الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ (خُلِقَ الْإِنْسَانُ) يَعْنِي آدَمَ (مِنْ عَجَلٍ). وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: مِنْ عَجَلٍ فِي بِنْيَتِهِ وَخِلْقَتِهِ، كَانَ مِنَ الْعَجَلَةِ، وَعَلَى الْعَجَلَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قَالَ: لَمَّا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فِي رُكْبَتَيْهِ ذَهَبَ لِيَنْهَضَ، فَقَالَ اللَّهُ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا نُفِخَ فِيهِ يَعْنِي فِي آدَمَ الرُّوحَ، فَدَخَلَ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ، فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ؛ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} يَقُولُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ عُجُولًا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قَالَ: خُلِقَ عُجُولًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ: أَيْ مِنْ تَعْجِيلٍ فِي خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَمِنْ سُرْعَةٍ فِيهِ وَعَلَى عَجَلٍ، وَقَالُوا: خَلَقَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى عَجَلٍ فِي خَلْقِهِ إِيَّاهُ قَبْلَ مَغِيبِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قَالَ: قَوْلُ آدَمَ حِينَ خُلِقَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ آخَرَ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ خَلْقِ الْخَلْقِ: فَلَمَّا أَحْيَا الرُّوحُ عَيْنَيْهِ وَلِسَانَهُ وَرَأْسَهُ، وَلَمْ تَبْلُغْ أَسْفَلَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ اسْتَعْجِلْ بِخَلْقِي قَبْلَ غُرُوبٍ بِالشَّمْسِ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قَالَ آدَمُ حِينَ خُلِقَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: اسْتَعْجِلْ بِخَلْقِي فَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قَالَ: عَلَى عَجَلِ آدَمِ آخِرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ ذَيْنِكَ الْيَوْمَيْنِ، يُرِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَخَلَقَهُ عَلَى عَجَلٍ، وَجَعْلَهُ عُجُولًا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِمَّنْ قَالَ نَحْوَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: إِنَّمَا قَالَ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} وَهُوَ يَعْنِي أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تَعْجِيلٍ مِنَ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ قَالَ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قَالَ: فَهَذَا الْعَجَلُ. وَقَوْلُهُ {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ إِنِّي سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} وَعَلَى قَوْلِ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ خَلْقِ اللَّهِ خُلِقَ عَلَى عَجَلٍ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ خُلِقَ بِأَنْ قِيلَ لَهُ كُنْ فَكَانَ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَا وَجْهُ خُصُوصِ الْإِنْسَانِ إِذَا بِذِكْرِ أَنَّهُ خُلِقَ مَنْ عَجَلٍ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَكُلُّهَا مَخْلُوقٌ مَنْ عَجَلٍ، وَفِي خُصُوصِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْإِنْسَانَ بِذَلِكَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَإِنَّمَا خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَخُلِقَتِ الْعَجَلَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَقَالُوا: ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} وَإِنَّمَا هُوَ لِتَنُوءَ الْعُصْبَةُ بِهَا مُتَثَاقِلَةً، وَقَالُوا: هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَلَّمَ الْقَوْمَ بِمَا يَعْقِلُونَ، قَالُوا: وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: عَرَضَتِ النَّاقَةُ، وَكَقَوْلِهِمْ: إِذَا طَلَعَتِ الشِّعْرَى وَاسْتَوَتِ الْعَوْدُ عَلَى الْحِرْبَاءِ: أَيِ اسْتَوَتِ الْحِرْبَاءُ عَلَى الْعُودِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَتَـرْكَبُ خَـيْلًا لَا هَـوَادَةَ بَيْنَهَـا *** وَتَشْـقَى الرِّمَـاحُ بِالضَّيـَاطِرَةِ الْحُمْرِ وَكَقَوْلِ ابْنِ مُقْبِلٍ: حَسَـرْتُ كَـفِّي عَـنِ السِّـرْبَالِ آخُذُهُ *** فَـرْدًا يُجَـرُّ عَـلَى أيْـدِي الْمُفَدِّينَـا يُرِيدُ: حَسِرَتُ السِّرْبَالَ عَنْ كَفِّي، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَفِي إِجْمَاعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ الْكِفَايَةُ الْمُغْنِيَةُ عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى فَسَادِهِ بِغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عِنْدَنَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَمَّنْ قَالَ مَعْنَاهُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ فِي خَلْقِهِ: أَيْ عَلَى عَجَلٍ وَسُرْعَةٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ بُودِرَ بِخَلْقِهِ مَغِيبَ الشَّمْسِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا أُولَى الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} عَلَى ذَلِكَ. وَأَنَّ أَبَا كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةٌ يَقَلِّلُهَا، قَالَ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيَّ سَاعَةٍ هِيَ، هِيَ آخَرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ اللَّهُ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا الْمُحَارِبِيُّ وَعَبَدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَأَسِيرُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَذَكَرَ كَلَامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِنَحْوِهِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا قُلْنَا بِمَا بِهِ اسْتَشْهَدْنَا {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} وَلِذَلِكَ يَسْتَعْجِلُ رَبَّهُ بِالْعَذَابِ {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} أَيُّهَا الْمُسْتَعْجِلُونَ رَبَّهُمْ بِالْآيَاتِ الْقَائِلُونَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ آيَاتِي كَمَا أَرَيْتَهَا مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا بِتَكْذِيبِهَا الرُّسُلَ، إِذَا أَتَتْهَا الْآيَاتُ فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ، يَقُولُ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوا رَبَّكُمْ، فَإِنَّا سَنَأْتِيكُمْ بِهَا وَنُرِيكُمُوهَا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} بِضَمِّ الْخَاءِ عَلَى مَذْهَبِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَهُ حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ (خَلَقَ) بِفَتْحِهَا، بِمَعْنَى: خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ، وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ خِلَافَهَا. وَقَوْلُهُ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَعْجِلُونَ رَبَّهُمْ بِالْآيَاتِ وَالْعَذَابِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ: يَقُولُ: مَتَى يَجِيئُنَا هَذَا الَّذِي تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا تَعِدُونَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) كَأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَ"مَتَى" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَيُّ وَقْتِ هَذَا الْوَعْدِ وَأَيُّ يَوْمٍ هُوَ فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْ يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ رَبِّهِمْ مَاذَا لَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ حِينَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، فَلَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ الَّتِي تَلْفَحُهَا، وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ فَيَدْفَعُونَهَا عَنْهَا بِأَنْفُسِهِمْ (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ). يَقُولُ: وَلَا لَهُمْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهُمْ فَيَسْتَنْقِذُهُمْ حِينَئِذٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لَمَّا أَقَامُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَلَسَارَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَلَمَا اسْتَعْجَلُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْبَلَاءَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا تَأْتِي هَذِهِ النَّارُ الَّتِي تَلْفَحُ وُجُوهَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ وَصَفَ أَمْرَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حِينَ تَأْتِيهِمْ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِوَقْتِهَا، وَلَكِنَّهَا تَأْتِيهِمْ مُفَاجَأَةً لَا يَشْعُرُونَ بِمَجِيئِهَا فَتَبْهَتُهُمْ: يَقُولُ: فَتَغْشَاهُمْ فَجْأَةً، وَتَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ مُعَايَنَةً كَالرَّجُلِ يَبْهَتُ الرَّجُلَ فِي وَجْهِهِ بِالشَّيْءِ، حَتَّى يَبْقَى الْمَبْهُوتِ كَالْحَيْرَانِ مِنْهُ {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} يَقُولُ: فَلَا يُطِيقُونَ حِينَ تَبْغَتَهُمْ فَتَبْهَتُهُمْ دَفْعَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) يَقُولُ: وَلَا هُمْ وَإِنْ لَمْ يُطِيقُوا دَفْعَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ يُؤَخَّرُونَ بِالْعَذَابِ بِهَا لِتَوْبَةٍ يُحْدِثُونَهَا، وَإِنَابَةٍ يُنِيبُونَ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حِينَ عَمَلٍ وَسَاعَةِ تَوْبَةٍ وَإِنَابَةٍ، بَلْ هِيَ سَاعَةُ مُجَازَاةٍ وَإِثَابَةٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ يَتَّخِذْكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ لَكَ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ إِذْ- رَأَوْكَ هُزُوًا وَيَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ كُفْرًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ، وَاجْتِرَاءً عَلَيْهِ، فَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ رُسُلِنَا الَّذِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ مِنْ قَبْلِكَ إِلَى أُمَمِهِمْ، يَقُولُ: فَوَجَبَ وَنَـزَلَ بِالَّذِينِ اسْتَهْزَءُوا بِهِمْ، وَسَخِرُوا مِنْهُمْ مِنْ أُمَمِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: حَلَّ بِهِمُ الَّذِي كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعَذَابِ الَّذِي كَانَتْ رُسُلُهُمْ تُخَوِّفُهُمْ نُـزُولَهُ بِهِمْ، يًسْتَهْزِءُونَ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَلَنْ يَعْدُوَ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِءُونَ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ أَنْ يَكُونُوا كَأَسْلَافِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا، فَيَنْـزِلُ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِكَ نَظِيرُ الَّذِي نَـزَلَ بِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ بِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَعْجِلِيكَ بِالْعَذَابِ، الْقَائِلِينَ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ؟ يَقُولُ: مَنْ يَحْفَظُكُمْ وَيَحْرُسُكُمْ بِاللَّيْلِ إِذَا نِمْتُمْ، وَبِالنَّهَارِ إِذَا تَصَرَّفْتُمْ مِنَ الرَّحْمَنِ؟ يَقُولُ: مِنْ أَمْرِ الرَّحْمَنِ إِنَّ نَـزَلَ بِكُمْ، وَمِنْ عَذَابِهِ إِنْ حَلَّ بِكُمْ، وَتَرَكَ ذِكْرَ الْأَمْرِ، وَقِيلَ مِنَ الرَّحْمَنِ اجْتِزَاءً بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ لِمَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} قَالَ: يَحْرُسُكُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} قُلْ مَنْ يَحْفَظُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ، يُقَالُ مِنْهُ: كَلَأَتُ الْقَوْمَ: إِذَا حَرَسْتُهُمْ، أَكْلَؤُهُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ: إِنَّ سُـلَيْمَى (وَاللَّـهُ يَكْلَؤُهَـا) *** ضَنَّـتْ بِشَـيْءٍ مَـا كَـانَ يَرْزَؤُهَـا قَوْلُهُ {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} وَقَوْلُهُ بَلْ: تَحْقِيقٌ لَجَحْدٍ قَدْ عَرَفَهُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ظَاهِرًا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا لَهُمْ أَنْ لَا يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا كَالِئَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِذَا هُوَ حَلَّ بِهِمْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ مَوَاعِظَ رَبِّهِمْ وَحُجَجِهِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ مُعَرَّضُونَ لَا يَتَدَبَّرُونَ ذَلِكَ فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ وَسَفَهًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَعْجِلِي رَبَّهُمْ بِالْعَذَابِ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ، إِنْ نَحْنُ أَحْلَلْنَا بِهِمْ عَذَابَنَا، وَأَنْـزَلْنَا بِهِمْ بَأْسَنَا مِنْ دُونِنَا؟ وَمَعْنَاهُ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا تَمْنَعُهُمْ مِنَّا، ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْآلِهَةَ بِالضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ، وَمَا هِيَ بِهِ مِنْ صِفَتِهَا، فَقَالَ وَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِنَا أَنْ تَمْنَعَهُمْ مِنَّا وَهِيَ لَا تَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَنْفُسِهَا، وَقَوْلَهُ: {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِذَلِكَ، وَفِي مَعْنَى يُصْحَبُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ الْآلِهَةَ، وَأَنَّهَا لَا تُصْحَبُ مِنَ اللَّهِ بِخَيْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} يَعْنِي الْآلِهَةَ {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} يَقُولُ: لَا يُصْحَبُونَ مِنَ اللَّهِ بِخَيْرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَا هُمْ مِنَّا يُنْصَرُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا أَبُو ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قَالَ: لَا يُنْصَرُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} إِلَى قَوْلِهِ: (يُصْحَبُونَ) قَالَ: يُنْصَرُونَ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَا هُمْ يُحْفِظُونَ. حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} يُجَارُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} يَقُولُ: وَلَا هُمْ مِنَّا يُجَارُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} يَعْنِي الصَّاحِبَ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ يَكُونُ لَهُ خَفِيرٌ مِمَّا يَخَافُ، فَهُوَ قَوْلُهُ يُصْحَبُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّ (هُمْ) مِنْ قَوْلِهِ (وَلَا هُمْ) مِنْ ذِكْرِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ (يُصْحَبُونَ) بِمَعْنَى: يُجَارُونَ يُصْحَبُونَ بِالْجِوَارِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ مَحْكِيٌّ عَنْهَا أَنَا لَكَ جَارٌ مِنْ فُلَانٍ وَصَاحِبٍ، بِمَعْنَى: أُجِيرُكَ وَأَمْنَعُكَ، وَهُمْ إِذَا لَمْ يُصْحَبُوا بِالْجِوَارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَانِعٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَعَ سَخَطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُصْحَبُوا بِخَيْرٍ وَلَمْ يُنْصُرُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ آلِهَةٍ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا، وَلَا جَارٍ يُجِيرُهُمْ مِنْ عَذَابِنَا، إِذَا نَحْنُ أَرَدْنَا عَذَابَهُمْ، فَاتَّكَلُوا عَلَى ذَلِكَ، وَعَصَوْا رُسُلَنَا اتِّكَالًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّا مَتَّعْنَاهُمْ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَآبَاءَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ مُقِيمُونَ، لَا تَأْتِيهِمْ مِنَّا وَاعِظَةٌ مِنْ عَذَابٍ، وَلَا زَاجِرَةٌ مِنْ عِقَابٍ عَلَى كُفْرِهِمْ وَخِلَافِهِمْ أَمْرَنَا، وَعِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، فَنَسُوا عَهْدَنَا وَجَهِلُوا مَوْقِعَ نِعْمَتِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مَوْضِعَ الشُّكْرِ، وَقَوْلُهُ {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَلَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ السَّائِلُو مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَاتِ الْمُسْتَعْجِلُو بِالْعَذَابِ، أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نُخَرِّبُهَا مِنْ نَوَاحِيهَا بِقَهْرِنَا أَهْلَهَا، وَغَلَبَتِنَاهُمْ، وَإِجْلَائِهِمْ عَنْهَا، وَقَتْلِهِمْ بِالسُّيُوفِ، فَيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ وَيَتَّعِظُوا بِهِ، وَيَحْذَرُوا مِنَّا أَنْ نُنْـزِلَ مِنْ بَأْسِنَا بِهِمْ نَحْوَ الَّذِي قَدْ أَنْـزَلْنَا بِمَنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَطْرَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقَائِلِينَ بِقَوْلِنَا هَذَا وَمُخَالِفِيهِ بِالرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَفَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْتَعْجِلُو مُحَمَّدًا بِالْعَذَابِ الْغَالِبُونَا، وَقَدْ رَأَوْا قَهْرَنَا مَنْ أَحْلَلْنَا بِسَاحَتِهِ بَأْسَنَا فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِينَ، لَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بَلْ نَحْنُ الْغَالِبُونَ، وَإِنَّمَا هَذَا تَقْرِيعٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ بِجَهْلِهِمْ، يَقُولُ: أَفَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ مُحَمَّدًا وَيَقْهَرُونَهُ، وَقَدْ قَهَرَ مَنْ نَاوَأَهُ مِنْ أَهْلِ أَطْرَافِ الْأَرْضِ غَيْرِهِمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} يَقُولُ: لَيْسُوا بِغَالِبِينَ، وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْغَالِبُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدٌ لِهَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أَرْسَلَ الْأَوَّلُونَ: إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ بِتَنْـزِيلِ اللَّهِ الَّذِي يُوحِيهِ إِلَى مَنْ عِنْدِهِ، وَأُخَوِّفُكُمْ بِهِ بِأُسِّهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: (وَلَا يَسْمَعُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ (يَسْمَعُ) بِمَعْنَى أَنَّهُ فِعْلٌ لِلصُّمِّ، وَالصُّمُّ حِينَئِذٍ مَرْفُوعُونَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ (وَلَا تُسْمَعُ) بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا، فَالصُّمُّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَرْفُوعَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ (لَا تُسْمِعُ) لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَلَا يَسْمَعُ اللَّهُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: وَلَا يُصْغِي الْكَافِرُ بِاللَّهِ بِسَمْعِ قَلْبِهِ إِلَى تَذَكُّرِ مَا فِي وَحْيِ اللَّهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالذِّكْرِ، فَيَتَذَكَّرُ بِهِ وَيَعْتَبِرُ، فَيَنْـزَجِرُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مُقِيمٌ مِنْ ضَلَالِهِ إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ يُعْرِضُ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ، فِعْلُ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ فَيَعْمَلُ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} يَقُولُ: إِنَّ الْكَافِرَ قَدْ صُمَّ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَسْمَعُهُ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَعْقِلُهُ، كَمَا يَسْمَعُهُ الْمُؤْمِنُ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَئِنْ مَسَّتْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَعْجِلِينَ بِالْعَذَابِ يَا مُحَمَّدُ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ، يَعْنِي بِالنَّفْحَةِ النَّصِيبَ وَالْحَظَّ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَفَحَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ عَطَائِهِ: إِذَا أَعْطَاهُ قِسْمًا أَوْ نَصِيبًا مِنَ الْمَالِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ}... الْآيَةَ، يَقُولُ: لَئِنْ أَصَابَتْهُمْ عُقُوبَةٌ. وَقَوْلُهُ {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} يَقُولُ: لَئِنْ أَصَابَتْهُمْ هَذِهِ النَّفْحَةُ مِنْ عُقُوبَةِ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ بِتَكْذِيبِهِمْ بِكَ وَكُفْرِهِمْ، لَيَعْلَمُنَّ حِينَئِذٍ غِبَّ تَكْذِيبِهِمْ بِكَ، وَلَيَعْتَرِفْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَكُفْرَانِهِمْ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ، وَلَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كَانَ ظَالِمِينَ فِي عِبَادَتِنَا الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ، وَتَرْكِنَا عِبَادَةَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَنَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا، وَوَضْعِنَا الْعِبَادَةَ غَيْرَ مَوْضِعِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} الْعَدْلُ وَهُوَ (الْقِسْطُ) وَجَعَلَ الْقِسْطَ وَهُوَ مُوَحَّدٌ مِنْ نَعْتِ الْمَوَازِينِ، وَهُوَ جَمْعٌ لِأَنَّهُ فِي مَذْهَبِ عَدْلٍ وَرِضًا وَنَظَرٍ. وَقَوْلُهُ {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} يَقُولُ: لِأَهْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ وَرَدَ عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُوَجِّهُ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى "فِي" كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} يَقُولُ: فَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ نَفْسًا مِمَّنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ شَيْئًا بِأَنْ يُعَاقِبَهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَعْمَلْهُ أَوْ يَبْخَسْهُ ثَوَابَ عَمَلٍ عَمِلَهِ، وَطَاعَةٍ أَطَاعَهُ بِهَا، وَلَكِنْ يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَلَا يُعَاقِبُ مُسِيئًا إِلَّا بِإِسَاءَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} يَعْنِي بِالْوَزْنِ: الْقِسْطُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ فِي الْأَعْمَالِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَمَنْ أَحَاطَتْ حَسَنَاتُهُ بِسَيِّئَاتِهِ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، يَقُولُ: أَذْهَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ، وَمَنْ أَحَاطَتْ سَيِّئَاتُهُ بِحَسَنَاتِهِ فَقَدْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ وَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، يَقُولُ: أَذْهَبَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قَالَ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ، كَمَا يَجُوزُ الْوَزْنُ كَذَلِكَ يَجُوزُ الْحَقُّ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: قَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} قَالَ: الْعَدْلُ. وَقَوْلُهُ {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} يَقُولُ: وَإِنْ كَانَ الَّذِي مَنْ عَمِلَ الْحَسَنَاتِ، أَوْ عَلَيْهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَزْنَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا: يَقُولُ: جِئْنَا بِهَا فَأَحْضَرْنَاهَا إِيَّاهُ. كَمَا حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} قَالَ: كَتَبْنَاهَا وَأَحْصَيْنَاهَا لَهُ وَعَلَيْهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} قَالَ: يُؤْتَى بِهَا لَكَ وَعَلَيْكَ، ثُمَّ يَعْفُو إِنْ شَاءَ أَوْ يَأْخُذُ، وَيَجْزِي بِمَا عَمِلَ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ، وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} قَالَ: جَازَيْنَا بِهَا. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} قَالَ: جَازَيْنَا بِهَا، وَقَالَ أَتَيْنَا بِهَا، فَأُخْرِجَ قَوْلُهُ بِهَا مَخْرَجَ كِنَايَةِ الْمُؤَنَّثِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذَلِكَ قَوْلُهُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ، لِأَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ بِهَا الْحَبَّةَ دُونَ الْمِثْقَالِ، وَلَوْ عَنَى بِهِ الْمِثْقَالَ لَقِيلَ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ مُجَاهِدًا إِنَّمَا تَأَوَّلَ قَوْلَهُ (أَتَيْنَا بِهَا) عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ (آتَيْنَا بِهَا) بِمَدِّ الْأَلِفِ. وَقَوْلُهُ: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} يَقُولُ: وَحَسَبُ مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ بِنَا حَاسِبَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَعْلَمُ بِأَعْمَالِهِمْ وَمَا سَلَفَ فِي الدُّنَا مِنْ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ مِنَّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَأَخَاهُ هَارُونَ الْفُرْقَانَ، يَعْنِي بِهِ الْكِتَابَ الَّذِي يَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّوْرَاةُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: (الْفُرْقَانَ) قَالَ: الْكِتَابَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} الْفُرْقَانُ: التَّوْرَاةُ حَلَالُهَا وَحَرَامُهَا، وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} قَالَ: الْفُرْقَانُ: الْحَقُّ آتَاهُ اللَّهُ مُوسَى وَهَارُونَ، فَرَّقَ بَيْنِهِمَا وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ قَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقَرَأَ {وَمَا أَنْـزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، وَذَلِكَ لِدُخُولِ الْوَاوِ فِي الضِّيَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْفُرْقَانُ هُوَ التَّوْرَاةُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، لَكَانَ التَّنْـزِيلُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ضِيَاءً، لِأَنَّ الضِّيَاءَ الَّذِي آتَى اللَّهُ مُوسَى وَهَارُونَ هُوَ التَّوْرَاةُ الَّتِي أَضَاءَتْ لَهُمَا وَلِمَنِ اتَّبَعَهُمَا أَمْرَ دِينِهِمْ فَبَصَّرَهُمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضِيَاءَ الْإِبْصَارِ، وَفِي دُخُولِ الْوَاوِ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَانَ غَيْرُ التَّوْرَاةِ الَّتِي هِيَ ضِيَاءٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ مِنْ نَعْتِ الْفُرْقَانِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ وَاوُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَضِيَاءٌ آتَيْنَاهُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا}؟ قِيلَ لَهُ: إِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَحْتَمِلُهُ، فَإِنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ مَعَانِيهِ مَا قُلْنَا، وَالْوَاجِبُ أَنْ يُوَجَّهَ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَغْلَبِ الْأَشْهَرِ مِنْ وُجُوهِهَا الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ مِنْ حُجَّةِ خَبَرٍ أَوْ عَقْلٍ. وَقَوْلُهُ {وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} يَقُولُ: وَتَذْكِيرًا لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا آتَى مُوسَى وَهَارُونُ مِنَ التَّوْرَاةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ، الذِّكْرَ الَّذِي آتَيْنَاهُمَا لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، يَعْنِي فِي الدُّنْيَا أَنْ يُعَاقِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْهِ بِتَضْيِيعِهِمْ مَا أَلْزَمُهُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ فَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ، يُحَافِظُونَ عَلَى حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ، وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْقِيَامَةُ مُشْفِقُونَ، حَذِرُونِ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمْ، فَيَرِدُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَدْ فَرَّطُوا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ، فَيُعَاقِبُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْـزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْـزَلْنَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرٌ لِمَنْ تَذَّكَّرَ بِهِ، وَمَوْعِظَةٌ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِ {مُبَارَكٌ أَنْـزَلْنَاهُ} كَمَا أَنْـزَلْنَا التَّوْرَاةَ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ ذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ لِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلْنَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ مُنْكِرُونَ وَتَقُولُونَ هُوَ {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} وَإِنَّمَا الَّذِي آتَيْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرٌ لِلْمُتَّقِينَ، كَالَّذِي آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ ذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ}... إِلَى قَوْلِهِ {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أَيْ: هَذَا الْقُرْآنَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلِ} مُوسَى وَهَارُونَ، وَوَفَّقْنَاهُ لِلْحَقِّ، وَأَنْقَذْنَاهُ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، كَمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَأَنْقَذْنَاهُ مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهَدَيْنَاهُ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ تَوْفِيقًا مِنَّا لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى "ح" وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} قَالَ: هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} قَالَ: هَدَاهُ صَغِيرًا. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} قَالَ: هَدَّاهُ صَغِيرًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ: آتَيْنَا هُدَاهُ. وَقَوْلُهُ {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} يَقُولُ: وَكُنَّا عَالِمِينَ بِهِ أَنَّهُ ذُو يَقِينٍ وَإِيمَانٍ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدِ لَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} يَعْنِي فِي وَقْتِ قِيلِهِ وَحِينَ قِيلِهِ لَهُمْ {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} يَقُولُ: قَالَ لَهُمْ: أَيُّ شَيْءٍ هَذِهِ الصُّوَرُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ، وَكَانَتْ تِلْكَ التَّمَاثِيلُ أَصْنَامَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} قَالَ: الْأَصْنَامُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كُتَّابِنَا هَذَا أَنَّ الْعَاكِفَ عَلَى الشَّيْءِ الْمُقِيمِ عَلَيْهِ بِشَوَاهِدَ ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُهُ لِإِبْرَاهِيمَ: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لِهَذِهِ الْأَوْثَانِ عَابِدِينَ، فَنَحْنُ عَلَى مِلَّةِ آبَائِنَا نَعْبُدُهَا كَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، (قَالَ) إِبْرَاهِيمُ (لَقَدْ كُنْتُمْ) أَيُّهَا الْقَوْمُ {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} بِعِبَادَتِكُمْ إِيَّاهَا {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يَقُولُ: فِي ذَهَابٍ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، وَجَوْرٍ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ مُبِينٌ: يَقُولُ: بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ بِعَقْلٍ، إِنَّكُمْ كَذَلِكَ فِي جَوْرٍ عَنِ الْحَقِّ {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ}؟ يَقُولُ: قَالَ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ لَهُ: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَقُولُ (أَمْ أَنْتَ) هَازِلٌ لَاعِبٌ {مِنَ اللَّاعِبِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَهُمْ: بَلْ جِئْتُكُمْ بِالْحَقِّ لَا اللَّعِبِ، رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ أَنَّ رَبَّكُمْ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ، دُونَ التَّمَاثِيلِ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، وَدُونَ كُلِّ أَحَدٍ سِوَاهُ شَاهِدٌ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، يَقُولُ: فَإِيَّاهُ فَاعْبُدُوا لَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي هِيَ خَلْقُهُ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}. ذَكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَلَفَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ فِي سِرٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَخَفَاءً، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا الَّذِي أَفْشَاهُ عَلَيْهِ حِينَ قَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لِمَنِ الظَّالِمِينَ، فَقَالُوا: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} قَالَ: قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ اسْتَتْبَعَهُ قَوْمُهُ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ فَأَبَى وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَسَمِعَ مِنْهُ وَعَيَدَ أَصْنَامِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمُ اسْتَأْخَرَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} قَالَ: نَرَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَسْمَعُوهُ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَقَوْلُهُ {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى يَحْيَى بْنَ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشَ وَالْكِسَائِيَّ {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} بِمَعْنَى جَمْعِ جَذِيذٍ، كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ جَمْعَ جَذِيذٍ وَجَذَاذٍ، كَمَا يُجْمَعُ الْخَفِيفُ خِفَافٌ، وَالْكَرِيمُ كِرَامٌ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ (جُذَاذًا) بِضَمِّ الْجِيمِ، لِإِجْمَاعِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ فَهُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ مَصْدَرٌ مِثْلَ الرُّفَاتِ، وَالْفُتَاتِ، وَالدُّقَاقِ لَا وَاحِدَ لَهُ، وَأَمَّا مِنْ كَسْرِ الْجِيمِ فَإِنَّهُ جَمْعٌ لِلْجَذِيذِ، وَالْجَذِيذُ: هُوَ فَعِيلٌ صُرِفَ مِنْ مَجْذُوذٍ إِلَيْهِ، مِثْلَ كَسِيرٌ وَهَشِيمٌ، وَالْمَجْذُوذَةُ: الْمَكْسُورَةُ قِطَعًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} يَقُولُ: حُطَامًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (جُذَاذًا) كَالصَّرِيمِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا}: أَيْ قِطْعًا. وَكَانَ سَبَبُ فِعْلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِآلِهَةِ قَوْمِهِ ذَلِكَ، كَمَا حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطُ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنْ لَنَا عِيدًا لَوْ قَدْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَيْهِ قَدْ أَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، خَرَجَ مَعَهُمْ إِبْرَاهِيمُ فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، يَقُولُ: أَشْتَكِي رِجْلِي فَتَوَاطَئُوا رَجْلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ؛ فَلَمَّا مَضَوْا نَادَى فِي آخِرِهِمْ، وَقَدْ بَقِيَ ضَعْفَى النَّاسِ {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} فَسَمِعُوهَا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى بَيْتِ الْآلِهَةِ، فَإِذَا هُنَّ فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ، مُسْتَقْبَلٍ بَابَ الْبَهْوِ صَنَمٌ عَظِيمٌ إِلَى جَنْبِهِ أَصْغَرُ مِنْهُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، كُلُّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ مِنْهُ، حَتَّى بَلَغُوا بَابَ الْبَهْوِ، وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا طَعَامًا، فَوَضَعُوهُ بَيْنَ أَيْدِي الْآلِهَةِ، قَالُوا: إِذَا كَانَ حِينَ نَرْجِعُ رَجَعْنَا، وَقَدْ بَارَكَتِ الْآلِهَةُ فِي طَعَامِنَا فَأَكَلْنَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ، وَإِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} فَلَمَّا لَمْ تَجُبْهُ، قَالَ {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} فَأَخَذَ فَأْسَ حَدِيدٍ، فَنَقَرَّ كُلَّ صَنَمٍ فِي حَافَّتَيْهِ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِ الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا جَاءَ الْقَوْمُ إِلَى طَعَامِهِمْ نَظَرُوا إِلَى آلِهَتِهِمْ {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}. وَقَوْلُهُ {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} يَقُولُ: إِلَّا عَظِيمًا لِلْآلِهَةِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْسِرْهُ، وَلَكِنَّهُ فِيمَا ذُكِرَ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَّا عَظِيمًا لَهُمْ عَظِيمَ آلِهَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ الْفَأْسَ الَّتِي أَهْلَكَ بِهَا أَصْنَامَهُمْ مُسْنَدَةً إِلَى صَدْرِ كَبِيرِهِمُ الَّذِي تَرَكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ الْفَأْسَ الَّتِي أَهْلَكَ بِهَا أَصْنَامَهُمْ مُسْنَدَةً إِلَى صَدْرِ كَبِيرِهِمُ الَّذِي تَرَكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} ثُمَّ جَعَلَ يَكْسِرْهِنَّ بِفَأْسٍ فِي يَدِهِ، حَتَّى إِذَا بَقِيَ أَعْظَمُ صَنَمٍ مِنْهَا رَبَطَ الْفَأْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُنَّ، فَلَمَّا رَجَعَ قَوْمُهُ، رَأَوْا مَا صَنَعَ بِأَصْنَامِهِمْ، فَرَاعَهُمْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُوهُ وَقَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لِمَنِ الظَّالِمِينَ، وَقَوْلُهُ {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} يَقُولُ: فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بِآلِهَتِهِمْ لِيَعْتَبِرُوا وَيَعْلَمُوا أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَدْفَعْ عَنْ نَفْسِهَا مَا فَعَلَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ، فَهِيَ مِنْ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ غَيْرِهَا مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ أَبْعَدُ، فَيَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ عِبَادَتِهَا إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ وَتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَوْثَانِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} قَالَ: كَادَهُمْ بِذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَوْ يُبْصِرُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رَأَوْا آلِهَتَهُمْ قَدْ جُذَّتْ، إِلَّا الَّذِي رُبِطَ بِهِ الْفَأْسَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا؟ إِنَّ الَّذِي فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا لَمِنَ الظَّالِمِينَ! أَيْ لَمِنَ الْفَاعِلِينَ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} يَقُولُ: قَالَ الَّذِينَ سَمِعُوهُ يَقُولُ {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ بِعَيْبٍ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَذْكُرُهُمْ يَعِيبُهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَوْلَهُ {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} سَمِعْنَاهُ يَسُبُّهَا وَيَعِيبُهَا وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا، لَمْ نَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَظُنُّ صَنَعَ هَذَا بِهَا. وَقَوْلُهُ {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: فَأَتَوْا بِالَّذِي فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ يَذْكُرُهَا بِعَيْبٍ وَيَسُبُّهَا وَيَذُمُّهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ؛ فَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: بِأَعْيُنِ النَّاسِ وَمَرْأًى مِنْهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أُرِيدُ بِذَلِكَ أَظْهِرُوا الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا ظَهَرَ الْأَمْرُ وَشَهَرَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ، يُرَادُ بِهِ كَانَ بِأَيْدِي النَّاسِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: لَعَلَّ النَّاسَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ، أَنَّهُ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، فَتَكُونُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِ، وَقَالُوا إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عَلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} قَالَ: كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرٍ بَيِّنَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَا يُعَاقِبُونَهُ بِهِ، فَيُعَايِنُونَهُ وَيَرَوْنَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: بَلَغَ مَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ بِآلِهَةِ قَوْمِهِ نَمْرُودَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ، فَقَالُوا: {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}: أَيْ مَا يُصْنَعُ بِهِ، وَأَظْهَرَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: فَأَتَوْا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عُقُوبَتَنَا إِيَّاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِذَلِكَ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ كَانَ يُقَالُ: انْظُرُوا مَنْ شَهِدَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقَلْ: أَحْضِرُوهُ بِمَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَتَوْا بِإِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ قَالُوا لَهُ: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا مِنَ الْكَسْرِ بِهَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟ فَأَجَابَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَعَظِيمُهُمْ، فَاسْأَلُوا الْآلِهَةَ مَنْ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ وَكَسَرَهَا إِنْ كَانَتْ تَنْطِقُ، أَوْ تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ بِهِ وَاجْتَمَعَ لَهُ قَوْمُهُ عِنْدَ مَلِكِهِمْ نَمْرُودَ {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} غَضِبَ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، فَكَسَرَهُنَّ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}... الْآيَةَ، وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ الَّتِي كَادَهُمْ بِهَا. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا يُصَدَّقُ بِالْآثَارِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنَ الْأَخْبَارِ إِلَّا مَا اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ مِنَ الْعَوَامِّ، أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} إِنَّمَا هُوَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَاسْأَلُوهُمْ، أَيْ إِنْ كَانَتِ الْآلِهَةُ الْمَكْسُورَةُ تَنْطِقُ، فَإِنَّ كَبِيرَهُمْ هُوَ الَّذِي كَسَرَهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ خِلَافُ مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ إِلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كُلُّهَا فِي اللَّهِ، قَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وَقَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ: هِيَ أُخْتِي، وَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَذِنَ لِخَلِيلِهِ فِي ذَلِكَ، لِيَقْرَعَ قَوْمَهُ بِهِ، وَيَحْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُعَرِّفَهُمْ مَوْضِعَ خَطَئِهِمْ، وَسُوءَ نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ مُؤَذِّنُ يُوسُفَ لِإِخْوَتِهِ {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} وَلَمْ يَكُونُوا سَرَقُوا شَيْئًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَذَكَرُوا حِينَ قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} فِي أَنْفُسِهِمْ وَرَجَعُوا إِلَى عُقُولِهِمْ، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْقَوْمِ الظَّالِمُونَ هَذَا الرَّجُلُ فِي مَسْأَلَتِكُمْ إِيَّاهُ وَقِيلِكُمْ لَهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، وَهَذِهِ آلِهَتُكُمُ الَّتِي فَعَلَ بِهَا مَا فَعَلَ حَاضِرَتُكُمْ فَاسْأَلُوهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} قَالَ: أَرْعَوَوْا وَرَجَعُوا عَنْهُ يَعْنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِيمَا ادَّعَوْا عَلَيْهِ مِنْ كَسْرِهِنَّ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ ظَلَمْنَاهُ وَمَا نَرَاهُ إِلَّا كَمَا قَالَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} قَالَ: نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ثُمَّ غُلِبُوا فِي الْحُجَّةِ، فَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامُ يَنْطِقُونَ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ثُمَّ قَالُوا: يَعْنِي قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ، وَعَرَفُوا أَنَّهَا، يَعْنِي آلِهَتَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَبْطِشُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}: أَيْ لَا تَتَكَلَّمُ فَتُخْبِرُنَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِهَا، وَمَا تَبْطِشُ بِالْأَيْدِي فَنُصَدِّقُكَ، يَقُولُ اللَّهُ {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ حِينَ جَادَلَهُمْ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ اللَّهُ {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أَدْرَكَتِ النَّاسَ حَيْرَةُ سَوْءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} قَالَ: نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمَتْ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ رَجَعُوا عَمَّا عَرَفُوا مِنْ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّ نَكَسَ الشَّيْءَ عَلَى رَأْسِهِ: قَلَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَتَصْيِيرِ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُقْلَبُوا عَلَى رُءُوسِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا نُكِّسَتْ حُجَّتُهُمْ، فَأُقِيمُ الْخَبَرُ عَنْهُمْ مَقَامَ الْخَبَرِ عَنْ حُجَّتِهِمْ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَنَكْسُ الْحُجَّةِ لَا شَكَّ إِنَّمَا هُوَ احْتِجَاجُ الْمُحْتَجِّ عَلَى خَصْمِهِ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِخَصْمِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ السُّدِّيِّ: ثُمَّ نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَرَجُوا مِنَ الْفِتْنَةِ قَبْلَ ذَلِكَ فَنُكِسُوا فِيهَا.وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةَ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، فَقَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الْفُهُومِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا رَجَعُوا عَمَّا عَرَفُوا مِنْ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ، مَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لَهُ، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: لَا تَسْأَلُهُمْ، وَلَكِنْ نَسْأَلُكَ فَأَخْبِرْنَا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا، وَقَدْ سَمِعْنَا أَنَّكَ فَعَلْتَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ صَدَّقُوا الْقَوْلَ {فَقَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} وَلَيْسَ ذَلِكَ رُجُوعًا عَمَّا كَانُوا عَرَفُوا، بَلْ هُوَ إِقْرَارٌ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: أَفَتَعْبُدُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، وَأَنْتُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِمَّنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ، وَلَا هِيَ تَقْدِرُ أَنْ تَنْطِقَ إِنْ سُئِلَتْ عَمَّنْ يَأْتِيهَا بِسُوءٍ فَتُخْبِرُ بِهِ، أَفَلَا تَسْتَحْيُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَا كَانَ هَكَذَا. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ}... الْآيَةَ، يَقُولُ يَرْحَمُهُ اللَّهُ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الضُّرَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ فَيُخْبِرُونَكُمْ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَكَيْفَ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. وَقَوْلُهُ (أُفٍّ لَكُمْ) يَقُولُ: قُبْحًا لَكُمْ وَلِلْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ قُبْحَ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ عِبَادَتِكُمْ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ، وَتَعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعَ وَالضُّرَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ بَعْضُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لِبَعْضٍ: حَرِّقُوا إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِيهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا تَرْكَ عِبَادَتِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَكْرَادِ فَارِسَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} قَالَ: قَالَهَا رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ، يَعْنِي الْأَكْرَادَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَئِيِّ قَالَ: إِنِ الَّذِي قَالَ حَرِّقُوهُ "هَيْزَن" فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَجْمَعَ نَمْرُودُ وَقَوْمُهُ فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالُوا {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أَيْ لَا تَنْصُرُوهَا مِنْهُ إِلَّا بِالتَّحْرِيقِ بِالنَّارِ إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِيهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَلَوْتُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا مُجَاهِدُ مَنِ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ؟ قَالَ: قُلْتُ لَا قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ. قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَوَهَلْ لِلْفَرَسِ أَعْرَابٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. الْكُرْدُ هُمْ أَعْرَابُ فَارِسَ، فَرَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ. وَقَوْلُهُ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اجْتُزِئَ بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ: فَأَوْقَدُوا لَهُ نَارًا لِيَحْرِقُوهُ ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِيهَا، فَقُلْنَا لِلنَّارِ: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَذُكِرَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إِحْرَاقَهُ بَنَوْا لَهُ بُنْيَانًا، كَمَا حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} قَالَ: فَحَبَسُوهُ فِي بَيْتٍ، وَجَمَعُوا لَهُ حَطَبًا، حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَمْرَضُ فَتَقُولُ: لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَأَجْمَعَنَّ حَطَبًا لِإِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا جَمَعُوا لَهُ، وَأَكْثَرُوا مِنَ الْحَطَبِ حَتَّى إِنَّ الطَّيْرَ لَتَمُرُّ بِهَا فَتَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَرَفَعُوهُ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ، فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا، إِبْرَاهِيمُ يُحْرَقُ فِيكَ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنْ دَعَاكُمْ فَأَغِيثُوهُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَذَفُوهُ فِي النَّارِ، فَنَادَاهَا فَقَالَ {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي نَادَاهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُتْبَعْ بِرَدِهَا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا، فَلَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طُفِئَتْ، ظَنَّتْ أَنَّهَا هِيَ تُعْنَى، فَلَمَّا طُفِئَتِ النَّارُ نَظَرُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ آخَرُ مَعَهُ، وَإِذَا رَأَسُ إِبْرَاهِيمَ فِي حِجْرِهِ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ الْعَرَقَ، وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هُوَ مَلِكُ الظِّلِّ، وَأَنْـزَلَ اللَّهُ نَارًا فَانْتَفَعَ بِهَا بَنُو آدَمَ، وَأَخْرَجُوا إِبْرَاهِيمَ، فَأَدْخَلُوهُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمِقْدَامِ أَبُو الْأَشْعَثِ قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: ثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمِ إِلَّا وِثَاقَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: ذُكِرَ لَنَ أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ: مَا انْتَفَعَ بِهَا يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا وِثَاقَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ شَيْخٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: بَرُدَتْ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَتْ تَقْتُلُهُ، حَتَّى قِيلَ: وَسَلَامًا، قَالَ: لَا تَضُرِّيهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فِي النَّارِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ، قَالَ الْمَلَكُ خَازِنُ الْمَطَرِ: رَبِّ خَلِيلَكَ إِبْرَاهِيمَ، رَجَا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيُرْسِلُ الْمَطَرَ، قَالَ: فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فِلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغَيَّرَةَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي زَرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ قَالَهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقَ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَجَدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نَعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَسِي قَالَ: أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَذَبَحَ إِسْحَاقَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَوَلَدَتْهُسَارَّةُوَهِيَ ابْنَةُ تِسْعِينَ سَنَةٍ، وَكَانَ مَذْبَحُهُ مِنْ بَيْتِ إِيلِيَاءَ عَلَى مِيلَيْنِ، وَلِمَا عَلِمَتْ سَارَّةُ بِمَا أَرَادَ بِإِسْحَاقَ بُطِنَتْ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَتِ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ شَيْئًا غَيْرَ وِثَاقِهِ الَّذِي أَوْثَقُوهُ بِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُوَ يُوثَقُ أَوْ يُقْمَطُ لِيُلْقَى فِي النَّارِ، قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. قَالَ: ثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: ثَنَا ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أُرَقَّمُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حِينَ جَعَلُوا يُوَثِّقُونَهُ لِيُلْقُوهُ فِي النَّارِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، لَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَكَ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: السَّلَامُ لَا يُؤْذِيهِ بَرْدُهَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ قَالَ: وَسَلَامًا لَكَانَ الْبَرْدُ أَشُدَّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَرِّ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ (بَرْدًا) قَالَ: بَرُدَتْ عَلَيْهِ (وَسَلَامًا) لَا تُؤْذِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: مَا انْتَفَعَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذَ بِنَارٍ، وَلَا أَحْرَقَتِ النَّارُ يَوْمَئِذٍ شَيْئًا إِلَّا وِثَاقَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ تَأْتِ يَوْمَئِذٍ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ، إِلَّا الْوَزْغُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ، وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا. وَقَوْلُهُ {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَرَادُوا بِإِبْرَاهِيمَ كَيْدًا {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} يَعْنِي الْهَالِكِينَ. وَقَدْ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} قَالَ: أَلْقَوْا شَيْخًا مِنْهُمْ فِي النَّارِ لِأَنْ يُصِيبُوا نَجَاتَهُ، كَمَا نُجِّيَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَرَقَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَجَّيْنَا إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا مِنْ أَعْدَائِهِمَا نَمْرُودَ وَقَوْمِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} وَهِيَ أَرْضُ الشَّأْمِ، فَارَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَوْمَهُ وَدِينَهُمْ وَهَاجَرَ إِلَى الشَّأْمِ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِي قَصَّ اللَّهُ مِنْ نَبَأِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ تَذْكِيرٌ مِنْهُ بِهَا قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَدْ سَلَكُوا فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، وَأَذَاهُمْ مُحَمَّدًا عَلَى نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَتِهَا، وَدُعَائِهِمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مَسْلَكَ أَعْدَاءِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَمُخَالَفَتِهِمْ دِينَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا فِي بَرَاءَتِهِ مِنْ عِبَادَتِهَا وَإِخْلَاصِهِ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، وَفِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ سَالِكٌ مِنْهَاجَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ مُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ كَمَا أَخْرَجَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ قَوْمِهِ حِينَ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ إِلَى مُهَاجِرِهِ مِنْ أَرْضِ الشَّأْمِ، مُسَلٍّ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالْأَذَى، وَمُعَلِّمُهُ أَنَّهُ مُنْجِيهِ مِنْهُمْ كَمَا نَجَّى أَبَاهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ كَفَرَةِ قَوْمِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ نَجَّى إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا إِلَيْهَا، وَوَصَفَهُ أَنَّهُ بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ أَبُو عَمَّارٍ قَالَ: ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: الشَّأْمُ، وَمَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ تِلْكَ الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قَالَ: الشَّامُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} كَانَا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، فَأُنْجِيَا إِلَى أَرْضِ الشَّأْمِ، وَكَانَ يُقَالُ لِلشَّأْمِ عِمَادُ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ الْأَرْضِ زِيدَ فِي الشَّأْمِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ الشَّأْمِ زِيدَ فِي فِلَسْطِينَ، وَكَانَ يُقَالُ: هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَبِهَا مَجْمَعُ النَّاسِ، وَبِهَا يَنْـزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَبِهَا يُهْلِكُ اللَّهُ شَيْخَ الضَّلَالَةِ الْكَذَّابَ الدَّجَّالَ. وَحَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ فَوَضَعَتْهُ بِالشَّأْمِ، فَأَوَّلْتُهُ أَنَّ الْفِتَنَ إِذَا وَقَعَتْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالشَّأْم». وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَةٍ: " إِنَّهُ كَائِنٌ بِالشَّأْمِ جُنْدٌ، وَبِالْعِرَاقِ جُنْدٌ، وَبِالْيَمَنِ جُنْدٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِرْ لِي، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالشَّأْمِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّأْمِ وَأَهْلِهِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِأَمْنِهِ وَلْيَسْقِ بِقَدَرِهِ". وَذُكِرَ لَنَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا كَعْبُ أَلَا تُحَوِّلُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّهَا مُهَاجَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَـزَّلِ أَنَّ الشَّامَ كَنْـزُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَبِهَا كَنْـزُهُ مِنْ عِبَادِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: هَاجَرَا جَمِيعًا مِنْ كُوثَى إِلَى الشَّامِ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: انْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطُ قِبَلَ الشَّأْمِ، فَلَقَى إِبْرَاهِيمُ سَارَّةَ، وَهِيَ بِنْتُ مَلِكِ حَرَّانَ، وَقَدْ طَعَنَتْ عَلَى قَوْمِهَا فِي دِينِهِمْ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ لُوطٌ مُهَاجِرًا، وَتَزَوَّجَسَارَّةَابْنَةَ عَمِّهِ، فَخَرَجَ بِهَا مَعَهُ يَلْتَمِسُ الْفِرَارَ بِدِينِهِ وَالْأَمَانَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، حَتَّى نَـزَلَ حَرَّانَ، فَمَكَثَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَنَـزَلَ السَّبْعَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَهِيَ بَرِّيَّةُ الشَّامِ، وَنَـزَلَ لُوطٌ بِالْمُؤْتَفِكَةِ، وَهِيَ مِنَ السَّبْعِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: نَجَّاهُ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: لَيْسَ مَاءٌ عَذْبٌ إِلَّا يَهْبِطُ إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: ثُمَّ يَتَفَرَّقُ فِي الْأَرْضِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: إِلَى الشَّأْمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَعْنِي مَكَّةَ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يَعْنِي مَكَّةَ وَنُـزُولَ إِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هِجْرَةَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعِرَاقِ كَانَتْ إِلَى الشَّامِ، وَبِهَا كَانَ مَقَامُهُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَانَ قَدِمَ مَكَّةَ وَبَنَى بِهَا الْبَيْتَ وَأَسْكَنَهَا إِسْمَاعِيلَ ابْنَهُ مَعَ أُمِّهِهَاجَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهَا، وَلَمْ يَتَّخِذْهَا وَطَنًا لِنَفْسِهِ، وَلَا لُوطٌ، وَاللَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطَ أَنَّهُمَا أَنْجَاهُمَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَهَبَنَا لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ وَلَدًا وَيَعْقُوبَ وَلَدَ وَلَدِهِ، نَافِلَةً لَكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ (نَافِلَةً) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ يَعْقُوبَ خَاصَّةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} يَقُولُ: وَوَهَبَنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَلَدًا، وَيَعْقُوبَ ابْنَ ابْنٍ نَافِلَةً. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَقَوْلَهُ {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} وَالنَّافِلَةُ: ابْنُ ابْنِهِ يَعْقُوبُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ: سَأَلَ وَاحِدًا فَقَالَ {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فَأَعْطَاهُ وَاحِدًا، وَزَادَهُ يَعْقُوبَ، وَيَعْقُوبُ وَلَدُ وَلَدِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا مَعْنَى النَّافِلَةِ: الْعَطِيَّةُ، وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ أَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ. عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ: عَطِيَّةً. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ: عَطَاءٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ النَّافِلَةَ الْفَضْلُ مِنَ الشَّيْءِ يَصِيرُ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ، وَكِلَا وَلَدَيْهِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كَانَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَهِبَةً مِنْهُ لَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى بِهِ أَنَّهُ آتَاهُمَا إِيَّاهُ جَمِيعًا نَافِلَةً مِنْهُ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَنَى أَنَّهُ آتَاهُ نَافِلَةً يَعْقُوبَ وَلَا بُرْهَانَ يَدُلُّ عَلَى أَيِّ ذَلِكَ الْمُرَادِ مِنَ الْكَلَامِ، فَلَا شَيْءَ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ مِمَّا قَالَ اللَّهُ وَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً. وَقَوْلُهُ {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} يَعْنِي عَامِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، مُجْتَنِبِينَ مَحَارِمَهُ، وَعَنَى بِقَوْلِهِ: (كُلًّا) إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَئِمَّةً يُؤْتَمُّ بِهِمْ فِي الْخَيْرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُتَّبَعُونَ عَلَيْهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يَقُولُ: يَهْدُونَ النَّاسَ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، وَقَوْلُهُ {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْحَيْنَا فِيمَا أَوْحَيْنَا أَنِ افْعَلُوا الْخَيِّرَاتِ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ بِأَمْرِنَا بِذَلِكَ {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} يَقُولُ: كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِنَا وَعِبَادَتِنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآتَيْنَا لُوطًا حُكْمًا، وَهُوَ فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَعِلْمًا: يَقُولُ: وَآتَيْنَاهُ أَيْضًا عِلْمًا بِأَمْرِ دِينِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلَّهِ مِنْ فَرَائِضِهِ. وَفِي نَصْبِ لُوطٍ وَجْهَانِ: أَنْ يُنْصَبَ لِتَعَلُّقِ الْوَاوِ بِالْفِعْلِ كَمَا قُلْنَا: وَآتَيْنَا لُوطًا، وَالْآخَرُ بِمُضْمَرٍ بِمَعْنَى: وَاذْكُرْ لُوطًا. وَقَوْلُهُ {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} يَقُولُ: وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ عَذَابِنَا الَّذِي أَحْلَلْنَاهُ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثُ، وَهِيَ قَرْيَةُ سَدُومٍ الَّتِي كَانَ لُوطٌ بُعِثَ إِلَى أَهْلِهَا، وَكَانَتِ الْخَبَائِثُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا إِتْيَانَ الذُّكْرَانِ فِي أَدْبَارِهِمْ، وَخَذْفَهُمُ النَّاسَ، وَتَضَارُطَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ، مَعَ أَشْيَاءَ أُخَرَ كَانُوا يَعْمَلُونَهَا مِنَ الْمُنْكَرِ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ حِينَ أَرَادَ إِهْلَاكَهُمْ إِلَى الشَّامِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ، يَعْنِي لُوطًا وَابْنَتَيْهِزِيثَا وَزَعْرِثَا إِلَى الشَّامِ حِينَ أَرَادَ إِهْلَاكَ قَوْمِهِ. وَقَوْلُهُ {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} مُخَالِفِينَ أَمْرَ اللَّهِ، خَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ وَمَا يَرْضَى مِنَ الْعَمَلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَدْخَلْنَا لُوطًا فِي رَحْمَتِنَا بِإِنْجَائِنَا إِيَّاهُ مَا أَحْلَلْنَا بِقَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ وَإِنْقَاذِنَاهُ مِنْهُ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ: يَقُولُ: إِنَّ لُوطًا مِنَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِنَا، وَيَنْتَهُونَ إِلَى أَمْرِنَا وَنَهْيِنَا وَلَا يَعْصُونَنَا، وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} مَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} قَالَ: فِي الْإِسْلَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ نُوحًا إِذْ نَادَى رَبَّهُ مَنْ قَبِلِكَ، وَمِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطَ، وَسَأَلَنَا أَنْ نُهْلِكَ قَوْمَهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا اللَّهَ فِيمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنْ وَعِيدِهِ، وَكَذَّبُوا نُوحًا فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ {قَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دِيَارًا} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} يَعْنِي بِأَهْلِهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ وَلَدِهِ وَحَلَائِلِهِمْ {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} يَعْنِي بِالْكَرْبِ الْعَظِيمِ الْعَذَابَ الَّذِي أَحَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْغَرَقِ، وَالْكَرْبُ: شِدَّةُ الْغَمِّ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ كَرَبَنِي هَذَا الْأَمْرُ فَهُوَ يَكْرُبُنِي كَرْبًا، وَقَوْلُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} يَقُولُ: وَنَصَرْنَا نُوحًا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِحُجَجِنَا وَأَدِلَّتِنَا، فَأَنْجَيْنَاهُ مِنْهُمْ، فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ قَوْمَ نُوحٍ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ، يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ، فَيَعْصُونَ اللَّهَ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ.
|