الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بحر الدموع (نسخة منقحة)
يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يغرّنّكم قول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام 160]، فإن السيئة وإن كانت واحدة، فإنها تتبعها عشر خصال مذمومة:أولها: إذا أذنب العبد ذنبا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه.والثانية: أنه فرّح إبليس لعنه الله.والثالثة: أنه تباعد من الجنة.والرابعة: أنه تقرّب من النار.والخامسة: أنه قد آذى أحب الأشياء إليه، وهي نفسه.والسادسة: أنه نجس نفسه وقد كان طاهراً.والسابعة: أنه قد آذى الحفظة.والثامنة: أنه قد احزن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبره.والتاسعة: أنه أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان.والعاشرة: أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين.ويروى عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه قال: خرجت أريد الحجاز ولم أصحب أحدا من الناس، فبينما أنا سائر، إذ وقعت في أرض صحراء، وقد نفذ زادي، فأشرفت على الهلاك، إذ لاحت لي شجرة في وسط الصحراء دانية الفروع، متدلية الأغصان، كثيرة الأوراق، فقلت في نفسي: أسير نحو هذه الشجرة، فأكون في ظلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.فلما وصلت إلى الشجرة، ودنوت منها، وأردت الدخول في ظلها، فأخذ غصن من أغصانها بركوتي، فانهرق الماء الذي كان بقي لي فيها أحيي به رمقي، فأيقنت بالهلاك، وطرحت نفسي في ظل الشجرة، وبقيت أنتظر ملك الموت ليقبض روحي، فإذا أنا بصوت حزين وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي، إن كان هذا رضاك مني، فزد حتى ترضى عني يا أرحم الراحمين.فقمت وجعلت أمشي نحو الصوت، فإذا أنا بشخص حسن الصورة، وهو ملقى على الرمل، والنسور قد أحدقت به تنهش من لحمه، فسلمت عليه فردّ السلام، وقال لي: يا ذا النون، لما نفذ الزاد، وانهرق الماء، أيقنت بالموت والفناء، فجلست عند رأسه، وجعلت أبكي رحمة لبكائه، وشفقة لما رأيت منه.فبينما أنا كذلك، إذ أنا بقصعة من الطعام وضعت بين يدي، فوكز الأرض بعرقوبه، فإذا بعين من الماء قد تفجرت، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فقال لي: يا ذا النون، كل واشرب، لا بد لك من الوصول إلى بيت الله الحرام، ولكن يا ذا النون لي إليك حاجة، فإن قضيتها فلك الأجر والثواب، فقلت: وما هي؟ قال: إذا أنا مت، فاغسلني وادفني، واسترني من الوحش والطير، وسر فإذا قضيت الحج، فانك تصل إلى مدينة بغداد، وتدخل من باب الزعفران، فانك تجد هنالك الصبيان يلعبون، وعليهم ألوان الثياب، فتجد هنالك شابا، صغير السن، ليس يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، قد تحزّم بخرقة، وجعل على كتفيه أخرى، في وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، فإذا وجدته فذلك ولدي وقرّة عيني، فأقرئه مني السلام.قال ذا النون: فلما فرغ من كلامه، سمعته يقول: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وشهق شهقة فارق الدنيا رحمة الله عليه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وكان معي قميص في وعائي لا أفارقه فغسلته من ذلك الماء، وكفنته ورايته التراب، وسرت إلى بيت الله الحرام وقضيت مناسك الحج، وخرجت إلى زيارة قبر رسول الله، فلما قضيت الزيارة، وسرت إلى مدينة بغداد، فدخلتها في يوم عيد، فإذا أنا بالصبيان يلعبون وعليهم ألوان الثياب، فنظرت فرأيت الصبي الموصوف جالسا لا يشغله الموهوب عن علام الغيوب، وقد ظهرت على وجهه الأحزان، وفي وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، وهو يقول: قال ذو النون: فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال: مرحبا برسول أتى من أبي، فقلت له: من أخبرك باني رسول أتيتك من أبيك؟ قال: الذي أخبرني أنك دفنته بالصحراء. يا ذا النون، أتزعم أنك دفنت أبي بالصحراء؟ والله إن أبي رفع إلى سدرة المنتهى، ولكن سر معي إلى جدتي.فأخذ بيدي وسار معي إلى منزله، فلما وصل إلى الباب نقر نقرا خفيفا، فإذا بالعجوز قد خرجت إلينا، فلما رأتني، قالت مرحبا بمن تمتع بالنظر في وجه حبيبي وقرّة عيني. قلت لها: من أخبرك بأنك رأيته؟ قالت: الذي أخبرني بأنك كفنته وأنّ الكفن مردود عليك. يا ذا النون، فوعزة ربي وجلاله، إن خرقة ابني يباهي الله بها الملائكة في الملأ الأعلى.ثم قالت: يا ذا النون، صف لي كيف تركت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قلت لها: تركته في الفيافي والقفار بين الرمال والأحجار، وقد حضي بما أمل من العزيز الغفار.فلما سمعت العجوز ذلك، ضمّت الصبي إلى صدرها، وغابت عني، وحجبت عن نظري، فلا ادري: أفي السماء صعد بهما، أو في جوف الأرض هبط بهما، فصرت أطلبهما في أركان الدار، فما وجدتهما، فسمعت هاتفا يقول: يا ذا النون لا تتعب نفسك، فلقد طلبتهم الأملاك، فلم يجدوهم. فقلت: أين صاروا، فقال لي: إن الشهداء يموتون بسيوف المشركين، وهؤلاء المحبون يموتون بالشوق إلى رب العالمين، فيحملون في مركب من نور في مقعد صدق عند مليك مقتدر.قال ذا النون: فتفقدت الجراب، فوجدت الكفن الذي كفنته فيه مطويّا كما كان أولا، رضي الله عنه ونفعنا ببركاتهم.
إخواني، ارفضوا هذه الدنيا كما رفضها الصالحون، وأعدّوا الزاد لنقلة لا بدّ لها أن تكون، واعتبروا بما تدور به عليكم الأيام والسنون. قال الجنيد رضي الله عنه: مرض السّريّ السّقطي رضي الله عنه فدخلت عليه أعوده، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: فأخذت المروحة لأروّح عليه، فقال: كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق من داخل، ثم أنشأ يقول: ويروى عن علي بن الموفق رضي الله عنه أنه قال: خرجت يوما لأؤذن، فأصبت قرطاسا، فأخذته ووضعته في كمي، وأقمت الصلاة وصليت، فلما صليت قرأته، فإذا مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. يا علي بن الموفق، أتخاف الفقر وأنا ربك؟.ويروى عن المزني، قال: دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولكأس المنيّة شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله واردا، فلا أدري: أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشأ يقول: إخواني: بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظلم الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوس خائفة، وقلوب واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يرى ولا يرى:وأنشدوا: كان أبو محفوظ معروف الكرخي قد خصّه الله بالاجتباء في حال الصبا، يذكر أن أخاه عيسى قال: كنت أنا وأخي معروف في المكتب، وكنا نصارى، وكان المعلم يعلم الصبيان: أب وابن فيصيح أخي معروف: أحد أحد فيضربه المعلم على ذلك ضربا شديدا، حتى ضربه يوما ضربا عظيما، فهرب على وجهه.وكانت أمه تبكي وتقول: لئن ردّ الله عليّ معروفا، لأتبعنّه على أي دين كان، فقدم عليها معروف بعد سنين كثيرة، فقالت له: يا بنيّ، على أي دين أنت؟ قال: على دين الإسلام، فقالت: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأسلمت أمي وأسلمنا كلنا.وقال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان بين يديه مائدة وهو يأكل منها، فقلت: يا أبا نصر, ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي، وأباح لي الجنة بأسرها، وقال لي: كل من جميع ثمارها، واشرب من أنهارها، وتمتع بجميع ما فيها، كما كنت تحرم نفسك عن الشهوات في دار الدنيا.فقلت له: فأين أخوك أحمد بن حنبل؟ فقال: هو قائم على باب الجنة يشفع لأهل السنة ممن يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.فقلت له: وما فعل الله بمعروف الكرخي؟ فحرّك رأسه، وقال هيهات هيهات! حالت بيننا وبينه الحجب. إن معروفا لم يعبد الله شوقا إلى جنّته، ولا خوفا من ناره، وإنما عبده شوقا إليه، فرفعه إلى الرفيق الأعلى، ورفع الحجاب بينه وبينه.ذلك الترياق المقدس المجرّب، فمن كانت له إلى الله حاجة، فليأت قبره، وليدع، فإنه يستجاب له إن شاء الله تعالى.
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتى برجل يوم القيامة قد جمع المال من حلال وأنفقه في الحلال، فيقال له: قف للحساب، فيحاسب على كل حبة وذرة ودانق: من أين أخذه وفيما أنفقه» ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ابن آدم، ما تصنع بالدنيا؟ حلالها حساب، وحرامها عقاب».وأنشدوا: قال بعض العارفين رضي الله عنه: إن أبا يزيد البسطامي بكى عند موته، ثم ضحك، ثم فارق الدنيا، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: لم بكيت قبل الموت ثم ضحكت؟ فقال: لما كنت في النزع، أتاني إبليس لعنة الله عليه، وقال لي: يا أبا يزيد، أفلتّ من شبكتي، فبكيت حينئذ إلى الله تعالى، فنزل عليّ ملك من السماء، وقال لي: يا أبا يزيد، يقول لك رب العزة: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة، فضحكت عند ذلك، وفارقت الدنيا.وأنشدوا: يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف؟ وكم من سبب أضعت فيه التكليف، وكم أذن سمّاعة لا يزجرها التخويف؟.ولما حضرت جابر بن زيد الوفاة قيل: ما تشتهي؟ قال: نظرة في وجه الحسن فبلغ ذلك الحسن، فجاء ودخل عليه، وقال له: يا جابر كيف تجدك؟ قال: أجد أمر الله غير مردود. يا أبا سعيد، حدثني حديثا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الحسن: يا جابر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن من الله على سبيل خير، إن تاب قبله، وإن استقال أقاله، وإن اعتذر إليه قبل اعتذاره، وعلامة قبل ذلك خروج روحه يجد بردا على قلبه». فقال جابر: الله أكبر! إني لأجد بردا على قلبي. ثم فال: اللهم إن نفسي تطمع في ثوابك، فحقق ظني، وآمن خوفي وجزعي، ثم تشهّد ومات رضي الله عنه.وكان سبب توبة داود الطائي أنه دخل المقبرة، فسمع امرأة عند قبر تبكي وتقول:
يا أخي: هذا أوان الرجوع والاستغفار والإقلاع عن الذنوب والأوزار. من بلغ أربعين سنة ولم يغلب خيره على شره، فليتجهز إلى النار.وأنشدوا: يقول الله عز وجل: يا عبادي، أما علمتم إني جعلت الدنيا دار تكليف وامتحان، وأني لا أخص بمنازل الفضل والإحسان إلا من تاب إليّ فيها عن مواطن الزلات والعصيان، فما لكم ما أتيتم لبابي، ولا رغبتم في جزيل فضلي وثوابي، ولا خفتم من أخذي وعقابي؟.فيا من جلّت غفلته، وطالت سكرته، تأمّل عطف الموالي عليك، وإحسانه إليك. فبالله عليكم، حطّوا بالتوبة عن ظهوركم، واغسلوا وجوهكم بقطرات الدموع، واشتملوا بأردية التذلل والخضوع.وأنشدوا: |