الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
قال أبو القاسم -رحمه الله-: [ وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة, وأهل اليمن من يلملم وأهل الطائف ونجد من قرن وأهل المشرق من ذات عرق ] وجملة ذلك أن المواقيت المنصوص عليها الخمسة التي ذكرها الخرقي -رحمه الله- وقد أجمع أهل العلم على أربعة منها, وهي: ذو الحليفة والجحفة وقرن, ويلملم واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها فمن ذلك ما روى ابن عباس قال: (وقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة ذا الحليفة, ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرنا ولأهل اليمن يلملم, قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة, فمن كان دونهن مهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها) وعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة, وأهل نجد من قرن) قال ابن عمر: وذكر لي ولم أسمعه أنه قال: (وأهل اليمن من يلملم) متفق عليهما فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم وهو مذهب مالك وأبي ثور, وأصحاب الرأي وقال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات وروي عن أنس أنه كان يحرم من العقيق واستحسنه الشافعي وابن المنذر وابن عبد البر وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة وروي ذلك عن خصيف والقاسم بن عبد الرحمن وقد روى ابن عباس, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (وقت لأهل المشرق العقيق) قال الترمذي: وهو حديث حسن قال ابن عبد البر: العقيق أولى وأحوط من ذات عرق وذات عرق ميقاتهم بإجماع واختلف أهل العلم في من وقت ذات عرق فروى أبو داود, والنسائي وغيرهما بإسنادهم, عن القاسم عن عائشة (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل العراق ذات عرق) وعن أبي الزبير أنه سمع جابرا سئل عن المهل؟ قال: سمعته - وأحسبه رفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- - يقول: (مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة, ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن) رواه مسلم في "صحيحه" وقال قوم آخرون: إنما وقتها عمر رضي الله عنه فروى البخاري, بإسناده عن ابن عمر قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر, فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حد لأهل نجد قرنا, وهو جور عن طريقنا وإنا إن أردنا قرنا شق علينا قال: فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات عرق فقال ذلك برأيه فأصاب, ووافق قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كان كثير الإصابة رضي الله عنه وإذا ثبت توقيتها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن عمر فالإحرام منه أولى -إن شاء الله تعالى-. وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر, فموضع الإحرام من الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية لأن الحكم تعلق بذلك الموضع فلا يزول بخرابه وقد رأى سعيد بن جبير رجلا يريد أن يحرم من ذات عرق, فأخذ بيده حتى خرج به من البيوت وقطع الوادي فأتى به المقابر, فقال: هذه ذات عرق الأولى. قال: [ وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل وإذا أرادوا الحج, فمن مكة ] أهل مكة من كان بها سواء كان مقيما بها أو غير مقيم لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتا له, فكذلك كل من كان بمكة فهي ميقاته للحج وإن أراد العمرة فمن الحل لا نعلم في هذا خلافا ولذلك (أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم) متفق عليه وكانت بمكة يومئذ والأصل في هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حتى أهل مكة يهلون منها) يعني للحج وقال أيضا: (ومن كان أهله دون الميقات فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة) وهذا في الحج فأما في العمرة فميقاتها في حقهم الحل, من أي جوانب الحرم شاء لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإعمار عائشة من التنعيم وهو أدنى الحل إلى مكة وقال ابن سيرين: بلغني (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم) وقال ابن عباس: يا أهل مكة من أتى منكم العمرة, فليجعل بينه وبينها بطن محسر يعني إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة وإنما لزم الإحرام من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرم فإنه لو أحرم من الحرم, لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج, فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك ومن أي الحل أحرم جاز وإنما أعمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة وقد روي عن أحمد, في المكي كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر هي على قدر تعبها وأما إن أراد المكي الإحرام بالحج, فمن مكة للخبر الذي ذكرنا ولأن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما فسخوا الحج أمرهم فأحرموا من مكة قال جابر: (أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حللنا, أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح) رواه مسلم وهذا يدل على أنه لا فرق بين قاطني مكة وبين غيرهم ممن هو بها كالمتمتع إذا حل ومن فسخ حجه بها ونقل عن أحمد فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة, أنه يهل بالحج من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم والصحيح خلاف هذا لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ويحتمل أن أحمد إنما أراد أن المتمتع يسقط عنه الدم إذا خرج إلى الميقات, ولا يسقط إذا أحرم من مكة وهذا في غير المكي أما المكي فلا يجب عليه دم متعة بحال لقول الله تعالى: ومن أي الحرم أحرم بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم وهذا يحصل بالإحرام من أي موضع كان فجاز, كما يجوز أن يحرم بالعمرة من أي موضع كان من الحل ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في حجة الوداع: (إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء) ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها, كالنحر. فإن أحرم من الحل نظرت فإن أحرم من الحل الذي يلي الموقف فعليه دم لأنه أحرم من دون الميقات وإن أحرم من الجانب الآخر ثم سلك الحرم, فلا شيء عليه نص عليه أحمد في رجل أحرم للحج من التنعيم فقال: ليس عليه شيء وذلك لأنه أحرم قبل ميقاته, فكان كالمحرم قبل بقية المواقيت ولو أحرم من الحل ولم يسلك الحرم فعليه دم لأنه لم يجمع بين الحل والحرم. وإن أحرم بالعمرة من الحرم, انعقد إحرامه بها وعليه دم لتركه الإحرام من الميقات ثم إن خرج إلى الحل قبل الطواف ثم عاد, أجزأه لأنه قد جمع بين الحل والحرم وإن لم يخرج حتى قضى عمرته صح أيضا لأنه قد أتى بأركانها وإنما أخل بالإحرام من ميقاتها, وقد جبره فأشبه من أحرم من دون الميقات بالحج وهذا قول أبي ثور وابن المنذر, وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي والقول الثاني لا تصح عمرته لأنه نسك, فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج فعلى هذا وجود هذا الطواف كعدمه وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل, ثم يطوف بعد ذلك ويسعى وإن حلق قبل ذلك فعليه دم وكذلك كل ما فعله من محظورات إحرامه فعليه فديته وإن وطئ, أفسد عمرته ويمضي في فاسدها وعليه دم لإفسادها, ويقضيها بعمرة من الحل ثم إن كانت العمرة التي أفسدها عمرة الإسلام أجزأه قضاؤها عن عمرة الإسلام وإلا فلا. قال: [ ومن كان منزله دون الميقات, فميقاته من موضعه ] يعني إذا كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات كان ميقاته مسكنه هذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول مالك وطاوس, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن مجاهد, قال: يهل من مكة ولا يصح فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث ابن عباس: (فمن كان دونهن مهله من أهله) وهذا صريح والعمل به أولى. إذا كان مسكنه قرية, فالأفضل أن يحرم من أبعد جانبيها وإن أحرم من أقرب جانبيها جاز وهكذا القول في المواقيت التي وقتها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كانت قرية والحلة كالقرية فيما ذكرنا وإن كان مسكنه منفردا, فميقاته مسكنه أو حذوه وكل ميقات فحذوه بمنزلته ثم إن كان مسكنه في الحل, فإحرامه منه للحج والعمرة معا وإن كان في الحرم فإحرامه للعمرة من الحل, ليجمع في النسك بين الحل والحرم كالمكي وأما الحج فينبغي أن يجوز له الإحرام من أي الحرم شاء, كالمكي. قال: [ ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم ] وجملة ذلك أن من سلك طريقا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات, الذي هو إلى طريقه أقرب لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر: إن قرنا جور عن طريقنا فقال: انظروا حذوها من طريقكم فوقت لهم ذات عرق ولأن هذا مما يعرف بالاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة. فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه, احتاط فأحرم من بعد بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرما لأن الإحرام قبل الميقات جائز, وتأخيره عنه لا يجوز فالاحتياط فعل ما لا شك فيه ولا يلزمه الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه لأن الأصل عدم وجوبه فلا يجب بالشك فإن أحرم, ثم علم بعد أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها وإن كانتا متساويتين في القرب إليه, أحرم من حذو أبعدهما. قال: [ وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمرة ] وجملة ذلك أن من سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته, وإن حج من اليمن فميقاته يلملم وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق وهكذا كل من مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتا له سئل أحمد عن الشامي يمر بالمدينة يريد الحج من أين يهل؟ قال: من ذي الحليفة قيل: فإن بعض الناس يقول يهل من ميقاته من الجحفة فقال: سبحان الله, أليس يروي ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) وهذا قول الشافعي وإسحاق وقال أبو ثور في الشامي يمر بالمدينة: له أن يحرم من الجحفة وهو قول أصحاب الرأي وكانت عائشة, إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة وإذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة ولعلهم يحتجون بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل الشام الجحفة ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فهن لهن, ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) ولأنه ميقات فلم يجز تجاوزه بغير إحرام لمن يريد النسك كسائر المواقيت وخبرهم أريد به من لم يمر على ميقات آخر, بدليل ما لو مر بميقات غير ذي الحليفة لم يجز له تجاوزه بغير إحرام بغير خلاف وقد روى سعيد, عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفة) ولا فرق بين الحج والعمرة في هذا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن, ممن كان يريد حجا أو عمرة). فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة سواء كان شاميا أو مدنيا لما روى أبو الزبير, أنه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال: سمعته - أحسبه رفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- - يقول: (مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة) رواه مسلم ولأنه مر على أحد المواقيت دون غيره, فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت ويحتمل أن أبا قتادة حين أحرم أصحابه دونه في قصة صيده للحمار الوحشي إنما ترك الإحرام لكونه لم يمر على ذي الحليفة, فأخر إحرامه إلى الجحفة إذ لو مر عليها لم يجز له تجاوزها من غير إحرام ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا وأنها لا تمر في طريقها على ذي الحليفة لئلا يكون فعلها مخالفا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولسائر أهل العلم. قال: [ والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته فإن فعل فهو محرم ] لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرما, تثبت في حقه أحكام الإحرام قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله روي نحو ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال الحسن, وعطاء ومالك وإسحاق وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين وكان علقمة, والأسود وعبد الرحمن وأبو إسحاق, يحرمون من بيوتهم واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك عبد الله أيتهما قال) رواه أبو داود وفي لفظ رواه ابن ماجه: (من أهل بعمرة من بيت المقدس, غفر له) وأحرم ابن عمر من إيليا وروى النسائي وأبو داود بإسنادهما عن الصبي بن معبد, قال: أهللت بالحج والعمرة فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان, وأنا أهل بهما فقال أحدهما: ما هذا بأفقه من بعيره فأتيت عمر فذكرت له ذلك فقال: (هديت لسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-) وهذا إحرام به قبل الميقات وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى: قال: [ ومن أراد الإحرام, فجاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم من الميقات فإن أحرم من مكانه فعليه دم, وإن رجع محرما إلى الميقات ] وجملة ذلك أن من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه, سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله فإن رجع إليه فأحرم منه, فلا شيء عليه لا نعلم في ذلك خلافا وبه يقول جابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير, والثوري والشافعي وغيرهم لأنه أحرم من الميقات الذي أمر بالإحرام منه, فلم يلزمه شيء كما لو لم يتجاوزه وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم, سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع وبهذا قال مالك وابن المبارك وظاهر مذهب الشافعي أنه إن رجع إلى الميقات فلا شيء عليه, إلا أن يكون قد تلبس بشيء من أفعال الحج كالوقوف وطواف القدوم, فيستقر الدم عليه لأنه حصل محرما في الميقات قبل التلبس بأفعال الحج فلم يلزمه دم كما لو أحرم منه وعن أبي حنيفة: إن رجع إلى الميقات, فلبى سقط عنه الدم وإن لم يلب, لم يسقط وعن عطاء والحسن والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات وعن سعيد بن جبير: لا حج لمن ترك الميقات ولنا ما روى ابن عباس, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من ترك نسكا فعليه دم) روي موقوفا ومرفوعا ولأنه أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم, كما لو لم يرجع أو كما لو طاف عند الشافعي أو كما لو لم يلب عند أبي حنيفة, ولأنه ترك الإحرام من ميقاته فلزمه الدم كما ذكرنا, ولأن الدم وجب لتركه الإحرام من الميقات ولا يزول هذا برجوعه ولا بتلبيته وفارق ما إذا رجع قبل إحرامه فأحرم منه, فإنه لم يترك الإحرام منه ولم يهتكه. ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه لم يسقط عنه الدم وبه قال الشافعي, وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال الثوري, وأصحاب الرأي: يسقط لأن القضاء واجب ولنا أنه واجب عليه بموجب هذا الإحرام فلم يسقط بوجوب القضاء, كبقية المناسك وكجزاء الصيد. فأما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك, فعلى قسمين أحدهما لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه, فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شيء عليه في ترك الإحرام وقد أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بدرا مرتين, وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة فلا يحرمون, ولا يرون بذلك بأسا ثم متى بدا لهذا الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه, ولا شيء عليه هذا ظاهر كلام الخرقي وبه يقول مالك والثوري والشافعي, وصاحبا أبي حنيفة وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة, وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج, يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم وبه قال إسحاق ولأنه أحرم من دون الميقات فلزمه الدم, كالذي يريد دخول الحرم والأول أصح وكلام أحمد يحمل على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة) ولأنه حصل دون الميقات على وجه مباح فكان له الإحرام منه كأهل ذلك المكان ولأن هذا القول يفضي إلى أن من كان منزله دون الميقات, إذا خرج إلى الميقات ثم عاد إلى منزله وأراد الإحرام, لزمه الخروج إلى الميقات ولا قائل به وهو مخالف لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ومن كان منزله دون الميقات فمهله من أهله) القسم الثاني, من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب أحدها, من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة, كالحشاش والحطاب وناقل الميرة والفيح, ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل يوم الفتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه, ولم نعلم أحدا منهم أحرم يومئذ ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع زمانه محرما, فسقط للحرج وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام إلا من كان دون الميقات لأنه يجاوز الميقات مريدا للحرم فلم يجز بغير إحرام كغيره ولنا, ما ذكرناه وقد روى الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء) وقال: هذا حديث حسن صحيح ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم الذي قبله, وفيه من الخلاف ما فيه النوع الثاني: من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات, أو عتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الإحرام, فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء ومالك, والثوري والأوزاعي وإسحاق, وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ وقالوا في العبد: عليه دم وقال الشافعي في جميعهم: على كل واحد منهم دم وعن أحمد, في الكافر يسلم كقوله ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام وأحرموا دونه, فلزمهم الدم كالمسلم البالغ العاقل ولنا أنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام منه, فأشبهوا المكي ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها وفارق من يجب عليه الإحرام إذا تركه لأنه ترك الواجب عليه النوع الثالث: المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة, فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم: لا يجب الإحرام عليه وعن أحمد ما يدل على ذلك وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام ولأنه أحد الحرمين فلم يلزم الإحرام لدخوله, كحرم المدينة ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل, فبقي على الأصل ووجه الأولى أنه لو نذر دخولها لزمه الإحرام ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول, كسائر البلدان إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه, فعليه دم كالمريد للنسك. ومن دخل الحرم بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام, فلا قضاء عليه هذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يأتي بحجة أو عمرة فإن أتى بحجة الإسلام في سنته أو منذورة, أو عمرة أجزأه عن عمرة الدخول استحسانا لأن مروره على الميقات مريدا للحرم يوجب الإحرام فإذا لم يأت به وجب قضاؤه, كالمنذور ولنا أنه مشروع لتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط, كتحية المسجد فإن قيل: تحية المسجد غير واجبة قلنا: إلا أن النوافل المرتبات تقضى وإنما سقط القضاء لما ذكرنا فأما إن تجاوز الميقات ورجع ولم يدخل الحرم, فلا قضاء عليه بغير خلاف نعلمه سواء أراد النسك أو لم يرده. ومن كان منزله دون الميقات خارجا من الحرم, فحكمه في مجاوزة قريته إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في هذه الأحوال الثلاث لأن موضعه ميقاته فهو في حقه كالمواقيت الخمسة في حق الآفاقي. قال: [ ومن جاوز الميقات غير محرم, فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم ] لا خلاف في أن من خشي فوات الحج برجوعه إلى الميقات, أنه يحرم من موضعه فيما نعلمه إلا أنه روي عن سعيد بن جبير: من ترك الميقات فلا حج له وما عليه الجمهور أولى فإنه لو كان من أركان الحج, لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف وإذا أحرم من دون الميقات عند خوف الفوات فعليه دم لا نعلم فيه خلافا عند من أوجب الإحرام من الميقات لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من ترك نسكا, فعليه دم) وإنما أبحنا له الإحرام من موضعه مراعاة لإدراك الحج فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة واجب فيه مع فواته ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة, أو الخوف من عدو أو لص أو مرض أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع, فهو كخائف الفوات في أنه يحرم من موضعه وعليه دم. قال أبو القاسم: [ ومن أراد الحج, وقد دخل أشهر الحج فإذا بلغ الميقات فالاختيار له أن يغتسل ] قوله: "وقد دخل أشهر الحج" يدل على أنه لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهره, وهذا هو الأولى فإن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه إحراما به قبل وقته فأشبه الإحرام به قبل ميقاته, ولأن في صحته اختلافا فإن أحرم به قبل أشهره صح وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحج, جاز نص عليه أحمد وهو قول النخعي ومالك والثوري وأبي حنيفة, وإسحاق وقال عطاء وطاوس ومجاهد, والشافعي: يجعله عمرة لقول الله تعالى: فإن لم يجد ماء لم يسن له التيمم وقال القاضي: يتيمم لأنه غسل مشروع فناب عنه التيمم, كالواجب ولنا أنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه, كغسل الجمعة وما ذكره منتقض بغسل الجمعة ونحوه من الأغسال المسنونة والفرق بين الواجب والمسنون, أن الواجب يراد لإباحة الصلاة والتيمم يقوم مقامه في ذلك والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة, والتيمم لا يحصل هذا بل يزيد شعثا وتغييرا ولذلك افترقا في الطهارة الصغرى, فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح به. ويستحب التنظف بإزالة الشعث وقطع الرائحة, ونتف الإبط وقص الشارب وقلم الأظفار, وحلق العانة لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب فسن له هذا كالجمعة ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وقلم الأظفار, فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه. قال: [ ويلبس ثوبين نظيفين ] يعني إزارا ورداء فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وثبت أيضا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين) ولأن المحرم ممنوع من لبس المخيط في شيء من بدنه, يعني بذلك ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل ولو لبس إزارا موصلا أو اتشح بثوب مخيط, جاز ويستحب أن يكونا نظيفين إما جديدين وإما غسيلين لأننا أحببنا له التنظف في بدنه فكذلك في ثيابه, كشاهد الجمعة والأولى أن يكونا أبيضين لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم, وكفنوا فيها موتاكم). قال: [ ويتطيب ] وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس, وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وعائشة, وأم حبيبة ومعاوية وروي عن محمد بن الحنفية وأبي سعيد الخدري, وعروة والقاسم والشعبي, وابن جريج وكان عطاء يكره ذلك وهو قول مالك وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم واحتج مالك بما روى يعلى بن أمية, أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله (كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني ساعة ثم قال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك) متفق عليه ولأنه يمنع من ابتدائه, فمنع استدامته كاللبس ولنا قول عائشة: (كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت قالت: وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محرم) متفق عليه وفي لفظ لمسلم: (طيبته بأطيب الطيب وقالت بطيب فيه مسك) وفي لفظ للنسائي: (كأني أنظر إلى وبيص طيب المسك في مفرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) وحديثهم في بعض ألفاظه: عليه جبة بها أثر خلوق رواه مسلم وفي بعضها: وهو متضمخ بالخلوق وفي بعضها: عليه درع من زعفران وهذه الألفاظ تدل على أن طيب الرجل كان من الزعفران, وهو منهي عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى وقد روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى أن يتزعفر الرجل) ولأن حديثهم في سنة ثمان, وحديثنا في سنة عشر قال ابن جريج: كان شأن صاحب الجبة قبل حجة الوداع قال ابن عبد البر: لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان, وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر فعند ذلك إن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم فإن قيل: فقد روى محمد بن المنتشر, قال: سمعت ابن عمر ينهى عن الطيب عند الإحرام فقال: لأن أطلى بالقطران أحب إلي من ذلك قلنا تمام الحديث قال: فذكرت ذلك لعائشة, فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن قد (كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضح طيبا) فإذا صار الخبر حجة على من احتج به, فإن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة على ابن عمر وغيره وقياسهم يبطل بالنكاح فإنه يمنع ابتداءه دون استدامته. وإن طيب ثوبه, فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه, فإن لبسه افتدى لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة وكذلك إن نقل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر, افتدى لأنه تطيب في إحرامه وكذا إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه, ثم رده إليه فأما إن عرق الطيب أو ذاب بالشمس, فسال من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه لأنه ليس من فعله فجرى مجرى الناسي قالت عائشة: (كنا نخرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام, فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ينهاها) رواه أبو داود. قال: [ فإن حضر وقت صلاة مكتوبة ، وإلا صلى ركعتين ] المستحب أن يحرم عقيب الصلاة ، فإن حضرت صلاة مكتوبة ، أحرم عقيبها ، وإلا صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبهما . استحب ذلك عطاء ، وطاوس ، ومالك ، والشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر . وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس . وقد روي عن أحمد أن الإحرام عقيب الصلاة ، وإذا استوت به راحلته ، وإذا بدأ بالسير ، سواء ؛ لأن الجميع قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة ، قال الأثرم : سألت أبا عبد الله ، أيما أحب إليك : الإحرام في دبر الصلاة ، أو إذا استوت به راحلته ؟ فقال : كل ذلك قد جاء ، في دبر الصلاة ، وإذا علا البيداء ، وإذا استوت به ناقته ، فوسع في ذلك . كله . قال ابن عباس : (ركب النبي صلى الله عليه وسلم راحلته ، حتى استوت على البيداء أهل هو وأصحابه) ، وقال أنس : (لما ركب راحلته ، واستوت به ، أهل). وقال ابن عمر : (أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة). رواهن البخاري ، والأولى الإحرام عقيب الصلاة ، لما روى سعيد بن جبير قال : ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته ، ثم خرج ، فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته ، واستوت به قائمة ، أهل ، فأدرك ذلك منه قوم ، فقالوا : أهل حين استوت به الراحلة ، وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ، ثم سار حتى علا البيداء ، فأهل ، فأدرك ذلك منه قوم ، فقالوا : أهل حين علا البيداء). رواه أبو داود ، والأثرم . وهذا لفظ الأثرم . وهذا فيه بيان وزيادة علم ، فيتعين حمل الأمر عليه ، ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه ، جمعا بين الأخبار المختلفة ، وهذا على سبيل الاستحباب ، فكيفما أحرم جاز ، لا نعلم أحدا خالف في ذلك . قال: [ فإن أراد التمتع وهو اختيار أبي عبد الله, فيقول: اللهم إني أريد العمرة ] وجملة ذلك أن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة تمتع وإفراد وقران فالتمتع أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج, فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه والإفراد أن يهل بالحج مفردا والقران أن يجمع بينهما في الإحرام بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف فأي ذلك أحرم به جاز قالت عائشة: (خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنا من أهل بعمرة, ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج) متفق عليه فهذا هو التمتع والإفراد والقران وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء واختلفوا في أفضلها, فاختار إمامنا التمتع ثم الإفراد ثم القران وممن روي عنه اختيار التمتع ابن عمر, وابن عباس وابن الزبير وعائشة, والحسن وعطاء وطاوس, ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وروى المروذي عن أحمد: إن ساق الهدي, فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه وذهب الثوري وأصحاب الرأي إلى اختيار القران لما روى أنس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أهل بهما جميعا: لبيك عمرة وحجا, لبيك عمرة وحجا) متفق عليه وحديث الصبي بن معبد حين لبى بهما ثم أتى عمر فسأله فقال: (هديت لسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-) وروي عن مروان بن الحكم, قال: كنت جالسا عند عثمان بن عفان فسمع عليا يلبي بعمرة وحج فأرسل إليه, فقال: ألم نكن نهينا عن هذا؟ قال: بلى ولكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (يلبي بهما جميعا فلم أكن أدع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقولك) رواه سعيد ولأن القران مبادرة إلى فعل العبادة, وإحرام بالنسكين من الميقات وفيه زيادة نسك هو الدم فكان أولى وذهب مالك, وأبو ثور إلى اختيار الإفراد وهو ظاهر مذهب الشافعي وروي ذلك عن عمر وعثمان, وابن عمر وجابر وعائشة, لما روت عائشة وجابر (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج) متفق عليهما وعن ابن عمر وابن عباس مثل ذلك متفق عليهما ولأنه يأتي بالحج تاما من غير احتياج إلى جبر فكان أولى قال عثمان: ألا إن الحج التام من أهليكم, والعمرة التامة من أهليكم وقال إبراهيم: إن أبا بكر وعمر وابن مسعود, وعائشة كانوا يجردون الحج ولنا ما روى ابن عباس, وجابر وأبو موسى وعائشة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه لما طافوا بالبيت, أن يحلوا ويجعلوها عمرة) فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل وهذه الأحاديث متفق عليها ولم يختلف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما قدم مكة, أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه, وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) قال جابر: حججنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم ساق البدن معه, وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم: (أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت, وبين الصفا والمروة ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية, فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم به فلولا إني سقت الهدي, لفعلت مثل الذي أمرتكم به) وفي لفظ: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (قد علمتم إني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم, ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت فحللنا, وسمعنا وأطعنا) متفق عليهما فنقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك, فدل على فضله ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله: فمن أراد الإحرام بعمرة, فالمستحب أن يقول: اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني ومحلي حيث تحبسني فإنه يستحب للإنسان النطق بما أحرم به, ليزول الالتباس فإن لم ينطق بشيء واقتصر على مجرد النية, كفاه في قول إمامنا ومالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بمجرد النية حتى تنضاف إليها التلبية, أو سوق الهدي لما روى خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (جاءني جبريل, فقال: يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) رواه النسائي وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح ولأنها عبادة ذات تحريم وتحليل, فكان لها نطق واجب كالصلاة ولأن الهدي والأضحية لا يجبان بمجرد النية كذلك النسك ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب, فلم يكن في أولها كالصيام والخبر المراد به الاستحباب, فإن منطوقه رفع الصوت ولا خلاف في أنه غير واجب فما هو من ضرورته أولى, ولو وجب النطق لم يلزم كونه شرطا فإن كثيرا من واجبات الحج غير مشترطة فيه, والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف الحج والعمرة وأما الهدي والأضحية فإيجاب مال, فأشبه النذر بخلاف الحج فإنه عبادة بدنية فعلى هذا لو نطق بغير ما نواه, نحو أن ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس, انعقد ما نواه دون ما لفظ به قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا وذلك لأن الواجب النية وعليها الاعتماد, واللفظ لا عبرة به فلم يؤثر كما لا يؤثر اختلاف النية فيما يعتبر له اللفظ دون النية. فإن لبى, أو ساق الهدي من غير نية لم ينعقد إحرامه لأن ما اعتبرت له النية لم ينعقد بدونها, كالصوم والصلاة والله أعلم. قال: [ ويشترط فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن حبس حل من الموضع الذي حبس فيه ولا شيء عليه ] يستحب لمن أحرم بنسك, أن يشترط عند إحرامه فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني ويفيد هذا الشرط شيئين: أحدهما, أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة, ونحوه أن له التحلل والثاني أنه متى حل بذلك, فلا دم عليه ولا صوم وممن روي عنه أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر وعلي وابن مسعود, وعمار وذهب إليه عبيدة السلماني وعلقمة والأسود, وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح, وعطاء بن يسار وعكرمة والشافعي إذ هو بالعراق وأنكره ابن عمر, وطاوس وسعيد بن جبير والزهري, ومالك وأبو حنيفة وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار واحتجوا بأن ابن عمر كان ينكر الاشتراط, ويقول: حسبكم سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ولأنها عبادة تجب بأصل الشرع فلم يفد الاشتراط فيها كالصوم والصلاة ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ضباعة بنت الزبير, فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: حجي, واشترطي أن محلي حيث حبستني) متفق عليه وعن ابن عباس (أن ضباعة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ فقال: قولي لبيك اللهم لبيك, ومحلي من الأرض حيث تحبسني فإن لك على ربك ما استثنيت) رواه مسلم ولا قول لأحد مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكيف يعارض بقول ابن عمر ولو لم يكن فيه حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرنا قوله من فقهاء الصحابة, أولى من قول ابن عمر وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه, يقوم مقامه لأن المقصود المعنى والعبارة إنما تعتبر لتأدية المعنى قال إبراهيم: خرجنا مع علقمة وهو يريد العمرة, فقال: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت وإلا فلا حرج على وكان شريح يشترط: اللهم قد عرفت نيتي وما أريد, فإن كان أمرا تتمه فهو أحب إلي وإلا فلا حرج علي ونحوه عن الأسود وقالت عائشة لعروة: قل اللهم إني أريد الحج, وإياه نويت فإن تيسر وإلا فعمرة ونحوه عن عميرة بن زياد. فإن نوى الاشتراط, ولم يتلفظ به احتمل أن يصح لأنه تابع لعقد الإحرام والإحرام ينعقد بالنية, فكذلك تابعه واحتمل أن يعتبر فيه القول لأنه اشتراط فاعتبر فيه القول, كالاشتراط في النذر والوقف والاعتكاف ويدل عليه ظاهر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس: (قولي محلي من الأرض حيث تحبسني). قال: [ وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج ويشترط ] الإفراد: هو الإحرام بالحج مفردا من الميقات, وهو أحد الأنساك الثلاثة والحكم في إحرامه كالحكم في إحرام العمرة سواء, فيما يجب ويستحب وحكم الاشتراط. قال: [ وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج ويشترط ] معنى القران: الإحرام بالعمرة والحج معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج وهو أحد الأنساك المشروعة, الثابتة بالنص والإجماع وقد روي أن معاوية قال لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: أما هذا فلا قال: إنها معهن - يعني مع المنهيات - ولكنكم نسيتم وهذا مما لم يوافق الصحابة معاوية عليه مع ما يتضمنه من مخالفة الأحاديث الصحيحة والإجماع قال الخطابي: ويشبه أن يكون ذهب إلى تأويل قوله عليه السلام, حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي وكان قارنا, فحمله معاوية على النهي) والله أعلم. ويستحب أن يعين ما أحرم به وبه قال مالك وقال الشافعي في أحد قوليه: الإطلاق أولى لما روى طاوس, قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة لا يسمى حجا ينتظر القضاء, فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي, أن يجعلوها عمرة ولأن ذلك أحوط لأنه لا يأمن الإحصار أو تعذر فعل الحج عليه فيجعلها عمرة, ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين فقال: (من شاء منكم أن يهل بحج وعمرة, فليهل ومن أراد أن يهل بحج فليهل, ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل) والنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إنما أحرموا بمعين على ما ذكرنا في الأحاديث الصحيحة, وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا معه في حجته يطلعون على أحواله ويقتدون بأفعاله, ويقفون على ظاهر أمره وباطنه أعلم به من طاوس وحديثه مرسل, والشافعي لا يحتج بالمراسيل المفردة فكيف يصير إلى هذا مع مخالفته للروايات المستفيضة المتفق عليها, والاحتياط ممكن بأن يجعلها عمرة فإن شاء كان متمتعا, وإن شاء أدخل الحج عليها فكان قارنا. فإن أطلق الإحرام فنوى الإحرام بنسك, ولم يعين حجا ولا عمرة صح وصار محرما لأن الإحرام يصح مع الإبهام, فصح مع الإطلاق فإذا أحرم مطلقا فله صرفه إلى أي الأنساك شاء لأن له أن يبتدئ الإحرام بما شاء منها فكان له صرف المطلق إلى ذلك, والأولى صرفه إلى العمرة لأنه إن كان في غير أشهر الحج فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع وإن كان في أشهر الحج فالعمرة أولى لأن التمتع أفضل وقد قال أحمد, -رحمه الله-: يجعله عمرة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجعله عمرة كذا ها هنا. ويصح إبهام الإحرام وهو أن يحرم بما أحرم به فلان لما روى أبو موسى, قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو منيخ بالبطحاء فقال لي: (بم أهللت؟ قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أحسنت فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: حل) متفق عليه وروى جابر, وأنس أن عليا قدم من اليمن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) قال جابر في حديثه قال: (فاهد, وامكث حراما) وقال أنس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لولا أن معي هديا لحللت) متفق عليهما ثم لا يخلو من أبهم إحرامه من أحوال أربعة: أحدها أن يعلم ما أحرم به فلان فينعقد إحرامه بمثله فإن عليا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ماذا قلت حين فرضت الحج؟) قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فإن معي الهدي, فلا تحل الثاني أن لا يعلم ما أحرم به فلان فيكون حكمه حكم الناسي, على ما سنبينه الثالث أن لا يكون فلان أحرم فيكون إحرامه مطلقا, حكمه حكم الفصل الذي قبله الرابع أن لا يعلم هل أحرم فلان أو لا فحكمه حكم من لم يحرم لأن الأصل عدم إحرامه, فيكون إحرامه ها هنا مطلقا يصرفه إلى ما شاء فإن صرفه قبل الطواف, فحسن وإن طاف قبل صرفه لم يعتد بطوافه لأنه طاف لا في حج ولا عمرة. إذا أحرم بنسك ، ثم نسيه قبل الطواف ، فله صرفه إلى أي الأنساك شاء ، فإنه إن صرفه إلى عمرة ، وكان المنسي عمرة ، فقد أصاب ، وإن كان حجا مفردا أو قرانا فله فسخهما إلى العمرة ، على ما سنذكره ، وإن صرفه إلى القران ، وكان المنسي قرانا ، فقد أصاب ، وإن كان عمرة ، فإدخال الحج على العمرة جائز قبل الطواف ، فيصير قارنا ، وإن كان مفردا ، لغا إحرامه بالعمرة ، وصح بالحج ، وسقط فرضه ، وإن صرفه إلى الإفراد ، وكان مفردا ، فقد أصاب ، وإن كان متمتعا ، فقد أدخل الحج على العمرة ، وصار قارنا في الحكم ، وفيما بينه وبين الله تعالى ، وهو يظن أنه مفرد ، وإن كان قارنا فكذلك ، والمنصوص عن أحمد ، أنه يجعله عمرة . قال القاضي : هذا على سبيل الاستحباب ؛ لأنه إذا استحب ذلك في حال العلم ، فمع عدمه أولى . وقال أبو حنيفة : يصرفه إلى القران . وهو قول الشافعي في الجديد ، وقال في القديم : يتحرى ، فيبني على غالب ظنه ؛ لأنه من شرائط العبادة ، فيدخله التحري كالقبلة . ومنشأ الخلاف على فسخ الحج إلى العمرة ، فإنه جائز عندنا ، وغير جائز عندهم ، فعلى هذا إن صرفه إلى المتعة فهو متمتع . عليه دم المتعة ، ويجزئه عن الحج والعمرة جميعا . وإن صرفه إلى إفراد أو قران ، لم يجزئه عن العمرة ، إذ من المحتمل أن يكون المنسي حجا مفردا ، وليس له إدخال العمرة على الحج ، فتكون صحة العمرة مشكوكا فيها ، فلا تسقط من ذمته بالشك ، ولا دم عليه لذلك ؛ فإنه لم يثبت حكم القران يقينا ، ولا يجب الدم مع الشك في سببه . ويحتمل أن يجب . فأما إن شك بعد الطواف ، لم يجز صرفه إلا إلى العمرة ؛ لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز . فإن صرفه إلى حج أو قران ، فإنه يتحلل بفعل الحج ولا يجزئه عن واحد من النسكين ؛ لأنه يحتمل أن يكون المنسي عمرة ، فلم يصح إدخال الحج عليها بعد طوافها ، ويحتمل أن يكون حجا ، وإدخال العمرة عليه غير جائز ، فلم يجزئه واحد منهما مع الشك ، ولا دم عليه ؛ للشك فيما يوجب الدم ، ولا قضاء عليه ، للشك فيما يوجبه . وإن شك وهو في الوقوف بعد أن طاف وسعى ، جعله عمرة ، فقصر ، ثم أحرم بالحج ، فإنه إن كان المنسي عمرة فقد أصاب وكان متمتعا ، وإن كان إفرادا أو قرانا لم ينفسخ بتقصيره ، وعليه دم بكل حال ، فإنه لا يخلو من أن يكون متمتعا عليه دم المتعة ، أو غير متمتع فيلزمه دم لتقصيره ، وإن شك ، ولم يكن طاف وسعى ، جعله قرانا ؛ لأنه إن كان قارنا فقد أصاب ، وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة ، وصار قارنا ، وإن كان مفردا لغا إحرامه بالعمرة ، وصح إحرامه بالحج ، وإن صرفه إلى الحج جاز أيضا ، ولا يجزئه عن العمرة في هذه المواضع ؛ لاحتمال أن يكون مفردا ، وإدخال العمرة على الحج غير جائز ، ولا دم عليه ؛ للشك في وجود سببه . وإن أحرم بحجتين أو عمرتين, انعقد بإحداهما ولغت الأخرى وبه قال مالك والشافعي, وقال أبو حنيفة ينعقد بهما وعليه قضاء إحداهما لأنه أحرم بها, ولم يتمها ولنا أنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما فلم يصح الإحرام بهما, كالصلاتين وعلى هذا لو أفسد حجه أو عمرته لم يلزمه إلا قضاؤها؟ وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معا بناء على صحة إحرامه بهما. قال: [ فإذا استوى على راحلته لبى ] التلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها, وأمر برفع الصوت بها وأقل أحوال ذلك الاستحباب وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- (أي الحج أفضل؟ قال: العج, والثج) وهذا حديث غريب ومعنى العج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدماء بالذبح والنحر وروى سهل بن سعد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من مسلم يلبي, إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وهاهنا) رواه ابن ماجه وليست واجبة, وبهذا قال الحسن بن حي والشافعي وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب بتركها دم وعن الثوري, وأبي حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها, كالتكبير للصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: ويرفع صوته بالتلبية لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية) رواه النسائي وأبو داود, والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقال أنس: سمعتهم يصرخون بهما صراخا وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية وقال سالم: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية, فلا يأتي الروحاء حتى يصحل صوته ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته. قال: [ فيقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك ] هذه تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء في الصحيحين عن ابن عمر أن (تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ورواه البخاري عن عائشة, ومسلم عن جابر والتلبية مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك, ولا شارد عليك هذا أو ما أشبهه وثنوها وكرروها لأنهم أرادوا إقامة بعد إقامة كما قالوا: حنانيك أي رحمة بعد رحمة, أو رحمة مع رحمة أو ما أشبهه وقال جماعة من أهل العلم: معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج وروي عن ابن عباس قال: (لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت, قيل له: أذن في الناس بالحج فقال: رب وما يبلغ صوتي قال: أذن وعلي البلاغ فنادى إبراهيم: أيها الناس كتب عليكم الحج قال فسمعه ما بين السماء والأرض) أفلا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون ويقولون: لبيك إن الحمد بكسر الألف نص عليه أحمد والفتح جائز, إلا أن الكسر أجود قال ثعلب: من قال أن بفتحها فقد خص ومن قال بكسر الألف فقد عم يعني أن من كسر جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لأن الحمد لك, أي لهذا السبب. ولا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تكره ونحو ذلك قال الشافعي وابن المنذر وذلك لقول جابر: فأهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك) وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويزيد مع هذا: لبيك, لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك, والرغباء إليك والعمل متفق عليه وزاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوبا ومرغوبا إليك لبيك هذا معناه رواه الأثرم ويروى أن أنسا كان يزيد: لبيك حقا حقا, تعبدا ورقا وهذا يدل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها وقد روي أن سعدا سمع بعض بني أخيه وهو يلبي: يا ذا المعارج فقال: إنه لذو المعارج, وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته قال أحمد: إن شئت لبيت بالحج وإن شئت لبيت بالحج والعمرة وإن شئت بعمرة, وإن لبيت بحج وعمرة بدأت بالعمرة فقلت: لبيك بعمرة وحجة وقال أبو الخطاب: لا يستحب ذلك وهو اختيار ابن عمر وقول الشافعي لأن جابرا قال: ما سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلبيته حجا, ولا عمرة وسمع ابن عمر رجلا يقول: لبيك بعمرة فضرب صدره وقال: تعلمه ما في نفسك ولنا ما روى أنس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لبيك عمرة وحجا) وقال جابر: (قدمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نقول: لبيك بالحج) وقال ابن عباس: (قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, وهم يلبون بالحج) وقال ابن عمر: (بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج) متفق على هذه الأحاديث وقال أنس: (سمعتهم يصرخون بهما صراخا) رواه البخاري وقال أبو سعيد: (خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- نصرخ بالحج فحللنا فلما كان يوم التروية لبينا بالحج, وانطلقنا إلى منى) وهذه الأحاديث أصح وأكثر من حديثهم وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فإن النسائي روى بإسناده عن (الصبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعا, ثم ذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك) وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس فإن النية محلها القلب والله أعلم بها. وإن حج عن غيره, كفاه مجرد النية عنه قال أحمد: لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه وإن ذكره في التلبية فحسن قال أحمد: إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان ثم لا يبالي أن لا يقول بعد وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للذي سمعه يلبي عن شبرمة: (لب عن نفسك, ثم لب عن شبرمة) ومتى أتى بهما جميعا بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد في مواضع وذلك لقول أنس إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لبيك بعمرة وحج). قال: [ ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا أو هبط واديا, وإذا التقت الرفاق وإذا غطى رأسه ناسيا وفي دبر الصلوات المكتوبة ] يستحب استدامة التلبية, والإكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من مسلم يضحي لله, يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه) وهي أشد استحبابا في المواضع التي سمى الخرقي لما روى جابر, قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا, وفي أدبار الصلوات المكتوبة ومن آخر الليل) وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا هبط واديا, وإذا علا نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته وبهذا قال الشافعي وقد كان قبل يقول مثل قول مالك: لا يلبي عند اصطدام الرفاق وقول النخعي يدل على أن السلف, رحمهم الله كانوا يستحبون ذلك والحديث يدل عليه أيضا. ويجزئ من التلبية في دبر الصلاة مرة واحدة قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ما شيء يفعله العامة, يلبون في دبر الصلاة ثلاث مرات؟ فتبسم وقال: ما أدري من أين جاءوا به؟ قلت: أليس يجزئه مرة واحدة؟ قال: بلى وهذا لأن المروي التلبية مطلقا من غير تقييد وذلك يحصل بمرة واحدة, وهكذا التكبير في أدبار الصلوات في أيام الأضحى وأيام التشريق ولا بأس بالزيادة على مرة لأن ذلك زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثا حسن فإن الله وتر يحب الوتر. ولا يستحب رفع الصوت بالتلبية في الأمصار ولا في مساجدها, إلا في مكة والمسجد الحرام لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال: إن هذا لمجنون, إنما التلبية إذا برزت وهذا قول مالك وقال الشافعي: يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته أخذا من عموم الحديث ولنا, قول ابن عباس ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت فيها عاما إلا الإمام خاصة, فوجب إبقاؤها على عمومها فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنها محل النسك وكذلك المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم, كمسجد منى وفي عرفات أيضا. ولا يلبي بغير العربية إلا أن يعجز عنها لأنه ذكر مشروع, فلا يشرع بغير العربية كالأذان والأذكار المشروعة في الصلاة. ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم وبه يقول ابن عباس وعطاء بن السائب, وربيعة بن عبد الرحمن وابن أبي ليلى وداود, والشافعي وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال: لا يلبي حول البيت وقال ابن عيينة: ما رأينا أحدا يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب وذكر أبو الخطاب أنه لا يلبي وهو قول للشافعي لأنه مشتغل بذكر يخصه فكان أولى ولنا, أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت, ويمكن الجمع بين التلبية والذكر المشروع في الطواف ويكره له رفع الصوت بالتلبية لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم وأذكارهم وإذا فرغ من التلبية صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا بما أحب من خير الدنيا والآخرة لما روى الدارقطني, بإسناده عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه, واستعاذه برحمته من النار) وقال القاسم بن محمد: يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على محمد -صلى الله عليه وسلم- وجاء في التفسير في تأويل قوله تعالى: ولا بأس أن يلبي الحلال وبه قال الحسن والنخعي, وعطاء بن السائب والشافعي وأبو ثور, وابن المنذر وأصحاب الرأي وكرهه مالك ولنا أنه ذكر يستحب للمحرم, فلم يكره لغيره كسائر الأذكار. قال: [ والمرأة يستحب لها أن تغتسل عند الإحرام وإن كانت حائضا أو نفساء (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل) ] وجملة ذلك أن الاغتسال مشروع للنساء عند الإحرام, كما يشرع للرجال لأنه نسك وهو في حق الحائض والنفساء آكد لورود الخبر فيهما قال جابر: حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر, فأرسلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف أصنع؟ قال: (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي) رواه مسلم وعن ابن عباس, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (النفساء والحائض إذا أتيا على الوقت يغتسلان, ويحرمان ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت) رواه أبو داود وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة أن تغتسل لإهلال الحج, وهي حائض وإن رجت الحائض الطهر قبل الخروج من الميقات أو النفساء استحب لها تأخير الاغتسال حتى تطهر ليكون أكمل لها, فإن خشيت الرحيل قبله اغتسلت وأحرمت. قال: [ ومن أحرم وعليه قميص خلعه, ولم يشقه ] هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة, وأبي صالح ذكوان أنه يشق ثيابه لئلا يتغطى رأسه حين ينزع القميص منه ولنا ما روى يعلى بن أمية, أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله (كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة ثم سكت, فجاءه الوحي فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما الطيب الذي بك فاغسله وأما الجبة فانزعها, ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك) متفق عليه وهذا لفظ مسلم قال عطاء: كنا قبل أن نسمع هذا الحديث نقول في من أحرم وعليه قميص أو جبة فليخرقها عنه فلما بلغنا هذا الحديث أخذنا به, وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك ولأن في شق الثوب إضاعة ماليته وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال. وإذا نزع في الحال فلا فدية عليه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر الرجل بفدية وإن استدام اللبس بعد إمكان نزعه, فعليه الفدية لأن استدامة اللبس محرم كابتدائه بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الرجل بنزع جبته وإنما لم يأمره بفدية لما مضى فيما نرى لأنه كان جاهلا بالتحريم, فجرى مجرى الناسي. قال: [ وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ] هذا قول ابن مسعود, وابن عباس وابن عمر وابن الزبير, وعطاء ومجاهد والحسن, والشعبي والنخعي وقتادة, والثوري وأصحاب الرأي وروي عن عمر وابنه وابن عباس: أشهر الحج شوال, وذو القعدة وذو الحجة وهو قول مالك لأن أقل الجمع ثلاثة وقال الشافعي: آخر أشهر الحج ليلة النحر وليس يوم النحر منها لقوله تعالى:
|