الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحاضرات ***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل من سماء رحمته غيثًا نافعًا، فأنبت به في قلوب عباده زهرًا ناضرًا وثمرًا يانعًا. زهر من العلم والعرفان مؤتلق *** في الطرس والنفس يستهدي بألوان وثمر يجتنيه الأذكياء بتش *** مير ولا يجتنيه الفدم والواني لله در كرام فاو فائزهم *** قدْمًا بحلب درور منه ملْبان وبابتناء مبان منه سامية *** لا يبتني مثلها في دهره الباني هذا هو المجد في الدارين والشرف ال *** محض الذي ما به في فضل ثان "فاعكف عليه" مع الآناء معتنيًا *** ولا يكن لك عن تطلابه ثان واعلم بأنك لن تحظى بصهْوته *** حتى تجوبز المدى في كل ميدان ما لم تسنح عليه كلما شجر *** يرجى الجني منه أرضي وعَبْدان وتبذل النفس بعد المال مطرحا *** لكل ترفيه أرواح وأبدان وتغترب برهة في كل آلفة *** من ذات قربى وأوطان وإخوان والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ينبوع الأحكام والحكم، ومجموع شيم الفضائل وفضائل الشيم، وعلى آله ذوي المجد والكرم، وصحبه بحور العلوم ونجوم الظلم. أما بعد، فإن الدهر أبو العجائب، وينبوع الغرائب، وفي المثل: الدهر حبلى لا يدري ما تلد، وقال الشاعر: والليالي كما علمت حبالى *** مقْرِبات يلدن كل عجيبه وقال طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود وإن للعاقل على مرور الجديدين علمًا جديدًا حيث انتهى فهمه كما له عيش حيث تهدي ساقه قدمه وكنت قلت في نحو ذلك: أراني حيثما أخطُ *** أجد ما لم أجد قطُّ وإن الدهر حبلى كُلّ *** ما حين له سقط لقد سايرته طفلًا *** إلى أن مسني وخط فلم ينفك يشتد *** على المرء ويشتط ولم يأل إذا استعلى *** يوم الهون أو يسطو له في كل إذن من *** بني أبنائه قرط وفي كل قذال وس *** مة بالنار أو شرط وقد يحنو ويستأني *** وقد يحبو لمن يعطو سماء ديمة تأتي *** بزهر زهرها رُقط فحمر ومصفر *** وموفور ومُنْقَطُّ ومجدود ومحروم *** ومستعمل ومنحط ومنقاد ومعوج *** وكز الخلق أو سبط قضاء مبرم ممن *** إليه الحل والربط إلهٌ أمره الأمر *** ومنه الرفع والحط ومنه اليسر والعسر *** ومنه القبض والبسط له في كلِّ ما يومٍ *** شؤون منه تختط وذو الفهم له علم *** جديد حيثما يخطو ففكر واعتبر تعلم *** علومًا دونها الضبط وتدرك غير ما في الصح *** ف يومًا خلد الخط وسلم وأرض بالمقدو *** ر لا يذهب بك السخط ولا تبرم إذا المولى *** يشدّ الحبل أو يمطو فما ترجو من الرضوا *** ن أنْ تَرْضَى له شرط وإني قد اتفقت لي سفرة بان بها عني الأهل شغلًا وتأنيسًا، وزايلني العلم تصنيفًا وتدريسًا، فأخذت أرسم في هذا المجموع بعض ما حضرني في الوِطاب، مما أحال فيه أو حان له إرطاب وسميته "المحاضرات" ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معماه وفي المثل": "خير العلم ما حوضر به" وإنما أذكر فيه فوائد وطرفًا، وقصائد ونتفًا، وذلك مما اتفق لي في أيام الدهر من ملح، أو لغيري مما ينتقى ويستملح، ولا أذكر نادرة فيها معنى شريف إلاّ شرحته، ولا لطيفًا إلا وشحته، وذلك هو لباب الكتاب، وفائدة الخطاب، والله الملهم للصواب. وقد أذكر بعض ما صورته هزل يستهجن، وفيه سر يستحسن، وكما أن المقصود من الأشجار ثمارها، فالمطلوب من الأخبار أسرارها، وإنما حملني على الأخذ فيه أمور: منها التفادي من البطالة، التي هي مدرجة الجهالة والضلالة، ومنها إفادة جاهل أو تنبيه غافل، ومنها تخليد المحفوظ لئلا ينسى. وتفصيله نوعًا وجنسا، ومنها استمطار علم جديد، عند الاشتغال بالتقييد، فإن العلم كالماء نبَّاع، وبعضه تباع، وما هو في قلب ذكي الفؤاد، إلاّ كما قال امرؤ القيس عند وصف الجواد: يجم على الساقين بعد كلاله *** جموم عيون الحسي بعد المخيض
معنا تعليل النفس، ببعض الأنس، فإن النفس ترتاح للأحماض وتستشفي بروحه من الإمضاض ولا سيما مثلي ممن ترامت به الأقطار وتباعدت عنه الأوطان والأوطار وقلت في ذلك: سلا هل سلا عن أهله قلب معْنيِّ *** بريب الهوى والبين عن جيرة الحيِّ وهل ذلك الوجد الذي قد حشا الحشا *** مقيم على أديانه غير مكفيِّ وهل قلبه يوم النوى متقلب *** تقلب مفؤود اللظى ساعة الشيِّ وهل ينوي الأحباب مشفٍ على التوى *** وليس بوصل من حبيب بمشفيِّ وهل أعشبت تلك الشعاب وأمرعت *** فجاج مراعيها بعهد ووسميِّ وهل أُقْحُوانُ الجزع فاح ونده *** بعرف تهاداه الشمائل مسْكيِّ وهل تالك الأزهار تهتز نضرة *** بكل جميل في الخميلة مَوْليِّ وكل مُجودٍ في النجود تناوحت *** عليه الرياح من جنوبي وشرقيِّ إذا ما السحاب الغر عاطينها الحيا *** تمايلن نشوى من مدام شباميِّ وإن صافحتها بعد وهنٍ يد الصبا *** تنمت بأذكى من عبير وألويّ ِ فما شئت فيها من يواقيت تجتلي *** ومن كوكب يعشي النوال درّيّ ومن بسط تزري ابتهاجا بمفرش *** أعدت بنو ساسان للبسط بَوْشيّ وهل لسليمى من ثواء بدارها *** سقى الله تلك الدار أطيب ما رِيِّ وحيا محياها الوسيم وإن لوت *** غريمًا تقاضى وصلها طول ما لي وحيا زمانا للوصل بيننا *** تباشير كالصبح المنير على رَيِّ زمان ديار الحي دانٍ مزارها *** ونحن على عهد من الودّ مرعيِّ نعمنا بإيناس البروق من الحمى *** أنيسًا وإن لم نحظ منه بإنسيِّ ونسمة أرواح الصبا وهبوبها *** علينا نمومًا من صباها بمطويِّ وتنشاق آ بالأجارع تعتلي *** بنفحته للمستهامين عطريِّ وكنّا على أنّا كأنّا بوصلها *** نغادي بكأس مطمئنين خمري ونرتع في روض المنى وننال ما *** نشاء ولا نرتاع من بين مَهْوِيِّ وعشنا زمانا لا نعاني صبابة *** ولا نتباكى من سليمى ولا ميِّ ولا نتشكّى من صدود ولا صدى *** ولا وجد مفؤود الجوانح مَبْريِّ ليالي كان الشمل منضبط الكلى *** وحبل التوالي مُحصَدٌ غيرُ مَفريِّ فلم تلبث الأقدار أن مددت بنا *** عنانًا إلى شط النوى غير مَثْنيِّ فحالت موّامٍ دونها ذات منزع *** ودَيْنُ التداني قد غدا غير مقضيِّ وكان الذي خفنا يكون من النوى *** وصرنا لأمر مُذْ أحايين مَخْشيِّ على أن فضل الله ما انفك هامرًا *** علينا ولطف دائم غير مَزْوِيّ فلا تغترر بالدهر يلقاك بشره *** فإن وراء البشر طعن الرُّدَيْنيِّ ولا تأمنن من هوله إن ريحه *** تهب إذا هبَّت عصوفا بلُجِّيِّ ولا تغتبط من حظه بمنول *** ولو تاج ملْكٍ فوق أشمخ كرسيِّ فما حالة منه تدوم على امرئ *** ولو خال جهلًا أنه غير مَدْهيِّ وما هو إلاّ مثل دولابَ زارع *** فعُلويّه يعتاض حتما بسُفْليّ فكم أنْزلتْ نَسْرَ السماء صروفُه *** وحلّت ببنت الماء دارة علْويّ وكم ضعضعت ملكًا وأفنت ممالكا *** وكم عاد عاني ريبها غير مَفديّ وكم زَيّلت بين المحبين فاغتدى *** دم الصب من فتك الهوى غير موّديّ قضاء من المولى له كل ساعة *** تَصرّفُ مختار وإنجازُ مَقضيّ فأعْلقْ به أشطانَ قلبك واعتمد *** عليه تنل رشدًا وتنج من الغيّ وقَف أبدًا في بابه متأدبا *** منيبًا بسعي عِند مولاكِ مرضيّ قنوعًا رَضُوًَا بالقضاء مسلما *** بقلب على التوحيد والصدق محني فذاك الذي يرقى به لمنازل *** بها كل صديق حوى الفضل رِبّيّ وإن كنت لم تسعدك في ذلك القُوى *** فزاحم بمسْطاع مع الحب والزِّيِّ فإن جليس القوم ما إن يناله *** شقاء ومن عن حبهم غير مرميِّ ومن قد حكاهم فهو متهم وكل ذا *** أتى في حديث عن ذوي الصدق مرويِّ وكل امرئ يومًا سيجزى بما أتى *** من الخير بل يجزى على كل مَنْويِّ لله الأمر من قبل ومن بعد.
قد جرت عادة من ألف بل من كتب رسالة أن يتسمى في كتابه ليعرف وفي معروفيته فوائد منها في كلامه أن يعرف مذهبه أو مطلبه أو يتمكن جوابه أو يشهد له وعليه. ومن أهمها أن يعلم هل يوثق بنقله ويقتدي به في أصله، فإن كلام الحجة حجة، وإنما يعرف كونه حجة ومرتبته من العلم بشهادة أهل العلم، وذلك في ثلاثة أشياء: أحدها التصريح بذلك مشافهة أو في ترجمته ولذلك صنفت طبقات أهل العلم وأعتني بتراجمهم. ثانيها عده مع العلماء عند ذكرهم في مذهب أو وفاق أو خلاف أو حكاية كلامه فيما يحكى من كلام العلماء أو مذهبه أو نحو ذلك وهو كالتصريح. ثالثها الأخذ عنه أو إقراء تصانيفه أو شرحها أو تقليده أو نحو ذلك. وإنما يحصل له ذلك من ثلاثة أشياء: أحدها سماع كلامه مشافهة. ثانيها مطالعة تصانيفه والوقوف على تحريره وتحصيله أو سماع فتاويه وآرائه وكلامه بنقل الغير له كما مر وهلم جرّا. وبعد حصول مطلق المرتبة من العلم تحصل خصوصيات المراتب بشهادة من هو أهل لذلك بها بمشافهة أو في ترجمة أو اقتداء الأكابر به، أو ترجيحه على غيره أو نحو ذلك. ومنها في خارج أن تعرف مرتبته كما مرّ أو يتعرض لدعاء داع أو ثناء مثن بخير ومحبة وود وغير ذلك. فرأيت أن أتسمى في هذا المجموع وأضيف إلى ذلك ما اتفق لي من كنية وما أدركت من نسب بعد أن تعلم أن الاسم العلم ثلاثة: اسم وكنية ولقب. أما الاسم فهو من حيث هو ما أريد به من تعيين المسمى لا يعطى مدحًا ولا ذمًا لصلاحية كل اسم لكل مسمى عند المحققين، ولكن إذا كان منقولًا فكثيرًا ما يلاحظ فيه زيادة على تعيين المسمى مدلوله الأول الحقيقي أو المجازي فيشعر بمقتضاه إشعارًا. ومن هذا وقع التفاؤل والتطير بالأسماء، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن ويقول: «إذَا أبْرَدْتُمْ إليَّ بَرِيدًا فَأبْرِدُوهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الاسْمِ». وكان صلى الله عليه وسلم يغير من الأسماء ما لا يرضى، فسأل عن اسم ماء فقيل له: بيسان وماؤه ملح فقال: بل هو نعمان وماؤه عذب، فكان كذلك، وجاءه رجل فقال ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزي، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن عبد ربه، وجاءه آخر فقال ما اسمك؟ فقال: حزن، فقال: بل أنت سهل، فقال الرجل: ما كنت لأغير اسمًا سماني به أبي، وكان الإمام سعيد المسيب -رضي الله عنه- والرجل من أجداده يقول: فما زالت الحزونة فينا. فانظر كيف حكم مدلول اللفظ الأول. وقال صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين أقبل سهيل من ناحية قريش: «سَهُلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُم» ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «أسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ، وَغفَارٌ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وعُصَيَّةُ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ» وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقد سأل عن اسم رجل استعمله أو أراد أن يستعمله فقيل له: هو خبيئة كناز: هو يخبأ، وأبوه يكنز، لا حاجة لنا به. وبدل صلى الله عليه وسلم: برة بنت أبي سلمة بدرة فرارًا من التزكية التي يعطيها اللفظ، وقال مولانا علي كرم الله وجهه: أنا الذي سمتني أمي حَيْدره *** وقال الحريري في "المقامات" على لسان الغلام: "أما أمي فاسمها برة، وهي كاسمها برهة" وقالت اليهود يوم خيبر لمولانا علي رضي الله عنه، وقد تقدم بالراية فتسمى لهم: علوتم ورب الكعبة، وقالت العرب في أمثالها: إنما سميت هانئًا لتَهْنأ. وقال الأخطل في كعب بن جعيل: وسميت كعبًا بشر العظام *** وكان أبوك يسمى الجعل وإن مكانك من وائل *** مكان القرد من أست الجمل قال: "هما هذان". وكان بعض الرؤساء القيسية أحضر جفانًا من طعام، وكان بالحضرة بعض مَلاسينِ بكر بن وائل فأراد القيسي أن يعبث به فقال له: ما رأى بكر بن وائل قط مثل هذه الجفان؟ فقال ما رآها ولا رآها أيضًا قط عيلان يعني جده هو، ولو رآها ما قيل له عيلان بل شبعان. وقالت هند بنت النعمان بن بشير تهجو زوجها الفيض بن أبي عقيل: سميت فيضًا وما شيء تفيض به *** إلاّ سُلاحك بين الباب والدار وقال الآخر: وللحرب سمينا فكنا محاربا *** إذا ما الْقَنا أمسى من الطعن أحمرا
ومما ينخرط في هذا السلك أن بعض الملوك عزل وزيرًا له اسمه الياقوت فحلف الملك ليستوزن أول من يلقى فخرج فلقي رجلًا أعرابيًا فاستوزره فإذا هو من أعقل الناس وأنجبهم فلما رأى الوزير الأول ذلك كتب إلى الملك: أحكم النسج كل من حاك لكن *** نسج داود ليس كالعنكبوت ألقني في لظى فإن غيرتني *** فتيقن أن لست بالياقوت يشير إلى أن الياقوت المعروف لا يفسد بالنار. فأجاب الآخر: نسج داود ما حمى صاحب الغا *** ر وكان الفخار للعنكبوت وفراخ السَّمَنْد في لهب النا *** ر أزالت فضيلة الياقوت أشار إلى السمندل وهو دويبة في ناحية الهند تتخذ من جلودها المناديل وتلقى في النار فلا تزداد إلاّ نضارة وحسنًا ولا تحترق، والله على كل شيء قدير، إلى غير هذا مما لا ينحصر ولو تتبعناه لطال. وأما الكنية واللقب فيعتبران بوجهين: الأول نفس إطلاق الكنية واللقب وهما في هذا مختلفان، فإن الكنية الكثير فيها إذا لم تكن اسمًا أن يراد بها التعظيم وينبغي أن يعلم أن الناس باعتبارها ثلاثة أصناف: صنف لا يكنى لحقارته، وهو معلوم من أن الحقارة أمر إضافي، فرب حقير يكون له من يراه بعين التعظيم فيكنيه، والمقصود أن التحقير من حيث هو حقير لا يكنى إلاّ هزءًا أو تلميحًا، وصنف لا ينبغي أن يكنى لاستغنائه عنها وترفعه عن مقتضاها، ومن ثم لا يكنى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم أرفع من ذلك حتى إنهم أشرفت رفعتهم على أسمائهم فشرفت، فإذا ذكروا بها كانت أرفع من الكنى في حق غيرهم، وللملوك وسائر أكابر الناس نصيب من هذا المعنى، وصنف متوسط بين هذين، وهو الذي يكنى تعظيمًا، ثم إن كان التعظيم مطلوبًا ككنية أهل العلم والدين ومن يحسن شرعًا تعظيمه فحسن، وكذا اكتناء المرء بنفسه إن كان تحدثًا بالنعمة أو تبركًا بالكنية باعتبار من صدرت عنه أو نحو ذلك من المقاصد الجميلة فحسن، وإلاّ فمن الشهوات النفسانية، فما كان تكبرًا أو تعظيمًا لمن لا يجوز تعظيمه بغير ضرورة ونحو ذلك فحرام، وإلاّ فمباح، وليس من هذا الباب ما يقصده به مجرد الإخبار فقط كقولك جاء أبي أو أبو فلان هذا أي والده، ولا يقصد به معناه على وجه التفاؤل مثلًا نحو أبي الخير وأم السعد. وأما اللقب فيقصد به كل من المدح والذم وغير ذلك، والحكم كالذي قبله. الوجه الثاني النظر إلى مدلولهما الأصلي، وهما في ذلك كما مرّ في الاسم بل ذلك هنا أولى، لأن الأصل فيه أوضح، ولبعضهم في ذلك: أتيت أبا المحاسن كي أراهُ *** بشوق كاد يجذبني إليه فلما أن أتيت رأيت فسردًا *** ولم أرَ من بنيهِ ابنًا لديه يريد أن لفظه ينبئ عن كون المحاسن لازمة له لزوم الأولاد لأبيهم، ثم إنها لم يجدها عنده، وكذا يقال في أبي المكارم وأبي الفضل وأبي البخت وجمال الدين وشمس الأئمة، والأصل في جميع هذا أن المستحسن في العقول وإن لم يكن لازمًا خلافًا لمن زعم ذلك أن يطابق الاسم أي مدلوله الأصلي حتى يصير الاسم كأنه وصف مشتق لموصوف بمعناه، فإن لم يكن كذلك فإن التسمية خطأ، وكأن الاسم لا مسمى له، ومن هذا جاءت العادة بتخير الاسم عند التسمية وكذا عند الملاقاة كقصة البريد السابقة، أما التخير عند التسمية فلفائدتين: إحداهما التلذذ بسماعه وتجمل المسمى بذلك، الثانية التفاؤل بأن يصدق معناه، وذلك على حساب ما يريده، وللناس أغراض تختلف، وقد قيل لبعض العرب: لم تسمون عبيدكم نافعًا ومرزوقًا وأولادكم حربًا ومرة فقال: إنا نسمي أولادنا لأعدائنا ونسمي عبيدنا لأنفسنا أي فلا فرق بين فائدة النفع وفائدة الدفع وحلاوتهما، بل الدفع أهم. وكان وادي السباع في بلاد العرب وفيه قال قائلهم: مررت على وادي السباع ولا أرى *** كوادي السباع حين تبصر واديا أشد به ركبا أتوهُ تَئيّةً *** وأخوف إلاّ وما وقى الله ساريا قيل: سبب تسميته أن امرأة من العرب كانت نزلته ولها عدة أولاد فوجدها رجل يومًا وحدها فهم بها فقامت تصيح بأولادها وتقول: يل ليث، يا نمر، يا أسد، يا كذا، وهي أسماؤهم، فأقبلوا إليها يشتدون، فانطلق الرجل وهو يقول: هذا وادي السباع.
أما التخير عند الملاقاة والمعاملة فلفائدتين أيضًا: إحداهما التلذذ والتفاؤل، الثانية رجاء أن يكون قد طابق فوجد معناه ويكون حسن الاسم دالًا على حسن المسمى كما تقرر في الفراسة الحكمية من أن حسن الخلق دليل على حسن الخلق، وفي الحديث: «اطْلُبُوا الخَيْرَ عنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ» على وجه، ولم يبعث الله تعالى نبيًا إلاّ حسن الوجه حسن الاسم، وفي كلام العامّة: الاسم يدل على المسمى. ومن التفاؤل الصادق والرجاء الواقع ما وقع لعبد المطلب في تسمية نبينا صلى الله عليه وسلم حيث سماه باسمه الشريف، وكان هذا الاسم غير معتاد عندهم، فقيل له: لمَ سميته بهذا وليس من أسماء آبائك، فقال: رجاء أن محمد في السماء والأرض، فكان ذلك، ويحتمل أن يكون كان عنده من ذلك علم ممن لقي من أهل ذلك العلم كسيف بن ذي يزن ونحوه. وقد يكون سبب تخير الاسم مشايعة من تسمى به تبركًا به أو إحياء لذكره أو رجاء الشبه به أو نحو ذلك، وفي الحديث: «وُلدَ ليَ اللَيْلَةَ وَلَدٌ فَسَمّيْتَهُ باسْمِ أبي إبْرَاهيمَ» وقيل: لما نزل قوله تعالى: {يا أُخْتَ هَارُونَ} قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تكون أخت هارون وبينهما دهر طويل، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّهُمْ كَانُوا يُسَمّونَ بأسْمَاءِ أنْبيَائهمْ» أي هو هارون آخر سمي باسم هارون بن عمران عليه السلام. واعلم أن التلذذ المذكور في هذا القسم خلاف المذكور فيما مرّ، فإنّ ذلك تلذذ بالاسم بسبب حضور معناه الأصلي كسعد وسعيد ووردة وياسمين، وهذا تلذذ بالاسم لحضور من كان تسمى به من غير التفات إلى مدلول اللفظ الأصلي، فكل من سمع اسمًا كان وقع على مسمى آخر فقد يستشعر ذلك المسمى الآخر في الاسم فيوجب له ذلك الاستشعار أمورًا، إما تعظيمًا ومنه بدل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه اسم ولد كان اسمه محمد فسمع رجلًا يومًا يشتمه ويقول: فعل الله بك يا محمد وفعل، فقال: لا أرى اسم النبي صلى الله عليه وسلم يُسَبّ بكَ، وكان بعض الرؤساء كلم خديمًا له اسمه محمد في أمر وخاطبه باسم آخر وهم أنه غضبان عليه، فدخل على الخديم من ذلك جزع عظيم حتى يبين له بعد ذلك أنه إنما كان على جنابة فلم يستطع أن ينطق بهذا الاسم الشريف وهو جنب، رحمه الله تعالى وجزاه خيرًا، وإما تلذذًا أو استئناسًا أو اشتياقًا أو نحو ذلك لكونه أليفًا أو محبوبًا. وكان المجنون لما اشتد به حاله قام أهله فقالوا: نذهب به إلى الحجّ وزيارة البيت ففعلوا، فلما أقبلوا على مكة قالوا له: يا قيس، هذا بلد الله وهذا بيته فادع الله تعالى أن يعافيك من حب ليلى فأنشأ يقول: ذكرتك والحجيج له ضجيج *** بمكة والقلوب لها وجيبُ فقلت ونحن في بلد حرام *** به لله أخلصت القلوب: أتوب إليك يا رحمان مما *** جنيت فقد تكاثرت الذنوب فأما من هوى ليلى وحبّي *** زيارتها فإني لا أتوب فكيف وعندها قلبي رهينا *** أتوب إليك منها أو أُنيب فأيسوا منه ثم سكن شيئًا ما فلما بلغوا ناحية منىً سمع إنسانًا يقول: يا ليلى، ينادي امرأة، فطار المجنون واستقبل البَرّيّة وهو يقول: وداع دعا إذ نحن بالخيف من منىً *** فهيج أحزان الفؤادِ وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما *** أطار بليلى طائرًا كان في صدري وقال الآخر: ومَن كبدي يهفو إذا ذكر اسمه *** كهفو جناح ينفض الطل طائره وبلغ بأولياء الله تعالى نحو هذا المعنى، وهم أحق به، يحكى عن بعضهم أنه لقي واحدًا منهم في البرية فقال له: من أين أتيت؟ فقال: هو، فقال: أين تريد؟ فقال: هو، فقال: ما تعني بقولك هو؟ فقال: هو، فقال الله تعني؟ فصاح وسقط ميتًا. وإما نفرة وكراهية لكونه بغيضًا مقيتًا، وإما غير ذلك. تتمة
واعلم أن الاسم الذي يوضع على الإنسان علمًا عند الولادة أو عند تبديل اسمه باسم آخر إما أن يكون بصورة الكنية كأبي بكر وأبي القاسم لمن سمي به فيكون اسمه كنيته، وإما أن يكون بغيرها كزيد وعمرو وهو الأغلب، وحينئذ إما أن تقرن به الكنية من أول وهلة فيقال مثلًا: سميت ابني محمدًا وكنيته أبا عبد الله ولقبته جمال الدين، وهذا كله لا إشكال في عَلَميّته، وقد لا يكنى ولا يلقب أولًا، فإذا كني بعد ذلك أو لقب كان ذلك عارضًا لا كالاسم اللازم أبدًا من وجهين: أحدهما أنه لم يكن شيء منهما ثم كان، الثاني انهما يكونان ثم لا يكونان فإنه قد يكنى ثم لا يكنى، وقد يكنيه هذا ولا يكنيه الآخر، وكذا اللقب، فصار كل منهما بمنزلة الوصف يعرض الاتصاف به فقد يقال: كيف يحسبان مع هذا في الأعلام؟ والجواب انهما متى أطلقا على المسمى عيناه عند من عرفهما من غير معنى زائد على الذات، وهذا حاصل العلمية، أما طروعهما فلا يضير، فغن الاسم أيضًا كثيرًا ما يطرأ، والمعتبر ما بعد الطروء كما هو الأمر في التسمية الأولى، وأما كونهما يتركان أحيانًا فللاستغناء عنها بالاسم كما يكون في الشيء يسمى بأسماء مترادفة، فإذا عبر عنه بواحد منها كفى، وفيه يحث، وهو أن الأسماء المترادفة فوضى على مدلولها، ولا كذلك ما نحن فيه، فغن كلًا من الكنية واللقب إنما يجلب لغرض من تعظيم أو تحقير أو غير ذلك مما مرّ، فيكون الوصف محط التسمية، وحينئذ هو كلي، فيكون الاسم اسم جنس أو علم جنس وذلك خلاف ما يقال من أنه علم شخص، وهذا بحث قويّ لم نبسطه لأنا لسنا بصدده، ويجاب بمنع ذلك وأن محط التسمية الذات مع ملاحظة الغرض وكونه يؤتى به عند وجود الملاحظة ويترك عند عدمها، وأن ذلك غير معهود في الاسم لا امتناع فيه فافهم. فأقول: اسم المؤلف ونسبه أنا الحسن بن المسعود بن محمد بن علي بن يوسف بن أحمد بن إبراهيم ابن محمد بن أحمد بن علي بن عمرو بن يحيى بن يوسف، وهو أبو القبيلة ابن داوود بن يدراسن بن يننتو، فهذا ما يعد من النسب إلى أن دخل بلد فركلة في قرية منه تسمى حارة أقلال وهي معروفة الآن. والكنية أبو علي وأبو المواهب وأبو السعود وأبو محمد. أما ذكري للاسم فلما مر من فوائد التسمي، وأحمد الله تعالى وأشكره إذ جعله حسنًا، وأسأله سبحانه أن يجعل كذلك فعلي وخلقي وحظي في الدارين منه حسنًا، كما أحمده تعالى إذ حسن اسم والدي أيضًا- فجعله مسعودًا، واسأله تعالى أن يجعلني كذلك في الدارين ويجعله مسعودًا. ومما اتفق لي في اسمي هذا واسم والدي أني كنت ذات مرة سافرت إلى زيارة الأستاذ الإمام ابن ناصر رحمه الله، فمررت ببلادنا، وكان أخونا في الله البارع الفاضل الخير أبو سالم عبد الله بن محمد العياشي يشتهي أن أمر به في زاويته فلم يتفق لي ذلك فكتبت إليه اعتذارًا: أبا سالمٍ ما أنت إلاّ كسالمٍ *** لدينا ولم يقضِ اللقاء فسالم وزود غريبًا طالما قذفت به *** ضروب النوى من كل أفيح قاتم مرامًا لشرب الكأس وهي منوطة *** بكف الثريا أو بكف النعائم بود وإن الود من أطيب القرى *** ودعوة صدق عند عقد العزائم وسلم على من ثم من جملة الملا *** تحية ذي ود إلى الكل دائم وقولي: "كسالم" تلميح إلى قول الشاعر: يديرونني عن سالم وأديرهم *** وجلدة بين العين والأنف سالم وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: "أنت عندي كسالم" فلم يفهم مراده حتى أنشد البيت المذكور، ومراد الشاعر أن سالمًا المذكور الذي يدافع الناس عنه ويحامي عنه في محبته له وعزته عليه بمنزلة الجلدة التي بين الأنف والعين لأن تلك الجلدة هي سالم فهو تشبيه. ثم لما قفلنا من زيارتنا كتب إلي كتابًا يهنيني بالزيارة ويهني من معي بصحبتي، وفي آخره: من فاته الحسن البصري يصحبه *** فليصحب الحسن اليوسي يكفيه
ومن غريب الاتفاق مع ذلك أن كنت في تلك المدة، قبل هذا الكتاب أو بعده بقريب حدثني بعض الإخوان أنه رأى فيما يرى النائم جماعة من الصالحين والكاتب معهم، وفيهم الشيخ محمد بن مبارك التستاوي وغيره من أمثاله فتكلم بعضهم وأظنه قال: ابن المبارك المذكور إلى أن قال: إن كان الحسن البصري في زمانه فهذا الحسن البصري في زمان يشير إلى الكاتب، وإنما ذكرت هذا رجاء وطماعية في اللحاق بالصالحين أو بمحبيهم أو بمحبي محبيهم وتبركًا بذكرهم، وإلاّ فليس بعشك فادرجي: لما انتسبت إلى علاك تشرفت *** ذاتي فصرت أنا وإلاّ من أنا وكتب إلي العلامة أبو عبد الله محمد بن سعيد السوسي بأبيات يذكر فيها أنه على عقد المحبة وفي آخرها: لقد تحببت لي فضلًا خصصت به *** بين الورى حبذا حب ابن مسعود فعلمت أنه يروي عن ابن مسعود الحبر الصحابي، رضي الله عنه وألحقنا وآباءنا بزمرته إنه ذو الجود والإحسان، فقلت: إن هذا كله من نعم الله التي يسر بها الإنسان، وهو موافقة اسمه أو اسم أبيه لأسماء الخيار. ومن غريب الاتفاق أني كنت أكتب ما تقدم من النسب فجاء أعرابي بقصيدة من الملحون يمدحني بها، وفي أثنائها يقول ما معناه: إن اسمه، أي الممدوح، على اسم الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقلت في نفسي: سبحان الله في هذا كان عملي. تتمة أخرى في أحكام التسمية أعلم أنه وإن كان المطلوب تخير الاسم كما مرّ لا بد من التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فكما أنه لا ينبغي له أن يتسفل إلى الأسامي الدنية كذلك ليس له أن يتعلى إلى الأسامي العلية التي لا تنبغي له كأسماء الله تعالى، وللفقهاء كلام في أسماء الملائكة، فعن إمامنا مالك رضي الله عنه أنه يكره أن يتسمّى الرجل بجبريل وعلل ذلك بأنه سبب لأن يقول قائل: جاءني البارحة جبريل، وكلمني جبريل وهو بشيع موهم، وروي عنه أيضًا: لا ينبغي بياسين، وتقدم إلى الحارث بن مسكين القاضي خصمان، فنادى أحدهما صاحبه باسمه إسرافيل، فقال القاضي لمَ تسميت بهذا الاسم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُسَمُّوا بأسْمَاءِ المَلائكَة» فقال له الرجل: "ولمَ تسمى مالك بن أنس بمالك؟ وقد قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِي عَلَيْنَا رَبُّكَ} ثم قال: لقد تسمى الناس بأسماء الشياطين فما عيب عليهم، يعني القاضي فإن اسمه الحارث، وهو اسم الشيطان إبليس، قال ابن عرفة: ويرحم الله الحارث في سكوته والصواب معه، لأنه مَحمل النهي في الاسم الخاص بالوضع أو الغلبة كإسرافيل وجبريل وإبليس والشيطان، وأما مالك والحارث فليسا منه لصحة كونهما من نقل النكرات للأشخاص المعينة أعلامًا من اسم فاعل مالك وحارث كقاسم انتهى، وأما أسماء الأنبياء عليهم السلام فيجوز التسمي بها وفي الحديث: «تَسَمَّوا بِاسْمي وَلا تَكَنَّوا بِكُنْيَتِي» وقيل: إن هذا النهي منسوخ، فيجوز التسمي أيضًا والتكني بكنيته صلى الله عليه وسلم. ودخل القاضي أبو القاسم بن زيتون على أمير بلده المنتصر بالله فقال له: لم تسميت بأبي القاسم؟ وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تَسَمَّوا بِاسْمي وَلا تَكَنَّوا بِكُنْيَتِي" فقال القاضي: إنما تسميت بكنيته صلى الله عليه وسلم ولم أتكنَّ بها، وفي المسألة كلام باعتبار علة النهي وكون ذلك مع وجوده صلى الله عليه وسلم مشهور لا حاجة إلى بسطه، ومن المنهي عنه في الحديث أن يسمي الرجل غلامه رباحًا أو أفلح أو يسارًا، إذ قال: أثَمَّ هُوَ؟ فيقال: لا. ولا بأس بتكنية الصبي كما مرّ وأصله: «يَا أبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ». تنبيه: في الحديث: «إنَّ أخْنَعَ الأسْمَاءِ رَجُلٌ تَسَمّى عِنْدَ اللهِ بِمَالكِ الأمْلاكِ، ووقع فيه عضد الدولة حيث قال: ما يطيب العيش إلاّ بالسمر *** وغناء من جوار في سحر غانيات سالبات للنهى *** ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها *** ملك الأملاك غلاب القدر فهذا من التغالي المنكر، وإنما ذلك لأن ملك الأملاك هو الله تعالى، وإطلاقه على غيره وإن كان يتأوّل بمن دونه أي ملك أملاك البشر، لكنه في غاية من الإيهام والبشاعة فلا ينبغي. وقد تردد العلماء في أنه هل يلتحق به قاضي القضاة ونحوه.
ومن البشيع الواقع في زماننا في الوصاف أنْ بَنَى السلطانُ رشيد ابن الشريف جسرَ سبو، فصنع له بعضهم أبياتًا كتبت فيه برسم الإعلام أولها: صاغ الخليفة ذا المجاز *** ملك الحقيقة لا المجاز فحمله اقتناص هذه السجعة والتغالي في المدح والاهتبال بالاسترضاء على أن جعل ممدوحه ملكًا حقيقيًا لا مجازيًا، وإنما ذلك هو الله تعالى، وكل ملك دونه مجاز، الممدوح وغيره. ونسبة الألوهية إلى غيره تعالى كفر صراح، وهذا مقتضى اللفظ، وقائله يتأوله بحقيقة دون حقيقة لأنه موحد، ولكنه في غاية الإبهام وغاية البشاعة والقبح، وقد أنكر الإشبيلي وغيره ممن ألف في لحن العامة ما هو أخف من هذا بكثير. وأما اليوسي فأصله اليوسفي كما مرّ من أن يوسف هو أبو القبيلة ويسقطون الفاء في لغتهم. وأما ذكري لما مرّ من النسب فلفوائد منها أن يعرفه من يقف عليه ذوي القرابة للتوصل إلى صلة الرحم والموارثة والمعاقلة وغير ذلك من الأحكام وهذا مما لا بد منه، وقد قال سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم، وقد حمل الأمر في كلامه على الوجوب وذلك أصله. الثانية أن يعلم انقطاع النسب عند انتهائه إلى القرى فيظهر معنى قول مولانا عمر أيضًا رضي الله عنه فيما يؤثر عنه أنه قال: تعلموا أنسابكم ولا تكونوا كالقبط ينتسبون إلى القرى، وليس هذا مخصوصًا بالقبط بل المدن كلها تتلف الأنساب كما قال العراقي رحمه الله: وضاعت الأنساب بالبلدان *** فنسب الأكثر للأوطان وسبب ذلك أن الإنسان إنما احتاج إلى التمدن للقيام بالمتاجر والحرف وسائر الأسباب التي ينتظم بها أمر المعاش والتعاون على المنافع الدينية والدنيوية، ولا يتأتى ذلك عادة إلاّ بكثرة الناس لتحصل عمارة الأسواق، ويحصل من كل حرفة وصناعة وسبب وعمل عارف أو أكثر يقوم بها، ولا يكون ذلك عادة من عشيرة واحة بل ولا من قبيلة وعمارة بل من أخلاط شتى وأفواج جمة، وذلك لسببين: أحدهما أن هذا هو مظنة الكثرة الكافية فيما ذكر، الثاني أن عادة الله تعالى لم تجرِ باختصاص رهط أو حي واحد من الناس بالتفرد بالمعارف والاستقلال بالمصالح الدينية والدنيوية من دون سائر أصناف الخلق حتى ينتظم بهم الأمر وحدهم وتحصل لهم المزية بذلك والذكر فيه دون "من" سواهم، بل بث الله تعالى بلطيف حكمته الخصائص والمزايا في الناس، فيوجد في هذا الرهط عالم، وفي آخر شاعر، وفي آخر صانع أو تاجر وهكذا ليتم التعاون ويحظى الخلق كلهم من مائدة الله تعالى في باب الخصوصيات بنصيب.. ولما كانت المدينة تجمع أخلاط الناس صار ساكنها في الغالب غريبًا عن نسبه، فقد لا يكون بينه وبين جار بيته نسب ولا معرفة، فإذا نشأ نسله انتسبوا غاليًا إلى البلد لا إلى قومهم من وجهين: أحدهما أنه كثيرًا ما ينقطع ما بينهم وبين قومهم فلا يعرفونهم، الثاني أن الإنسان يعجب ببلده ويتبجح به لثلاثة أوجه أحدها أنه لا يعرف غالبًا غيره، الثاني أن الله تعالى حبب إلى الناس منازلهم ليلازموها فتنتظم عمارة الأرض على ما قدر الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهم حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ». الثالث الإلف الطبيعي، فإن كل واحد يألف تربته كإلفه لأمه وأبيه، ولذا لا يزال يحن إلى مسقط رأسه ومحط لهوه وأنسه، وقالوا: الكريم يحن إلى وطنه، كما يحن النجيب إلى عَطَنِهِ. وقال الأعرابي: أحب بلاد الله ما بين منعج *** إليَّ وسلمى أن يصوب سحابها بلادٌ بها حل الشباب تمائمي *** وأول أرض مس جلدي ترابها وقال الآخر: بلدي ألفت به الشبيبة والصبا *** ولبست ثوب العيش وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته *** وعليه أثواب الشّباب وقال الآخر: وحبب أوطان الرجال إليهم *** مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم *** عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وهذا المعنى كثير شهير. ومن الأسباب في ذلك أنها أول بقعة ذاق فيها النعمة وأول جهة ألف منها الرفق وآنس الإحسان، وفي الحديث: «جُبِلَتِ القُلُوبُ عَلَى حُبّ مَنْ أحْسَنَ إلَيْهَا» ولك في الحديث وجهان: أحدهما لطيف، وهو أن القلوب الطاهرة عن الهوى، الصافية من رعونات النفس، الزاهرة بأنوار المعرفة جبلت على حب الله تعالى لأنه هو المحسن إليها لا غير. والثاني ظاهري وهو أن القلوب من حيث هي جبلت على الميل إلى المحسن من حيث هو، ولا شك أن كل محسن دون الله تعالى لا أثر له، وإنما هو جهة يرد منها إحسان الله تعالى، ومع ذلك يحب، فكذا تربة الإنسان أول جهة ورد منها عليه الإحسان الإلهي، فيحبها قبل غيرها من الترب حبًا متمكنًا كما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا وقال الآخر: كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدًا لأول منزل ومن أسباب المحبة والحنين حب من كان فيها من ذوي القرابة والأحباب وتذكارهم عند تذكارها، وقد قيل: إن قوله صلى الله عليه وسلم في أحد: «جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ» إن المراد من كان فيه من الأصحاب كحمزة ومن معه رضي الله عنهم، وقال المجنون: أمرّ على الديار ديار ليلى *** أُقَبِّلُ ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديارا وقال الآخر يخاطب وطنه: تقسم فيك الترب أهلي وجيرتي *** ففي الظهر أحيائي وفي البطن أمواتي وهذا سبب ذكر الديار والمنزل والأوطان ولا ينحصر ما قيل في ذلك، وسنلم بشيء منه إن شاء الله في هذا الكتاب؛ ثم إذا انتسب إلى البلد ذهب قوه، وتنوسيت أسلافه، فصار النسب مجهولًا لا باعث على حفظه ولا حامل على تعرفه وهذا بخلاف أهل البادية فإنهم يحفظون أنسابهم إذ لا ملجأ لهم في الانتساب غير قومهم فيبقى الأب الأول محفوظًا وبحفظه وذكره ما بينه وبينهم من سلسلة النسب، وإنما كان ذلك فيهم لوجهين: أحدهما أنه لا قرار لهم في باديتهم فينتسبوا إليه، بل منازلها عندهم سواء. الثاني أنهم خالصون غالبًا من كثير الشوب، فكل واحد غالبًا ينازل قومه، إذ لا حاجة بهم إلى التمدن في باديتهم اكتفاء بالحاضرة، فكل حي فيها يعيشون وحدهم، ومتى خالطهم غيرهم لم يزل معروفًا بكونه ملصقًا، وقد يكون من القرى ما يكون كذلك، لانقطاعه عن الاختلاط وعدم التمدن فيمكنهم حفظ أنسابهم أيضًا. ومن هذا حفظت قلايش أنسابها مع كونها في قرية، وكذا الخزرج في طيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وكذا نحوها، وقد يكون في المدائن من يحفظ نسبه أيضًا، ولا سيما من له نسب مخصوص كالعلوية، أو من يكون في محلة منعزلة في المصر فيكون كالقرية السابقة. الثالثة أن يعلم أن حفظ الأنساب ليس خصوصية للعرب وإن كان لهم مزيد اهتمام بها ومزيد ارتفاع الهمة، وكنت أنا قبل أن أخالط قومي أظن ذلك وأقول: إن العجم إنما هم كالمعزى ليس بين الأم وبين ولدها عهد إلاّ أن يرعى فيذهب حيث شاء، وأما الأب فلا سؤال عنه، فلما باحثت قومي في هذا ألفيت الأمر على خلاف ما كنت أظن، ووجدتهم يحفظون أنسابهم كما مر، وإذا فيهم نسابون يحققون الفصائل والشعوب على نحو ما كانت العرب تفعل في أنسابها، والوهن وإن كان يمكن أن يداخل شيئا من ذلك فليس بعجب، فإن غيرهم أيضًا ما كان يسلم من ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كَذَبَ النَّسّابُونَ». قَالَ تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلكَ كَثيرًا} وكون هؤلاء أيضًا يكتفون بالقرى ويضيعون أَنسابهم فذلك غير مختص بهم، فقد وقع أيضًا للعرب حين دخلت قرى الشام والعراق ومصر والمغرب وغيرها، فلا تزال تلقى حلبيًا أو حمصيًا أو كوفيًا أو بصريًا أو قرطبيًا أو باجيًا، وهو تميمي أو قيسيّ أو أزديّ أو غيره، وكثير منهم لا يرفع نسبه، وإنما قال سيدنا عمر رضي الله عنه ما قال قبل أن يقع هذا الواقع أو قاله خوفًا منه ثم وقع كما ظن. ويتعلق بأمر النسب أبحاث: الأول: اعلم أن نسب الإنسان الأصلي هو الطين، قال تعالى: {وَبَدَأ خَلْقَ الإنْسَانِ منْ طينٍ} وقال صلى الله عليه وسلم: «أنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وآدَمُ منْ تُرَابٍ». ويقال لآدم عليه السلام: عرق الثرى وأعراق الثرى، قال امرؤ القيس: *** إلى عرق الثرى وشجت عروقي *** وهذا الموت يسلبني شبابي وهذا هو الأصل لجملته، ثم لكل فرد منه بعد آدم أصل آخر وهو النطفة، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ منْ سُلالَةٍ منْ مَاءٍ مَهِينٍ} فإذا استوى الإنسان كله في أنه من طين وأنه في الجملة من ماء مهين لم يمكن أن يكون له فضل في نفسه باعتبار أصله، ولا أن يكون لبعضه فضل على بعض بذلك، لاستواء الجميع، ولهذا نبه صلى الله عليه وسلم على هذا فقال: «إنَّ اللهَ أذْهَبَ عَنْكُمْ غُبِّيَةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، أنْتُمْ بَنُو آدَمَ وآدَمُ منْ تُرَابٍ». ونبه الله تعالى الإنسان على أصله في آيات كثيرة ليتنبه فيعرف نفسه ويعرف اقتدار مولاه، وقال مولانا علي كرم الله وجهه: «ما لابن آدم والفخر، وأوله نطفة، وآخره جيفة». وقد يقال: أوله نطفة مذ، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، وعقد الشاعر الكلام الأول فقال: ما بال من أوله نطفة *** وجيفة آخره يفخر وقال آخر: عجبت من معجب بصورته *** وأوله نطفة مذره وفي غد بعد حسن صورته *** يصير في الترب جيفة قذره وهو على عجبه ونخوته *** ما بين رجليه تخرج العذرة نعم يشرف الإنسان بخصوصية تزاد على جسمه الطيني كالعقل والعلم والدين مثلًا فيثبت له الفضل ويثبت لبعضه على بعض، ولما عمي إبليس اللعين على الخصوصية، ولم يرَ إلاّ الطينية السابقة لم يرضَ بآدم ولا بالسجود له، ولم يسلم الأمر لمولاه، فأبى وصرح بأنه خير منه، وعلل ذلك بالمنشأ المذكور، فأخطأ من جهات: منها أنه إما يكون لا شعور له بالخصوصيات أصلًا، وإنما منظره ذوات الأجرام، وهذا جهل عظيم، وإما أن يشعر بها ولا يعرف أنها بها يقع التفاضل، وهذا أيضًا جهل، وإما أن يعرف ذلك ولكن لا يسلم وجودها في آدم فيكون قد بادر إلى إنكار الشيء قبل تحقق انتفائه، بل قبل التأمل، وهو أيضًا جهل وطيش وغفلة عن الإمكانات العقلية وتصرف الفاعل المختار تعالى، وإما أن يكون ذلك محتملًا عنده، فعمل على الانتفاء لا على الثبوت، وهو أيضًا جهل وزلل في الرأي وتضييع للاحتياط، وإهمال لدلالة القرائن المفيدة للعلم، فإنه لو تأمل أدنى تأمل لاستفاد الحق من ترشيحه للخلافة، فإنه لا يخفى عليه قول الله تعالى: {إنّي جَاعِلٌ في الأرْضِ خَليفَةً}، ومن سجود الجمهور، ويد الله مع الجماعة، وإما أن يكون قد علم ذلك ولكن غلبه ما يجد من الحسد والكبر، فاشتغل بالمكابرة والمغالطة، وهذا أيضًا جهل، فإن العلم إذا لم ينفع كالعدم، ومن لا يجري على علمه في حكم الجاهل، هذا مع غاية النقصان بعد التزكية، وعدم ملك زمام النفس، نسأل الله تعالى العصمة، قال الله تعالى: {قَدْ أفلَحَ مَنْ زَكّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاها}. ومنها أنه لم يخلص إلى صحيح العلم وصريح التوحيد فيعلم حق يقين، أو عين يقين، أو علم يقين أن للفاعل سبحانه أن يتصرف في مملكته كيف شاء، فيرفع من شاء، ويضع من شاء ويقدم من شاء ويؤخّر من شاء، ولا سَبب غير العناية الأزلية، وكل شيء بقضاء وقدر {لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُون}. ومنها أن ما اعتمده من فضل جرم النار على جرم الطين لا يسلم له، فإن فضل النار إن كان بمجرد حسنها الصوري فهذه المزية لا تكفي، فإن الأشياء خلقت للانتفاع بها، فما ينبغي أن يكون تفاوتها إلاّ بالمنافع أكثرية وأهمية، والحسن الصوري من المناظر النظرية، وغيره أهم منه، ففي النار منافع كالإحراق والإيقاد والإنضاج والتسخين والتحليل والتعقيد والتعذيب لمن أريد والتذكر ونحو ذلك، وفيها مفاسد كثيرة ومضار هائلة كالإحراق والإتلاف للنفوس والأموال والزرع والتنشيف والتيبيس والإيلام والعذاب الأكبر، وحسبك منها أنها ضرة الجنة وضدها حتى حصل بينهما من التقابل شبه ما بين النفع والضر، والعذاب وإن اشتمل على غير النار لكن النار أعظمه، ولذا صحَّ إطلاقها عليه.
وأما التراب فهو مهاد الإنسان وفراشه حيًّا، وكِفاتُهُ مَيتًا، ثم هو منبع الماء الذي به الحياة، ومنبت الزرع وجميع الأقوات للإنسان وغيره من الحيوانات، ومنبت العقاقير التي بها الاستشفاء، والمعادن التي بها قوام العيش، والتي بها التعامل، فمنافعه لا تحصى، وليس فيه من المفاسد والمضار إلاّ ما هو تافه يضمحل في جنب المصالح والمنافع، فهذا هو الشرف والفضل، وقد ظهر ما في كل منهما في فرعه، فانظر إلى فرع التراب الذي هو الرحمة والمنفعة وهو الإنسان كيف ظهر فيه العلم والدين والرحمة، قال تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلم: {وكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحيمًا}، وانظر إلى فرع النار التي هي النقمة والمضرة وهو إبليس كيف ظهر فيه الإفساد والإغواء والاستفزاز، والأمر بيد الله على أن الإنسان مخلوق من الاسطقسات الأربعة: التراب والماء والنار والهواء، قال تعالى: {...منْ تُرَابٍ...} وقال أيضًا: {...مِنْ طينٍ...} كما مرَّ، وهو التراب والماء، وقال تعالى أيضًا: {...منْ صَلْصَالٍ...} وهو الطين اليابس لما فيه من نارية، وقال أيضًا: {...منْ حَمَإٍ مَسْنُون...} وهو المتغير الرائحة بما تخلله من الهواء فقد استولى الإنسان في تركيبه ما في النار، وزاد ما في غيره، فافتخار صاحب النار على صاحب النار والماء والتراب والريح حمق عظيم. وهذا المحل يسع من الكلام أكثر من هذا بكثير ولكنه ليس من غرضنا فلنرجع إلى ما نحن فيه فنقول: إن ابن آدم متى افتخر قيل له: إن كان افتخارك بأصلك فلا فخر لك بل كما يقال: ضعيف عاد بقرملة. ثم لا فخر لك به على غيرك لأنكما سيّان، وإن كان بمزية فهاتها، فمن ثبت له أو لأبيه ثبت فخره بنفسه أو بنسبه وإلاّ فلا. الثاني- اعلم أن ما أشرنا إليه من المزايا التي يتشرف بها الإنسان حتى يشرف بشرفه من انتسب إليه كثيرة، منها دينية كالنبوءة وهي أجلها، وكالعلم والصلاح ومكارم الأخلاق وغير ذلك، ودنيوية كالملك، وهو أعظمها، وكالنجدة والكرم والقوة وكثرة العدد وكثرة المال والجمال ونحو ذلك وكثير منها يصلح أن يكون دينيًا ودنيويًا كالقوة والعز والكرم وسائر مكارم الأخلاق، وبعضها ديني ودنيوي معًا كالنبوءة والخلافة والعلم، وبعض ذلك حسي، وبعضه معنوي، وبعضه وجودي، وبعضه، وشرح ذلك يطول فلنقتصر القول مع تمثيل وتمهيد: أما التمثيل فهو أنه لو اعتبر رجلان متساويان في الخلق والخلق والنسب وسائر الأحوال فلا مزيّة لأحدهما على الآخر، وفي مثلهما قال علقمة بن علاثة للمتنافرين: صرتما كركبتي البعير الآدم، ولو اختص أحدهما بالفقه فهذه مزية وجودية يفضل بها الآخر، ولو اختص أحدهما بكونه ظلومًا فهذه مزية مذمومة عند أهل الشرع، وقد سلم منها الآخر، فله الفضل بمزية هي عدمية، وعند الجاهلية بعكس هذا، ولذا تأتى لشاعرهم أن يهجو بقوله: قُبَيَّلَةً لا يخفرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حَبّة خردل فقد فهمت المزية في الجملة. وأما التمهيد فاعلم أن الأجرام الترابية وما توالد منها متشابهة في الأصل، وكانت المزية للناميات الثلاثة، وهي المعدن والنبات والحيوان، أما المعدن فله الفضل على سائر الأجرام الترابية بالنمو والنفاسة والانتفاع، وأما النبات فله الفضل على ما قبله بالنمو والإثمار والانتفاع الخاص وجود النفس النباتية، حتى أن المعدن جزؤه ككله، فينتفع بما يقطع منه، فهو في ذلك كغير النامي بخلاف الشجرة لو اقتطعت منها قطعة لم ينتفع بها الانتفاع المراد منها كالإثمار، فأشبهت الحيوان، وربما تموت بقطع رأسها كالنخلة، كما يموت الحيوان. وقد ادعى بعض المتكلمين أن للنبات حياة، وزعموا أن النخلة يتعشق بعضها ببعض فيميل إليه، وأما ميل عروقها إلى الماء فمشاهد، وزعموا أنه إلى هذا المعنى الإشارة بالحديث: «أكْرِمُوا عَمَّتَكُمْ النَّخْلَةَ» وهو حديث غريب، والذي في الصحيح أنها مثل المسلم، واختلف المحدثون في وجه الشبه على أقوال معروفة. وأما الحيوان فله الفضل بما ذكر مع زيادة الحياة والإحساس والإلهام، ويختص الإنسان عن جملته بزيادة العقل الذي هو محط إدراك الكليات والرأي والتصرف، فللإنسان الفضل على الجميع.
والإنسان لفظ واقع على آدم وعلى ذريته أبدًا اسمًا للقدر المشترك فيه، وهو الحيوان الناطق أي المتفكر بالقوة، والآدمي كله مشترك في هذه الفضيلة، ولذا سخر له غيره، وابتلي هو بالتكليف بمعرفة الخالق تعالى وبعبادته، وهذه مزية أخرى لجميعه، ولقد خصه الله تعالى في أرزاقه وفي خَلْقه وفي خُلُقه وفي لباسه وركوبه وغير ذلك بكثير، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمَنَا بَني آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ منَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثيِرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} وإنما قال تعالى: {... عَلَى كَثيرٍ...} لبقاء الملائكة على ما في ذلك من النزاع المشهور بين الجمهور. لطيفة: كان بعض المخارفين يقول: نحن معشر المحرومين لسنا من ولد آدم لأن الله تعالى قد قال فيهم ما تقدم يعني الآية، وليس عندنا شيء من ذلك ويقول: كان لآدم عبد فنحن جميعًا من ولده، وليس بيننا وبين آدم نسب أصلًا قلت: وهذا دخل في أحاديث الخرافات والمضحكات الباطلة، والإنسان كله ابن آدم كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنْتُمْ بَنُو آدَمَ...» والآية صحيحة على الجملة وصحيحة أيضًا على التفصيل لأن كل آدمي ولو بلغ في حرمان الرزق والفقر المدقع ما عسى أن يبلغ هو أفضل من سائر الحيوان ومن الجن بعقله وصورته الحسنة وانتصاب قامته وأكله بيديه معًا وسائر تصرفاته وتناوله من الطيبات التي لا تصل إليها الحيوانات ومتمكن من الركوب في البر والبحر إلى غير ذلك، فهو مكرَّمٌ أي تكريم، ومفضل أي تفضيل. ثم إن أفراد الإنسان متفاوتون فيما ذكر من مزية العقل كثرة وقلة تفاوتًا عظيمًا، وأعلاهم في ذلك الأنبياء ثم الصديقون ثم سائر الزاهدين في العرض الفاني، وأما أقلهم عقلًا فلا ينضبط وإن وقع التعبير عنه في كثير من كلام الأنبياء والحكماء، فقد انتهى بعض الأفراد إلى مزاحمة البهائم وما يقع من التعبير عنه يرجع إلى الإضافة. ثم إن الله تعالى خص آدم وبنيه بمزايا أخرى دينية ودنيوية يمتاز بها البعض عن البعض لا مشتركة كالأولى، أعلاها في الدينية النبوة ثم الخلافة عنها في الظاهر أو الباطن أو فيهما أو في السياسة، وفي الدنيوية الملك ثم النيابة عنه، ومنها القوة وكثرة المال وكثرة الإنفاق واصطناع الصنائع وابتناء المآثر وكثرة العدد والفصاحة والصباحة ونحو ذلك من كل وصف محمود في الدين أو في الدنيا، فمن حصل له شيء من ذلك حصل له شرف على قدره، وثبت لولده عدّ ذلك في مفاخر أبيهم، وهو المراد بالحسب في لسان العرب، فكل واحد عندهم حسبه هو ما يعد من مفاخر آبائه، فهو من الحساب، ومن ليس له ما يعد فلا حسب له، فالخصلة الحميدة تكون مفخرة لمن اتصف بها ولمن انتسب إلى من اتصف بها فيشرف نسبه بذلك. إذا علم هذا فنقول: إن آدم أبا البشر على نبينا وعليه السلام قد حصل له الشرف بالنبوءة وسائر الخصال الحميدة وبسجود الملائكة له وولادته للأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا كله من المزايا فجميع بنيه شرفهم ومشروفهم ورشيدهم وغويهم يحصل لهم بالانتساب إليه شرف من هذا الوجه يفضلون به غيرهم ممن ينتسب إلى جني أو بهيمة، فلا تظن أن دابة لكونها لم تعص الله تعالى تكون أشرف من إنسان كافر أو فاسق إلاّ من هذا الوجه، وأما في النسب والحسب والصورة وغيرها فهو أشرف منها، ولذا يوارى إن مات ولا توارى هي، غير أن الافتخار بنسبة آدم قد تنوسي لطول العهد كما تنوسيت رحمه. ومن أطرف ما وقع لسيدنا معاوية رضي الله عنه أن جاءه إنسان فقال له: أسألك بالرحم التي بيني وبينك إلاّ ما رفدتني فقال: أنت من عبد مناف؟ قال: لا. قال: أنت من قريش؟ قال: لا قال: أنت من العرب؟ قال: لا. قال: أي رحم بيني وبينك؟ قال: رحم آدم فقال: رَحِمٌ مَجْفوَةٌ لأكونن أول من وصلها، فأعطاه.
ثم يتمايزون بعد ذلك، فمن كان من ولد نوح عليه السلام فهو أفضل نسبًا من بقية ولد آدم لأن أولئك يعدون آدم وهؤلاء يعدون آدم ونوحًا، فإن كل ما يعده الأعلى يعده الأسفل ويزيد، فإن الأخص فيه ما في الأعم وزيادة، وهذا كما يقال في الحكمة في الأجناس المتوسطة والسافلة والأنواع الحقيقية والفصول: إن كل ما يتقدم به الأعلى يتقدم به الأسفل ويزيد، فالله تعالى قد قال: {إنّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهيِمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلى العَالَمِينَ} فمن انتسب إلى آدم ونوح فقد انتسب إلى مصطفين، ثم من كان من ولد إبراهيم بعد ذلك فهو أفضل من بقية ولد نوح لأنه يعد آدم ونوحًا وإبراهيم عليهم السلام، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله حين قيل له: من أكرم الناس؟ «الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ: يوسف بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيّ ابْن نَبِيّ ابْن نَبِيّ» وكلامه صلى الله عليه وسلم موافق لقوله تعالى: {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ}. فإن الأنبياء هم أتقى الناس لأنهم أعلم، وإنما يَخْشَى اللهُ مِنْ عِبَاِدِه العُلَمَاءُ، فهم أكرمُ الناس، فمن انتسب إليهم كرم بنسبه إليهم وإن لم يكن نبيًا، فكيف إذا كان هو أيضًا نبيًا؟ فله الشرف الطارف والتليد، كيوسف عليه السلام، فصدق نبينا صلى الله عليه وسلم. ثم أولاد إبراهيم عليه السلام يتفاوتون في الشرف أيضًا بقدر أنسابهم فمن ازداد بنبي أو نبيين أو أكثر ازداد درجة في الشرف، فأما أولاد إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام فلهم الشرف في الجملة غير أن الأسباط أولاد يعقوب بن إسحاق لهم الشرف الشامخ، والمجد الباذخ، فإنهم فازوا بثلاثة أنبياء على نسق، ثم جل الأنبياء بعد ذلك فيهم، وقد قال الله تعالى لبني إسرائيل: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤتِ أحَدًا مِنَ العَالَمِينَ} وقال تعالى: {يَا بَني إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتي الَتي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلى العَالَمِينَ} إلى غير ذلك، وأولاد العيص بن إسحاق لهم شرف دونهم، ولم يكن فيهم نبي فيما يقال غير أيوب عليه السلام، وأما أولاد إسماعيل بن إبراهيم فلهم الشرف بإبراهيم وإسماعيل أولًا، ثم استكملوا الشرف آخرًا بسيد الوجود وسر الكائنات سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم إليه يساق حديث الشرف العِد وباسمه يرسم عنوان صحيفة المجد، فيه شرف من قبله كما به شرف من بعده، وقد كان آدم يكنى به تشريفًا له بأشرف أولاده فيقال: أبو محمد، وكما يشرف الولد بشرف الوالد قد يشرف الوالد بشرف الولد، ولله در ابن الرومي في قوله: وكم أب قد علا بابن ذرى حسب *** كما علت برسول الله عدنان وسنزيد هذا بسطًا إن شاء الله تعالى، فمن اتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعده وهم الفاطميون أشرف الناس نسبًا لأن غيره كبني إسرائيل وإن عد بكثرة الأنبياء فهو يعد بأشرف الأنبياء، والمنتسب إلى الأشرف يجب أن يكون أشرف، وهذا باعتبار النسب فقط، أما من حصلت له النبوة من بني إسرائيل فهو أشرف بذاته ممن ليس بنبي، إذ لا يعدل النبوءة إلاّ نبوءة أخرى. كما أن من كفر منهم فقد اختل نسبه، واضمحل حسبه، بالإضافة إلى من لم يكفر منهم، أما لو قيس هذا الكافر إلى كافر آخر قبطي أو نوبي أو نحوهما فالواجب أن يكون هذا أشرف نسبًا، ولو قيس إلى مؤمن من هؤلاء لتعارض الوجهان، ولكن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وفي السيرة: قال المسلمون: هذا أبو سفيان وسهيل، وكان أبو سفيان لمّا يُسلِم، وقدموه لشرفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هَذَا سُهَيْلٌ وأَبُو سُفْيَانَ، الإسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعلى عَلَيْهِ» فانتبه لهذا الفصل فإني رمزته ولم أبسطه لأن بعضه موحش لمن لا فهم له.
وإذا علم تفضيل النسب والحسب في باب النبوءة فهم في غيرها كذلك كالعلم والصلاح والهداية والزهد والورع والملك والنجدة والجود وغير ذلك من كل ما يحتسب به ويصير به من عرف به عينًا من أعيان عشيرته أو قبيلته أو عمارته أو بلده أو جيله ويشرف به من انتسب إليه، ولم يخل الله تعالى قومًا من سيد "كما لم يخل هجمة من فحل، وبسادة الناس" تنتظم أمورهم، فهم خلفاء الله في عباده بالحكم التصريفي، ولذلك إذا فقدوا أو فقدت الأهلية منهم اختل الأمر كما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سِراة إذا جهالهم سادوا الثالث: الإنسان قد يفتخر بنسبه على ما مرّ، وقد يفتخر بنفسه أي بالخصال التي اتصف بها والدرجات التي نالها من الدين والدنيا، والأول هو الفخر [العظامي لأنه افتخار بالعظام والرفات، والثاني هو الفخر] العصامي. وهو مأخوذ من عصام صاحب النعمان، وكان يقول: نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكرّ والإقداما فكل ما جاءه السؤدد من تلقاء نفسه فهو مثل عصام هذا، ففخره عصامي. والناس لم يزالوا مختلفين في هذا المنحى فقوم يعتنون في افتخارهم أو ثنائهم بذكر الآباء كقوله: أنا ابن مزيقيا عمرو وجدي *** أبوه منذر ماء السماء وقول النابغة: وهو قائلها في مدح عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني، والبيتان فسرهما ابن السكيت فقال: [يقول: لئن كان عمرو ابن هذين الرجلين المقبورين في هذين الموضعين ليمضي أمره وليمسن من حاربه بشر، وليلتمسه حيثما كان]. لئن كان للقبرين قبر بجلق *** وقبر بصيداء الذي عنده حارب وللحارث الجفني سيد قومه *** ليبتغين بالجيش دار المحارب وقول حسان رضي الله عنه: أولاد جفنة حول قبر أبيهم *** قبر ابن مارية الكريم المفضل وقول العرجي العثماني: أضاعوني وأي فتى أضاعوا *** ليوم كريهة وسِدادِ ثغر كأني لم أكن فيهم وسيطا *** ولم تك نسبتي في آل عمرو وقال الفرزدق: أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ وقال النابغة لحسان رضي الله عنه حين أنشد: لنا الجفنات الغُرّ يلمعنَ بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدّةٍ دمما ولدنا بني العنقاء وابن محرق *** فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابْنَما إنك شاعر لولا أنك قلت: الجفنات فقللت العدد، ولو قلت: الجفان كان أبلغ، وقلت: يلمعن بالضحى ولو قلت: يشرقن بالدجى كان أبلغ، وقلت: يقطرن من نجدة ولو قلت: يجرين كان أبلغ، ثم افتخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، فهذا مذهب العرب وهو الافتخار بالآباء، ولذا نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكرهه كما مرّ. وقوم يفتخرون بأنفسهم، وهذا الوجه كثير أيضًا جدًا، لأنه طبع الآدمي لا يكاد يسلم منه ولا يحصى ما فيه من كلام الناس نظمًا ونثرًا ولا حاجة إلى التطويل. ومن أفصح ما ورد في هذا النحو قول السموأل في لاميته المشهورة منها: إذا المرء لم يدنَس من اللؤم عرضُه *** فكل رداء يرتديهِ جميلُ وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها *** فليس إلى حسن الثناء سبيل تعيرنا أنا قليل عديدنا *** فقلت لها: إن الكرام قليل وما ضر من كانت بقاياه مثلنا *** شباب تسامى للعلا وكهول تسيل على حد الظبّات نفوسنا *** وليست على غير السيوف تسيل وإنا لقوم ما نرى القتل سُبّة *** إذا ما رأته عامر وسَلول إلى أن قال: وننكر إن شئنا على الناس قولهم *** ولا ينكرون القول حين نقول سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم *** وليس سواء عالم وجهول فإن بيني الديّان قُطْبٌ لقومهم *** تدور رحاهم حولهم وتجول ومثل هذا النمط من الكلام فيه افتخار بالنفس وبالآباء أيضًا لأن المقصود أنهم على هذا الوصف كابرًا عن كابر وقول الفرزدق: أنا الذائد الحامي الذّمار وإنما *** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي وغير ذلك. ثم كثير من الناس لا يلتفتون إلى النسب ولا يقيمون للمفتخر به وزنًا كما قال الحريري: لعمرك ما الإنسان إلاّ ابن يومه *** على ما بدا من حاله لا ابن أمسه
وما الفخر بالعظم الرّميم وإنما *** فخار الذي يبغي الفخار بنفسه وقال الآخر: كن ابن من شئت واتخذ أدبا *** يغنيك محمدة عن النسب إن الفتى من يقول: هأنذا *** ليس الفتى من يقول: كان أبي إلى غير ذلك مما لا ينحصر. والحق أن كرم النسب فضيلة قال تعالى: {وكان أبُوهُما صَالِحًا} وقال صلى الله عليه وسلم في بنت حاتم: «إنَّ أبَاهَا كَانَ يُحِب مَكَارِمَ الأخْلاق». ووصفُ الإنسان وسعيُه هو الشأنُ، والنسبُ زيادة، فإلغاء النسب رأسًا جور، والاقتصار عليه عجز، والصواب ما قال عامر بن الطفيل: وإني وإن كنت ابن سيد عامر *** وفي السر منها والصريح المهذب فما سودتني عامر من وراثة *** أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتّقي *** أذاها وأرمي من رماها بمنكبي فقوله: "وإن كنت ابن سيد عامر" تعريض بالنسب وإعلام بمكانته منه، وقوله: "أبى الله أن أسمو بأم ولا أب أي فقط دون شيء يكون مني ليوافق ما قبله فمراده أني لا أكتفي بالنسب وأخلو عن استحصال الحمد وابتناء المجد. ومثله: لسنا وإن أحسابُنا كرمت *** يومًا على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا *** تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقال الآخر: أنا الفارس الحامي حقيقة وائل *** كما كان يحمي عن حقائقها أبي وقال زهير: وما يكُ من خير أتوه فإنما *** توارثه آباء آبائهم قبل وهل يُنبتُ الخطِّيُّ إلاّ وشيجه *** وتغرس إلاّ في منابتها النخل وقال الملك الراضي من ملوك بني العباس: لا تعذلي كرمي على الإسراف *** ربح المحامد متجر الأشراف أجري كآبائي الخلائف سابقا *** وأشيد ما قد أسَّسَتْ أسلافي إني من القوم الذين أكفّهم *** معتادة الإخلاف والإتلاف فهذا وأبيك الفخر العلي البنيان، المتأسس الأركان. واعلم أن الناس في هذا الباب ثلاثة: رجل كان أصيلًا ثم قام هو أيضًا يشيد بنيانه ويحوط بستانه، كالذي قبله، فهذا أكرم الناس وأولاهم بكل مفخر، وفيه كان قوله صلى الله عليه وسلم: «الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ» كما مرّ، والذروة العليا في هذا الصنف هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أصيلًا بحسب النبوءة من عهد إبراهيم وإسماعيل، ثم لم تزل أسلافه في شرف وسؤدد، ومجد مخلد، معروفًا ذلك لهم عند الناس، وأنهم أهل الحرم، وجيران الله، وسَدَنَةُ بيته، مع إكرام الضيف، وإعمال السيف، وغير ذلك من المفاخر العظام، والمآثر الجسام، وقد اختصهم الله بين العرب بالاحترام والتوقير، وجعل لهم رحلة الشتاء والصيف آمنين لا يعرض لهم لص ولا مغير، فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف كما أخبر به تعالى في كتابه، وذكر ذلك بعض بني أسد فقال: زعمتهم أن اخوتكم قريش *** لهم إلف وليس لكم إلافُ أولئك آمنوا جوعًا وخوفا *** وقد جاعت بنو أسد وخافوا أي أخطأتم في هذا الزعم، لأنكم لستم مثلهم، وقولهم: إلاف مصدر على فعال، يقال آلفته مؤالفة وإلافًا وتآلفًا، وليس من آلفته الشيء إيلافًا كالذي في القرآن. ثم لما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم رد بدر شرفهم فجرًا، وجدول كرمتهم بحرًا، بل جعلهم قرار كل مجد، ومركز كل حمد، وقد أكمل به الله تعالى الدين، فكذلك أكمل به سائر المحامد والمحاسن، قال صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلاقِ» وهو صلى الله عليه وسلم لبنة التمام، فشرفت به قريش خصوصًا والملة كلها عمومًا صلى الله عليه وسلم، ومجد وعظم، وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا كله مع الإشارة إلى التدريج السابق بقوله: «إنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ ولدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى مِنْ ولدِ إسْمَاعِيلَ بَني كِنَانَةَ، واصْطَفَى مِنْ بَنِي كنَانَةَ قُرَيْشًا، واصْطَفَى منْ قُرَيْشٍ بَني هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي منْ بَني هَاشِمٍ». ورجل لا أصل له ينتمي إليه، ولا حسب يُعَرِّجُ عليه، ولكن انتهض في اقتناء المآثر، واقتناص المفاخر، حتى اشتهر بمحاسن الخلال، وصار في عداد أهل الكمال، وأنشد لسان حاله فقال: وبنفسي شرفت لا جدودي فهذا أحرى أن يشرف بوصفه وحاله، وأن يشرف به من بعده، وأن يكون هو أساس بيته، وعرق شجرته.
وكان بعض الملوك استدعى رجل ليستوزره، فقال له الرجل: أيها الملك إنه ليس لي في هذا سلف، فقال له الملك: إني أريد أن أجعلك سلفًا لغيرك، وأصاب هذا الملك، فإنه لو توقف كل بيت على بيت قبله لكان من التسلسل الباطل، فالله تعالى يخرج الحي من الميت ويحيي الأرض بعد موتها، ذلك تقدير العزيز العليم، فلم يزل الشرف يتجدد ويحدث بالعلم والولاية والجود وسائر الأوصاف. وقد ارتفع الوضعاء بالشعر كما اتضع الرفعاء به، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ منَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةٌ» وفي رواية: «لَحُكْمًا». فمن الأول: المُحَلَّقُ وهو عبد العزيز بن حنتم الكلابي، وكان رجلًا خاملًا مُقَّلًا من المال، فلما مر به الأعشى ذاهبًا إلى سوق عُكاظ قالت له أمه: إن أبا بصير رجل مجدود في شعره، وأنت رجل خامل مقل، ولك بنات، فلو سبقت إليه وأكرمته رجونا أن يكون لك منه خير، فبادر إليه وأنزله ونحر له وسقاه الخمر، فلما أخذت منه الخمر اشتكى له حاله وحال بناته، فقال له ستكفي أمرهن، فلما أصبح قصد إلى السوق فأنشد قصيدته التي أولها: أرقت وما هذا السهاد المؤرق *** وما بي من سقم وما بي معشق إلى أن انتهى فيها إلى قوله في المُحلَّق: نفى الذمَّ عن آل المُحلَّق جفنةٌ *** كجابية السيح العراقي تفهق ترى القوم فيها شارعين وبينهم *** مع القوم ولدان مع الناس دردق لعمري لقد لاحت عيون كثيرة *** إلى ضوء نار في يفاع تحرق تشب لمقرورين يصطليانها *** وبات على النار الندى والمحلَّق وضيعَيْ لبان ثدي أم تحالفا *** بأسحم داج عَوْضُ لا نتفرق ترى الجود يجري سائرًا فوق جمره *** كما زان متن الهندواني رونق فما أتم القصيدة إلاّ والناس يسعون إلى المحَلَّق يهنونه، والأشراف يتسابقون إلى بناته، فما باتت واحدة منهن إلاّ في عصمة رجل أفضل من أبيها بكثير. ومن ذلك بنو أنف الناقة، كانوا يتأذون بهذا الاسم ويكرهون ذكره، حتى تعرض بعضهم للحطيئة فأكرمه فمدحهم، وقلب الاسم مدحًا، وفي ذلك يقول: سيري أمامُ فإن الأكثرين حصا *** والأكرمين إذا ما ينسبونَ أبا قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم *** شاءوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا أولئك الأنف والأذناب غيرهم *** ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا فصاروا يفتخرون به ويتبجحون بذكره، فهذا كله شرف متجدد بسبب من الأسباب، وقد يزداد الشريف شرفًا بذلك كما وقع لهرم بن سنان المري فإنه كان من سادات قومه، ولكن أخوه خارجة بن سنان أسود منه وأشهر، فلما وقع لزهير من المدائح ما وقع في هرم ازداد شرفًا وشهرة حتى فاق أخاه في ذلك، بل لا يكاد اليوم أخوه يذكر، إلى غير هذا مما يكثر. ومن الثاني بنو نمير، كانوا من جمرات العرب المستغنين بقوتهم وعددهم عن طلب حلف، وكانوا يفتخرون بهذا الاسم ويمدون به أصواتهم إذا سئلوا، إلى أن هجا جرير عبيد بن حصين الراعي منهم بقصيدته التي يقول فيها مخاطبًا له: فغضَّ الطرف إنك من نمير *** فلا كعبًا بلغت ولا كلابا ولو وضعت شيوخ بني نمير *** على الميزان ما عدلت ذبابا فسقطوا ولم يرفعوا بعد ذلك رأسًا، حتى كانوا لا يتسمون بهذا الاسم، فإذا قيل للواحد منهم من أنت؟ قال: عامريّ. ومن أظرف ما وقع في ذلك أن امرأة مرت بقوم منهم فجعلوا ينظرون إليها ويتواصفونها، فالتفتت إليهم وقالت: قبحكم الله بني نمير، ما امتثلتم أمر الله إذ يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا منْ أبْصَارِهِمْ} ولا قول جرير إذ يقول: فغضَّ الطرف إنك من نمير ومن ذلك بنو العجلان، كانوا يتفاخرون بهذا الاسم لأن جدهم إنما قيل له العجلان لتعجيله القرى للضيفان حتى هجاهم النجاشي فقلب الاسم ذمًا، وفي ذلك يقول: قُبَيِّلَة لا يخفرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حَبّة خردل ولا يردون الماء إلاّ عشية *** إذا صدر الوُرَّاد عن كلِّ منهل تعاف الكلاب الضاريات لحومهم *** وتأكل من كعب بن عوف ونهشل وما سمي العجلانَ إلاّ لقولهم *** خذ القَعْبَ واحلب أيها العبد واعجل
فتنكروا من هذا الاسم، وجعل الواحد منهم إذا سئل يقول: كعبي مخافة أن يسخر منه ولهم معه في ذلك قصة مشهورة بين يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم قد يفيض شرف الإنسان حتى يستطيل على من قبله من سلفه فتَحْيا رسومهم بعدما كانت دائرة، وتعمر ربوعهم بعدما كانت غامرة، والذروة العليا أيضًا فيمن عاد شرفه على من قبله هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما مرّ شرحه. وقد أشار إليه ابن الرومي بقوله: قالوا: أبو الصقر من شيبان قلت لهم *** كلاّ لعمري ولكن منه شيبان تسمو الرجال بآباءٍ وآونَةٍ *** تسمو الرجال بأبناءٍ وتَزْدان وكم أبٍ قد علا بابن ذُرى حسب *** كما علت برسول الله عدنان وادعى هذا الوصف أبو الطيب فقال: ما بقومي شرفت بل شرفوا بي *** وبنفسي افتخرت لا بحدودي أما شرفه هو في بابه فلا ينكر، وأما شرف قومه به فالشعر أعذبه أكذبه، وإلاّ فالحكم على الشيء فرع تصوره، نعم، كان من عادة العرب أنه إذا نبغ شاعر في قوم اعتزوا به، واحتموا عن الشعراء، فلو تحقق لأبي الطيب قوم لكانوا كذلك. ورجل له أصل وقديم شرفٍ ثم لم يبنه ولم يجدده، وهو إما أن تخفى عوامله فلم يبن ولم يهدم، مع أنه بالحقيقة من لم يكن في زيادة فهو في نقصان، والمراد أن يرجع إلى غمار الناس فلا يحدد المآثر، ولا يخرج إلى المعايب، فهذا لا فضيلة له إلاّ مجرد النسب والفخر العظاميّ كما مر، وإما أن يهدمه بملابسة ضد ما كان أولًا، فهذا بمنزلة من هدم الدار ثم حفر البقعة أيضًا فأفسدها، فهذا مذموم بما جنى على نفسه وبما جنى على حسبه ونسبه والذروة العليا في هذا الصنف اليهود والنصارى ونحوهم، فقد هدموا أنسابهم وأحسابهم بشر الخصال، وهو الكفر، نسأل الله العافية. ومن هذا النمط من يخلف آباءه الصالحين بالفسق وكثرة الرغبة في الدنيا والكبر والدعوى وغير ذلك من القبائح كما هو شأن كثير من أولاد الصالحين في زماننا نسأل الله العافية، وفي هذا الصنف قيل: لئن فخرت بآباء لهم شرف *** لقد فخرت ولكن بئس ما ولدوا وقال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب وقال الآخر: ذهب الرجال المقتدى بفعالهم *** والمنكرون لكل أمر منكر وبقيت في خَلْفٍ يزيِّن بعضُهم *** بعضًا ليست مُعْوِرٌ عن مُعْوِرِ الرابع- قد يقال فيما ذكرناه من النسب: إنه من النسب الطويل وهو عيب ويذم بضده وهو النسب القصير قال الشاعر: أنتم بنو القصير، وطولكم *** باد على الكبراء والأشراف والنسب القصير هو أن يقول: أنا فلان ابن فلان، فيعرف لكون أبيه أو جده الأدنى من الأعيان، والطويل هو ألاّ يعرف إلى رأس القبيلة. والجواب أولًا أننا لم نذكر النسب افتخارًا حتى يعرض على هذا المقياس، وإنما ذكرناه لاحتياج إليه في المصالح الدينية والدنيوية عند أهله وثانيًا أن كون الإنسان من الأعيان أمر إضافي كما مرّ أنه قد يكون من أعيان عشيرته أو قومه وهو الأغلب، وقد يكون من أعيان عمارته أو إقليمه أو جيله، وهو عزيز الوجود، ولا شك أن شرف الإنسان واشتهاره باعتبار عشيرته أو قومه إنما يعرف فيهم ولا يضيره ألاّ يعرفه غيرهم، لأن سادات العرب لا يعرفهم العجم، ولا العكس، وكذا فيما بين العرب غالبًا، وقال الشاعر: طويل النجاد رفيع العما *** د ساد عشيرته أمردا وقال الآخر: ليس العبيّ بسيد في قومه *** لكنّ سيد قومه المتغابي ولم يخرج عن هذه الإضافة الملوك كما قال النابغة: وللحارث الجفنيّ سيد قومه *** ليبتغين بالجيش دار المحارب وقالت هند بنت عتبة رضي الله عنها لمن قال لها في ابنها معاوية رضي الله عنه: أرجو أن يسود قومه: ثكلته إن كان لا يسود إلاّ قومه، وذلك أنها سمعت قبل ذلك من الكهان أنها تلد ملكًا اسمه معاوية في قصة مشهورة. إذا تقرر هذا فالمنتسب معروف النسب قصيره، بحمد الله في قومه، وهو من صميمهم، وإنما رفعه ليعرف على ما تشعب عنه من الفصائل والبطون، وليعرف انقطاعه عند دخول القرى وغير ذلك من الفوائد التي مرت. وأما ذكري لما مرّ من الكنى فلجريانها على ألسنة فضلاء مع التفاؤل ورجاء تحقق ما له معنى منها.
أما أبو علي، وهو كنية الحسن المشهورة، فكناني بها شيخ الإسلام الإمام الهمام أستاذنا وقدوتنا أبو عبد الله سيدي محمد بن ناصر الدرعي رضي الله عنه وعنا به. وكنت وردت عليه في أعوام الستين والألف بقصد أخذ العلم، فامتدحته بقصيدة قدمتها بين يدي نجواني، فانبسط إليّ بحمد الله، وافتتحنا بكتاب التسهيل فلما قرأنا الخطبة دخل مسرورًا فكتب إليّ: أبا علي جزيت الخير والنعما *** ونلت كل المنى من ربنا قسما يا مرحبًا بك كل الرحب لا برحت *** قرائح الفكر منك تجني حكما ولم أزل بحمد الله أتعرف بركة دعائه وإقبال قلبه إلى الآن، نسأل الله تعالى أن لا يزايلنا فضله ورحمته حتى نلقاه آمين. وقال ابن عمنا الفاضل البارع أبو سعيد عثمان بن علي اليوسي رحمه الله من أبيات: نمسي عشية قيل مرّ أبو علي *** مثل الرياح إذا تمرّ بأَثْأَبِ ولم يزل الشيخ رضي الله عنه يأمرني بذلك إلى أن توفاه الله في رسائله ومخاطبته وعند ذكري. وأما البواقي فكناني بها فضلاء من الإخوان في رسائلهم: ونحوت في ذلك منحى السيد خير النساج وكان اسمه محمد بن إسماعيل، فلما وقعت عليه المحنة وألقي عليه شُبه خير مملوك لرجل نساج فقبض عليه وأدخله ينسج ويخاطبه بهذا الاسم، فلما كشفت عنه المحنة وخرج ترك هذا لاسم على نفسه، فقيل له: ألا ترجع إلى اسمك؟ فقال: ما كنت لأغير أو لأترك اسمًا سماني به رجل مسلم. واعلم أن لهذا السيد في التزام هذا الاسم المذكور أوجهًا منها: أنه تسليم لأنه شاهد فعل الله تعالى، فلما ألقى الله تعالى عليه الاسم لم يبق له اختيار في التعرض له. ومنها: أنه يستشعر من مولاه تعالى أنه أدبه بجعله عبدًا مملوكًا وتسميته باسمه، وضربة المحبوب تستلذ. ومنها: أنه يتذكر العبودية وذلتها، وهذه الطائفة قد صارت الذلة شرابهم ونعيمهم. ومنها: أنه يذكر به العقوبة فيذكر الهفوة ليتحرر منها. ومنها: أنه يبقى عليه الاسم ليبقى عليه ذكر الهفوة والعقوبة هضمًا لنفسه وإرغامًا لها. ومنها: التفاؤل بهذا اللفظ فإنه على أصله، وهو ضد الشر، وعلى أنه مخفف من التشديد فهو ذو الخير، وكيف أترك أنا كنية كناني به رجل من أفاضل المسلمين ولا سيما إن تضمنت معنى حسنًا. لله الأمر من قبل ومن بعد.
|