الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
الأصل في جواز تتبع الدفائن ما رواه أبو عمرو بن عبد البر والبيهقيّ في الدلائل من حديث ابن عباس. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف مرّ بقبر أبي رغال فقال: هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف كان إذا هلك قوم صاح في الحرم فمنعه اللّه. فلما خرج من الحرم رماه بقارعة وآية ذلك أنه دفن معه عمود من ذهب فابتدر المسلمون قبره فنبشوه واستخرجوا العمود منه. ومن حديث عبد اللّه بن عمر سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال: هذا قبر أبي رغال وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلما أخرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه عصا من ذهب إن نبشتم عليه أصبتموه معه فابتدره الناس فأخرجوا العصا الذي كان معه. وبمصر كنوز يوسف عليه السلام وكنوز الملوك من قبله والملوك من بعده لأنه كان يكنز ما يفضل عن النفقات والمؤن لنوائب الدهر وهو قول اللّه عز وجل: " ويقال: إن الروم لما خرجت من الشام ومصر اكتنزت كثيرًا من أموالها في مواضع أعدّتها لذلك وكتبت كتبًا بأعلام مواضعها وطرق الوصول إليها وأودعت هذه الكتب قسطنطينية ومنها يستفاد مجرفة ذلك وقيل: إن الروم لم تكتب وإنما ظفرت بكتب معالم كنوز من ملك قبلها من اليونانيين والكلدانيين والقبط. فلما خرجوا من مصر والشام جملوا تلك الكتب معهم وجعلوها في الكنيسة وقيل: إنه لا يعطى من ذلك أحد حتى يخدم الكنيسة مدة. فيدفع إليه ورقة تكون حظه. قال المسعوديّ: ولمصر أخبار عجيبة من الدفائن والبنيان وما يوجد في الدفائن من بالمطالب إلى هذه الغاية وقد أتينا على جميع ذلك فيما سلف من كتبنا. فمن أخبارها ما ذكره يحيى بن بكير قال: كان عبد العزيز بن مروان عاملًا على مصر لأخيه عبد الملك بن مروان فأتاه رجل متنصح فسأله عن نصحه فقال: بالقبة الفلانية كنز عظيم. قال عبد العزيز: وما مصداق ذلك. قال: هو أن يظهر لنا بلاط من المرمر والرخام عند يسير من الحفر. ثم ينتهي بنا الحفر إلى باب من الصفر تحته عمود من الذهب على أعلاه ديك عيناه ياقوتتان تساويان ملك الدنيا وجناحاه مضرجان بالياقوت والزمرد ورأسه على صفائح من الذهب على أعلى ذلك العمود فأمر له عبد العزيز بنفقة لأجرة من يحفر من الرجال في ذلك ويعمل فيه. وكان هناك تل عظيم فاحتفروا حفيرة عظيمة في الأرض والدلائل المقدّم ذكرها من الرخام والمرمر تظهر فازداد عبد العزيز حرصًا على ذلك وأوسع في النفقة وأكثر من الرجالة ثم انتهوا في حفرهم إلى ظهور رأس الديك فبرق عند ظهوره لمعان عظيم. لما في عينيه من الياقوت ثم بان جناحاه ثم بانت قوائمه وظهر حول العمود عمود من البنيان بأنواع الحجارة والرخام وقناطر مقنطرة وطاقات على أبواب معقودة ولاحت منها تماثيل وصور أشخاص من أنواع الصور الذهب وأجرنة من الأحجار قد أطبق عليها أغطيتها وسبكت.فركب عبد العزيز بن مروان حتى أشرف على الموضع فنظر إلى ما ظهر من ذلك فأسرع بعضهم ووضع قدمه على درجة من نحاس ينتهي إلى ما هناك فلما استقرّت قدماه على المرقاة ظهر سيفان عاديان عن يمين الدرجة وشمالها فالتقيا على الرجل فلم يدرك حتى جزآه قطعًا وهوى جسمه سفلًا.فلما استقرّ جسمه على بعض الدرج اهتز العمود وصفر الديك صفيرًا عجيبًا أسمع من كان بالبعد من هناك وحرّك جناحيه وظهرت من تحته أصوات عجيبة قد عملت بالكواكب والحركات إذا مال وقع على بعض تلك المرج شيء أو ماسها شيء انقلبت فتهاوى من هناك من الرجال إلى أسفل تلك الحفرة وكان فيها ممن يحفر ويعمل وينقل التراب وينظر ويحوّل ويأمر وينهي نحو ألف رجل. فهلكوا جميعًا فخرج عبد العزيز وقال: هذا ردم عجيب الأمر ممنوع النيل نعوذ باللّه منه وأمر جماعة من الناس فطرحوا ما أخرج من هناك من التراب على من هلك من الناس. فكان الموضع قبرًا لهم. قال المسعودي: وقد كان جماعة من أهل الدفائن والمطالب ومن قد اعتنى وأغرى بحفر الحفائر وطلب الكنوز وذخائر الملوك والأمم السالفة المستودعة بطن الأرض ببلاد مصر قد وقع إليهم كتاب ببعض الأقلام السالفة فيه وصف موضع ببلاد مصر على أذرع يسيرة من بعض الأهرام بأن فيه مطلبًا عجيبًا فأخبروا الإخشيد محمد بن طفج بذلك فأمرهم بحفره وأباحهم استعمال الحيلة في إخراجه فحفروا حفرا عظيمًا إلى أن انتهوا إلى أزج وأقباء وحجارة مجوّفة في صخرة منقورة فيها تماثيل قائمة على أرجلها من الخشب قد طلي بالأطلية المانعة من سرعة البلاء وتفرّق الأجزاء والصور مختلفة فيها صور شيوخ وشبان ونساء وأطفال. أعينهم من أنواع الجواهر كالياقوت والزمرد والزبرجد والفيروزج ومنها ما وجوهها ذهب وفضة فكسر بعض تلك التماثيل فوجدوا في أجوافها رممًا بالية وأجسامًا فانية وإلى جانب كل تمثال منها نوع من الأبنية كالبراني وغيرها من المرمر والرخام وفيه من الطلي الذي قد طلي منه ذلك الميت الموضوع في التماثيل الخشب والطلاء دواء مسحوق وأخلاط معمولة لا رائحة لها فجعل منه على النار شيء ففاح منه ريح طيبة مختلفة لا تعرف في نوع من أنواع الطيب. وقد جعل كل تمثال من الخشب على صورة ما فيه من الناس على اختلاف أسنانهم ومقادير أعمارهم وتباين صورهم وبإزاء كل تمثال تمثال من الحجر المرمر أو من الرخام الأخضر على هيئة الصنم على حسب عبادتهم للتماثيل والصور. عليها أنواع من الكتابات لم يقف أحد على استخراجها من أهل الملل وزعم قوم من أهل الدراية أن لذلك القلم منذ فقد من أرض مصر. أربعة آلاف سنة وفيما ذكرناه دلالة على أن هؤلاء ليسوا بيهود ولا نصارى ولم يؤدّهم الحفر إلا لما ذكرناه من هذه التماثيل وكان ذلك في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة وقد كان من سلف وخلف من ولاة مصر. من أحمد بن طولون وغيره إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة لهم أخبار عجيبة فيما استخرج في أيامهم من الدفائن والأموال والجواهر وما أصيب في هذه المطالب من القبور وقد أتينا على ذكرها فيما تقدّم من تصنيفنا. وركب أحمد بن طولون يومًا إلى الأهرام فأتاه الحجاب بقوم عليهم ثياب صوف ومعهم المساحي والمعاول فسألهم عن ما يعملون فقالوا: نحن قوم نطلب المطالب فقال لهم: لا تخرجوا بعدها إلا بمشورتي أو رجل من قبلي وأخبروه أنّ في سمت الأهرام مطلبًا قد عجزوا عنه فضم إليهم الرافقي وتقدّم إلى عامل الجيزة في إعانتهم بالرجال والنفقات وانصرف فأقاموا مدة يعملون حتى ظهر لهم فركب أحمد بن طولون إليهم وهم يحفرون فكشفوا عن حوض مملوء دنانير وعليه غطاء مكتوب عليه بالبربطية فأحضر من قرأه: فإذا فيه أنا فلان بن فلان الملك الذي ميز الذهب من غشه ودنسه فمن أراد أن يعلم فضل ملكي على ملكه فلينظر إلى فضل عيار ديناري على عيار ديناره فإن مخلص الذهب من الغش مخلص في حياته وبعد وفاته فقال أحمد بن طولون: الحمد للّه أنّ ما نبهتني عليه هذه الكتابة أحبّ إليّ من المال ثم أمر لكل من القوم المطالبية بمائتي دينار منه ولكل من الصناع بخمسة دنانير بعد توفية أجرة عمله وللرافقي بثلثمانة دينار ولنسيم الخادم بألف دينار وحمل باقي الدنانير فوجدها أجود من كل عيار وشدّد من حينئذٍ في العيار بمصر. حتى صار عيار ديناره الذي عرف بالأحمديّ أجود عيار وكان لا يطلى إلا به. قال الله عز وجل: " قال الزجاج: طمس الشيء: إذهابه عن صورته. وعن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما وعن محمد بن كعب القرظي أنهما قالا: صارت أموال أهل مصر ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحًا وأثلاثًا وأنصافًا فلم يبق معدن إلا طمس اللّه عليه فلم ينتفع به أحد بعدهم. وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد: وعطية أهلكها الله تعالى حتى لا تُرى يُقال: عين مطموسة أي ذاهبة وطمس الموضع: إذا عفا ودرس. وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة. وقال محمد بن كعب: وكان الرجل منهم يكون مع أهله وفراشه وقد صارا حجرين. قال: وقد سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك فدعا بخريطة أصيبت وقال محمد بن شهاب الزهري: دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال: يا غلام ائتني بالخريطة. فجاء بخريطة نثر ما فيها فإذا فيها دراهم ودنانير وتمر وجوز وعدس وفول. فقال: كل يا ابن شهاب فأهويت فإذا هو حجارة فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين. قال: هذا مما أصاب عبد العزيز بن مروان في مصر إذ كان عليها واليًا وهو مما طمس اللّه عليه من أموالهم. وقال المضارب بن عبد اللّه الشامي: أخبرني من رأى النخلة بمصر مصروعة وإنها لحجر. ولقد رأيت ناسًا كثيرًا قيامًا وقعودًا في أعمالهم لو رأيتهم ما شككت فيهم قبل أن تدنو منهم إنهم أناس وإنهم لحجارة. ولقد رأيت الرجل من رقيقهم وإنه لحارث على ثورين وإنه وثوريه لحجارة. ونقل وسمة بن موسى في قصص الأنبياء: أن فرعون لما هلك وقومه وآمنت بنو إسرائيل غائلته ندب موسى عليه السلام من نقبائه الإثني عشر نقيبين: أحدهما: كالب بن موقيا والآخر: يوشع بن نون مع كل واحد من سبطه اثنا عشر ألفًا وأرسلهما إلى مصر. وقد خلت من حاميها لغرق أهلها مع فرعون فأخذوا ذخائر فرعون وكنوزه وعادوا إلى موسى. فذلك توريثهم أرض مصر يعني قول اللّه عز وجل عن قوم فرعون: " قال جامعه ومؤلفه رحمه اللّه تعالى: أخبرني داود بن رزق بن عبد الله وكانت له سياحات كثيرة بأرض مصر أنه عبر إلى واد بالقرب من القلمون بالوجه القبلي فرأى فيه مقاتات كثيرة ما بين بطيخ وقثاء وتفاح وكلها حجارة وكان قد أخبرني قديمًا بعض الأعيان أنه شاهد في سفره إلى البلاد من أرض مصر بطيخًا كثيرًا كله حجارة وكذلك البطيخ من الصنف الذي يقال له العبدلي. قال أبو الحسن عليّ بن رضوان الطبيب: مصر اسم فيما نقلت الرواة يدل على أحد أولاد نوح النبي عليه السلام فإنهم ذكروا أنّ مصر هذا نزل بهذه الأرض فانسل فيها وعمرها فسميت باسمه والذي يدل عليه هذا الاسم اليوم هو الأرض التي يفيض عليها النيل ويحيط بها حدود أربعة وهي: أنّ الشمس تشرق على أقصى العمارة بالشرق قبل أن تغيب عن آخر العمارة بالغرب بثلاث ساعات وثلثي ساعة. فيجب من ذلك أن تكون هذه الأرض في النصف الغربيّ من الربع العامر والنصف الغربيّ من الربع العامر على ما قال أبقراط وبطليموس: أقل حرارة وأكثر رطوبة من النصف الشرقيّ. لأنه قسم كوكب القمر والنصف الشرقيّ في قسم كوكب الشمس وذلك أن الشمس تشرق على النصف الشرقيّ قبل شروقها على النصف الغربيّ والقمر يهل على النصف الغربيّ قبل النصف الشرقيّ. وقد زعم قوم من القدماء أنّ أرض مصر في وسط الربع من المعمور من الأرض بالطبع فأما بالقياس فعلى ما ذكرنا من أنها في النصف الغربيّ والحدّ الثالث هو أن أوّل بعد هذه الأرض عن خط الاستواء في جهة الجنوب أسوان وبعدها عن خط الاستواء اثنان وعشرون درجة ونصف فالشمس تُسامت رؤوس أهلها مرّتين في السنة عند كونها في آخر الجوزاء أو في أوّل السرطان وفي هذين الوقتين لا يكون للقائم بأسوان نصف النهار ظل أصلًا فالحرارة واليبس والإحراق غالب على مزاجها لأنّ الشمس تنشف رطوبتها ولذلك صارت ألوانهم سودًا وشعورهم جعدة لاحتراق أرضهم. والحدّ الرابع هو: أن آخر بعد أرض مصر عن خط الاستواء في جهة الشمال طرف بحر الروم وعليه من أرض مصر بلدان كثيرة كالإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس والفرما. وبعد دمياط عن خط الاستواء في الشمال أحد وثلاثون جزءًا وثلث وهذا البعد هو آخر الإقليم الثالث وأوّل الإقليم الرابع. فالشمس لا تبعد عنهم كل البعد ولا تقرب منهم كل القرب فالغالب عليهم الاعتدال مع ميل يسير إلى الحرارة فإن الموضع المعتدل على الصحة من البلدان العامة وهو أوّل وسط الإقليم الرابع وأيضًا فمجاورة دمياط للبحر وإحاطته بها تجعلها معتدلة بين الحرّ والبرد خارجة عن الاعتدال إلى الرطوبة فيكون الغالب عليها المزاج الرطب الذي ليس بحارّ ولا بارد ولذلك صارت ألوانهم سمرًا وأخلاقهم سهلة وشعورهم سبطة وإذا كان أوّل مصر من جهة الجنوب الغالب عليه الاحتراق وآخرها من جهة الشمال الغالب عليها الاعتدال مع ميل يسير نحو الحرارة فما بين هذين الموضعين من أرض مصر الغالب عليه الحرارة وتكون قوّة حرارته بقدر بعده من أسوان وقربه من بحر الروم. ومن أجل هذا قال أبقراط وجالينوس: إن المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة قال: وجبل لوقا في مشرق هذه الأرض يعوق عنها ريح الصبا فإنه لم يوجد بفسطاط مصر صبا خالصة لكن متى هبت الصبا عندهم هبت نكبًا بين المشرق والشمال أو المشرق والجنوب وهذه الرياح يابسة مانعة من العفن. وقد عدمت أهل مصر هذه الفضيلة ومن أجل ذلك صارت المواضع التي تهب فيها ريح الصبا من أرض مصر أحسن حالًا من غيرها كالإسكندرية وتنيس ويُعوّق أيضًا هذا الجبل إشراق الشمس على أرض مصرَ إذا كانت على الأفق فيكون زمان لبث الشعاع على هذه الأرض أقل من الطبيعيّ. ومثل هذه الحال سبب لركود الهواء وغلظه. وأرض مصر أرض كثيرة الحيوان والنبات جدًّا لا تكاد تجد فيها موضعًا خلوًا من الحيوان والنبات. وهي أرض متخلخلة فإنك تراها عند انصراف النيل بمنزلة الحمأة فإذا حلَّت الحرارة ما فيها من الرطوبة تشققت شقوقًا عظامًا والمواضع الكثيرة الحيوان والنبات أرض كثيرة العفونة وقد اجتمع على أرض مصر حرارة مزاجها وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات فأوجب ذلك احتراقها وسواد طينها فصارت أرضًا سوداء. وما قرب منها من الجبل سبخ إما بورقيّ أو مالح. ويظهر من أرض مصر بالعشيات بخار أسود أو أغبر وخاصة في أيام الصيف. وأرض مصر ذات أجزاء كثيرة ويختص كل جزء منها بشيء دون غيره وعلة ذلك ضيق عرضها واشتمال طولها على عرض الإقليم الثاني والثالث فإن الصعيد فيه من النخل والسنط وآجام القصب والبردي ومواضع إحراق الفحم وغير ذلك شيء كثير. والفيوم فيه من النقائع وآجام القصب ومواضع تعطين الكتان شيء كثير. وأسفل أرض مصر فيه من النبات أنواع كثيرة كالقلقاس والموز وغير ذلك. وبالجملة فكل بقعة من أرض مصر لها أشياء تختص بها وتتفضل عن غيرها. قال: والنيل يرطب يبس الصيف والخريف فقد استبان أنّ المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة والرطوبة الفصلية وإنها ذات أجزاء كثيرة. وأنّ هواءها وماءها رديئان وقد بيّن الأوائل أن المواضع الكثيرة العفن يتحلل منها في الهواء فضول كثيرة لا تدعه يستقرّ على حال لاختلاف تصعدها. وقد كان استبان أنّ هواء أرض مصر يسرع إليه التغير لأنّ الشمس لا يثبت على أرض مصر شعاعها المدة الطبيعية فمن أجل هذين كثر اختلاف هواء أرض مصر فصار يوجد في اليوم الواحد على حالات مختلفة مرّة حرّ ومرّة برد ومرّة يابس وأخرى رطب ومرّة متحرّك وبالجملة هواء مصر كثير الاختلاف غير لازم لطريقة واحدة فيصير من أجل ذلك في الأوعية والعروق من أخلاط البدن لا يلزم حدًّا واحدًا وأيضًا فإن ما يتحلل كل يوم من البخار الرطب بأرض مصر يعوقه اختلاف الهواء وقلة سمك الجبال وكثرة حرارة الأرض عن الاجتماع في الجوّ فإذا برد الهواء ببرد الليل انحدر هذا البخار على وجه الأرض فيتولد عنه الضباب الذي يحدث عنه الطل والندا وربما تحلل هذا البخار بالتحلل الخفي فإذا يتحلل كل يوم ما كان اجتمع من البخار في اليوم الذي قبله فمن أجل هذا لا يجتمع الغيم الممطر بأرض مصر إلا في الندرة. وظاهر أيضًا أنّ أرض مصر يترطب هواؤها في كل يوم بما يترقى إليه من البخار الرطب وما يتحلل. وقد قال بعض الناس: أنّ الضباب يتكوّن من استحالة الهواء إلى طبيعة الماء فإذا انضاف هذا إلى ما قلناه كان أزيد في بيان سرعة تغير الهواء بأرض مصر وكثرة العفونة فيها وقد استبان أنّ أرض مصر كثيرة الاختلاف كثيرة الرطوبة الفضلية التي يسرع إليها العفن. والعلة القصوى في جميع ذلك هو أن أخص الأوقات بالجفاف في الأرض كلها يكثر فيه بمصر الرطوبة لأنها تترطب في الصيف والخريف بمدّ النيل وفيضه. وهذا بخلاف ما عليه البلدان الأخر. وقد علمنا أبقراط أنّ رطوبة الصيف والخريف فضلية أعني: خارجة عن المجرى الطبيعيّ كرطوبة المطر الحادث في الصيف ومن أجل هذه قلنا: إن رطوبة مصر فضلية وذلك أن الحرارة واليبس هو بالحقيقة مزاج مصر الطبيعيّ وإنما عرض له ما أخرجه عن اليبس إلى الرطوبة الفضلية بمدّ النيل في الصيف والخريف. ولذلك كثرت العفونات بهذه الأرض فهذا هو السبب الأعظم في أن صارت أرض مصر على ما هي عليه من سخافة الأرض وكثرة العفن ورداءة الماء والهواء. إلا أن هذه الأشياء لا تحدث في أبدان المصريين استحالة محسوسة إذا جرت على عادتها من أجل إلف المصريين لهذه الحال ومشاكلة أبدانهم لها فإن كل ما يتولد بأرض مصر من الحيوان والنبات مشابه لما عليه مصر في سخافة الأبدان وضعف القوى وكثرة التغير وسرعة الوقوع في الأمراض وقصر المدّة كالحنطة بمصر فإنها وشيكة الزوال سريع إليها العفن في المدّة اليسيرة ولا مطعن أن أبدان الناس وغيرهم تخالف ما عليه الحنطة من سرعة الاستحالة وكيف لا يكون الأمر كذلك وأبدانهم مبنية من هذه الأشياء فحال ما يتولد بأرض مصر من النبات والحيوان في السخافة وكثرة الفضول والعفن وسرعة الوقوع في الأمراض كحال سخافة أرضها وعفنها وفضولها وسرعة استحالتها لأنّ النسبة واحدة. ولذلك أمكن حياة الحيوان فيها ونبات النبات بها فإن هذه الأشياء من حيث ناسبتها ولم تبعد من مشاكلتها أمكن حياتها. فأما الأشياء الغريبة فإنها إذا دخلت إلى مصر تغيرت في أوّل لقائها لهذا الهواء حتى إذا استقرّت وألّفت الهواء واستمرّت عليه صحت مشاكلة لأرض مصر. قال: وأما جنس ما يؤكل ويشرب بأرض مصر. فإن الغلات سريعة التغير سخيفة متخلخلة تفسد في الزمان اليسير كالحنطة والشعير والعدس والحمص والباقلاء والجلبان. فإن هذه تسوّس في المدة القليلة ليس لشيء من الأغذية التي تعمل منها لذاذة ما لنظيره في البلدان الأخَر. وذلك أنّ الخبز المعمول من الحنطة بمصر متى لبث يومًا واحدًا بليلته لا يؤكل وإن أكل لم يوجد له لذاذة ولا تماسك لبعضه ببعض ولا يوجد فيه علوكة ولكنه يتكرّج في الزمان اليسير وكذلك الدقيق وهذا خلاف أخبار البلدان الأخر وكذلك الحال في جميع غلات مصر وفواكهها وما يعمل فيها فإنها وشيكة الزوال سريعة الاستحالة والتغير. فأما ما يحمل من هذه إلى مصر فظاهر أنّ مزاجها يتبدّل باختلاف الهواء عليها ويستحيل عما كانت عليه إلى مشاكلة أرض مصر إلا أنّ ما كان حديثًا قريب العهد بالسفر فقد بقيت فيه من جودته بقايا صالحة فهذا حال الغلات. وأما الحيوان الذي يكله الناس فالبلدي منه مزاجه مشاكل لمزاج الناس بهذه الأراضي في السخافة وسرعة الاستحالة فهو على هذا ملائم لطبائعهم والمجلوب كالكباش البرقية فالسفر يحدث في أبدانها قحلًا ويبسًا وأخلاطًا لا تشاكل أخلاط المصريين. ولها إذا دخلت مصر مرض وأهل مصر يشرب الجمهور منهم من ماء النيل وقد قلنا في ماء النيل ما فيه كفاية وبعضهم يشرب مياه الآبار وهي قريبة من مشاكلتهم والمياه المخزونة فقلّ من يشربها بأرض مصر. وأجود الأشربة عندهم الشمسيّ: لأنّ العسل الذي فيه يحفظ قوّته ولا يدعه يتغير بسرعة والزمان الذي يعمل فيه خالص الحر فهو ينضجه والزبيب الذي يعمل منه مجلوب من بلاد أجود هواء. وأما الخمر فقل من يعتصرها إلا ويلقي معها عسلًا وهي معتصرة من كرومهم فتكون مشاكلة لهم ولهذا صاروا يختارون الشمسيّ عليها وما عدا الشمسيّ والخمر من الشراب بأرض مصر فرديء لا خير فيه لسرعة استحالته من فساد مادّته كالنبيذ التمري والمطبوخ والمزر المعمول من الحنظة. وأغذية أهل مصر مختلفة فإن أهل الصعيد يغتذون كثيرًا بتمر النخل والحلاوة المعمولة من قصب السكر ويحملونها إلى الفسطاط وغيرها. فتباع هناك وتؤكل وأهل أسفل الأرض يغتذون كثيرًا بالقلقاس والجلبان ويحملون ذلك إلى مدينة الفسطاط وغيرها. فتباع هناك وتؤكل وكثير من أهل مصر يكثرون أكل السمك طريًا ومالحًا وكثير يُكثرون أكل الألبان وما يعمل منها وعند فلاحيهم نوع من الخبز يدعى كعكًا يعمل من جريش الحنطة ويجفف وهو أكثر أكلهم السنة كلها. وبالجملة فكل قوم قد ابتنت أبدانهم من أشياء بأعيانها وألفتها. ونشأت عليها إلا أن الغالب على أهل مصر الأغذية الرديئة وليست تغير مزاجهم ما دامت جارية على العادة. وهذا أيضًا مما يؤكد أمرهم في السخافة وسرعة الوقوع في الأمراض. وأهل الريف أكثر حركة رياضة من أهل المدن ولذلك هم أصح أبدانًا لأنّ الرياضة تصلب أعضاءهم وتقوّيها وأهل الصعيد أخلاطهم أرق وأكثر دخانية وتخلخلًا وسخافة لشدّة حرارة أرضهم من أسفل الأرض وأهل أسفل الأرض بمصر أكثر استفراغ فضولهم بالبراز والبول لفتور حرارة أرضهم واستعمالهم للأشياء الباردة والغليظة كالقلقاس. وأما أخلاط المصريين فبعضها شبيه ببعض لأنّ قوى النفس تابعة لمزاج البدن وأبدانهم سخيفة سريعة التغير قليلة الصبر والجلد وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة والتنقل من شيء إلى شيء والدعة والجبن والقنوط والشح وقلة الصبر والرغبة في العلم وسرعة الخوف والحسد والنميمة والكذب والسعي إلى السلطان وذمّ الناس. وبالجملة فيغلب عليهم الشرور الدنية التي تكون من دناءة الأنفس وليس هذه الشرور عامّة فيهم ولكنها موجودة في أكثرهم ومنهم: من خصه اللّه بالفضل وحسن الخلق وبرّأه من الشرور ومن أجل توليد أرض مصر الجبن والشرور الدنيئة في النفس لم تسكنها الأسد وإذا دخلت ذلت ولم تتناسل وكلابها أقل جرأة من كلاب غيرها من البلدان. وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخر ما خلا ما كان منها في طبعه ملائمة لهذه الحال كالحمار والأرنب. وقال: إن جالينوس يرى أن فصل الربيع طبيعته الاعتدال ويناقض من ظنّ أنه حار رطب ومن شأن هذا الفصل أن تصح فيه الأبدان ويجود هضمها وتنتشر الحرارة لغريزية فيه ويصفو الروح الحيواني لاعتدال الهواء وصفائه ومساواة ليله لنهاره وغلبة الدم والهواء المعتدل هو الذي لا يحس فيه ببرد ظاهر ولا حرّ ولا رطوبة ولا يبس ويكون في نفسه صافيًا نقيًا فيقوى فيه الروح الحيواني لهذا السبب وتصح الأبدان ويكثر نشاط الحيوان وتنمو الأشياء وتزيد وتتوالد. وإذا طلبنا بأرض مصر مثل هذا الهواء لم نجده في وقت من السنة إلا في امشير وبرمهات وبرمودة وبشنس عندما تكون الشمس في النصف الأخير من الدلو والحوت والحمل والثور. فإنا نجد بمصر في هذا الزمان أيامًا معتدلة نقية صافية لا يحس فيها بحرّ ظاهر ولا برد ولا رطوبة ولا يبوسة وتكون الشمس فيها نقية من الغيوم والهواء ساكنًا لا يتحرّك إلا أن يكون ذلك في برمودة وبشنس فإنه يحتاج إلى أن تهب ريح الشمال ليعتدل ببردها حرّ الشمس. وفي هذا الزمان تكثر حركة الحيوان وسفاده وتحسن أصواته وتورق الأشجار ويعقد الزهر وتقوى القوة المولدة ويغلب كيموس الدم. وهذا الفصل في أرض مصر يتقدّم زمانه الطبيعيّ بمقدار ما ينقص عن آخره وعلة ذلك قوّة حرارة هذه الأرض وقد يعرض في أول هذا الفصل أيام شديدة البرودة وذلك في أمشير إذا هبت ريح الشمال وكانت الشمس غير نقية من الغيوم وعلة ذلك دخول فصل الربيع في فصل الشتاء. فإذا هبت ريح الشمال برد ببردها الهواء فأعادته بعد الاعتدال إلى البرد ولكثرة ما يصعد من الأرض في هذا الزمان من البخار الرطب يرطب الهواء ويعود إلى حاله في فصل الشتاء وربما برد الهواء من هبوب رياح أخر فإن ريح الجنوب التي هي أشدّ الرياح حرارة إذا هبت في هذا الزمان اكتسبت برودة من الأرض والماء الذين قد برّدهما هواء الشتاء. فإذا مرّت بشيء برّدته ببرودتها العرضية حتى إذا دام هبوبها أيامًا كثيرة متوالية عادت إلى حرارتها وأسخنت الهواء وأحدثت فيه يبسًا. والدليل على أن برد رياح الجنوب التي تعرفها المصريون بالمريسي يتولد من برد مياه مصر وأرضها لا بشيء طبيعي لها أنه لا يجتمع في الجوّ في أيام هبوبها الضباب الذي يجتمع من تحليل الحرارة للبخار الرطب بالنهار. وجمع البرودة له بالليل. فحرارة ريح الجنوب تفرّق البرودة عن جمعه وتبدّده في الهواء وإذا دام هبوب هذه الريح أسخنت الماء والأرض وعادت إلى طبيعتها في الحرارة. وإذا كان فصل الربيع يتقدّم زمانه الطبيعي ويختلف هذا الاختلاف. والهواء في الأصل بمصر يختلف بكثرة استحالته وما يرقى إليه من البخار فما ظنك بغيره من الفصول ولذلك كثرت فيه الرياح. وأخر الأطباء فيه سقي الأدوية المسهلة إلى أن يستقرّ أمره في شمس الحمل مع الثور ثم يدخل فصل الصيف في آخر بشنس وبؤنة وأبيب وبعض مسرى. عندما تكون الشمس في الجوزاء والسرطان والأسد وبعض السنبلة فيشتدّ الحرّ واليبس في هذا الزمان وتجف الغلات وتنضج الثمار ويجتمع من أكلها في الأبدان كيموسات رديئة وإذا نزلت الشمس في السرطان أخذ النيل في الزيادة والفيض على أرض مصر. فيتغير مزاج الصيف الطبيعي بكثرة ما يترقى إلى الهواء من بخار الماء ويوجد في أوّل هذا الفصل عندما تكون الشمس في الجوزاء أيام يشاكل هواؤها هواء الربيع عندما تكون الشمس مستوردة بالغيوم أو تكون الريح الشمال هاوية. ولهذا يغلط كثير من الأطباء ويسقي الأدوية المسهلة في هذا الزمان لظنه أن فصل الربيع لم يخرج إلا من كان منهم أحذق فهو يختار ما كان من هذه الأيام أسكن حرارة والأكثر لا يشعرون ألبتة بهذه الحال. وفي آخر الصيف يكون فيض النيل فظاهر أن هذا الفصل يتقدّم دخوله الزمان الطبيعيّ بقدر ما يتقدم آخره وأنه كثير الاضطراب بكثرة ما يرقى إليه من بخار الأرض. فلولا استمرار أبدانهم على هذا الاختلاف ومشاكلتهم لهذه الحال لحدثت فيهم الأمراض التي ذكر أبقراط: أنها تحدث إذا كان الصيف رطبًا. ثم يدخل فصل الخريف وطبيعته يابسة من النصف الأخير من مسرى ثم توت وبابة وبعض أيام هاتور. وتكون الشمس في آخر السنبلة والميزان والعقرب فتكمل زيادة النيل في أوّل هذا الفصل ويطلق على الأرضين فيطبق أرض مصر ويرتفع منه في الجوّ بخار كثير فينتقل مزاج الخريف عن اليبس إلى الرطوبة حتى أنه ربما وقع فيه الأمطار وكثرة الغيم في الجوّ. ويوجد في هذا الفصل أيام شديدة الحرّ لأنها على الحقيقة صيفية. فإذا نقي الجوّ من البخار الرطب عادت إلى طبيعتها من الحرارة. وفيه أيضًا أيام شديدة الشبه بأيام الربيع تكون عندما يساوي الليل النهار ويرطب الماء يبس الهواء ويشتدّ في هذا الفصل اضطراب الهواء بكثرة ما يرتقى إليه من البخار الرطب فيكون مرّة حارًّا أو أخرى باردًا ومرّة يابسًا وأكثر أوقاته يغلب عليه الرطوبة فلا يزال كذلك يتمزج حتى يغلب عليه رطوبة الماء في آخر الأمر ويصاد في أيام الخريف من النيل أسماك كثيرة جدًا يولد أكلها في الأبدان أخلاطًا لزجة. وكثيرًا ما يستحيل إلى الصفر إذا صادفت في البدن خلطًا صفراويًا. فمن أجل ذلك يضطرب ما في الأبدان من الروح الحيوانيّ وتهيج الأخلاط ويفسد الهضم في البطون والأوعية والعروق ويتولد من ذلك كيموسات رديئة كثيرة الأخلاط بعضها مرّة صفراء وبعضها مرّة سوداء وبعضها بلغم لزج وبعضها خلط خام وبعضها مرّة محترقة وكثير منها يتركب من هذه الأشياء فتثير الأمراض حتى إذا انصرف النيل في آخر الخريف وانكشفت الأرض وبرد الهواء وكثرت الأسماك واحتقن البخار وكثر ما يرتفع به من الأرض من العفونة واستحكم عند ذلك وجود العفن تزايدت الأمراض. ولولا إلف أهل مصر ثم يدخل فصل الشتاء وطبيعته باردة رطبة من النصف الآخر من هاتور ثم كيهك وطوبة وذلك عندما تكون الشمس في القوس والجلي وبعض الدلو ودلك أقل من ثلاثة أشهر والعلة في ذلك قوّة حرارة أرض مصر وكون الأبدان مضطربة وتنكشف الأرض في أوّل هذا الفصل وتحرث وتعفن بالجملة لكثرة ما يلقي فيها من البزور وما فيها من أزبال الحيوان وفضولها ولأنها سخيفة. وهي كالحمأة في هذا الزمان فيتولد فيها من أنواع الفار والدود والنبات والعشب وغير ذلك ما لا يحصى كثرةَ. وينحل منها في الجوّ أبخرة كثيرة حتى يصير الضباب بالغدوات ساترًا للأبصار عن الألوان القريبة ويصاد أيضًا من الأسماك المحبوسة في المياه المخزونة شيء كثير وقد داخلها العفن لقلة حركتها فيولد أكلها في الأبدان فضولًا كثيرةً لزجةَ شديدة الاستعداد للعفن فتقوي الأمراض في أوّل هذا الفصل. حتى إذا اشتد البرد وقوي الهضم في الأبدان واستقرّ الهواء على شيء واحد وعادت الحرارة الغريزية إلى داخل وتطبقت الأرض بالنبات وسكنت عفونتها صحت عند ذلك الأبدان. وهذا يكون في آخر كيهك أو في طوبة فقد استبان أن الفصول بأرض مصر كثيرة الاختلاف وإن أردأ أوقات السنة عندهم وكثرها أمراضًا هو آخر الخريف وأوّل الشتاء وذلك في شهر هاتور وكيهك فإذا اختلاف الفصول مشاكل لما عليه أرضهم من الرداءة. فمضرة الفصول إذًا بالأبدان في أرض مصر أقل منها في البلدان الأخر إذا اختلفت هذا الاختلاف واستبان أيضًا أن السبب الأول في ذلك هو: مدّ النيل في أيام الصيف وتطبيقه الأرض في أيام الخريف بخلاف ما عليه مياه الأنهار في العمارة كلها فإنها إنما تمتدّ في أخص الأوقات بالرطوبة وهو الشتاء والربيع. قال: وقد استبان مما تقدم أن الرطوبة الفضلية بأرض مصر كثيرة وظاهر أن أمراضهم البلدية تكون من نوع هذه الرطوبة. فإني أنا قلما رأيت أمراضهم البلدية تكون من نوع هذه كلها لا يشوبها في أول أمرها البلغم والخلط الخام. والأمراض كلها تحدث عندهم في الأوقات كلها كما قال أبقراط وأكثر أمراضهم هي الفضلية أعني العفنة من أخلاط صفراوية وبلغمية على ما يشاكل كل مزاج أرضهم. وما ذكرناه فيما تقدّم يوجب حدوث الأمراض كثيرًا إلا أن مشاكلة هذه بعضها بعضًا واتفاقها في سنة واحدة تمنع من أن تكون في أنفسها ممرضة متى لزمت العادة فأما إذا خرجت عن عادتها فهي تحدث مرضًا وخروجها عن عادتها بمصر هو الذي أعلّى اختلافًا ممرضًا لا الاختلاف الموجود فيها على الدائم والنيل ليس يُحدث في الأبدان كل سنة مرضًا ولكنه إذا أفرطت زيادته ودام مدّة تزيد على العادة كان ذلك سببًا لحدوث المرض الوافد. فإن قيل: إذا كانت أبدان الناس بأرض مصر من السخافة على ما ذكرت فلعلها في مرض دائم. فالجواب: لسنا نبالي بهذا كيف كان لأن المرض هو ما يضرّ بالفعل ضررًا محسوسًا من غير توسط. فمن أجل ذلك ليس أبدان المصريين في مرض دائم ولكنها كثيرة الاستعداد نحو الأمراض. قال: أما أمراض مصر البلدية فقد ذكرنا من أمرها ما فيه كفاية وظهر أن أكثرها الأمراض الفضلية التي يشوبها صفراء وخام على أن باقي الأمراض تحدث عندهم بسرعة وقرب وخاصة في آخر الخريف وأوّل الشتاء.
|