الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهجية في قراءة كتب العلم **
يعني مثلا، تأتي مسألة الإيمان في العقيدة، هل الإيمان قول وعمل واعتقاد أم أنّه قول واعتقاد دون عمل؟ المسألة المعروفة بالخلاف ما بين أهل الحديث والسنة ومرجئة الفقهاء، الفرق بين هذا وهذا يكون في الكتب المختصرة لَمْحَة عنه، لكن تفصيله يكون في المطولة، إذا احتجت إلى تفصيله تذهب إلى الكتب المطولة بخصوصها، هذه المرتبة الأولى، ويتبع هذه أنْ تنتقل من مرتبة المختصر بعد إحكامه إلى المطول بعامة، يعني إذا قرأت مثلا العقيدة وضبطتها ـ على المنهجية فيها ـ بقراءة المختصر ثم المتوسط إلى آخره على نحو ما سبق إيضاحه، فإنك تنتقل إلى كتب المتقدمين لقراءتها من أولها إذا ضبطت شروح الكتب المتأخرة فإنْ كتب المتقدمين ستَنْزِلُ كل مسألة منها منزِلها، أما إذا أخذت كتب المتقدمين دون النظر في قواعد المتأخرين التي ضبطوا بها الاعتقاد، فإنه سيكون ثم خلل كبير في فهم منهج أهل السنة وعقيدة أهل السنة، ـ مثال ذلك ـ: ما ورد في بعض كتب أهل السنة من الكلام على أبي حنيفة الإمام، رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة، هذا. لو أقبل مقبلٌ على كتب العقيدة الأولى مثل بعض كتب السنة ونحو ذلك لوجد فيها كلامًا على هذا الإمام، لم يقله أئمة أهل السنة المتأخرون، وإنّما هجروا هذا الكلام وتركوه، فلا ترى مثلا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية مقالةً سيئة في الإمام أبي حنيفة رحمه الله، مع أنّ كتب السنة المتقدمة فيها من هذا الكلام وفيها الكلام عمّا فعله وعما فعله... إلى آخره، أما الكتب المتأخرة فلا تجد فيها ذمّا للإمام أبي حنيفة رحمه الله بما في كتب الأولين، بل هُجِر ما في كتب الأولين، وقُرِر ما يجب أنْ يقرر تباعًا لمنهج أهل السنة بعامة، لأنّ المسألة تلك كانت لها فتوى بظروفها وزمانها إلى آخره، فألف شيخ الإسلام رحمه الله (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، ومنهم أبو حنيفة، مع أنّ قوله في الإيمان معروف وقوله في كذا معروف لكن كما قيل في حقه إنّه لا يُنْظر فيه إلى هذه الأمور، لو قرأ قارئ في الكتب المتقدمة قبل المتأخرة فإنه سيحصل عنده خلل في الفهم، من أين يأتي الخلل؟ يأتي الخلل من جهة أنّ كلام السلف له بساط حال قام عليه إذا لم يَرْعَ المتأخرُ بساط الحال الذي قام عليه كلام السلف فإنه لن يفهم كلام السلف، يعني أنْ تعرف حال ذلك الزمان، وما كان فيه من أقوال، ومن مذاهب، ومن فتن إلى آخر ذلك، فينبني كلامهم على ما كان في ذلك الزمان، لكن المتأخر لما ترك، علمنا أنه تركه لعلة، ولهذا مثلا لما طبع الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله، ومعه بعض المشايخ في مكة لما طبعوا كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله لم يروا بأسا من أنْ ينتزعوا منه بابًا كاملا، وهذا لأجل المصلحة الشرعية التي توافق منهج أهل السنة والجماعة فانتزعوا فصلاً كاملاً متعلق بأبي حنيفة رحمه الله وبأصحابه، وبالأقوال التي فيهم وذمهم أو تكفيرهم، إلى آخر ذلك، انتزعوه لمَ؟ هل انتزاعه كما قال بعضهم إنّه ليس من أداء الأمانة؟ لا بل هي أمانة، لأنّ الأمانة التي أُنيطت بنا ليست هي أمانة قبول المؤلفات على ما هي عليه، وإنما هي أمانة بقاء الأمة على وحدتها في العقيدة وعلى وحدتها في المحبة، فإذ ذهب ذاك الكلام مع زمانه فإنْ تكراره مع عدم المصلحة الشرعية منه لا حاجة إليه، وهذا لا شك أنه من الفقه المهم. بعض كلمات السلف في المبتدعة، بعض كلمات السلف في أهل الأهواء لها بِساطُ حال في الزمن الأول، وليس ذلك منطبقا على بساط الحال في الزمن هذا، ولذلك ترى أنّ بعضهم أخذ من تلك الكلمات كلمات عامة فطبقها على غير الزمان الذي كان ذلك القول فيه، ولو رأى كلام الأئمة الحفاظ والمحققين من أهل السنة، لوجد أنّه يخالف ذلك الكلام في التطبيق، أما في التأصيل فهو واقع، هذا استطراد لبيان أهمية قراءة كتب المتأخرين من أهل السنة في الاعتقاد وإِحْكامها قبل إدمان النظر في كتب السلف؛ لأنّ إدمان النظر في كتب السلف دون معرفةٍ بقواعد أهل السنة التي قعّدها أهل السنة والجماعة المتأخرون فإنّ هذا يعطي خللاً في فهم منهج السلف بعامة، وهذا له أمثلة كثيرة ربما تحتاج إلى وقت طويل.
|