الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ قَسْمَ غَنَائِمِهِمْ إِذَا غَنِمُوهَا. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاعْلَمُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ غَنِيمَةٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى "الْغَنِيمَة" وَ" الْفَيْءِ ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِمَا مَعْنَيَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَاحِبِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}"، وَهَذِهِ الْآيَةُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [سُورَةُ الْحَشْرِ: 7]، قَالَ قُلْتُ: مَا "الْفَيْء"، وَمَا "الْغَنِيمَة"؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى أَرْضِهِمْ، وَأَخَذُوهُمْ عَنْوَةً، فَمَا أَخَذُوا مِنْ مَالٍ ظَهَرُوا عَلَيْهِ فَهُوَ "غَنِيمَة"، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَهُوَ فِي سَوَادِنَا هَذَا "فَيْء". وَقَالَ آخَرُونَ: "الْغَنِيمَة"، مَا أُخِذَ عَنْوَةً، وَ" الْفَيْءُ "، مَا كَانَ عَنْ صُلْحٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: "الْغَنِيمَة"، مَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً بِقِتَالٍ، فِيهِ الْخُمْسُ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَنْ شَهِدَهَا. وَ" الْفَيْءُ "، مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَلَيْسَ فِيهِ خُمْسٌ، هُوَ لِمَنْ سَمَّى اللَّهَ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْغَنِيمَة" وَ" الْفَيْءُ "، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةَُ الَّتِي فِي" الْأَنْفَالِ "، نَاسِخَةٌ قَوْلَهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ، [سُورَةُ الْحَشْرِ: 7].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، قَالَ: كَانَ الْفَيْءُ فِي هَؤُلَاءِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي "سُورَةِ الْأَنْفَال"، فَقَالَ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}"، فَنَسَخَتْ هَذِهِ مَا كَانَ قَبْلَهَا فِي "سُورَةِ الْأَنْفَال"، وَجَعَلَ الْخُمْسَ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْفَيْءُ فِي "سُورَةِ الْحَشْر"، وَسَائِرَ ذَلِكَ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى "الْغَنِيمَة"، وَأَنَّهَا الْمَالُ يُوَصَلُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ مَنْ خَوَّلَ اللَّهُ مَالَهُ أَهْلَ دَيْنِهِ، بِغَلَبَةٍ عَلَيْهِ وَقَهْرٍ بِقِتَالٍ. فَأَمَّا "الْفَيْء"، فَإِنَّهُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَهُوَ مَا رَدُّهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بِصُلْحٍ، مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَا رَدَّتْهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا سُيُوفُهُمْ وَرِمَاحُهُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ سِلَاحِهِمْ "فَيْئًا"، لِأَنَّ "الْفَيْء"، إِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "فَاءَ الشَّيْءُ يَفِيءُ فَيْئًا"، إِذَا رَجَعَ وَ" أَفَاءَهُ اللَّهُ "، إِذَا رَدَّهُ. غَيْرَ أَنَّ الَّذِي رَدَّ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ مِنَ الْفَيْءِ بِحُكْمِهِ فِي "سُورَةِ الْحَشْر"، إِنَّمَا هُوَ مَا وَصَفْتُ صِفَتَهُ مِنَ الْفَيْءِ، دُونَ مَا أَوْجَفَ عَلَيْهِ مِنْهُ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، لِعِلَلٍ قَدْ بَيَّنْتُهَا فِي كِتَابِ: كِتَابُ لَطِيفُ الْقَوْلِ، فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَسَنُبَيِّنُهُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ "سُورَةِ الْحَشْر"، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ الَّتِي فِي "سُورَةِ الْأَنْفَال"، نَاسِخَةٌ الْآيَةَ الَّتِي فِي "سُورَةِ الْحَشْر"، فَلَا مَعْنَى لَهُ، إِذْ كَانَ لَا مَعْنَى فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ يَنْفِي حُكْمَ الْأُخْرَى. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "النَّسْخ"، وَهُوَ نَفْيُ حُكْمٍ قَدْ ثَبَتَ بِحُكْمٍ خِلَافَهُ، فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مِنْ شَيْء"، فَإِنَّهُ مُرَادٌ بِهِ: كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ "شَيْء"، مِمَّا خَوَّلَهُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ غَلَبُوا عَلَى مَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْقَسْمُ، حَتَّى الْخَيْطُ وَالْمِخْيَطُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}"، قَالَ: الْمِخْيَطُ مِنَ "الشَّيْء". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ: "فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه"، مِفْتَاحُ كَلَامٍ، وَلِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَمَا فِيهِمَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: فَإِنَّ لِلرَّسُولِ خُمُسَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}"، قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِهِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}"، قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ نَهْشَلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا، خَمَّسَ الْغَنِيمَةَ، فَضَرَبَ ذَلِكَ الْخُمْسَ فِي خَمْسَةٍ. ثُمَّ قَرَأَ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}". قَالَ: وَقَوْلُهُ: "فَأَنَّ لِلَّهِ خُمْسَه"، مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَجَعَلَ اللَّهُ سَهْمَ اللَّهِ وَسَهْمَ الرَّسُولِ وَاحِدًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: "فَأَنَّ لِلَّهِ خُمْسَه"، قَالَ: لِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}"، قَالَ: لِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَخُمْسٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُقْسِمُ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ، فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَيُقَسِّمُ الْخُمْسَ الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ، فَخُمْسٌ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْخُمْسِ مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ: أَلَا أَرْضَى مِنْ مَالِي بِمَا رَضِيَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَضِيلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}"، قَالَ: خُمْسُ اللَّهِ وَخُمْسُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ. كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ مِنْهُ وَيَضَعُ فِيهِ مَا شَاءَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَصْحَابِهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}"، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ، الْخُمْسُ لِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِنَّ لِبَيْتِ اللَّهِ خُمْسَهُ وَلِلرَّسُولِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ، فَيُقَسِّمُهَا عَلَى خَمْسَةٍ، تَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ شَهِدَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ الْخُمْسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الَّذِي قَبَضَ كَفُّهُ، فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ، وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ. ثُمَّ يُقْسِمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُولِ، وَسَهْمٌ لِذِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيل». حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}"، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ: فَكَانَ يُجَاءُ بِالْغَنِيمَةِ فَتُوضَعُ، فَيُقَسِّمُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، فَيَجْعَلُ أَرْبَعَةً بَيْنَ النَّاسِ، وَيَأْخُذُ سَهْمًا، ثُمَّ يَضْرِبُ بِيَدِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ السَّهْمِ، فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ، فَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ لِلَّهِ، وَيَقُولُ: " لَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا، فَإِنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ثُمَّ يُقْسِمُ بَقِيَّتَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا سُمِّيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ مُرَادٌ بِهِ قَرَابَتُهُ، وَلَيْسَ لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ، فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمْسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ: فَرُبْعٌ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى يَعْنِي قَرَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَهُوَ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمْسِ شَيْئًا. وَالرُّبْعُ الثَّانِي لِلْيَتَامَى، وَالرُّبْعُ الثَّالِثُ لِلْمَسَاكِينِ، وَالرُّبْعُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: قَوْلُهُ: "فَأَنَّ لِلَّهِ خُمْسَه"، "افْتِتَاحُ كَلَام"، وَذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْخُمْسَ غَيْرُ جَائِزٍ قَسْمُهُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ فِيهِ سَهْمٌ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خُمْسُ الْغَنِيمَةِ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَسْمِهِ عَلَى خَمْسَةٍ فَمَا دَونَهَا، فَأَمَّا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا لَا نَعْلَمُ قَائِلًا قَالَهُ غَيْرُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ الْخَبَرِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَفِي إِجْمَاعِ مَنْ ذَكَرْتُ، الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا اخْتَرْنَا. فَأَمَّامَنْ قَالَ: "سَهْمُ الرَّسُولِ لِذَوِي الْقُرْبَى"، فَقَدْ أَوْجَبَ لِلرَّسُولِ سَهْمًا، وَإِنْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَفَهُ إِلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقَسْمُ كَانَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَقَدْ:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}"، الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَنِمَ غَنِيمَةً جُعِلَتْ أَخْمَاسًا، فَكَانَ خُمْسٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَيُقَسِّمُ الْمُسْلِمُونَ مَا بَقِيَ. وَكَانَ الْخُمْسُ الَّذِي جُعِلَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِرَسُولِهِ وَلِذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَلِلْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَكَانَ هَذَا الْخُمْسُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ: خُمْسٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَخُمْسٌ لِذَوِي الْقُرْبَى. وَخُمْسٌ لِلْيَتَامَىِ، وَخُمْسٌ لِلْمَسَاكِينِ. وَخُمْسٌ لِابْنِ السَّبِيلِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَة قَالَ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ الْجَزَّارِ عَنْ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَجَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَة َ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَة َ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: "فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه"، قَالَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ حَضَرَ الْبَأْسَ، وَالْخُمْسُ الْبَاقِي لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، خُمْسُهُ يَضَعُهُ حَيْثُ رَأَى، وَخُمْسُهُ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَخُمْسُهُ لِلْيَتَامَى، وَخُمْسُهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ خُمْسُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلِذِي الْقُرْبَى"، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِيهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ قُرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ، فَجَعَلَ لَهُمْ خُمْسَ الْخُمْسِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ لَا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ، فَجُعِلَ لَهُمْ خُمْسُ الْخُمْسِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي بَنِي هَاشِمٍ الْفُقَرَاءَ، فَجَعَلَ لَهُمُ الْخَمْسَ مَكَانَ الصَّدَقَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا الصَّبَاحُ بْنُ يَحْيَى الْمُزْنِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ قَالَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّأْمِ: أَمَا قَرَأْتَ فِي "الْأَنْفَال": " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}" الْآيَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمْ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ! حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هَؤُلَاءِ قُرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَجْدَةً كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى، فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا: "نَزْعُمُ أَنَّا نَحْنُ هُمْ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا". حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}"، قَالَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ حَضَرَ الْبَأْسَ، وَالْخُمْسُ الْبَاقِي لِلَّهِ، وَلِلرَّسُولِ، خُمْسُهُ يَضَعُهُ حَيْثُ رَأَى، وَخُمْسٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَخَمْسٌ لِلْيَتَامَى، وَخُمْسٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ خُمْسُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهُا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذِي الْقُرْبَى قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: "قَدْ كُنَّا نَقُولُ: إِنَّا هُمْ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا، وَقَالُوا: قُرَيْشٌ كُلُّهَا ذَوُو قُرْبَى". وَقَالَ آخَرُونَ: سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَارَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى فَقَالَ: كَانَ طُعْمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ جُعِلَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى كَانَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ خَاصَّةً. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بِكِيرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ إِخْوَتُكَ بَنُو هَاشِمٍ، لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ، لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ، أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ، أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهَمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ! ثُمَّ شَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى، كَانَ لِقُرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ "، لِأَنَّ حَلِيفَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ، وَلِصِحَّةِ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ أَعْنِي سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصْرَفَانِ فِي مَعُونَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ نَهْشَلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جُعِلَ سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ وَاحِدًا، وَلِذِي الْقُرْبَى، فَجَعَلَ هَذَانِ السَّهْمَانِ فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ. وَجُعِلَ سَهْمُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا يُعْطَى غَيْرَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}"، قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَيْنَ السَّهْمَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ قَائِلُونَ: سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقُرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ قَائِلُونَ: سَهْمُ الْقَرَابَةِ لِقُرَابَةِ الْخَلِيفَةِ وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَا عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْعَلَانِ سَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ. فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: مَا كَانَ عَلَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}" الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ: أَرْبَعَةٌ بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمْسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ: لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى يَعْنِي: قَرَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَهُوَ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمْسِ شَيْئًا. فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصِيبَ الْقَرَابَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَة». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى فَقَالَ: كَانَ طُعْمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، حَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، صَدَقَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى وَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ حُكَيمِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْخُمْسِ، وَيَلِي الْإِمَامُ سَهْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَالَ: كَانَ طُعْمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ جُعِلَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْدُودٌ فِي الْخُمْسِ، وَالْخُمْسُ مَقْسُومٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: عَلَى الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ. وَذَلِكَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْخُمْسُ كُلُّهُ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عَنِ الْخُمْسِ فَقَالَا هُوَ لَنَا. فَقُلْتُ لَعَلِيٍّ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل"، فَقَالَا يَتَامَانَا وَمَسَاكِينُنَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْدُودٌ فِي الْخُمْسِ، وَالْخُمْسُ مَقْسُومٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِلْقَرَابَةِ سَهْمٌ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْخُمْسَ لِأَقْوَامٍ مَوْصُوفِينَ بِصِفَاتٍ، كَمَا أَوْجَبَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ الْآخَرِينَ. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ حَقَّ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لَنْ يَسْتَحِقَّهُ غَيْرُهُمْ، فَكَذَلِكَ حَقُّ أَهْلِ الْخُمْسِ لَنْ يَسْتَحِقَّهُ غَيْرُهُمْ. فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَخْرُجَ بَعْضُ السُّهْمَانِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِمَنْ سَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ بِفَقْدِ بَعْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ، إِلَى غَيْرِ أَهْلِ السُّهْمَانِ الْأُخَرِ. وَأَمَّا "الْيَتَامَى"، فَهُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَدْ هَلَكَ آبَاؤُهُمْ. وَ "الْمَسَاكِين"، هُمْ أَهْلُ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَ "ابْنُ السَّبِيل"، الْمُجْتَازُ سَفَرًا قَدِ انْقُطِعَ بِهِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْخُمْسُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ، وَهُوَ الضَّيْفُ الْفَقِيرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيْقِنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنَمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَقْسُومٌ الْقَسْمَ الَّذِي بَيَّنْتُهُ، وَصَدِّقُوا بِهِ إِنْ كُنْتُمْ أَقْرَرْتُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَرَقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِبَدْرٍ، فَأَبَانَ فَلَجَّ الْمُؤْمِنِينَ وَظُهُورَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَذَلِكَ "يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان"، جَمْعُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ، وَاللَّهُ عَلَى إِهْلَاكِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَإِذْلَالِهِمْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشَاءُ "قَدِير"، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "يَوْمَ الْفَرْقَان"، يَعْنِي: بِ "الْفَرْقَان"، يَوْمَ بَدْرٍ، فَرَقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ، حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِهِ: "يَوْمَ الْفُرْقَان"، يَوْمَ فَرَقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ رَأْسُ الْمُشْرِكِينَ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَالْتَقَوْا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُمَائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَالْمُشْرِكُونَ مَا بَيْنَ الْأَلْفِ والتِّسْعِمَائَةِ. فَهَزَمَ اللَّهُ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ زِيَادَةً عَلَى سَبْعَيْنَ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مِقْسَمٍ: "يَوْمَ الْفَرْقَان"، قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ، فَرَقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ فِي قَوْلِهِ: "يَوْمَ الْفَرْقَان"، قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ، فَرَقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}" يَوْمَ بَدْرٍ، وَ" بَدْرٌ "، بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ أَبُو طَالِبٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السِّلْمِيِّ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتْ لَيْلَةَ "الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان"، لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان"، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}"، أَيْ: يَوْمَ فَرَّقْتُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِقُدْرَتِي، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفَرْقَانِ}"، وَذَاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، يَوْمَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيْقِنُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَسْمَ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ لَكُمْ رَبُّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ "إِذْ أَنْتُم"، حِينَئِذٍ، "بِالْعَدُوَّةِ الدُّنْيَا"، يَقُولُ: بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَدْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ "وَهُمْ بِالْعَدُوَّةِ الْقُصْوَى"، يَقُولُ: وَعَدُوُّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نُزُولٌ بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَقْصَى إِلَى مَكَّةَ "وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُم"، يَقُولُ: وَالْعِيرُ فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ فِي مَوْضِعٍ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}"، قَالَ: شَفِيرُ الْوَادِي الْأَدْنَى، وَهُمْ بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَقْصَى "وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُم"، قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، أَسْفَلَ مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}"، وَهُمَا شَفِيرُ الْوَادِي. كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ بِأَعْلَى الْوَادِي، وَالْمُشْرِكُونَ أَسْفَلَهُ " {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}"، يَعْنِي: أَبَا سُفْيَانَ، [انْحَدَرَ بِالْعِيرِ عَلَى حَوْزَتِهِ]، حَتَّى قَدِمَ بِهَا مَكَّةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}"، مِنَ الْوَادِي إِلَى مَكَّةَ "وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُم"، أَيْ: عَيرُ أَبِي سُفْيَانَ الَّتِي خَرَجْتُمْ لِتَأْخُذُوهَا وَخَرَجُوا لِيَمْنَعُوهَا، عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}"، قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، مُقْبِلُونَ مِنَ الشَّأْمِ تُجَّارًا، لَمْ يَشْعُرُوا بِأَصْحَابِ بَدْرٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَلَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، حَتَّى الْتَقَى عَلَى مَاءِ بَدْرٍ مَنْ يَسْقِي لَهُمْ كُلِّهِمْ. فَاقْتَتَلُوا، فَغَلَبَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسَرُوهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذَكَرَ مَنَازِلَ الْقَوْمِ وَالْعِيرِ فَقَالَ: " {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}"، وَالرَّكْبُ: هُوَ أَبُو سُفْيَانَ "أَسْفَلَ مِنْكُم"، عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَة". فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: (بِالْعُدْوَةِ)، بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: (بِالْعِدْوَةِ)، بِكَسْرِ الْعَيْنِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، يُنْشَدُ بَيْتُ الرَّاعِي: وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا *** كَمَا نَظَرَ الْعِدْوَةَ الْجُؤْذَرُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ "الْعِدْوَة"، وَكَذَلِكَ يُنْشَدُ بَيْتُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ: وَفَارِسٌ لَوْ تَحُلُّ الْخَيْلُ عِدْوَتَهُ *** وَلَّوْا سِرَاعًا، وَمَا هَمُّوا بِإِقْبَالِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يُعْنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ كَانَ اجْتِمَاعُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اجْتَمَعْتُمْ فِيهِ، أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَعَدُوُّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، " {لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}"، لِكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّكُمْ، وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَكُمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ " {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}"، وَذَلِكَ الْقَضَاءُ مِنَ اللَّهِ، كَانَ نَصْرَهُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَلَاكَ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمْ بِبَدْرٍ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}"، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، ثُمَّ بَلَغَكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ، مَا لَقِيتُمُوهُمْ " {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}"، أَيْ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ مَا أَرَادَ بِقُدْرَتِهِ، مِنْ إِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِذْلَالِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، عَنْ غَيْرِ مَلَأٍ مِنْكُمْ، فَفَعَلَ مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِلُطْفِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ شِهَابٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيَرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الرَّكْبِ مِنَ الشَّامِ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ لِيَمْنَعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَالْتَقَوْا بِبَدْرٍ، وَلَا يَشْعُرُ هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ، وَلَا هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ، حَتَّى الْتَقَتِ السُّقَاةُ. قَالَ: وَنَهَدَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ هُنَالِكَ، لِيَقْضِيَ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا " {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}". وَهَذِهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: "لِيَهْلَك" مُكَرَّرَةٌ عَلَى "اللَّام" فِي قَوْلِهِ: "لِيَقْضِي"، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، جَمَعَكُمْ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}"، لِيَمُوتَ مَنْ مَاتَ مِنْ خَلْقِهِ، عَنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ قَدْ أُثْبِتَتْ لَهُ وَقَطَعَتْ عُذْرَهُ، وَعِبْرَةٍ قَدْ عَايَنَهَا وَرَآهَا "وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة"، يَقُولُ: وَلِيَعِيشَ مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ قَدْ أُثْبِتَتْ لَهُ وَظَهَرَتْ لِعَيْنِهِ فَعَلِمَهَا، جَمَعْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ هُنَالِكَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}"، [أَيْ لِيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْحُجَّةِ]، لِمَا رَأَى مِنَ الْآيَةِ وَالْعِبْرَةِ، وَيُؤْمِنُ مَنْ آمَنَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم"، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: "وَإِنَّ اللَّه"، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، "لِسَمِيع"، لِقَوْلِكُمْ وَقَوْلِ غَيْرِكُمْ، حِينَ يُرِي اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي مَنَامِهِ وَيُرِيكُمْ، عَدُوَّكُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَهُمْ كَثِيرٌ، وَيَرَاكُمْ عَدُوُّكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ قَلِيلًا "عَلِيم"، بِمَا تُضْمِرُهُ نُفُوسُكُمْ، وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، حِينَئِذٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ وَلِعِبَادِهِ: فَاتَّقُوا رَبَّكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، فِي مَنْطِقِكُمْ: أَنْ تَنْطِقُوا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِي قُلُوبِكُمْ: أَنْ تَعْتَقِدُوا فِيهَا غَيْرَ الرُّشْدِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ، يَا مُحَمَّدُ، سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُ أَصْحَابُكَ، عَلِيمٌ بِمَا يُضْمِرُونَهُ، إِذْ يُرِيكَ اللَّهُ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُمْ "فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا"، يَقُولُ: يُرِيكَهُمْ فِي نَوْمِكَ قَلِيلًا فَتُخْبِرُهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَاجْتَرَأُوا عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ وَلَوْ أَرَاكَ رَبُّكَ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُمْ كَثِيرًا، لَفَشِلَ أَصْحَابُكَ، فَجَبُنُوا وَخَامُوا، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حَرْبِ الْقَوْمِ، وَلَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَرَاكَ فِي مَنَامِكَ مِنَ الرُّؤْيَا، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا تُجِنُّهُ الصُّدُورُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا تُضْمِرُهُ الْقُلُوبُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا}"، أَيْ: فِي عَيْنِكَ الَّتِي تَنَامُ بِهَا فَصَيَّرَ "الْمَنَام"، هُوَ الْعَيْنُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي عَيْنِكَ قَلِيلًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا}"، قَالَ: أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، فَكَانَ تَثْبِيتًا لَهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا}"، الْآيَةَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، شَجَّعَهُمْ بِهَا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَكَفَّ بِهَا مَا تُخُوِّفَ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَعْفِهِمْ، لِعِلْمِهِ بِمَا فِيهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: " {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمْرَهُمْ، حَتَّى أَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}"، يَقُولُ: سَلَّمَ اللَّهُ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أَمْرَهُ فِيهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}"، قَالَ: سَلَّمَ أَمْرَهُ فِيهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سَلَّمَ الْقَوْمَ بِمَا أَرَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ، حَتَّى قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَاجْتَرَأُوا عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: " {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}" عَقِيبُ قَوْلِهِ: " {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}"، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْخَبَرِ عَنْهُ، أَنَّهُ سَلَّمَهُمْ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، مَا كَانَ مُخَوِّفًا مِنْهُ لَوْ لَمْ يُرِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِلَّةِ الْقَوْمِ فِي مَنَامِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَإِنَّ اللَّهَ لِسَمِيعٌ عَلِيم" إِذْ يُرِي اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي مَنَامِهِ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا وَإِذْ يُرِيهِمُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَقُوهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ قَلِيلًا وَهُمْ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَيُقَلِّلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، لِيَتْرُكُوا الِاسْتِعْدَادَ لَهُمْ، فَتُهُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ شَوْكَتُهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي ابْنُ بَزِيعٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِئَةً قَالَ: فَأَسَرْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَقُلْنَا: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: أَلْفً. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبَى إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: " {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا}"، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا، حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ: أَتُرَاهُمْ يَكُونُونَ مِئَةً؟ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: إِنِ الْعِيرَ قَدِ انْصَرَفَتْ فَارْجِعُوا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: الْآنَ إِذْ بَرَزَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ! فَلَا تَرْجِعُوا حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ. وَقَالَ: يَا قَوْمُ لَا تَقْتُلُوهُمْ بِالسِّلَاحِ، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا، فَارْبُطُوهُمْ بِالْحِبَالِ! يَقُولُهُ مِنَ الْقُدْرَةِ فِي نَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: " {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}"، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَلَّلْتُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَرَيْتُكُمُوهُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ مَا قَضَى مِنْ قِتَالِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، وَإِظْهَارِكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، عَلَى أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى. وَذَلِكَ أَمْرٌ كَانَ اللَّهُ فَاعِلَهُ وَبَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}"، أَيْ: لِيُؤَلِّفَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ، لِلنِّقْمَةِ مِمَّنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ، وَالْإِنْعَامَ عَلَى مَنْ أَرَادَ إِتْمَامَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ. " {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}"، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَصِيرُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَيُجَازِي أَهْلَهَا عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَعْرِيفٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ، السِّيرَةَ فِي حَرْبِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، وَالْأَفْعَالَ الَّتِي يُرْجَى لَهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ لِقَائِهِمُ النُّصْرَةُ عَلَيْهِمْ وَالظَّفَرُ بِهِمْ. ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" _ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ _ إِذَا لَقِيتُمْ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ لِلْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، فَاثْبُتُوا لِقِتَالِهِمْ، وَلَا تَنْهَزِمُوا عَنْهُمْ وَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ هَارِبِينَ، إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقَتَّالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ مِنْكُمْ "وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا"، يَقُولُ: وَادْعُوا اللَّهَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، وَأَشْعِرُوا قُلُوبَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ ذِكْرَهُ "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون"، يَقُولُ: كَيْمَا تَنْجَحُوا فَتَظْفَرُوا بِعَدُوِّكُمْ، وَيَرْزُقَكُمُ اللَّهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَيْهِمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}"، افْتَرَضَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عِنْدَ أَشْغَلِ مَا تَكُونُونَ، عِنْدَ الضِّرَابِ بِالسُّيُوفِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً}"، يُقَاتِلُونَكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}"، اذْكُرُوا اللَّهَ الَّذِي بَذَلْتُمْ لَهُ أَنْفُسَكُمْ وَالْوَفَاءَ بِمَا أَعْطَيْتُمُوهُ مِنْ بَيْعَتِكُمْ "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ: أَطِيعُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، رَبَّكُمْ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَلَا تُخَالِفُوهُمَا فِي شَيْءٍ " {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}"، يَقُولُ: وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَفَرَّقُوا وَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ "فَتَفْشَلُوا"، يَقُولُ: فَتَضْعُفُوا وَتَجْبُنُوا، "وَتَذْهَبَ رِيحُكُم". وَهَذَا مَثَلٌ. يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ مُقْبِلًا مَا يُحِبُّهُ وَيُسَرُّ بِهِ "الرِّيحُ مُقْبِلَةٌ عَلَيْه"، يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا يُحِبُّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ: كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَبٍ *** وَالْفَضْلُ لِلقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ يَعْنِي: مِنَ الْبَأْسِ وَالْكَثْرَةِ. وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَتَذْهَبُ قُوَّتُكُمْ وَبَأْسُكُمْ، فَتَضْعُفُوا وَيَدْخُلُكُمُ الْوَهَنُ وَالْخَلَلُ. "وَاصْبِرُوا"، يَقُولُ: اصْبِرُوا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوِّكُمْ، وَلَا تَنْهَزِمُوا عَنْهُ وَتْتُرُكُوهُ " {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}"، يَقُولُ: اصْبِرُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}"، قَالَ: نَصَرَكُمْ. قَالَ: وَذَهَبَتْ رِيحُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ نَازَعُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}"، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: رِيحُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ حِينَ تَرَكُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}"، قَالَ: حَدُّكُمْ وَجِدُّكُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}"، قَالَ: رِيحُ الْحَرْبِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَتَذْهَبُ رِيحُكُم"، قَالَ: "الرِّيح"، النَّصْرُ، لَمْ يَكُنْ نَصْرٌ قَطُّ إِلَّا بِرِيحٍ يَبْعَثُهَا اللَّهُ تَضْرِبُ وُجُوهَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِوَامٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}"، أَيْ: لَا تَخْتَلِفُوا فَيَتَفَرَّقَ أَمْرُكُمْ "وَتَذْهَبَ رِيحُكُم"، فَيَذْهَبَ حَدُّكُمْ " {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}"، أَيْ: إِنِّي مَعَكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}"، قَالَ: الْفَشَلُ، الضَّعْفُ عَنْ جِهَادِ عَدْوِهِ وَالِانْكِسَارِ لَهُمْ، فَذَلِكَ "الْفَشَل".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، أَنْ لَا يَعْمَلُوا عَمَلًا إِلَّا لِلَّهِ خَاصَّةً، وَطَلَبِ مَا عِنْدَهُ، لَا رِئَاءَ النَّاسِ، كَمَا فَعَلَ الْقَوْمُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَسِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ طَلَبَ رِئَاءِ النَّاسِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِفَوْتِ الْعِيرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَقِيلَ لَهُمْ: "انْصَرَفُوا فَقَدْ سَلِمَتِ الْعِيرُ الَّتِي جِئْتُمْ لِنُصْرَتِهَا!"، فَأَبَوْا وَقَالُوا: "نَأْتِي بَدْرًا فَنَشْرَبُ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَتَحَدَّثُ بِنَا الْعَرَبُ فِيهَا"، فَسُقُوا مَكَانَ الْخَمْرِ كُؤُوسَ الْمَنَايَا، كَمَا- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَدْ جَاءَهُمْ رَاكِبٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ وَالرَّكْبُ الَّذِينَ مَعَهُ: إِنَّا قَدْ أَجَزْنَا الْقَوْمَ، وَأَنِ ارْجِعُوا. فَجَاءَ الرَّكْبُ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ قُرَيْشًا بِالرَّجْعَةِ بِالْجُحْفَةِ، فَقَالُوا: "وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَنْزِلَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَيَرَانَا مَنْ غَشِينَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَرَانَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَمَا جَمَعْنَا فَيُقَاتِلُنَا". وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: " {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}"، وَالْتَقَوْا هُمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَخْزَى أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، وَشَفَى صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ أَحْرَزَ عِيرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ، فَارْجِعُوا! فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا وَكَانَ "بَدْر" مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقٌ كُلَّ عَامٍ فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَنَنْحَرُ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَنَسْقِي الْخُمُورَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا، فَامْضُو. قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: " {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}"، أَيْ: لَا تَكُونُوا كَأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ قَالُوا: "لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا، وَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا"، أَيْ: لَا يَكُونَنَّ أَمْرُكُمْ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَلَا الْتِمَاسَ مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَخْلِصُوا لِلَّهِ النِّيَّةَ وَالْحِسْبَةَ فِي نَصْرِ دِينِكُمْ، وَمُوَازَرَةِ نَبِيِّكُمْ، أَيْ: لَا تَعْمَلُوا إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا تَطْلُبُوا غَيْرَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}"، قَالَ: أَصْحَابُ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}"، قَالَ: أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ خُرُوجُهُمْ إِلَى بَدْرٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}"، يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ الَّذِي قَاتَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}"، قَالَ: هُمْ قُرَيْشٌ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ، الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}"، قَالَ: كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَاتَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ يَوْمَ بَدْرٍ، خَرَجُوا وَلَهُمْ بَغْيٌ وَفَخْرٌ. وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ: "ارْجِعُوا، فَقَدِ انْطَلَقَتْ عِيرُكُمْ، وَقَدْ ظَفِرْتُم". قَالُوا: "لَا وَاللَّهِ، حَتَّى يَتَحَدَّثَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِمَسِيرِنَا وَعَدَدِنَا!". قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: "«اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا لِتَحَادَّكَ وَرَسُولَك»" ! حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذَكَرَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يُطْعِمُونَ عَلَى الْمِيَاهِ فَقَالَ: " {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}". حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا}"، قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ أَشَرًا وَبَطَرًا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعَّبَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بِدْرٍ، خَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: وَلَا تَكُونُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فِي الْعَمَلِ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَتَرْكِ إِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ فِيهِ، كَالْجَيْشِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ بَطَرًا وَمُرَاءَاةَ النَّاسِ بِزِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَشِدَّةِ بِطَانَتِهِمْ " {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}"، يَقُولُ: وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، بِقِتَالِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَتَعْذِيبِهِمْ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ "وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُون"، مِنَ الرِّيَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ "مُحِيط"، يَقُولُ: عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَهُ مُتَجَلِّيَةٌ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَهُوَ لَهُمْ بِهَا مُعَاقِبٌ، وَعَلَيْهَا مُعَذِّبٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، وَحِينَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، وَكَانَ تَزْيِينُهُ ذَلِكَ لَهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ، مَعَهُ رَايَتُهُ، فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشَمٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}، فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَلَّوْا مُدَبِّرِينَ. وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ فَوَلَّى مُدَبِّرًا هُوَ وَشَيَّعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ، تَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ قَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا، أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَتَى الْمُشْرِكِينَ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشَمٍ الْكِنَانِيِّ الشَّاعِرُ، ثُمَّ الْمُدْلِجِيِّ، فَجَاءَ عَلَى فَرَسٍ، فَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ}! فَقَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا جَارُكُمْ سُرَاقَةُ، وَهَؤُلَاءِ كِنَانَةُ قَدْ أَتَوْكُمْ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ:، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ، ذَكَرَتِ الَّذِي بَيَّنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ يَعْنِي مِنَ الْحَرْبِ فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يَثْنِيَهُمْ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ [بْنِ مَالِكِ] بْنِ جُعْشَمٍ الْمُدْلِجِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ: "أَنَا جَارٌّ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ [مِنْ خَلْفِكُمْ بِشَيْءٍ] تَكْرَهُونَهُ"! فَخَرَجُوا سِرَاعًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيقَوْلِهِ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}، فَذَكَّرَ اسْتِدْرَاجَ إِبْلِيسَ إِيَّاهُمْ، وَتَشَبُّهَهُ بِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشَمٍ لَهُمْ، حِينَ ذَكَرُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فِي الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، يَقُولُ اللَّهُ: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ}، وَنَظَرَ عَدُوُّ اللَّهِ إِلَى جُنُودِ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَدْ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ}، وَصَدَقَ عَدُوُّ اللَّهِ، إِنَّهُ رَأَى مَا لَا يَرَوْنَ وَقَالَ: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، فَأَوْرَدَهُمْ ثُمَّ أَسَلَمَهُمْ. قَالَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ مَنْـزِلٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشَمٍ لَا يُنْكِرُونَهُ. حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالتُّقَى الْجَمْعَانِ، كَانَ الَّذِي رَآهُ حِينَ نَكَصَ: "الْحَارِثُ بْنُ هِشَام" أَوْ: " عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ "، فَذُكِرَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: أَيْنَ، أَيْ سُرَاقَ!"، وَمَثَلَ عَدُوُّ اللَّهِ فَذَهَبَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، إِلَى قَوْلِهِ: (شَدِيدُ الْعِقَابِ)، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ تَنْـزِلُ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ، فَزَعَمَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَدَيْ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}، وَكَذَبَ وَاللَّهِ عَدُوُّ اللَّهِ، مَا بِهِ مَخَافَةُ اللَّهِ، وَلَكِنْ عِلْمَ أَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ، وَتِلْكَ عَادَةُ عَدُوِّ اللَّهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاسْتَقَادَ لَهُ، حَتَّى إِذَا الْتَقَى الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ أَسْلَمَهُمْ شَرَّ مُسْلَمٍ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، سَارَ إِبْلِيسُ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ: أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ، وَإِنِّي جَارٌّ لَكُمْ! فَلَمَّا الْتَقَوْا، وَنَظَرَ الشَّيْطَانُ إِلَى أَمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ، نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ قَالَ: رَجَعَ مُدْبِرًا وَقَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجَشُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا رُؤِيَ إِبْلِيسُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ، وَلَا أَحْقَرُ، وَلَا أَدْحَرُ، وَلَا أَغِيظُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَرَى مِنْ تَنْـزِيلِ الرَّحْمَةِ وَالْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ، إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: "أَمَّا إِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَة». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ مُعْتَجِرًا بِبُرْدٍ، يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي يَدِهِ اللِّجَامُ، مَا رَكِبَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ، وَتَلًّا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: سَارَ إِبْلِيسُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ وَأَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، وَلَنْ تُغْلَبُوا كَثْرَةً! فَلَمَّا الْتَقَوْا نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ يَقُولُ: رَجَعَ مُدْبِرًا وَقَالَ: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ}، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كعَبٍ قَالَ: لَمَّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ عَلَى السَّيْرِ قَالُوا: إِنَّمَا نَتَخَوَّفُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ! فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ، فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشَمٍ: أَنَا جَارٌّ لَكُمْ منْ بَنِي بَكْرٍ، وَلَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَحِينَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ خُرُوجَهُمْ إِلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِحَرْبِكُمْ وَقِتَالِكُمْ وَحَسَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَاطْمَئِنُّوا وَأَبْشِرُوا {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}، منْ كِنَانَة أَنْ تَأْتِيَكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ فَمُعِيذُكُمْ، أُجِيرُكُمْ وَأَمْنَعُكُمْ مِنْهُمْ، فَلَا تَخَافُوهُمْ، وَاجْعَلُوا حَدَّكُمْ وَبَأْسَكُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ}، يَقُولُ: فَلَمَّا تَزَاحَفَتْ جُنُودُ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجُنُودُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَنَظَرَ بَعْضُهِمْ إِلَى بَعْضٍ {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}، يَقُولُ: رَجَعَ الْقَهْقَرى عَلَى قَفَاهُ هَارِبًا. يُقَالُ مِنْهُ: "نَكَصَ يَنْكُصُ وَيَنْكِصُ نُكُوصًا"، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: هُـمْ يَضْرِبُـونَ حَبيكَ الْبَيْضِ إِذْ لَحِقُوا *** لَا يَنْكُصُـونَ، إِذَا مَـا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا وَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ}، يَعْنِي أَنَّهُ يَرَى الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ مَدَدًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَا يَرَوْنَهُمْ، إِنِّي أَخَافَ عِقَابَ اللَّهِ، وَكَذَّبَ عَدُوُ اللَّهِ (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}، وَكَرَّرَ بِقَوْلِهِ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}، عَلَى قَوْلِهِ: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، يَعْنِي: شَكٌّ فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يَصِحَّ يَقِينُهُمْ، وَلَمْ تُشْرَحْ بِالْإِيمَانِ صُدُورُهُمْ {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، يَقُولُ: غَرَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، دِينُهُمْ وَذَلِكَ الْإِسْلَامُ. وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، كَانُوا نَفَرًا مِمَّنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَسْتَحْكِمِ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، قَالَ: كَانَ نَاسٌ منْ أَهْلِ مَكَّةَ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}. حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، قَالَ: فِئَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمِّيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ؛ خَرَجُوا مَعَ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ وَهُمْ عَلَى الِارْتِيَابِ، فَحَبَسَهُمُ ارْتِيَابُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدهمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، فَشَرَّدَ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، قَالَ: هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسُمُّوْا "مُنَافِقِينَ" قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْمٌ كَانُوا أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ بِمَكَّةَ، فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، قَالَ: رَأَوْا عِصَابَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَشَرَّدَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ عَدُوَّ اللَّهِ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَالَ: "وَاللَّهِ لَا يُعْبَدُ اللَّهُ بَعْدَ الْيَوْمِ!"، قَسْوَةً وَعُتُوًّا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، قَالَ: نَاسٌ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَكَّةَ، قَالُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ يَوْمئِذٍ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، قَالَ: لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَقَلَّلَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَلَّلَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مِنْ قِلَّتِهِمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيَهْزِمُونَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ يُسْلِمْ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَيَثِقْ بِهِ، وَيَرْضَ بِقَضَائِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُهُ وَنَاصِرُهُ لِأَنَّهُ "عَزِيزٌ"، لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَقْهَرُهُ أَحَدٌ، فَجَارُهُ مَنِيعٌ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ مَكْفِيٌّ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ، أَنْ يُفَوِّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَيُسَلِّمُوا لِقَضَائِهِ، كَيْمَا يَكْفِيَهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَلَا يَسْتَذِلَّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ، لِأَنَّهُ "عَزِيزٌ" غَيْرُ مَغْلُوبٍ، فَجَارُهُ غَيْرُ مَقْهُورٍ، "حَكِيمٌ"، يَقُولُ: هُوَ فِيمَا يُدَبِّرُ مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِ حَكِيمٌ، لَا يَدْخُلُ تَدْبِيرَهُ خَلَلٌ.
|