الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَوْ تُعَايِنُ، يَا مُحَمَّدُ، حِينَ يَتَوَفَّى الْمَلَائِكَةُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ، فَتَنْـزِعُهَا مِنْ أَجْسَادِهِمْ، تَضْرِبُ الْوُجُوهَ مِنْهُمْ وَالْأَسْتَاهَ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي تَحْرِقُكُمْ يَوْمَ وَرَوْدِكُمْ جَهَنَّمَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، قَالَ: وَأَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَكْنِي. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، قَالَ: وَأَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّهُ كَرِيمٌ يَكْنِي. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَنَّى، وَلَوْ شَاءَ لَقَالَ: "أَسْتَاهَهُمْ"، وَإِنَّمَا عَنَى بِ "أَدْبَارِهِمْ"، أَسْتَاهَهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَسْتَاهَهُمْ، يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، ضَرَبُوا وُجُوهَهُمْ بِالسُّيُوفِ، وَإِذَا وَلَّوْا، أَدْرَكَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَضَرَبُوا أَدْبَارَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مِثْلَ الشِّرَاكِ! قَالَ: مَا ذَاكَ؟ قَالَ: ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي حَمَلْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَذَهَبْتُ لِأَضْرِبَهُ، فَنَدَرَ رَأْسُهُ؟ فَقَالَ: سَبَقَكَ إِلَيْهِ الْمَلَكُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ: أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، فَإِنَّمَا يُرِيدُ: أَسْتَاهَهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، اُسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَيَقُولُونَ"، {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}، حُذِفَتْ "يَقُولُونَ"، كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [سُورَة السَّجْدَةِ: 21]، بِمَعْنَى: يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ الْمَلَائِكَةِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُمْ وَهُمْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ: "ذُوقُوا عَذَابَ اللَّهِ الَّذِي يَحْرُقُكُمْ"، هَذَا الْعَذَابُ لَكُمْ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، أَيْ: بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ، وَاجْتَرَحْتُمْ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ، فَذُوقُوا الْيَوْمَ الْعَذَابَ، وَفِي مَعَادِكُمْ عَذَابَ الْحَرِيقِ؛ وَذَلِكَ لَكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا بِجُرْمٍ اجْتَرَمَهُ، وَلَا يُعَذِّبُهُ إِلَّا بِمَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ. وَفِي فَتْحِ "أَنَّ" مِنْ قَوْلِهِ: (وَأَنَّ اللَّهَ)، وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ، وَهُوَ لِلْعَطْفِ عَلَى "مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (بِمَا قَدَّمَتْ)، بِمَعْنَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، وَبِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَالْخَفْضِ، فِي قَوْلِ بَعْضٍ. وَالْآخَرُ: الرَّفْعُ، عَلَى (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ)، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدٌ الْعِقَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فِعْلُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ منْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ، كَعَادَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَصَنِيعِهِمْ وَفِعْلِهِمْ وَفِعْلِ مَنْ كَذَّبَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ قَبْلَهُمْ، فَفَعَلْنَا بِهِمْ كَفِعْلِنَا بِأُولَئِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ "الدَّأْبَ"، هُوَ الشَّأْنُ وَالْعَادَةُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيَّبَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ، كَسُنَنِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}، يَقُولُ: فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِتَكْذِيبِهِمْ حُجَجَهُ وَرُسُلَهُ، وَمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ، كَمَا عَاقَبَ أَشْكَالَهُمْ وَالْأُمَمَ الَّذِينَ قَبِلَهُمْ (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ)، لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، وَلَا يَرُدُّ قَضَاءَهُ رَادٌّ، يُنْفِذُ أَمْرَهُ، وَيُمْضِي قَضَاءَهُ فِي خَلْقِهِ شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَجَحَدَ حُجَجَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَخَذْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ بِذُنُوبِهِمْ، وَفَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ، بِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ ابْتِعَاثِهِ رَسُولَهُ مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، بِإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، وَحَرْبِهِمْ إِيَّاهُ، فَغَيَّرْنَا نِعْمَتَنَا عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ، كَفِعْلِنَا ذَلِكَ فِي الْمَاضِينَ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ طَغَى عَلَيْنَا وَعَصَى أَمْرَنَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، يَقُولُ: "نِعْمَةُ اللَّهِ"، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْعَمَ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ، وَكَفَرُوا، فَنَقَلَهُ إِلَى الْأَنْصَارِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، يَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ، يَسْمَعُ كَلَامَ كُلِّ نَاطِقٍ مِنْهُمْ بِخَيْرٍ نَطَقَ أَوْ بِشَرٍّ (عَلِيمٌ)، بِمَا تُضْمِرُهُ صُدُورُهُمْ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ وَمُثِيبُهُمْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَيَعْمَلُونَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: غَيَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، الْمَقْتُولُونَ بِبَدْرٍ، نِعْمَةَ رَبِّهِمُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، بِابْتِعَاثِهِ مُحَمَّدًا مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْهُدَى، بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ، وَحَرْبِهِمْ لَهُ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}، كَسُنَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَعَادَتِهِمْ وَفِعْلِهِمْ بِمُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ، فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ، وَقَصْدِهِمْ لِحَرْبِهِ، وَعَادَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا وَصَنِيعِهِمْ {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، بَعْضًا بِالرَّجْفَةِ، وَبَعْضًا بِالْخَسْفِ، وَبَعْضًا بِالرِّيحِ {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ}، فِي الْيَمِّ {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}، يَقُولُ: كُلُّ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا كَانُوا فَاعِلِينَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِعْلُهُ، مِنْ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ وَالْجُحُودِ لِآيَاتِهِ، فَكَذَلِكَ أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِبَدْرٍ، إِذْ غَيَّرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، وَأَذْلَلْنَا بَعْضَهُمْ بِالْإِسَارِ وَالسِّبَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ شَرَّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ اللَّهِ، الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، فَجَحَدُوا وَحْدَانِيَّتَهُ، وَعَبَدُوا غَيْرَهُ {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، يَقُولُ: فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ رُسُلَ اللَّهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِوَحْيهِ وَتَنْـزِيلِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ}، يَا مُحَمَّدُ، يَقُولُ: أَخَذْتَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ أَنْ لَا يُحَارِبُوكَ، وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْكَ مُحَارِبًا لَكَ، كَقُرَيْظَةَ وَنُظَرَائِهِمْ مِمَّنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَعَقْدٌ (ثُمَّ يَنْقُضُونَ)، عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ كُلَّمَا عَاهَدُوكَ وَوَاثَقُوكَ، حَارَبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ، وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ اللَّهَ، وَلَا يَخَافُونَ فِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ أَنْ يُوقِعَ بِهِمْ وَقْعَةً تَجْتَاحُهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ}، قَالَ: قُرَيْظَةُ مَالَئُوا عَلَى مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَعْدَاءَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِمَّا تَلْقَيَنَّ فِي الْحَرْبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَاهَدْتَهُمْ فَنَقَضُوا عَهْدَكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مِنْ قُرَيْظَةَ، فَتَأْسِرُهُمْ، {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، يَقُولُ: فَافْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا يَكُونُ مُشَرِّدًا مَنْ خَلَفَهُمْ مِنْ نُظَرَائِهِمْ، مِمَّنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ وَعَقْدٌ. وَ "التَّشْرِيدُ"، التَّطْرِيدُ وَالتَّبْدِيدُ وَالتَّفْرِيقُ. وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ نَبِيُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ بِالنَّاقِضِ الْعَهْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ فِعْلًا يَكُونُ إِخَافَةً لِمَنْ وَرَاءَهُمْ، مِمَّنْ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ، حَتَّى لَا يَجْتَرِئُوا عَلَى مَثَلِ الَّذِي اجْتَرَأَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، يَعْنِي: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، يَقُولُ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، يَقُولُ: عِظْ بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، يَقُولُ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يَنْكُثُوا فَتَصْنَعُ بِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، قَالَ: أَنْذِرْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، مَنْ بَعْدَهُمْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، أَيْ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ. حُدِّثَتْ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضِّحَاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، يَقُولُ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، قَالَ: أَخِفْهُمْ بِمَا تَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ. وَقَرَأَ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الْأَنْفَالِ: 60] وَأَمَّا قَوْلُهُ: (لَعَلَّهُمْ يَذْكُرُونَ)، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: كَيْ يَتَّعِظُوا بِمَا فَعَلْتَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ، فَيَحْذَرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ خَوْفَ أَنْ يَنْـزِلَ بِهِمْ مِنْكَ مَا نَـزَلَ بِهَؤُلَاءِ إِذَا هُمْ نَقَضُوهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَإِمَّا تَخَافُنَّ)، يَا مُحَمَّدُ، مِنْ عَدُوٍّ لَكَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ وَعَقْدٌ، أَنْ يَنْكُثَ عَهْدَهُ، وَيَنْقَضَّ عَقْدَهُ، وَيَغْدِرَ بِكَ وَذَلِكَ هُوَ "الْخِيَانَةُ" وَالْغَدْرُ {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، يَقُولُ: فَنَاجَزْهُمْ بِالْحَرْبِ، وَأَعْلِمْهُمْ قَبْلَ حَرْبِكَ إِيَّاهُمْ أَنَّكَ قَدْ فَسَخْتَ الْعَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ ظُهُورِ أَمَارِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ مِنْهُمْ، حَتَّى تَصِيرَ أَنْتَ وَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّكَ لَهُمْ مُحَارِبٌ، فَيَأْخُذُوا لِلْحَرْبِ آلَتَهَا، وَتَبْرَأَ مِنَ الْغَدْرِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، الْغَادِرِينَ بِمَنْ كَانَ مِنْهُ فِي أَمَانٍ وَعَهْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ فَيُحَارِبُهُ، قَبْلَ إِعْلَامِهِ إِيَّاهُ أَنَّهُ لَهُ حَرْبٌ، وَأَنَّهُ قَدْ فَاسَخَهُ الْعَقْدَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ بِخَوْفِ الْخِيَانَةِ، وَ "الخَوْفُ" ظَنٌّ لَا يَقِينٌ؟ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبَتْ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارُ الْخِيَانَةِ مَنْ عَدُّوكِ، وَخِفْتَ وُقُوعَهُمْ بِكَ، فَأَلْقِ إِلَيْهِمْ مَقَالِيدَ السَّلْمِ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ. وَذَلِكَ كَالَّذِي كَانَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ إِذْ أَجَابُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مُظَاهَرَتِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَارَبَتِهِمْ مَعَهُمْ، بَعْدَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانُوا عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسَالَمَةِ، وَلَنْ يُقَاتِلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ إِجَابَتُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى ذَلِكَ، مُوجِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفَ الْغَدْرِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ قَوْمٍ أَهْلِ مُوَادَعَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، ظَهَرَ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مِنْ دَلَائِلِ الْغَدْرِ مِثْلَ الَّذِي ظَهَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ قُرَيْظَةَ مِنْهَا، فَحَقٌّ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، وَيُؤْذُنُوهُمْ بِالْحَرْبِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (عَلَى سَوَاءٍ)، أَيْ: حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ حَرْبٌ لِصَاحِبِهِ لَا سِلْمٌ. وَقِيلَ: نَـزَلَتِ الْآيَةُ فِي قُرَيْظَةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، قَالَ: قُرَيْظَةَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: "السَّوَاءُ"، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْمَهَلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: إِنَّهُ مِمَّا تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، أَنَّهُ: عَلَى مَهْلٍ كَمَا حَدَّثَنَا بُكَيْرٌ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، [التَّوْبَةِ: 2] وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ فِي مَعْنَاهُ مُخْتَلِفُونَ. فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَعْنَاهُ: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى عَدْلٍ يَعْنِي: حَتَّى يَعْتَدِلَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِمَا عَلَيْهِ بَعْضُكُمَا لِبَعْضٍ مِنَ الْمُحَارَبَةِ، وَاسْتَشْهَدُوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ: وَاضْـرِبْ وُجُـوهَ الغُـدُرِ الأعْـدَاءِ *** حَـتَّى يُجِـيبُوكَ إلَـى السَّـوَاءِ يَعْنِي: إِلَى الْعَدْلِ. وَكَانَ آخَرُونَ يَقُولُونَ: مَعْنَاهُ: الْوَسَطُ، مِنْ قَوْلِ حَسَّانَ: يَـا وَيْـحَ أَنْصَـارِ الرَّسُـولِ وَرَهْطِهِ *** بَعْـدَ الُمغيَّـبِ فِـي سَـوَاءِ المُلْحَـدِ بِمَعْنَى: فِي وَسَطِ اللَّحْدِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، لِأَنَّ "الْعَدْلَ"، وَسَطٌ لَا يَعْلُو فَوْقَ الْحَقِّ وَلَا يَقْصْرُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ "الْوَسَطُ" عَدْلٌ، وَاسْتِوَاءُ عِلْمِ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بَعْدِ الْمُهَادَنَةِ، عَدْلٌ مِنَ الْفِعْلِ وَوَسَط. وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: "الْمَهَلُ"، فَمِمَّا لَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ: " {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ} " بِكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ "إِنَّهُمْ"، وَبِالتَّاءِ فِي "تَحْسَبَنَّ" بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبْنَ، يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُونَا فَفَاتُونَا بِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ابْتُدِئَ الْخَبَرُ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ لَا يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ، إِذَا طَلَبَهُمْ وَأَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ وَإِهْلَاكَهُمْ، بِأَنْفُسِهِمْ فَيَفَوتُوهُ بِهَا. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، بِالْيَاءِ فِي "يَحْسَبَنَّ"، وَكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ (إِنَّهُمْ). وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ حَمِيدَةٍ، لِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا خُرُوجُهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقَرَأَةِ وَشُذُوذُهَا عَنْهَا، وَالْآخَرُ: بُعْدُهَا مِنْ فَصِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ أَنَّ "يَحْسَبُ" يَطْلُبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْصُوبًا وَخَبَرَهُ، كَقَوْلِهِ: "عَبْدُ اللَّهِ يَحْسَبُ أَخَاكَ قَائِمًا" وَ"يَقُومُ" وَ"قَامَ"، فَقَارِئُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَصْحَبُ "يَحْسَبُ" خَبَرًا لِغَيْرٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَادُهُ، ظَنِّي: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَنَا فَلَمْ يُفَكِّرْ فِي صَوَابِ مَخْرَجِ الْكَلَامِ وَسُقْمِهِ، وَاسْتَعْمَلَ فِي قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَفْهُومِ الْكَلَامِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ، الِاعْتِبَارُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ فِيمَا ذُكِرَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: " وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ "، وَهَذَا فَصِيحٌ صَحِيحٌ، إِذَا أَدْخَلْتَ "أَنَّهُمْ" فِي الْكَلَامِ، لِأَنَّ "يَحْسَبَنَّ" عَامِلَةٌ فِي "أَنَّهُمْ"، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ "أَنَّهُمْ" كَانَتْ خَالِيَةً مِنَ اسْمٍ تَعْمَلُ فِيهِ. وَلِلَّذِي قَرَأَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْقَرَأَة وَجْهَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَا بَعِيدَيْنِ مِنْ فَصِيحِ كَلَامِهِمْ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ سَبَقُوا، أَوْ: أَنَّهُمْ سَبَقُوا ثُمَّ حَذَفَ "أَنْ" وَ"أَنَّهُمْ"، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}، [الرُّومِ: 24]. بِمَعْنَى: أَنْ يُرِيَكُمْ، وَقَدْ يُنْشِدُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ بَيْتًا لِذِي الرُّمَّةِ: أَظَـنَّ ابْـنُ طُرْثُـوثٍ عُتَيْبَـةَ ذَاهِبًـا *** بِعَـادِيَّتِي تَكْذَابُـهُ وَجَعَائِلُـهْ بِمَعْنَى: أَظَنَّ ابْنُ طُرْثُوثٍ أَنْ يُذْهِبَ بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهُ؟ وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْيَاءِ، يُوَجِّهُ "سَبَقُوا" إِلَى "سَابِقِينَ" عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِضْمَارَ مَنْصُوبٍ بِـ "يَحْسَبُ"، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَحْسَبِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا ثُمَّ حَذَفَ "أَنَّهُمْ" وَأَضْمَرَ. وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 175]: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِ مُضْمَرٌ فِي قَوْلِهِ: "يُخَوِّفُ"، إِذْ كَانَ الشَّيْطَانُ عِنْدَهُ لَا يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّأْمِ: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا " بِالتَّاءِ مَنْ "تَحْسَبَنَّ" (سَبَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ)، بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ "أَنَّهُمْ"، بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ يُعْقَلُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْقَارِئُ بِـ "لَا" الَّتِي فِي "يُعْجِزُونَ" "لَا" الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ حَشْوًا وَصِلَةً، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ وَلَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ حَرْفٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى التَّطْوِيلِ، بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَهُ فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (لَا تَحْسَبَنَّ)، بِالتَّاءِ {الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ}، بِكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ "إِنَّهُمْ"، (لَا يُعْجِزُونَ)، بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ جَحَدُوا حُجَجَ اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِهَا، سَبَقُونَا بِأَنْفُسِهِمْ فَفَاتُونَا، إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَنَا أَيْ: يَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ مِنَّا، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}، يَقُولُ: لَا يَفُوتُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَأَعَدُّوا)، لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمُ، الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، إِذَا خِفْتُمْ خِيَانَتَهُمْ وَغَدْرَهُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، يَقُولُ: مَا أَطَقْتُمْ أَنْ تَعُدُّوهُ لَهُمْ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ قُوَّةً لَكُمْ عَلَيْهِمْ، مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، يَقُولُ: تُخِيفُونَ بِإِعْدَادِكُمْ ذَلِكَ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ، سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، أَلَا إِنَّ الرَّمْيَ هُوَ الْقُوَّةُ، أَلَا إِنَّ الرَّمْيَ هُوَ الْقُوَّةُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيِّ: «أَنَّهُ سَمِعَ عُقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}، أَلَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: قَالَ اللَّهُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، ثَلَاثًا». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عُقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}، فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ، الرَّمْيُ" ثَلَاثَ مَرَّات». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عُقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ عُقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَخِيهِ، مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عُقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، " «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، قَالَ: الْحُصُونُ {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}، قَالَ: الْإِنَاثُ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ رَجَاءَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: لَقِيَ رَجُلٌ مُجَاهِدًا بِمَكَّةَ، وَمَعَ مُجَاهِدٍ جُوَالَقٌ،، قَالَ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا مِنَ الْقُوَّةِ! وَمُجَاهِدٌ يَتَجَهَّزُ لِلْغَزْوِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، مِنْ سِلَاحٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. فَ قَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، قَالَ: تُخْزُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، قَالَ: تُخْزُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. وَكَذَا كَانَ يَقْرَؤُهَا: (تُخْزُونَ). حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَخُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {تُرْهِبُونَ بِهِ}، تُخْزُونَ بِهِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. يُقَالُ مِنْهُ: "أَرْهَبْتُ الْعَدُوَّ، وَرَهَّبْتُهُ، فَأَنَا أُرْهِبُهُ وَأُرَهِّبُهُ، إِرْهَابًا وَتَرْهِيبًا، وَهُوَ الرَّهَبُ وَالرُّهْبُ"، وَمِنْهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ الْغَنَوِيِّ: وَيْـلُ أُمِّ حَـيٍّ دَفَعْتُـمْ فِـي نُحُـورِهِمُ *** بَنِـي كِـلابٍ غَـدَاةَ الـرُّعْبِ وَالرَّهَبِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَؤُلَاءِ "الْآخَرِينَ"، مَنْ هُمْ، وَمَا هُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ}، يَعْنِي: منْ بَنِي قُرَيْظَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ}، قَالَ: قُرَيْظَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ فَارِسَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، هَؤُلَاءِ أَهْلُ فَارِسَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ كُلُّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ، غَيْرِ الَّذِي أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَرِّدَ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ. قَالُوا: وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، قَالَ: أَخِفْهُمْ بِهِمْ، لِمَا تَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ. وَقَرَأَ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، لَا تَعْلَمُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ مَعَكُمْ، يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَغْزُونَ مَعَكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِعْدَادِ الْجِهَادِ وَآلَةِ الْحَرْبِ وَمَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ السِّلَاحِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَرِبَاطِ الْخَيْلِ، وَلَا وَجْهَ لِأَنْ يُقَالُ: عَنَى بِـ "الْقُوَّةِ"، مَعْنًى دُونَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي "الْقُوَّةِ"، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ الْأَمْرَ بِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَوْلِهِ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي». قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْخَبَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهَا الرَّمْيُ خَاصَّةً، دُونَ سَائِرِ مَعَانِي الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الرَّمْيَ أَحَدُ مَعَانِي الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ فِي الْخَبَرِ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي»، وَلَمْ يَقُلْ: "دُونَ غَيْرِهَا"، وَمِنْ "الْقُوَّةِ" أَيْضًا السَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالْحَرْبَةُ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَعُونَةً عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَعُونَةِ الرَّمْيِ أَوْ أَبْلَغَ مِنَ الرَّمْيِ فِيهِمْ وَفِي النِّكَايَةِ مِنْهُمْ. هَذَا مَعَ وَهَاءِ سَنَدِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ}، فَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ الْجِنَّ، أَقْرُبُ وَأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ أَدْخَلَ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، الْأَمْرَ بِارْتِبَاطِ الْخَيْلِ لِإِرْهَابِ كُلِّ عَدُوٍّ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَالِمِينَ بِعَدَاوَةِ قُرَيْظَةَ وَفَارِسَ لَهُمْ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَأَنَّهُمْ لَهُمْ حَرْبٌ. وَلَا مَعْنَى لِأَنَّ يُقَالُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَهُمْ لَهُمْ أَعْدَاءً: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ}، وَلَكِنْ مَعْنًى ذَلِكَ-إِنْ شَاءَ اللَّهُ: تُرْهِبُونَ بِارْتِبَاطِكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، الْخَيْلَ عَدُوَّ اللَّهِ وَأَعْدَاءَكُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ قَدْ عَلِمْتُمْ عَدَاوَتَهُمْ لَكُمْ، لِكَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُرْهَبُونَ بِذَلِكَ جِنْسًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ، لَا تَعْلَمُونَ أَمَاكِنَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ دُونَكُمْ؛ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَرَوْنَهُمْ. وَقِيلَ: إِنْ صَهِيلَ الْخَيْلِ يُرْهِبُ الْجِنَّ، وَأَنَّ الْجِنَّ لَا تَقْرَبُ دَارًا فِيهَا فَرَسٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ، فَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ؟ قِيلَ: فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ تُرَوِّعُهُمْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا سِلَاحُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرُوعُهُمْ أَنْ يَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سَرَائِرِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْتَسِرُّونَ مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرْهِبُهُ ذَلِكَ، فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى مَنْ أُمِرَ بِإِعْدَادِ ذَلِكَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: "لَا تَعْلَمُونَهُمْ"، فَاكْتُفِيَ لِـ "الْعِلْمِ"، بِمَنْصُوبٍ وَاحِدٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ: لَا تَعْرِفُونَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَـإِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُنِـي وَوَهْبًـا *** وَأَنَّـا سَـوْفَ يَلْقَـاهُ كِلَانَـا
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مِنْ نَفَقَةٍ فِي شِرَاءِ آلَةِ حَرْبٍ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ حِرَابٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّفَقَاتِ، فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُخْلِفْهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَدَّخِرْ لَكُمْ أُجُورَكُمْ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَهُ، حَتَّى يُوَفِّيَكُمُوهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، يَقُولُ: يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكُمْ رَبّكُمْ، فَلَا يُضِيعُ أُجُورُكُمْ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، أَيْ لَا يَضِيعُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَعَاجِلُ خَلَفِهِ فِي الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِمَّا تَخَافُنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً وَغَدْرًا، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، وَإِنْ مَالُوا إِلَى مُسَالَمَتِكَ وَمُتَارِكَتِكَ الْحَرْبَ، إِمَّا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَإِمَّا بِمُوَادَعَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ السِّلْمِ وَالصُّلْحِ {فَاجْنَحْ لَهَا}، يَقُولُ: فَمِلْ إِلَيْهَا، وَابْذُلْ لَهُمْ مَا مَالُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلُوكَهُ. يُقَالُ مِنْهُ: "جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى كَذَا يَجْنَحُ إِلَيْهِ جُنُوحًا"، وَهِيَ لِتَمِيمٍ وَقَيْسٍ، فِيمَا ذُكِرَ عَنْهَا، تَقُولُ: "يَجْنُحُ"، بِضَمِّ النُّونِ، وَآخَرُونَ: يَقُولُونَ: "يَجْنِحُ" بِكَسْرِ النُّونِ، وَذَلِكَ إِذَا مَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ: جَـوَانِحَ قَـدْ أَيْقَـنَّ أَنَّ قَبِيلَـهُ *** إِذَا مَـا التَقَـى الجمْعـانِ أَوَّلُ غَـالِبِ جَوَانِحُ: مَوَائِلُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} قَالَ: لِلصُّلْحِ، وَنَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 5] حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}، إِلَى الصُّلْحِ {فَاجْنَحْ لَهَا}، قَالَ: وَكَانَتْ هَذِهِ قَبْلَ "بَرَاءَةٌ"، وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَادِعُ الْقَوْمَ إِلَى أَجَلٍ، فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وَإِمَّا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي "بَرَاءَةٌ" فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وَقَالَ: {قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 36]، وَنَبَذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يَقُولُوا "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَيُسْلِمُوا، وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إِلَّا ذَلِكَ. وَكُلُ عَهْدٍ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَكُلُّ صُلْحٍ يُصَالِحُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ يَتَوَادَعُونَ بِهِ، فَإِنَّ "بَرَاءَةٌ" جَاءَتْ بِنَسْخِ ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ حَتَّى يَقُولُوا: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي "بَرَاءَةٌ" قَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 29] حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، يَقُولُ: وَإِنْ أَرَادُوا الصُّلْحَ فَأَرِدْهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، أَيْ: إِنْ دَعَوْكَ إِلَى السَّلْمِ، إِلَى الْإِسْلَامِ، فَصَالِحْهُمْ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، قَالَ: فَصَالِحْهُمْ. قَالَ: وَهَذَا قَدْ نَسَخَهُ الْجِهَادُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا مَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ، مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، فَقَوْلٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا فِطْرَةٍ عَقْلٍ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا نَفَى حُكْمَ الْمَنْسُوخِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَمَّا مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَغَيْرُ كَائِنٍ نَاسِخًا. وَقَوْلُ اللَّهِ فِي بَرَاءَةٌ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، غَيْرُ نَافٍ حُكْمُهُ حُكْمَ قَوْلِهِ. {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}، إِنَّمَا عُنِيَ بِهِ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانُوا يَهُودًا أَهْلَ كِتَابٍ، وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِلْمُؤْمِنِينَ بِصُلْحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُتَارَكَتِهِمُ الْحَرْبَ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، الَّذِينَ لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ نَفْيُ حُكْمِ الْأُخْرَى، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُحْكَمَةٌ فِيمَا أُنْـزِلَتْ فِيهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}، قَالَ: قُرَيْظَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، يَقُولُ: فَوِّضْ إِلَى اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، أَمْرَكَ، وَاسْتَكْفِهِ، وَاثِقًا بِهِ أَنَّهُ يَكْفِيكَ كَالَّذِي:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، إِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ الَّذِي تَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، "سَمِيعٌ"، لِمَا تَقُولُ أَنْتَ وَمَنْ تُسَالِمُهُ وَتُتَارَكُهُ الْحَرْبَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِكَ عِنْدَ عَقْدِ السِّلْمِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَمَا يَشْتَرِطُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ عَلَى صَاحِبِهِ مِنَ الشُّرُوطِ، "الْعَلِيمُ"، بِمَا يُضْمِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنَ الْوَفَاءِ بِمَا عَاقَدَهُ عَلَيْهِ، وَمَنِ الْمُضْمَرُ ذَلِكَ مِنْكُمْ فِي قَلْبِهِ، وَالْمُنْطَوِي عَلَى خِلَافِهِ لِصَاحِبِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ يُرِدْ، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بِأَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنْ خِفْتَ مِنْهُمْ خِيَانَةً، وَبِمُسَالَمَتِهِمْ إِنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ، خِدَاعَكَ وَالْمَكْرَ بِكَ {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}، يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَهُمْ وَكَافِيكَ خِدَاعَهُمْ إِيَّاكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِإِظْهَارِ دِينِكَ عَلَى الْأَدْيَانِ، وَمُتَضَمِّنٌ أَنْ يَجْعَلَ كَلِمَتَهُ الْعُلْيَا وَكَلِمَةَ أَعْدَائِهِ السُّفْلَى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}، يَقُولُ: اللَّهُ الَّذِي قَوَّاكَ بِنَصْرِهِ إِيَّاكَ عَلَى أَعْدَائِهِ (وَبِالْمُؤْمِنِينَ)، يَعْنِي بِالْأَنْصَارِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ}، قَالَ: قُرَيْظَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}، هُوَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}، قَالَ: بِالْأَنْصَارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يُرِيدُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، وَجَمَعَ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالتَّشَتُّتِ، عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ، فَصَيَّرَهُمْ بِهِ جَمِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشْتَاتًا، وَإِخْوَانًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَعْدَاءً. وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنْفَقْتَ، يَا مُحَمَّدُ، مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَعَرَضٍ، مَا جَمَّعْتَ أَنْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِحِيَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَهَا عَلَى الْهُدَى فَائَتْلَفَتْ وَاجْتَمَعَتْ، تَقْوِيَةً مِنَ اللَّهِ لَكَ وَتَأْيِيدًا مِنْهُ وَمَعُونَةً عَلَى عَدُوِّكَ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَالَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَسَبَّبَهُ لَكَ حَتَّى صَارُوا لَكَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَيَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَنْ بَغَاكَ سُوءًا هُوَ الَّذِي إِنْ رَامَ عَدُوٌّ مِنْكَ مَرَامًا يَكْفِيكَ كَيْدُهُ وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِ، فَثِقْ بِهِ وَامْضِ لِأَمْرِهِ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ، أَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ مِنْ بَعْدِ حَرْبٍ، فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ ثَابِتٍ، رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، يَعْنِي: الْأَنْصَارَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، عَلَى الْهُدَى الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ إِلَيْهِمْ {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}، بِدِينِهِ الَّذِي جَمَعَهُمْ عَلَيْهِ يَعْنِي الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الخوزيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مُغِيثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِذَا الْتَقَى الْمُسَلَّمَانِ فَتُصَافِحَا غُفِرَ لَهُمَا. قَالَ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: بِمُصَافَحَةٍ يَغْفَرُ لَهُمَا؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}؟ فَقَالَ الْوَلِيدُ لِمُجَاهِدٍ: أَنْتَ أَعْلَمُ مِنِّي. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنِي عَبَدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَقِيتُهُ وَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: إِذَا تَرَاءَى الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ وَضَحِكَ إِلَيْهِ، تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يتحاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ. قَالَ عَبَدَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ! قَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}! قَالَ عَبَدَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنِّي. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ قَالَ، أَتَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ أَتَعْرُفُنِي؟ فَقَالَ فُضَيْلٌ: نَعَمْ! لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْكَ لَقَبَّلْتُكَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ: عَنِ النَّاسِ الْأُلْفَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبَدَةُ بْنُ أَبَى لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْو حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنِ الْوَلِيدِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} الْآيَةَ، قَالَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ الَّذِي أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ تَشَتُّتِ كَلِمَتِهِمَا وَتَعَادِيهِمَا، وَجَعَلَهُمْ لَكَ أَنْصَارًا (عَزِيزٌ)، لَا يَقْهَرُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَرُدُّ قَضَاءَهُ رَادٌّ، وَلَكِنَّهُ يُنْفِذُ فِي خَلْقِهِ حُكْمَهُ. يَقُولُ: فَعَلَيْهِ فَتَوَكَّلْ، وَبِهِ فَثِقْ (حَكِيمٌ)، فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}، وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُ. يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: نَاهِضُوا عَدُوَّكُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكُمْ أَمْرَهُمْ، وَلَا يَهُولَنَّكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُكُمْ بِنَصْرِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ شَوْذَبٍ أَبِي مُعَاذٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ شَوْذَبٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ، وَحَسْبُ مَنْ مَعَكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شَوْذَبٍ، عَنْ عَامِرٍ، بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ، وَحَسْبُ مَنْ شَهِدَ مَعَكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ حَسْبَكَ أَنْتَ وَهُمُ، اللَّهُ. فَـ "مَنْ" مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، نُصَبَ، عَطْفًا عَلَى مَعْنَى "الْكَافِ" فِي قَوْلِهِ: (حَسْبُكَ اللَّهُ) لَا عَلَى لَفْظِهِ، لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ خَفْضٍ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي مَحَلِّ نَصْبٍّ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: يَكْفِيكَ اللَّهُ، وَيَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي "مَنْ"، أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى اسْمِ "اللَّهِ"، كَأَنَّهُ قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمُتَّبِعُوكَ إِلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، دُونَ الْقَاعِدِينَ عَنْكَ مِنْهُمْ. وَاسْتُشْهِدَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}، حُثَّ مُتَّبِعِيكَ وَمُصَدِّقِيكَ عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، عَلَى قِتَالِ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى عَنِ الْحَقِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} رَجُلًا (صَابِرُونَ)، عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَيَحْتَسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَثْبُتُونَ لِعَدُوِّهِمْ {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، مِنْ عَدْوِّهِمْ وَيَقْهَرُوهُمْ {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ}، عِنْدَ ذَلِكَ (يَغْلِبُوا)، مِنْهُمْ (أَلْفًا) {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}، يَقُولُ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَوْمٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ رَجَاءِ ثَوَابٍ، وَلَا لِطَلَبِ أَجْرٍ وَلَا احْتِسَابٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا أَنَّ اللَّهَ مُوجِبٌ لِمَنْ قَاتَلَ احْتِسَابًا، وَطَلَبَ مَوْعُودَ اللَّهِ فِي الْمِيعَادِ، مَا وَعَدَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، فَهُمْ لَا يَثْبُتُونَ إِذَا صَدَقُوا فِي اللِّقَاءِ، خَشْيَةَ أَنْ يُقَتِّلُوا فَتَذْهَبَ دُنْيَاهُمْ، ثُمَّ خَفَّفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ عَلِمَ ضَعْفَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، يَعْنِي: أَنَّ فِي الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عَنْ لِقَاءِ الْعِشْرَةِ مِنْ عَدُّوِهُمْ ضَعْفًا {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ}، عِنْدَ لِقَائِهِمْ لِلثَّبَاتِ لَهُمْ {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} مِنْهُمْ {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} مِنْهُمْ (بِإِذْنِ اللَّهِ) يَعْنِي: بِتَخْلِيَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِغَلَبَتِهِمْ، وَمَعُونَتِهِ إِيَّاهُمْ {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، لِعَدْوِهِمْ وَعَدُوِّ اللَّهِ، احْتِسَابًا فِي صَبْرِهِ، وَطَلَبًا لِجَزِيلِ الثَّوَابِ مِنْ رَبِّهِ، بِالْعَوْنِ مِنْهُ لَهُ، وَالنَّصْرِ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَبَّبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قَالَ: كَانَ الْوَاحِدُ لِعَشَرَةٍ، ثُمَّ جُعِلَ الْوَاحِدُ بِاثْنَيْنِ؛ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُمَا. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جُعلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرَّجُلِ عَشَرَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فَخَفِّفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَجُعِلَ عَلَى الرَّجُلِ رَجُلَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ تَخْفِيفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ!. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثَقُلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمُوا أَنْ يُقَاتِلَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ، وَمِائَةٌ أَلْفًا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَنَسَخَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}، قَالَ: وَكَانُوا إِذَا كَانُوا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَمْ يَنْبَغِ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْهُمْ. وَإِنْ كَانُوا دُونَ ذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا، وَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَحَوَّزُوا عَنْهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قَالَ: كَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُمْ، فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَنْـزَلَ اللَّهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فَعَبَّأَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَسَخَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ الْكُفَّارِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَرَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهِ مَعَ الصَّابِرِينَ}، فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ جُعِلَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ يُؤَشِّبُهُمْ يَعْنِي: يُغْرِيهِمْ بِذَلِكَ، لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْغَزْوِ، وَأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا عَزْمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَا أَوْجَبُهُ، وَلَكِنْ كَانَ تَحْرِيضًا وَوَصِيَّةً أَمَرَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ، ثُمَّ خَفَّفَ عَنْهُمْ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، تَخْفِيفًا، لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ بِهِمْ رَحِيمٌ، فَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَصَبَرُوا وَصَدَقُوا، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا كَفَّرُوا إِذَنْ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [نَكَلَ] عَمَّنْ لَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَلَا يُغْرُنَّكَ قَوْلُ رِجَالٍ! فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَانِ، وَحَتَّى يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلَيْنِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْصُونَ اللَّهَ إِنَّ قَاتَلُوا حَتَّى يَبْلُغُوا عِدَّةَ ذَلِكَ، وَإِنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى يَبْلُغُوا عِدَّةَ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَانِ، وَعَلَى كُلِّ رَجُلَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 207]، وَقَالَ اللَّهُ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 84]، فَهُوَ التَّحْرِيضُ الَّذِي أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي "الْأَنْفَالِ"، فَلَا تَعْجَزَنَّ، قَاتِلْ، قَدْ سَقَطْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أُنَاسٍ كَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ قَالَا: قَالَ فِي "سُورَةِ الْأَنْفَالِ" {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}، ثُمَّ نُسِخَ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ}، قَالَ: وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَشَرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ خُفِّفَ عَنْهُمْ فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ}، قَالَ: هَذَا لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، جُعِلَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَضَجُّوا مِنْ ذَلِكَ، فَجُعِلَ عَلَى الرَّجُلِ قِتَالُ رَجُلَيْنِ، تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا أُمِرَ الرَّجُلُ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ لِعَشَرَةٍ، وَالْعَشَرَةُ لِمِائَةٍ إِذِ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ، خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأُمِرَ الرَّجُلُ أَنْ يَصْبِرَ لِرَجُلَيْنِ، وَالْعَشَرَةُ لِلْعِشْرِينَ، وَالْمِائَةُ لِلْمِائَتَيْنِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قَالَ: كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ إِذَا لَقِيَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفِرُّوا غَلَبُوا، ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}، فَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ أَلْفٌ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا لَهُمْ غَلَبُوهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}، جَعَلَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ رَجُلِ رَجُلَيْنِ، بَعْدَ مَا كَانَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ عَشَرَةً وَهَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ فُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا}، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فأَنْـزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ، فَجَعَلَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ الرَّجُلَيْنِ، قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ونُقِصوا مِنَ النَّصْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، يَقُولُ: يُقَاتِلُوا مِائَتَيْنِ، فَكَانُوا أَضْعَفَ مِنْ ذَلِكَ، فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَخَفَّفَ فَقَالَ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فَجَعَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ الرَّجُلَ لِعِشْرَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ الرَّجُلَ لِاثْنَيْنِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قَالَ: كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ إِذَا لَقِيَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفِرُّوا غَلَبُوا، ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ}، فَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ أَلْفٌ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا لَهُمْ غَلَبُوهُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضِّحَاكِ قَالَ: كَانَ هَذَا وَاجِبًا أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ. وَبِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَطَاءٍ، مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}، فَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَهُ. وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}، أَيْ لَا يُقَاتِلُونَ عَلَى نِيَّةٍ وَلَا حَقٍّ فِيهِ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْأَمْرُ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}، فَلَمْ يَكُنِ التَّخْفِيفُ إِلَّا بَعْدَ التَّثْقِيلِ. وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْعَشَرَةِ مِنْهُمْ لِلْمِائَةِ مِنْ عَدُوِّهِمْ كَانَ غَيْرَ فَرْضٍ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّخْفِيفِ، وَكَانَ نَدْبًا، لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ إِنَّمَا هُوَ تَرْخِيصٌ فِي تَرْكِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الثُّبُوتَ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ التَّشْدِيدُ قَدْ كَانَ لَهُ مُتَقَدِّمًا، لَمْ يَكُنْ لِلتَّرْخِيصِ وَجْهٌ، إِذْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنَ التَّرْخِيصِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ التَّشْدِيدِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ قَوْلِهِ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، نَاسِخٌ لِحُكْمِ قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا "الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ"، أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ وَعَدَ فِيهِ عِبَادَهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا وَجَزَاءً، وَعَلَى تَرْكِهِ عِقَابًا وَعَذَابًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا ظَاهِرُهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، فَفِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}. فَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا}، بِضَمِّ "الضَّادِ" فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَتَنْوِينِ "الضُّعْفِ" عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ: "ضَعُفَ الرَّجُلُ ضُعْفًا". وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)، بِفَتْح "الضَّاد"، عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا مَنْ "ضَعُفَ". وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ: (ضُعَفَاءَ)، عَلَى تَقْدِيرِ "فُعَلَاءَ"، جَمْعُ "ضَعِيفٍ" عَلَى "ضُعَفَاءَ"، كَمَا يُجْمَعُ "الشَّرِيكُ"، "شُرَكَاءَ"، وَ "الرَّحِيمُ"، "رُحَمَاءَ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، وَ(ضُعْفًا)، بِفَتْحِ الضَّادِ أَوْ ضَمِّهَا، لِأَنَّهُمَا الْقِرَاءَتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَصِيحَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ الصَّوَابَ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: "ضُعَفَاءَ"، فَإِنَّهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقَرَأَةِ شَاذَّةٌ، وَإِنْ كَانَ لَهَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ، فَلَا أُحِبُّ لِقَارِئٍ الْقِرَاءَةَ بِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَحْتَبِسَ كَافِرًا قَدَرَ عَلَيْهِ وَصَارَ فِي يَدِهِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لِلْفِدَاءِ أَوْ لِلْمَنِّ. وَ "الأَسْرُ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْحَبْسُ، يُقَالُ مِنْهُ: "مَأْسُورٌ"، يُرَادُ بِهِ: مَحْبُوسٌ، وَمَسْمُوعٌ مِنْهُمْ: "أبَالَهُ اللَّهُ أَسْرًا". وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- [ذَلِكَ] لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعَرِّفُهُ أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَسَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ فَادَى بِهِمْ، كَانَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْهُمْ وَإِطْلَاقِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، يَقُولُ: حَتَّى يُبَالِغَ فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، وَيَقْهَرَهُمْ غَلَبَةً وَقَسْرًا. يُقَالُ مِنْهُ: "أَثْخَنَ فُلَانٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ"، إِذَا بَالَغَ فِيهِ. وَحُكِيَ: "أَثْخَنْتُهُ مَعْرِفَةً"، بِمَعْنَى: قَتَلْتُهُ مَعْرِفَةً. (تُرِيدُونَ)، يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُرِيدُونَ)، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، {عَرَضَ الدُّنْيَا}، بِأَسْرِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَا عَرَضَ لِلْمَرْءِ مِنْهَا مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ. يَقُولُ: تُرِيدُونَ بِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَتَاعَ الدُّنْيَا وَطُعْمَهَا {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ لَكُمْ زِينَةَ الْآخِرَةِ وَمَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ وِلَايَتِهِ فِي جَنَّاتِهِ، بِقَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ وَإِثْخَانِكُمْ فِي الْأَرْضِ. يَقُولُ لَهُمْ: فَاطْلُبُوا مَا يُرِيدُ اللَّهُ لَكُمْ وَلَهُ اعْمَلُوا، لَا مَا تَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَهْوَاءُ أَنْفُسِكُمْ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا (وَاللَّهُ عَزِيزٌ)، يَقُولُ: إِنْ أَنْتُمْ أَرَدْتُمُ الْآخِرَةَ، لَمْ يَغْلِبْكُمْ عَدُوٌّ لَكُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُقْهَرُ وَلَا يُغْلَبُ وَأَنَّهُ (حَكِيمٌ) فِي تَدْبِيرِهِ أَمْرَ خَلْقِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ، أَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ هَذَا فِي الْأَسَارَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}، [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: 4]، فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرِ الْأَسَارَى بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا فادَوْهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الْآيَةَ، قَالَ: أَرَادَ أَصْحَابُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ الْفِدَاءَ، فَفَادُوهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ أَرْبَعَةِ آلَافِ! وَلَعَمْرِي مَا كَانَ أَثْخَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ! وَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ قَاتَلَهُ الْمُشْرِكِينَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْإِثْخَانُ"، الْقَتْلُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، قَالَ: إِذَا أَسَرْتُمُوهُمْ فَلَا تُفَادُوْهُمْ حَتَّى تُثْخِنُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الْآيَةَ، نَـزَلَتِ الرُّخْصَةُ بَعْدُ، إِنْ شِئْتَ فَمُنَّ، وَإِنْ شِئْتَ فَفَادِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، يَعْنِي: الَّذِينَ أُسِرُوا بِبَدْرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}، مِنْ عَدُّوهُ {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، أَيْ: يُثْخِنَ عَدُوَّهُ حَتَّى يَنْفِيَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}، أَيِ: الْمَتَاعَ وَالْفِدَاءَ بِأَخْذِ الرِّجَالِ {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، بِقَتْلِهِمْ، لِظُهُورِ الدِّينِ الَّذِي يُرِيدُونَ إِطْفَاءَهُ، الَّذِي بِهِ تُدْرِكُ الْآخِرَةَ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالْأَسْرَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبَقْهِمْ وَاسْتَأْنِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ، قَدِّمْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ! وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأُدْخِلُهُمْ فِيهِ، ثُمَّ أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: قُطِعَتْ رَحِمُكُ! قَالَ: فَسَكَتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ نَاس: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ! وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 36]، وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْآيَةَ [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 118]. وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ، قَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [سُورَةُ نُوحٍ: 26]، وَمَثَلُكَ كَمَثَلِ مُوسَى قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [سُورَةُ يُونُسَ: 88]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ، فَلَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ! فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أُخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ، مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ. قَالَ: فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، إِلَى آخِرِ الثَّلَاثِ الْآيَات». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، [حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْيَمَامِيُّ] قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَمِيلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا أَسَرُوا الْأَسَارَى، يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ؟ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي الْأَسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، وَأَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَرَى أَنَّ تُمَكِّنَنَا مِنْهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنَ الْعَبَّاسِ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنُنِي مِنْ فُلَانٍ- نَسِيبٍ لِعُمَرُ- فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا، فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ. قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بِكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ لِأَصْحَابِي مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ! لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {حَلَالًا طَيِّبًا}، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُم».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ الَّذِينَ غَنِمُوا وَأَخَذُوا مِنَ الْأَسْرَى الْفِدَاءَ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، يَقُولُ: لَوْلَا قَضَاءٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَكُمْ أَهْلَ بَدْرٍ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، بِأَنَّ اللَّهَ مُحِلٌّ لَكُمُ الْغَنِيمَةَ، وَأَنَّ اللَّهَ قَضَى فِيمَا قَضَى أَنَّهُ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا شَهِدَ الْمَشْهَدَ الَّذِي شَهِدْتُمُوهُ بِبَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاصِرًا دِينَ اللَّهِ لَنَالَكُمْ مِنَ اللَّهِ، بِأَخْذِكُمُ الْغَنِيمَةَ وَالْفِدَاءَ، عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ مُطْعِمَ هَذِهِ الْأُمَّة الْغَنِيمَةَ، وَإِنَّهُمْ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِهِ. قَالَ: فَعَابَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَحَلَّهُ اللَّهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الْآيَةَ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَخَذَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغَانِمَ وَالْأَسَارَى قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ كَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ: "الْمَغَانِمَ وَالْأَسَارَى حَلَّالٌ لِمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ"، وَلَمْ يَكُنْ أَحَلَّهُ لِأُمَّةٍ قَبْلَهُمْ، وَأَخَذُوا الْمَغَانِمَ وَأَسَرُوا الْأَسَارَى قَبْلَ أَنْ يُنْـزَّلَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، يَعْنِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ. أَنَّ الْمَغَانِمَ وَالْأَسَارَى حَلَّالٌ لَكُمْ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الْآيَةَ، وَكَانَتِ الْغَنَائِمُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَمِ، إِذَا أَصَابُوا مَغْنَمًا جَعَلُوهُ لِلْقُرْبَانِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ وَعَلَى أُمَّتِهِ، فَكَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَلَا يَغُلُّونَ مِنْهُ، وَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا إِلَّا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ اللَّهُ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمًا شَدِيدًا، فَلَمْ يُحِلَّهُ لِنَبِيٍّ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ قَدْ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ فِي قَضَائِهِ أَنَّ الْمَغْنَمَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ حَلَالٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسَارَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ الْحَسَنِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ مُعْطِيَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنِيمَةَ، وَفَعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا قَبْلَ أَنْ تُحَلَّ الْغَنِيمَةُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الْأَعْمَشُ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، قَالَ: سَبَقَ مِنَ اللَّهِ أَنْ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، قَالَ: يَعْنِي: لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِي أَنِّي سَأُحِلُّ الْغَنَائِمَ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْأَسَارَى عَذَابٌ عَظِيمٌ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ بِنَحْوِهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُحِلَتِ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ سُودِ الرُّؤُوسِ مِنْ قَبْلِكُمْ، كَانَتْ تَنْـزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَتَأْكُلُهَا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ، فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ}، حَتَّى بَلَغَ {حَلَالًا طَيِّبًا}». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، قَالَ: أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ وَقَتَلُوا سَبْعِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَارُوا أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَتَقْوَوْا بِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَإِنْ قَبِلْتُمُوهُ قُتِلَ مِنْكُمْ سَبْعُونَ أَوْ تَقْتُلُوهُمْ! فَقَالُوا: بَلْ نَأْخُذُ الْفِدْيَةَ مِنْهُمْ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، قَالَ عُبَيْدَةُ، وَطَلَبُوا الْخِيرَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: كَانَ فِدَاءُ أَسَارَى بَدْرٍ مِائَةَ أُوقِيَّةٍ، وَ "الأُوقِيَةُ" أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَمِنَ الدَّنَانِيرِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ: أَنَّهُ قَالَ فِي أَسَارَى بَدْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ! فَقَالُوا: بَلَى، نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَنَسْتَمْتِعُ بِهِ، وَيُسْتَشْهَدُ مِنَّا بِعِدَّتِهِمْ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ-رَحِمَهُ اللَّهُ- بِقَتْلِ الْأَسَارَى، فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لِمَسِّكُمْ فِيمَا أَخَذَتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، قَالَ: كَانَ الْمَغْنَمُ مُحَرَّمًا عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ وَأُمَّتِهِ، وَكَانُوا إِذَا غَنِمُوا يَجْعَلُونَ الْمَغْنَمَ لِلَّهِ قُرْبَانًا تَأْكُلُهُ النَّارُ. وَكَانَ سَبَقَ فِي قَضَاءِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ أَنْ يُحِلَّ الْمَغْنَمَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ}، قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ تَحِلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمُ، فَقَالَ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، بِأَنَّهُ أَحَلَّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لِأَهْلِ بَدْرٍ، أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ، لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ شَرَّيْكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، قَالَ: لِأَهْلِ بَدْرٍ، مِنَ السَّعَادَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، لِأَهْلِ بَدْرٍ مَشْهَدَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، قَالَ: سَبَقَ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ لِأَهْلِ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، كَانَ سَبْقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ، وَأَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، قَالَ: (سَبَقَ)، أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، لِأَهْلِ بَدْرٍ، وَمَشْهَدَهُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ أُحِلَّهَا لَكُمْ، فَقَالَ: سَبَقَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوُ عَنْهُمْ وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ، سَبْقَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ رَسُولَهُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَهَاجَرَ مَعَهُ وَنَصَرَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، أَنْ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِفِعْلٍ أَتَاهُ عَلَى جَهَالَةٍ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، لِأَهْلِ بَدْرٍ وَمَشْهَدَهُمْ إِيَّاهُ، قَالَ: كِتَابٌ سَبَقَ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 115]، سَبَقَ ذَلِكَ، وَسَبَقَ أَنْ لَا يُؤَاخِذُ قَوْمًا فَعَلُوا شَيْئًا بِجَهَالَةٍ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فِيمَا أَخَذْتُمْ}، مِمَّا أَسَرْتُمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: عَاتَبَهُ فِي الْأَسَارَى وَأَخْذِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَأْكُلُ مَغْنَمًا مِنْ عَدُوٍّ لَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ كَانَ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، خَمْسٌ لَمٍّ يُؤْتَهُنَّ نَبِيٌّ كَانَ قَبْلِي» قَالَ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ)، أَيْ: قَبْلَكَ {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إِلَى قَوْلِهِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}، أَيْ: مَنَّ الْأَسَارَى وَالْمَغَانِمِ (عَذَابٌ عَظِيمٌ)، أَيْ: لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنْ لَا أُعَذِّبَ إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ، وَلَمْ أَكُنْ نَهَيْتُكُمْ، لَعَذَّبَتْكُمْ فِيمَا صَنَعْتُمْ، ثُمَّ أَحِلُّهَا لَهُ وَلَهُمْ رَحْمَةً وَنِعْمَةً وَعَائِدَةً مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، مَا قَدْ بَيَّنَاهُ قَبْلُ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}، خَبَرٌ عَامٌّ غَيْرُ مَحْصُورٍ عَلَى مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَمَّنْ ذَكَرْتُ، مِمَّا قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِشَيْءٍ مِنْهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَذَلِكَ: مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ بِجَهَالَةٍ، وَإِحْلَالِ الْغَنِيمَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ بَدْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا كَتَبَ لَهُمْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِأَنَّ يَخُصُّ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ الْخَبَرَ بِكُلِّ ذَلِكَ، بِغَيْرِ دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِخُصُوصِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدٌ مِمَّنْ نُصِرَ إِلَّا أَحَبَّ الْغَنَائِمَ، إِلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، جَعَلَ لَا يَلْقَى أَسِيرًا إِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا وَلِلْغَنَائِمِ، نَحْنُ قَوْمٌ نُجَاهِدُ فِي دِينِ اللَّهِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُكَ! قَالَ اللَّهُ: لَا تَعُودُوا تَسْتَحِلُّونَ قَبْلَ أَنْ أُحِلَّ لَكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا نَـزَلَتْ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الْآيَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ نَـزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إِلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، لِقَوْلِهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَال».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ: (فَكُلُوا)، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ {مِمَّا غَنِمْتُمْ}، مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ (حَلَّالًا)، بِإِحْلَالِهِ لَكُمْ {طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ}، يَقُولُ: وَخَافُوا اللَّهَ أَنَّ تَعَوَّدُوا، أَنْ تَفْعَلُوا فِي دِينِكُمْ شَيْئًا بَعْدَ هَذِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعْهَدَ فِيهِ إِلَيْكُمْ، كَمَا فَعَلْتُمْ فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ وَأَكْلِ الْغَنِيمَةِ، وَأَخَذْتُمُوهُمَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحِلَّا لَكُمْ (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وَهَذَا مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}، (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، (وَاتَّقُوا اللَّهَ). وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ)، لِذُنُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ عِبَادِهِ (رَحِيمٌ)، بِهِمْ، أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِمَنْ فِي يَدَيْكَ وَفِي يَدَيْ أَصْحَابِكَ مِنْ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ مَنِ الْفِدَاءِ مَا أَخَذَ: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}، يَقُولُ: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ إِسْلَامًا {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}، مِنَ الْفِدَاءِ (وَيَغْفِرْ لَكُمْ)، يَقُولُ: وَيَصْفَحُ لَكُمْ عَنْ عُقُوبَةِ جُرْمِكُمُ الَّذِي اجْتَرَمْتُمُوهُ بِقِتَالِكُمْ نَبِيَّ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ وَكُفْرِكُمْ بِاللَّهِ (وَاللَّهُ غَفُورٌ)، لِذُنُوبِ عِبَادِهِ إِذَا تَابُوا (رَحِيمٌ)، بِهِمْ، أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَذُكِرَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمَطْلَبِ كَانَ يَقُولُ: فِيَّ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: فِيَّ نَـزَلَتْ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِي، وَسَأَلَتْهُ أَنْ يُحَاسِبَنِي بِالْعِشْرِينِ الْأُوقِيَّةِ الَّتِي أَخَذَ مِنِّي فَأَبَى، فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهَا عِشْرِينَ عَبْدًا، كُلُّهُمْ تَاجَرَ، مَالِي فِي يَدَيْهِ. وَقَدْ:- حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ قَالَ: كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمَطْلَبِ يَقُولُ: فِيَّ وَاللَّهُ نَـزَلَتْ، حِينَ ذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِسْلَامِي ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ وَكِيعٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} الْآيَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مَالُ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَقَدْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَمَا أَعْطَى يَوْمئِذٍ شَاكِيًا، وَلَا حَرَمَ سَائِلًا، وَمَا صَلَّى يَوْمئِذٍ حَتَّى فَرَّقَهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَيَحْتَثِيَ، فَأَخَذَ. قَالَ: وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ مِنَّا، وَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} الْآيَةَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ خَصْلَتَيْنِ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِمَا الدُّنْيَا: أَنِّي أُسِرْتُ يَوْمَ بَدْرٍ فَفَدَيْتُ نَفْسِي بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَآتَانِي أَرْبَعِينَ عَبْدًا، وَأَنَا أَرْجُو الْمَغْفِرَةَ الَّتِي وَعَدَنَا اللَّهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} إِلَى قَوْلِهِ: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، يَعْنِي بِذَلِكَ: مَنْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ. يَقُولُ: إِنْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَتِي، وَنَصَحْتُمْ لِرَسُولِي، آتَيْتُكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، وَغَفَرْتُ لَكُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى}، العَبَّاسُ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَنَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا. فَنَـزَلَ: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا، يُخْلِفْ لَكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُصِيبَ مِنْكُمْ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، الشِّرْكَ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ. قَالَ: فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْـزِلْ فِينَا، وَأَنَّ لِي الدُّنْيَا، لَقَدْ قَالَ: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} فَقَدْ أَعْطَانِي خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ، وَقَالَ: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ غُفِرَ لِي. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} الْآيَةَ، يَعْنِي الْعَبَّاسَ وَأَصْحَابَهُ، أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ. يَقُولُ اللَّهُ: إِنْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَتِي وَنَصَحْتُمْ لِي وَلِرَسُولِي، أَعْطَيْتُكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَغَفَرْتُ لَكُمْ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمَطْلَبِ يَقُولُ: لَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ خَصْلَتَيْنِ، مَا شَيْءٌ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا: عِشْرِينَ عَبْدًا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَنَحْنُ فِي مَوْعُودِ الصَّادِقِ نَنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: وَإِنْ يُرِدْ هَؤُلَاءِ الْأَسَارَى الَّذِينَ فِي أَيْدِيكُمْ (خِيَانَتَكَ)، أَيِ الْغَدْرَ بِكَ وَالْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ، بِإِظْهَارِهِمْ لَكَ بِالْقَوْلِ خِلَافَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ}، يَقُولُ: فَقَدْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَأَمْكَنَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ الْمُؤْمِنِينَ (وَاللَّهُ عَلِيمٌ)، بِمَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيُضْمِرُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ (حَكِيمٌ)، فِي تَدْبِيرِهِمْ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ خَلْقِهِ سِوَاهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}، يَعْنِي: الْعَبَّاسَ وَأَصْحَابَهُ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا"، يَقُولُ: إِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ خِيَانَةً {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}، يَقُولُ: قَدْ كَفَرُوا وَقَاتَلُوكَ، فَأَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} الْآيَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا «أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَمَدَ فَنَافَقَ، فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ يَكْتُبُ إِلَّا مَا شِئْتُ!" فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، نَذَرَ لَئِنْ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ لَيَضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، ومِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَابْنَ خَطَلٍ، وَامْرَأَةً كَانَتْ تَدْعُو عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ صَبَاحٍ، فَجَاءَ عُثْمَانُ بِابْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ رَضِيعَهُ أَوْ: أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا فُلَانٌ أَقْبَلَ تَائِبًا نَادِمًا! فَأَعْرَضَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ أَقْبَلَ مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، فَأَطَافَ بِهِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يُومِئَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَلَوَّمْتُكَ فِيهِ لِتُوْفِيَ نَذْرَكَ! فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي هِبْتُكَ، فَلَوْلَا أَوْمَضْتَ إِلَيَّ! فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يُومِض». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}، يَقُولُ: قَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ، فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ "وَهَاجَرُوا"، يَعْنِي: هَجَرُوا قَوْمَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ وَدُورَهُمْ، يَعْنِي: تَرَكُوهُمْ وَخَرَجُوا عَنْهُمْ، وَهَجَرَهُمْ قَوْمُهُمْ وَعَشِيرَتُهُمْ {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يَقُولُ: بَالَغُوا فِي إِتْعَابِ نُفُوسِهِمْ وَإِنْصَابِهَا فِي حَرْبِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْكُفَّارِ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يَقُولُ: فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ طَرِيقًا إِلَى رَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا}، يَقُولُ: وَالَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَهُ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُمْ مَأْوًى يَأْوَوْنَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَثْوَى وَالْمَسْكَنُ، يَقُولُ: أَسْكَنُوهُمْ، وَجَعَلُوا لَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ مَسَاكِنَ إِذْ أَخْرَجَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ (وَنَصَرُوا)، يَقُولُ: وَنَصَرُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، يَقُولُ: هَاتَانِ الْفِرْقَتَانِ، يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ، وَأَعْوَانٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَيْدِيهمْ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَبَعْضُهُمْ إِخْوَانٌ لِبَعْضٍ دُونِ أَقْرِبَائِهِمُ الْكُفَّارِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، دُونَ الْقُرَابَةِ وَالْأَرْحَامِ، وَأَنَّ اللَّهَ نَسَخَ ذَلِكَ بَعْدُ بُقُولِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: وَسُورَةُ الْأَحْزَابِ: 6].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، يَعْنِي: فِي الْمِيرَاثِ، جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، قَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، يَقُولُ: مَا لَكَمَ مِنْ مِيرَاثِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِذَلِكَ حَتَّى أَنْـزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: وَسُورَة الْأَحْزَابِ: 6]، فِي الْمِيرَاثِ، فَنَسَخَتِ الَّتِي قبَْلَهَا، وَصَارَ الْمِيرَاثُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يَقُولُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، إِنَّمَا هُوَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُهَاجِرُوا}. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ الْمُبَايِنُ لِقَوْمِهِ فِي الْهِجْرَةِ، خَرَجَ إِلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَعَقَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَ {آوَوْا وَنَصَرُوا}، وَأَعْلَنُوا مَا أَعْلَنَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ، وَشَهَرُوا السُّيُوفَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَجَحَدَ، فَهَذَانَ مُؤْمِنَانِ، جَعَلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بَيْنَهُمْ، إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ وَرِثَهُ الْأَنْصَارِيُّ بِالْوِلَايَةِ فِي الدِّينِ. وَكَانَ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَا يَرِثُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يُنْصَرْ، فَبَرَّأَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ مِيرَاثِهِمْ، وَهِيَ الْوِلَايَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}. وَكَانَ حَقًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا إِذَا اسْتَنْصَرُوهُمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَنْصُرُوهُمْ إِنْ قَاتَلُوا، إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقٌ، فَلَا نَصْرَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، إِلَّا عَلَى الْعَدُوِّ الَّذِينَ لَا مِيثَاقَ لَهُمْ، ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أُلْحِقَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ بِرَحِمِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَجَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 75]، وَبِقَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 71]. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الثَّلَاثُ الْآيَاتُ خَوَاتِيمُ الْأَنْفَالِ، فِيهِنَّ ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ وِلَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مُهَاجِرِي الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ فِي الْمِيرَاثِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ آخِرُهَا: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا}، إِلَى قَوْلِهِ: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْمِيرَاثِ، لَا يَتَوَارَثُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَاجَرُوا، وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمَّ يُهَاجِرُوا. قَالَ: ثُمَّ نَـزَلَ بَعْدُ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فَتَوَارَثُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: خَوَاتِيمُ "الْأَنْفَالِ" الثَّلَاثُ الْآيَاتُ، فِيهِنَّ ذِكْرُ مَا كَانَ وَالَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ فِي الْمِيرَاثِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ آخِرُهَا: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا}، إِلَى قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، قَالَ: لَبِثَ الْمُسْلِمُونَ زَمَانًا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَالْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ مِنَ الْمُهَاجِرِ شَيْئًا، فَنُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَلْحَقَ اللَّهُ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}، [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 6]، أَيْ: مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَأُجِيزَتِ الْوَصِيَّةُ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ، وَصَارَتِ الْمَوَارِيثُ بِالْمِلَلِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَرِثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ قَالَا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، كَانَ الْأَعْرَابِيُّ لَا يَرِثُ الْمُهَاجِرَ، وَلَا يَرِثُهُ الْمُهَاجِرُ، فَنَسَخَهَا فَقَالَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، فِي الْمِيرَاثِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا}، وَهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ {مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، فِي الْمِيرَاثِ {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} يَقُولُ: بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَالَّذِينَ كَفَّرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، فِي الْمِيرَاثِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}، ثُمَّ نَسَخَتْهَا الْفَرَائِضُ وَالْمَوَارِيثُ، "وَأُولُو الْأَرْحَامِ". الَّذِينَ تَوَارَثُوا عَلَى الْهِجْرَةِ {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، فَتَوَارَثَ الْأَعْرَابُ وَالْمُهَاجِرُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا). الَّذِينَ صَدَقُّوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {وَلَمْ يُهَاجِرُوا}. قَوْمَهُمُ الْكُفَّارَ، وَلَمْ يُفَارِقُوا دَارَ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (مَا لَكُمْ)، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. الْمُهَاجِرُونَ قَوْمَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَأَرْضَ الْحَرْبِ {مِنْ وِلَايَتِهِمْ}، يَعْنِي: مِنْ نُصْرَتِهِمْ وَمِيرَاثِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ بَعْضِ مَنْ قَالَ: "مَعْنَى الْوِلَايَةِ، هَهُنَا الْمِيرَاثُ"، وَسَأَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ حَضَرَنِي ذَكَرُهُ بَعْدُ. {مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، قَوْمَهُمْ وَدُورَهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ}، يَقُولُ: إِنِ اسْتَنْصَرَكُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا (فِي الدِّينِ)، يَعْنِي: بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، "فَعَلَيْكُمْ"، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، (النَّصْرُ) (إِلَّا) أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ {عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، يَعْنِي: عَهْدٌ قَدْ وَثَّقَ بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَنْ لَا يُحَارِبَهُ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ مِنْ وِلَايَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، أَيُّهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَتَرْكُ وِلَايَةِ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَنُصْرَتُكُمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ اسْتِنْصَارِكُمْ فِي الدِّينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْكُمْ (بَصِيرٌ)، يَرَاهُ وَيُبْصِرُهُ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ شَيْءٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ. وَكَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَلَا يُهَاجِرُ، لَا يَرِثُ أَخَاهُ، فَنَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 6]. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزَّهْرِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَى رَجُلٍ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ: تُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَأَنَّكَ لَا تَرَى نَارَ مُشْرِكٍ إِلَّا وَأَنْتَ حَرْب». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ}، يَعْنِي: إِنِ اسْتَنْصَرَكُمُ الْأَعْرَابُ الْمُسْلِمُونَ، أَيُّهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَنْصُرُوهُمْ، إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ تُوُفِّيَ عَلَى أَرْبَعِ مَنَازِلَ: مُؤْمِنٌ مُهَاجِرٌ، وَالْأَنْصَارُ، وَأَعْرَابِيٌّ مُؤْمِنٌ لَمْ يُهَاجِرْ، إِنِ اسْتَنْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصْرَهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ إِذْنُهُ، وَإِنِ اسْتَنْصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} وَالرَّابِعَةُ: التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا}، إِلَى آخَرَ السُّورَةِ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعِ مَنَازِلَ: مُؤْمِنٌ مُهَاجِرٌ، وَمُسْلِمٌ أَعْرَابِيٌّ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، وَالتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)، بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، يَقُولُ: بَعْضُهُمْ أَعْوَانُ بَعْضٍ وَأَنْصَارُهُ، وَأَحَقُّ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: "عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَحَقُّ بِمِيرَاثِ بَعْضٍ مِنْ قَرَابَتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَنْ حَضَرَنَا ذِكْرُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: نُوَرِّثُ أَرْحَامَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ! فَنَـزَلَتْ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الْآيَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، نَـزَلَتْ فِي مَوَارِيثِ مُشْرِكِي أَهْلِ الْعَهْدِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، قَالَ: كَانَ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَيْسَ بِمُهَاجِرٍ، لَا يَتَوَارَثَانِ وَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ. قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ كَانَ بِهَذَا الْبَلَدِ قَلِيلًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، وَانْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ تَوَارَثُوا حَيْثُمَا كَانُوا بِالْأَرْحَامِ. وَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ"، وَقَرَأَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُهَاجِرْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، قَالَ: كَانَ يَنْـزِلُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَيَقُولُ: إِنَّ ظَهْرَ هَؤُلَاءِ كُنْتُ مَعَهُمْ، وَإِنْ ظَهْرَ هَؤُلَاءِ كُنْتُ مَعَهُمْ! فَأَبَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وأَنْـزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَلَا تَرَاءَى نَارُ مُسْلِمٍ وَنَارُ مُشْرِكٍ، إِلَّا صَاحِبِ جِزْيَةٍ مُقِرٍّ بِالْخَرَاجِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَضَّ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّوَاصُلِ، فَجَعَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وِلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكُفَّارَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِلَّا تَفْعَلُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ مُوَارَثَةِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْكُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْهِجْرَةِ، وَالْأَنْصَارِ بِالْإِيمَانِ، دُونَ أَقْرِبَائِهِمْ مِنْ أَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَ الْكُفَّارِ (تَكُنْ فِتْنَةٌ)، يَقُولُ: يَحْدُثُ بَلَاءٌ فِي الْأَرْضِ بِسَبَبِ ذَلِكَ {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، يَعْنِي: وَمَعَاصٍ لِلَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، إِلَّا تَفْعَلُوا هَذَا، تَتْرُكُوهُمْ يَتَوَارَثُونَ كَمَا كَانُوا يَتَوَارَثُونَ {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ إِلَّا بِالْهِجْرَةِ، وَلَا يَجْعَلُونَهُمْ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْهِجْرَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ (إِلَّا تَفْعَلُوهُ)، يَقُولُ: إِلَّا تَأْخُذُوا فِي الْمِيرَاثِ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا تَنَاصَرُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي الدِّينِ، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: جَعَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وِلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكُفَّارَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، إِلَّا يُوَالِ الْمُؤْمِنُ الْمُؤْمِنُ مِنْ دُونِ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ بِهِ {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، أَيْ: شُبْهَةٌ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَظُهُورُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، بِتَوَلِّي الْمُؤْمِنِ الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ، ثُمَّ رَدَّ الْمَوَارِيثَ إِلَى الْأَرْحَامِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، قَالَ: إِلَّا تَعَاوَنُوا وَتَنَاصَرُوا فِي الدِّينِ {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَتَرَكِ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ مَعْنَى "الْوَلِيِّ"، أَنَّهُ النَّصِيرُ وَالْمُعِينُ، أَوْ: ابْنُ الْعَمِّ وَالنَّسِيبُ، فَأَمَّا الْوَارِثُ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِيهِ، إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلِيهِ فِي الْقِيَامِ بِإِرْثِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَلِكَ مَعْنًى بَعِيدٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ. وَتَوْجِيهُ مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَظْهَرِ الْأَشْهَرِ أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ أَنَّ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوا مَا أَمَرَتْكُمْ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الدِّينِ، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ إِذْ كَانَ مُبْتَدَأُ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. بِالْحَثِّ عَلَى الْمُوَالَاةِ عَلَى الدِّينِ وَالتَّنَاصُرِ جَاءَ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ خَاتِمَتَهَا بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا}، آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَهُ وَنَصَرُوهُمْ، وَنَصَرُوا دِينَ اللَّهِ، أُولَئِكَ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ حَقًّا، لَا مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ دَارَ الشِّرْكِ، وَأَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَمْ يَغْزُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَدُّوَهُمْ (لَهُمِْ مَغْفِرَةٌ)، يَقُولُ: لَهُمْ سَتْرٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذُنُوبِهِمْ، بِعَفْوِهِ لَهُمْ عَنْهَا (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، يَقُولُ: لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَطْعَمٌ وَمَشْرَبٌ هَنِيٌّ كَرِيمٌ، لَا يَتَغَيَّرُ فِي أَجْوَافِهِمْ فَيَصِيرَ نَجْوًا، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ رَشْحًا كَرَشْحِ الْمِسْكِ
وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، إِنَّمَا هُوَ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ، دُونَ الْمِيرَاثِ. لِأَنَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَقَّبَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْخَبَرُ عَمَّا لَهُمْ عِنْدَهُ، دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} الْآيَةَ، وَلَوْ كَانَ مُرَادًا بِالْآيَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ، الدَّلَالَةُ عَلَى حُكْمِ مِيرَاثِهِمْ، لَمْ يَكُنْ عَقِيبَ ذَلِكَ إِلَّا الْحَثُّ عَلَى إِمْضَاءِ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا أَمَرَ. وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنْ لَا نَاسِخَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِشَيْءٍ، وَلَا مَنْسُوخَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَالَّذِينَ آمَنُوا"، بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، مِنْ بَعْدِ تِبْيَانِي مَا بَيَّنْتُ مِنْ وِلَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِمْ مِمَّنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ حَتَّى يُهَاجِرَ (وَهَاجَرُوا)، دَارَ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ}، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}، فِي الْوِلَايَةِ، يَجِبُ عَلَيْكُمْ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّصْرَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُوَارَثَةِ، مِثْلُ الَّذِي يَجِبُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَلِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ رَدَّ الْمَوَارِيثَ إِلَى الْأَرْحَامِ مِمَّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْوِلَايَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَهُمْ، إِلَى الْأَرْحَامِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدٍ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، أَيْ: بِالْمِيرَاثِ (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالْمُتَنَاسِبُونَ بِالْأَرْحَامِ {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، فِي الْمِيرَاثِ، إِذَا كَانُوا مِمَّنْ قَسَّمَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُ نَصِيبًا وَحَظًّا، مِنَ الْحَلِيفِ وَالْوَلِيِّ {فِي كِتَابِ اللَّهِ}، يَقُولُ: فِي حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي كَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالسَّابِقِ مِنَ الْقَضَاءِ (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادُهُ، فِي تَوْرِيثِهِ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ، دُونَ الْحِلْفِ بِالْعَقْدِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ لَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ، حَتَّى أَنْـزَلَ اللَّهُ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ أَخَاهُ شُرَيْحَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ، فَوَلَدَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، فَلَمَّا شَبَّتِ الْجَارِيَةُ زُوِّجَتْ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، ثُمَّ مَاتَتِ السُّرِّيَّةُ، وَاخْتَصَمَ شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْغُلَامُ إِلَى شُرَيْحٍ الْقَاضِي فِي مِيرَاثِهَا، فَجَعَلَ شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ! قَالَ: فَقَضَى شُرَيْحٌ بِالْمِيرَاثِ لِلْغُلَامِ. قَالَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، فَرَكِبَ مَيْسَرَةُ بْنُ يَزِيدَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ بِقَضَاءِ شُرَيْحٍ وَقَوْلِهِ، فَكَتَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى شُرَيْحٍ: "إِنَّ مَيْسَرَةَ أَخْبَرَنِي أَنَّكَ قَضَيْتَ بِكَذَا وَكَذَا"، وَقُلْتَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، وَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ: "تَرِثُنِي وَأَرِثُكَ"، فَنَـزَلَتْ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، فَجَاءَ بِالْكِتَابِ إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: أَعْتَقَهَا حِيتَانُ بَطْنِهَا! وَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ قَضَائِهِ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: كَانَتْ لِشُرَيْحِ بْنِ الْحَارِثِ سُرِّيَّةٌ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا إِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ: "تَرِثُنِي وَأَرِثُكَ"، فَلْمَّا نَـزَلَتْ تُرِكَ ذَلِكَ. آخَرُ تَفْسِيرِ "سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ.
|