الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)
ومن فضائل الحسن في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما»، وروى أنه قال عن الحسن: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين»، وروي أنه مر بالحسن والحسين وهما يلعبان، فطأطأ لهما عنقه وحملهما، وقال: «نعم المطية مطيتهما، ونعم الراكبان هما».
ولما مات عمرو ولى معاوية مصر ابنه عبد الله بن عمرو، ثم عزله عنها.ثم دخلت سنة أربع وأربعين:استلحاق معاوية زياداً:وفي هذه السنة، استلحق معاوية زياد بن سمية، وكانت سمية جارية للحارث بن كلدة الثقفي، فزوجها بعبد له رومي، يقال له عبيد، فولدت سمية زياداً على فراشه، فهو ولد عبيد شرعاً.وكان أبو سفيان قد سار في الجاهلية إلى الطائف، فنزل على إنسان يبيع الخمر، يقال له أبو مريم، أسلم بعد ذلك، وكانت له صحبة فقال له أبو سفيان: قد اشتهيت النساء، فمال أبو مريم: هل لك في سمية؟ فقال أبو سفيان: هاتها على طول ثدييها، وذفرة بطنها. فأتاه بها، فوقع عليها، فيقال إنها علقت منه بزياد ثم وضعته في السنة التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.ونشأ زياد فصيحاً، وحضر زياد يوماً بمحضر من جماعة من الصحابة، في خلافة عمر، فقال عمرو بن العاص، لو كان أبو هذا الغلام من قريش، لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان لعلي بن أبي طالب: إني لأعرف من وضعه في رحم أمه. فقال علي فما يمنعك من استلحاقه؟ قال: أخاف الأصلع، يعني عمر، أن يقطع إهابي بالدرة.ثم لما كان قضية شهادة الشهود على المغيرة بالزنا، وجلدهم، ومنهم أبو بكرة أخو زياد لأمه، وامتناع زياد عن التصريح كما ذكرنا، اتخذ المغيرة بذلك لزياد يداً، ثم لما ولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة، استعمل زياداً على فارس، فقام بولايتها أحسن قيام، ولما سلم الحسن الأمر إلى معاوية، امتنع زياد بفارس، ولم يدخل في طاعة معاوية، وأهمل معاوية أمره، وخاف أن يدعو إلى أحد من بني هاشم، ويعيد الحرب، وكان معاوية قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، فقدم المغيرة على معاوية، سنة اثنتين وأربعين، فشكا إليه معاوية امتناع زياد بفارس، فقال المغيرة: أتأذن لي في المسير إليه: فأذن له. وكتب معاوية لزياد أماناً، فتوجّه المغيرة إليه، لما بينهما من المودة، وما زال عليه حتى أحضره إلى معاوية، وبايعه، وكان المغيرة يكرم زياداً ويعظمه، من حين كان منه في شهادة الزنا ما كان.فلما كانت هذه السنة، أعني سنة أربع وأربعين، استلحق معاوية زياداً، فأحضر الناس، وحضر من يشهد لزياد بالنسب، وكان ممن حضر لذلك، أبو مريم الخمار، الذي أحضر سمية إلى أبي سفيان بالطائف، فشهد بنسب زياد من أبي سفيان، قال: إني رأيت اسكتي سمية، يقطران من مني أبي سفيان، فقال زياد: رويدك، طلبت شاهداً ولم تطلب شتاماً، فاستلحقه معاوية، وهذه أول واقعة خولفت فيها الشريعة علانية، لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، وأعظمَ الناس ذلك وأنكروه، خصوصاً بنو أمية، لكون زياد بن عبيد الرومي، صار من بني أمية بن عبد شمس، وقال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان في ذلك: ثم ولى معاوية زياداً البصرة، وأضاف إليه خراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعُمان.وفيها أعني سنة أربع وأربعين، توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم.ثم دخلت سنة خمس وأربعين:فيها قدم زياد إلى البصرة، فشدد أمر السلطنة، وأكد الملك لمعاوية؛ وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، فخاف الناس خوفاً شديداً، وذكر أنه لم يخطب أحد بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل زياد.ولما مات المغيرة سنة خمسين وكان عاملا لمعاوية على الكوفة، ولى معاوية الكوفة أيضاً زياداً، فسار زياد إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، فحذا حذو زياد في سفك الدماء، وكان زياد يقيم بالكوفة ستة أشهر، وفي البصرة مثلها، وهو أول من سير بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس خمس مائة لا يفارقون مكانه.وكان معاوية وعماله يدعون لعثمان في الخطبة يوم الجمعة، ويسبون علياً، ويقعون فيه، ولما كان المغيرة متولي الكوفة، كان يفعل ذلك طاعة لمعاوية، فكان يقوم حجر وجماعة معه، فيردون عليه سبّه لعليٍ رضي الله عنه، وكان المغيرة يتجاوز عنهم، فلما ولي زياد، دعا لعثمان وسب علياً، وما كانوا يذكرون علياً باسمه، وإنما كانوا يسمونه بأبي تراب، وكانت هذه الكنية أحب الكنى إلى علي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كناه بها، فقام حجر وقال: كما كان يقول من الثناء على علي، فغضب زياد وأمسكه، وأوثقه بالحديد، وثلاثة عشر نفراً معه، وأرسلهم إلى معاوية، فشفع في ستة منهم عشائرهم، وبقي ثمانية، منهم: حجر، فأرسل معاوية من قتلهم بعذرا، وهي قرية بظاهر دمشق، رضي الله عنهم، وكان حجر من عظم الناس ديناً وصلاة، وأرسلت عائشة تتشفع في حجر، فلم يصل رسولها إلا بعد قتله.قال القاضي جمال الدين بن واصل، وروى ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة، وهي أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة، وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد، وكان سكيراً خميراً يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش، والعاهر للحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر.وروي عن الشافعي رحمة الله عليه، أنه أسرّ إلى الربيع، أنّه لا يقبل شهادة أربعة من الصحابة، وهم معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد.وفيها أعني سنة خمسٍ وأربعين، توفي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان أهل الشام قد مالوا إليه جداً، فدس إليه معاوية سماً مع نصراني يقال له أثال، فاغتاله به.ثم دخلت سنة ست وأربعين وسنة سبع وأربعين:فيها توفي قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر، وإليه ينسب، فيقال المنقري، وفد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في وفد بني تميم فأسلم، وكان قيس المذكور موصوفاً بمكارم الأخلاق.ثم دخلت سنة ثمان وأربعين:غزوة القسطنطينية:في هذه السنة، أعني سنة ثمان وأربعين، صبر معاوية جيشاً كثيفاً مع سفيان ابن عوف، إلى القسطنطينية، فأوغلوا في بلاد الروم، وحاصروا القسطنطينية، وكان في ذلك الجيش ابن عباس، وعمرو بن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري.وتوفي في مدة الحصار أبو أيوب الأنصاري، ودفن بالقرب من سورها، وشهد أبو أيوب مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً، وشهد مع علي صفين، وغيرها من حروبه.ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسنة خمسين:فيها بنيت القيروان، وكمل بناؤها في سنة خمس وخمسين، وكان من حديثها أنَّ معاوية ولى عقبة بن نافع إفريقية وكان عقبة المذكور صحابياً من الصالحين، فوضع السيف في هل إفريقية، لأنهم كانوا يرتدون إذا فارقهم العسكر، وكان مقام الولاة بزويلة وبرقة، فرأى عقبة أن يتخذ مدينة بتلك البلاد، تكون مقراً للعسكر، واختار موضع القيروان، وكان دخلة مشتبكة فقطع أشجارها وبناها مدينة، وهي مدينة القيروان.وفيها أعني في سنة خمسين، توفي دحية الكلبي، وهو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة، منسوب إلى كلب بن وبرة، أسلم قديماً، ولم يشهد بدراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشبه من رأيت بجبريل، دحية الكلبي».ثم دخلت سنة إحدى وخمسين:فيها توفي سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود له بالجنة، رضي الله عنهم.ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسنة ثلاث وخمسين. فيها هلك زياد ابن أبيه، في رمضان، من أكلة في إصبعه وكان مولده عام الهجرة.ثم دخلت سنة أربع وخمسين وسنة خمس وخمسين وسنة ست وخمسين وفيها ولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان، خراسان، فقطع نهر جيحون إلى سمرقند، والصغد، وهزم الكفار، وسار إلى ترمذ ففتحها صلحاً.وممن قتل معه في هذه الغزوة قثم بن العباس، ودفن بسمرقند، ومات أخوه عبد الله بن العباس بالطائف، والفضل بالشام، ومعبد بإفريقية، فيقال: لم ير قبور أخوة أبعد من قبور هؤلاء الأخوة بني العباس.وفي هذه السنة بايع معاوية الناس لابنه يزيد بولاية العهد بعده، وبايعه أهل الشام والعراق، وكان المتولي على المدينة من جهة معاوية، مروان بن الحكم، فأراد البيعة له، فامتنع من ذلك الحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وامتنع الناس لامتناعهم، وآخر الأمر أن معاوية قدم بنفسه إلى الحجاز، ومعه ألف فارس، وتحدث مع عائشة في أمرهم، وآخر الأمر، أنه بايع ليزيد أهل الحجاز، وتأخر المذكورون عن البيعة.ويروى أنّ معاوية قال لابنه يزيد: إني مهدت لك الأمور، ولم يبق أحد لم يبايعك غير هؤلاء الأربعة، فأمّا عبد الرحمن، فرجل كبير، تهابه اليوم وغداً، وأما ابن عمر، فرجل قد غلب عليه الورع، وأمّا الحسين فله قرابة، فإن ظفرت به، فاصفح عنه، وأما ابن الزبير، فإن ظفرت به، فقطعه إرْباً إرْباً.ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسنة ثمان وخمسين:فيها توفيت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، رضي اللّه عنها.وفيها، توفي أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر.ثم دخلت سنة تسع وخمسين:فيها توفي سعيد بن العاص بن أمية، ولد عام الهجرة، وقتل أبوه العاص يوم بدر كافراً، وكان سعيد من أجواد بني أمية. وفي هذه السنة أعني سنة تسع وخمسين مات الحطيئة، واسمه جرول بن مالك، لقب الحطيئة لقصره، أسلم ثم ارتد، ثم أسلم، وقال عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد العرب: وفيها توفي أبو هريرة، واختلف في اسمه ونسبه، وهو ممن لازم خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه الكثير، فاتهمه بعض الناس لكثرة ما رواه من الأحاديث، والأكثر يصححون روايته ولا يشكون فيها.وفاة معاوية رضي الله عنه:ثم دخلت سنة ستين:وفيها في رجب توفي معاوية بن أبي سفيان، وكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً، منذ اجتمع له الأمر، وبايعه الحسن بن علي، وكان عمره خمساً وسبعين، وقيل سبعين، وقيل غير ذلك، وأنشد معاوية وقد تجلد للعائدين: ولما توفي معاوية، خرج الضحاك بن قيس حتى أتى المنبر، فصعده ومعه أكفان معاوية فأثنى على معاوية، وأعلم الناس بموته، وأنّ هذه أكفانه، ثم صلى عليه الضحاك، وكان يزيد غائباً بقرية حوارين من عمل حمص، فكتبوا إليه وطلبوه، فحضر بعد دفن أبيه فصلى على قبره.أخبار معاوية أسلم معاوية مع أبيه عام الفتح، واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمله عمر على الشام أربع سنين من خلافته، وأقره عثمان مدة خلافته، نحو اثنتي عشرة سنة، وتغلب على الشام محارباً لعلي أربع سنين، فكان أميراً وملكاً على الشام نحو أربعين سنة، وكان حليماً حازماً داهية، عالماً بسياسة الملك، وكان حلمه قاهراً لغضبه، وجوده غالباً على منعه، يصل ولا يقطع.ومما يحكى عن حلمه من تاريخ القاضي جمال الدين بن واصل، أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة، فقال لها معاوية: مرحباً بك يا خالة، كيف أنت؟ فقالت بخير يا ابن أختي، لقد كفرت النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، وكنا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاء، حتى قبض الله نبيه، مشكوراً سعيه، مرفوعاً منزلته، فوثبت علينا بعده تيم وعدي وأمية، فابتزونا حقنا، ووليتم علينا، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد نبينا، بمنزلة هارون من موسى.فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوز الضالة، واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك. فقالت: وأنت يا ابن النابغة، تتكلم وأمك كانت أشهر بغي بمكة، وأرخصهن أجرة، وادعاك خمسة من قريش، فسُئلتْ أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به، فالحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل، فألحقوك به.فقال لها معاوية: عفا الله عما سلف، هاتي حاجتك. فقالت: أريد ألفي دينار، لأشتري بها عيناً فوارة، في أرض خرارة، تكون الفقراء بني الحارث بن عبد المطلب: وألفي دينار أخرى، أزوّج بها فقراء بني الحارث، وألفي دينار أخرى، أستعين بها على شدة الزمان، فأمر لها معاوية بستة آلاف دينار، فقبضتها وانصرفت.ومعاوية أول خليفة بايع لولده، وأول من وضع البريد، وأول من عمل المقصورة في مسجد، وأول من خطب جالساً، في قول بعضهم، وكان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ممن يرى سماع الأوتار والغناء، وهو رأى أهل المدينة، وكان معاوية ينكر ذلك عليه، فدخل ابن جعفر يوماً على معاوية ومعه بديح المغني، فقال ابن جعفر لبديح: غنّ، فغنى بشعر كان يحبه معاوية وهو: فطرب معاوية وتحرك، وضرب برجله الأرض، فقال له ابن جعفر: مَهْ يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: إنّ الكريم لطروب، وقال معاوية: أعنت على علي بثلاث كان رجلاً ظهرت علته، وكنت كتوماً لسري. وكان في أخبث جند، وأشده خلافاً وكنت في أطوع جند وأقله خلافاً. وخلا بأصحاب الجمل فقلت: إن ظفر بهم أعددت ذلك عليه وَهْنا، وإن ظفروا به، كانوا أهوَنَ شوكهَ عليّ منه.
|