ذلك أنه سبحانه نسب الموت لنفسه أولًا؛ لأنه صاحب الأمر الأعلى فيه، فيأمر به ملَك الموت، وملَك الموت بدوره يأمر جنوده، إذن: فمردُّها إلى الله.ثم يقول سبحانه: {إذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] أي: حين يسمع الموتى هذه الصيحة يهبُّون جميعًا أحياء، فإذا هنا الفجائية الدالة على الفجأة، وهذا هو الفارق بين ميلاد الدنيا وميلاد الآخرة، ميلاد الدنيا لم يكُنْ فجأة، بل على مهل، فالمرأة قبل أنْ تلد نشاهد حملها عدة أشهر، وتعاني هي آلام الحمل عدة أشهر، فلا فجأة إذن. اهـ.
أي: فمنهما تارة أموات، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض.وانتصب {خوفًا وطمعًا} على أنهما مصدران في موضع الحال، أي خائفين وطامعين.وقيل: مفعول من أجله.
|