الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتَ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: (وَاذْكُرْ) يَا مُحَمَّدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ (إِبْرَاهِيمَ) خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَاقْصُصْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَصَصَهُ وَقَصَصَ أَبِيهِ، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا} يَقُولُ: كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ فِي حَدِيثِهِ وَأَخْبَارِهِ وَمَوَاعِيدِهِ لَا يَكْذِبُ، وَالصِّدِّيقُ هُوَ الْفِعِّيلُ مِنَ الصِّدْقِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ (نَبِيًّا) يَقُولُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ نَبَّأَهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} يَقُولُ: اذْكُرْهُ حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ} يَقُولُ: مَا تَصْنَعُ بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ {وَلَا يُبْصِرُ} شَيْئًا {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} يَقُولُ: وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضُرَّ شَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ صُورَةٌ مُصَوَّرَةٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، يَقُولُ مَا تُصْنَعُ بِعِبَادَةِ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ؟ اعْبُدِ الَّذِي إِذَا دَعَوْتَهُ سَمِعَ دُعَاءَكَ، وَإِذَا أُحِيطَ بِكَ أَبْصَرَكَ فَنَصَرَكَ، وَإِذَا نَـزَلَ بِكَ ضُرٌّ دَفَعَ عَنْكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ {يَا أَبَتِ} فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: إِذَا وَقَفْتَ عَلَيْهَا قُلْتَ: يَا أَبَهْ، وَهِيَ هَاءٌ زِيدَتْ نَحْوَ قَوْلِكَ: يَا أُمَّهْ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَمَّ إِذَا وُصِلَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَبُ عَلَى حَرْفَيْنِ، كَانَ كَأَنَّهُ قَدْ أُخِلَّ بِهِ، فَصَارَتِ الْهَاءُ لَازِمَةً، وَصَارَتِ الْيَاءُ كَأَنَّهَا بَعْدَهَا، فَلِذَلِكَ قَالُوا: يَا أَبَةِ أَقْبِلْ، وَجَعَلَ التَّاءَ لِلتَّأْنِيثِ، وَيَجُوزُ التَّرْخِيمُ مِنْ أَيَا أَبِ أَقْبِلْ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَدْعُوَ مَا تُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِكَ فِي الْمَعْنَى مَضْمُومًا، نَحْوَ قَوْلِ الْعَرَبِ: يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتَقِفُ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَبَةِ فِي الْكِتَابِ. وَقَدْ يَقِفُ بَعْضُ الْعَرَبِ عَلَى الْهَاءِ بِالتَّاءِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: الْهَاءُ مَعَ أَبَةِ وَأُمَّةِ هَاءُ وَقْفٍ، كَثُرَتْ فِي كَلَامِهِمْ حَتَّى صَارَتْ كَهَاءِ التَّأْنِيثَ، وَأَدْخَلُوا عَلَيْهَا الْإِضَافَةَ، فَمَنْ طَلَبَ الْإِضَافَةَ، فَهِيَ بِالتَّاءُ لَا غَيْرَ، لِأَنَّكَ تَطْلُبُ بَعْدَهَا الْيَاءَ، وَلَا تَكُونُ الْهَاءُ حِينَئِذٍ إِلَّا تَاءً، كَقَوْلِكَ: يَا أَبَتِ لَا غَيْرَ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَبَهْ، فَهُوَ الَّذِي يَقِفُ بِالْهَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ بَعْدَهَا يَاءً؛ وَمَنْ قَالَ: يَا أَبَتَا، فَإِنَّهُ يَقِفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَيَجُوزُ بِالْهَاءِ؛ فَأَمَّا بِالتَّاءِ، فَلِطَلَبِ أَلِفِ النُّدْبَةِ، فَصَارَتِ الْهَاءُ تَاءً لِذَلِكَ، وَالْوَقْفُ بِالْهَاءِ بَعِيدٌ، إِلَّا فِيمَنْ قَالَ: "يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ " فَجَعَلَ هَذِهِ الْفَتْحَةَ مِنْ فَتْحَةِ التَّرْخِيمِ، وَكَأَنَّ هَذَا طَرَفُ الِاسْمِ، قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ آتَانِي اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُؤْتِكَ فَاتَّبِعْنِي: يَقُولُ: فَاقْبَلْ مِنِّي نَصِيحَتِي {أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} يَقُولُ: أُبْصِرْكَ هُدَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَوِي الَّذِي لَا تَضِلُّ فِيهِ إِنْ لَزِمْتَهُ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا، وَالْعَصِيُّ هُوَ ذُو الْعِصْيَانِ، كَمَا الْعَلِيمُ ذُو الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: الْعَصِيُّ: هُوَ الْعَاصِي، وَالْعَلِيمُ هُوَ الْعَالِمُ، وَالْعَرِيفُ هُوَ الْعَارِفُ، وَاسْتَشْهَدُوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، بِقَوْلِ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمِ الْعَنْبَرِيِّ: أَوَكُلَّمَـا وَرَدَتْ عُكَـاظَ قَبِيلَـةٌ *** بَعَثُـوا إِلَـيَّ عَـرِيفُهُمْ يَتَوَسَّـمُ وَقَالُوا: قَالَ عَرِيفُهُمْ وَهُوَ يُرِيدُ: عَارِفُهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}. يَقُولُ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يَمْسُّكَ عَذَابٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} يَقُولُ: تَكُونُ لَهُ وَلِيًّا دُونَ اللَّهِ وَيَتَبَرَّأُ اللَّهُ مِنْكَ، فَتَهْلَكُ، وَالْخَوْفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، كَمَا الْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فِي قَوْلِهِ {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لِإِبْرَاهِيمَ، حِينَ دَعَاهُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} يَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ عِبَادَةِ آلِهَتِي؟ (لَئِنْ) أَنْتَ (لَمْ تَنْتَهِ) عَنْ ذِكْرِهَا بِسُوءٍ (لَأَرْجُمُنَّكَ) يَقُولُ: لَأَرْجُمُنَّكَ بِالْكَلَامِ، وَذَلِكَ السَّبُّ، وَالْقَوْلُ الْقَبِيحُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} بِالشَّتِيمَةِ وَالْقَوْلِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، فِيقَوْلِهِ {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}قَالَ: بِالْقَوْلِ؛ لَأَشْتُمُنَّكَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (لَأَرْجُمَنَّكَ) يَعْنِي: رَجْمَ الْقَوْلِ. وَأَمَّاقَوْلُهُ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَاهْجُرْنِي حِينًا طَوِيلًا وَدَهْرًا. وَوَجَهَّوا مَعْنَى الْمَلِيِّ إِلَى الْمُلَاوَةِ مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: دَهْرًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ (مَلِيًّا) قَالَ حِينًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: طَوِيلًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: زَمَانًا طَوِيلًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} يَقُولُ: دَهْرًا، وَالدَّهْرُ الْمَلِيُّ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: دَهْرًا. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَاهْجُرْنِي سَوِيًّا سَلِيمًا مِنْ عُقُوبَتِي إِيَّاكَ، وَوَجَّهُوا مَعْنَى الْمَلِيِّ إِلَى قَوْلِ النَّاسِ: فُلَانٌ مَلِيٌّ بِهَذَا الْأَمْرِ: إِذَا كَانَ مُضْطَلِعًا بِهِ غَنِيًّا فِيهِ. وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ كَانَ عِنْدَهُمْ: وَاهْجُرْنِي وَعِرْضُكَ وَافِرٌ مِنْ عُقُوبَتِي، وَجِسْمُكَ مُعَافًى مِنْ أَذَايَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} يَقُولُ: اجْتَنِبْنِي سَوِيًّا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: اجْتَنِبْنِي سَالِمًا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: سَالِمًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرِ بْنِ دِرْهَمٍ أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: ثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْجَدَلِيِّ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: سَالِمًا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} اجْتَنِبْنِي سَالِمًا لَا يُصِيبُكَ مِنِّي مَعَرَّةٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَاهْجُرْنِي سَوِيًّا، سَلَمًا مِنْ عُقُوبَتِي، لِأَنَّهُ عَقِيبُ قَوْلِهِ {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} وَذَلِكَ وَعِيدٌ مِنْهُ لَهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِ بِالسُّوءِ أَنْ يَرْجُمَهُ بِالْقَوْلِ السَّيِّئِ، وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَتَّبِعَ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ إِلَيْهِ بِالِانْتِهَاءِ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ تَنَالَهُ الْعُقُوبَةُ، فَأَمَّا الْأَمْرُ بِطُولِ هَجْرِهِ فَلَا وَجْهَ لَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ حِينَ تَوَعَّدَهُ عَلَى نَصِيحَتِهِ إِيَّاهُ وَدُعَائِهِ إِلَى اللَّهِ بِالْقَوْلِ السَّيِّئِ وَالْعُقُوبَةِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا أَبَتِ، يَقُولُ: أَمَنَةٌ مِنِّي لَكَ أَنْ أُعَاوِدَكَ فِيمَا كَرِهْتَ، وَلِدُعَائِكَ إِلَيَّ مَا تَوَعَّدْتَنِي عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَكِنِّي {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} يَقُولُ: وَلَكِنِّي سَأَسْأَلُ رَبِّي أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْكَ ذُنُوبَكَ بِعَفْوِهِ إِيَّاكَ عَنْ عُقُوبَتِكَ عَلَيْهَا {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} يَقُولُ: إِنَّ رَبِّي عَهِدْتُهُ بِي لَطِيفًا يُجِيبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَحَفَّى بِي فُلَانٌ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} يَقُولُ: لَطِيفًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} قَالَ: إِنَّهُ كَانَ بِي لَطِيفًا، فَإِنَّ الْحَفِيَّ: اللَّطِيفُ. وَقَوْلُهُ {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يَقُولُ: وَأَجْتَنِبُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ {وَأَدْعُو رَبِّي} يَقُولُ: وَأَدْعُو رَبِّي، بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَإِفْرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} يَقُولُ: عَسَى أَنْ لَا أَشْقَى بِدُعَاءِ رَبِّي، وَلَكِنْ يُجِيبُ دُعَائِي، وَيُعْطِينِي مَا أَسْأَلُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا اعْتَزَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ وَعِبَادَةَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَوْثَانِ آنَسَنَا وَحَشَتْهُ مِنْ فِرَاقِهِمْ، وَأَبْدَلْنَاهُ مِنْهُمْ بِمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، فَوَهَبَنَا لَهُ ابْنَهُ إِسْحَاقَ، وَابْنَ ابْنِهِ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} فَوَحَّدَ، وَلَمْ يَقِلْ أَنْبِيَاءَ، لِتَوْحِيدِ لَفْظِ "كُلُّ" {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَرَزَقْنَا جَمِيعَهُمْ، يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنْ رَحْمَتِنَا، وَكَانَ الَّذِي وَهَبَ لَهُمْ مَنْ رَحِمَتْهُ، مَا بَسَطَ لَهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنْ سَعَةِ رِزْقِهِ، وَأَغْنَاهُمْ بِفَضْلِهِ. وَقَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَرَزَقْنَاهُمُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ، وَالذِّكْرَ الْجَمِيلَ مِنَ النَّاسِ. كَمَا حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} يَقُولُ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ. وَإِنَّمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اللِّسَانَ الَّذِي جَعَلَ لَهُمْ بِالْعُلُوِّ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ تُحْسِنُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ جَاءَنِي لِسَانُ فُلَانٍ، تَعْنِي ثَنَاءَهُ أَوْ ذَمَّهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ: إِنِّـي أَتَتْنِـي لِسَـانٌ لَا أُسَـرُّ بِهَـا *** مِـنْ عَلْـوٍ لَا عَجَـبٌ مِنْهَـا وَلَا سَخُرُ وَيُرْوَى: لَا كَذِبَ فِيهَا وَلَا سَخَرَ: جَـاءَتْ مُرجَمَّـةً قَـدْ كُـنْتُ أَحْذَرُهَا *** لَـوْ كَـانَ يَنْفَعُنِـي الْإِشْـفَاقُ وَالْحَذَرُ مُرَجَّمَةٌ: يُظَنُّ بِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ فِي كِتَابِنَا الَّذِي أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، وَاقْصُصْ عَلَى قَوْمِكَ أَنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} بِكَسْرِ اللَّامِ مِنَ الْمُخْلِصِ، بِمَعْنَى: إِنَّهُ كَانَ يُخَلِّصُ لِلَّهِ الْعِبَادَةَ، وَيُفْرِدُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِيهَا شَرِيكًا، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ خَلَا عَاصِمٍ {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} بِفَتْحِ اللَّامِ مِنْ مُخْلَصٍ، بِمَعْنَى: إِنَّ مُوسَى كَانَ اللَّهُ قَدْ أَخْلَصَهُ وَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ، وجَعَلَهُ نَبِيًّا مُرْسَلًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصًا عِبَادَةَ اللَّهِ، مُخْلَصًا لِلرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ. {وَكَانَ رَسُولًا} يَقُولُ: وَكَانَ لِلَّهِ رَسُولًا إِلَى قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ نَبِيًّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَادَيْنَا مُوسَى مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، وَيَعْنِي بِالْأَيْمَنِ: يَمِينُ مُوسَى، لِأَنَّ الْجَبَلَ لَا يَمِينَ لَهُ وَلَا شِمَالَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: قَامَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَعَنْ شِمَالِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} قَالَ: جَانِبُ الْجَبَلِ الْأَيْمَنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الطَّوْرِ وَاخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، وَدَلَّلْنَا عَلَى الصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَدْنَيْنَاهُ مُنَاجِيًا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ نَدِيمُ فُلَانٍ وَمُنَادَمُهُ، وَجَلِيسُ فُلَانٍ وَمُجَالِسُهُ. وَذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَدْنَاهُ، حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: أُدْنِيَ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُوسِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: ثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: أَرَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: بَيْنَ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، أَوْ قَالَ: السَّابِعَةُ، وَبَيْنَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ: حِجَابُ نُورٍ، وَحِجَابُ ظَلَمَةٍ، وَحِجَابُ نُورٍ، وَحِجَابُ ظَلَمَةٍ؛ فَمَا زَالَ يُقَرِّبُ مُوسَى حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ، وَسَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: قَرَّبَهُ مِنْهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: أُدْنِيَ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ فِي اللَّوْحِ، وَقَالَ شُعْبَةُ: أَرْدَفَهُ جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ، مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: نَجَا بِصِدْقِهِ. وَقَوْلُهُ {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ} يَقُولُ: وَوَهَبَنَا لِمُوسَى رَحْمَةً مِنَّا أَخَاهُ هَارُونَ (نَبِيًّا) يَقُولُ أيَّدْنَاهُ بِنُبُوَّتِهِ، وَأَعَنَّاهُ بِهَا. كَمَا حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} قَالَ: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ أَرَادَ وَهَبَ لَهُ نُبُوَّتَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَاقْصُصْ خَبَرَهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يَكْذِبُ وَعْدَهُ، وَلَا يُخْلِفُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَعَدَ رَبَّهُ، أَوْ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ وَعْدًا وَفَّى بِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} قَالَ: لَمْ يَعِدْ رَبَّهُ عِدَّةً إِلَّا أَنْجَزَهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ سَهْلَ بْنَ عَقِيلٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَ رَجُلًا مَكَانًا أَنْ يَأْتِيَهُ، فَجَاءَ وَنَسِيَ الرَّجُلُ، فَظَلَّ بِهِ إِسْمَاعِيلُ، وَبَاتَ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا بَرِحَتْ مِنْ هَاهُنَا؟ قَالَ: لَا قَالَ: إِنِّي نَسِيتُ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَبْرَحَ حَتَّى تَأْتِيَ، فَبِذَلِكَ كَانَ صَادِقًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِـ} إِقَامَةِ (الصَّلَاةِ وَ) إِيتَاءِ {الزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} عَمَلُهُ، مَحْمُودًا فِيمَا كَلَّفَهُ رَبُّهُ، غَيْرَ مُقَصِّرٍ فِي طَاعَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ فِي كِتَابِنَا هَذَا إِدْرِيسُ {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا} لَا يَقُولُ الْكَذِبَ، (نَبِيًّا) نُوحِي إِلَيْهِ مَنْ أَمَرَنَا مَا نَشَاءُ. {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} يَعْنِي بِهِ إِلَى مَكَانٍ ذِي عُلُوٍّ وَارْتِفَاعٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ.وَقَالَ آخَرُونَ: الرَّابِعَةُ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَمِرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِدْرِيسَ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ كَعْبٌ: أَمَّا إِدْرِيسُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ: إِنِّي رَافِعٌ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ عَمَلِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ، فَأَحِبَّ أَنْ تَزْدَادَ عَمَلًا فَأَتَاهُ خَلِيلٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا، فَكَلِّمْ لِي مَلَكَ الْمَوْتِ، فَلْيُؤَخِّرْنِي حَتَّى أَزْدَادَ عَمَلًا فَحَمَلَهُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ؛ فَلَمَّا كَانَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، تَلَقَّاهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ مُنْحَدَرًا، فَكَلَّمّ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي الَّذِي كَلَّمَهُ فِيهِ إِدْرِيسُ، فَقَالَ: وَأَيْنَ إِدْرِيسُ؟ فَقَالَ: هُوَ ذَا عَلَى ظَهْرِي، قَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: فَالْعَجَبُ بُعِثْتُ أَقْبِضُ رُوحَ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: كَيْفَ أَقْبِضُ رُوحَهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ؟ فَقَبَضَ رُوحَهُ هُنَاكَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ فَلَمْ يَمُتْ، كَمَا رُفِعَ عِيسَى. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَلَمْ يَمُتْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَمَاتَ فِيهَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} إِدْرِيسُ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: السَّمَاءُ الرَّابِعَةُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَدْرِيِّ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُهَيْلٍ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ "شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي" قَالَ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَهُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ خَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ رَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا». حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ حَدَّثَ «أَنَّهُ لَمَّا عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَة».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍوَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اقْتَصَصْتُ عَلَيْكَ أَنْبَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَوْفِيقِهِ، فَهَدَاهُمْ لِطَرِيقِ الرُّشْدِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فِي الْفُلْكِ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَمِمَّنْ هَدَيْنَا لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتَبَيْنَا: يَقُولُ: وَمِمَّنِ اصْطَفَيْنَا وَاخْتَرْنَا لِرِسَالَتِنَا وَوَحْيِنَا، فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إِدْرِيسُ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِبْرَاهِيمُ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَإِسْمَاعِيلُ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ: مُوسَى وَهَارُونُ وَزَكَرِيَّا وَعِيسَى وَأُمُّهُمَرْيَمُ، وَلِذَلِكَ فَرَّقَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْسَابَهَمْ وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ إِدْرِيسُ، وَإِدْرِيسُ جَدُّ نُوحٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ} يَقُولُ إِذَا تُتْلَى عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أَدِلَّةُ اللَّهِ وَحُجَجُهُ الَّتِي أَنَـزْلَهَا عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِ، خَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، اسْتِكَانَةً لَهُ وَتَذَلُّلًا وَخُضُوعًا لِأَمْرِهِ وَانْقِيَادًا، (وَبُكِيًّا) يَقُولُ: خَرُّوا سُجَّدًا وَهُمْ بَاكُونَ، وَالْبُكِيُّ: جَمْعُ بَاكٍ، كَمَا الْعُتِيُّ جَمْعُ عَاتٍ وَالْجُثِيُّ: جَمْعُ جَاثٍ، فَجُمِعَ وَهُوَ فَاعِلٌ عَلَى فَعَوْلٍ، كَمَا يُجْمَعُ الْقَاعِدُ قُعُودًا، وَالْجَالِسُ جُلُوسًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ: وبُكُوًّا وَعُتُوًّا، وَلَكِنْ كُرِهَتِ الْوَاوُ بَعْدَ الضَّمَّةِ فَقُلِبَتْ يَاءً، كَمَا قِيلَ فِي جَمْعِ دَلْوٍ أَدْلٍ. وَفِي جَمْعِ الْبَهْوِ أَبْهٍ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَفْعَلٌ أَدْلَوٌ وَأَبْهَوٌ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِمَجِيئِهَا بَعْدَ الضَّمَّةِ اسْتِثْقَالًا وَفِي ذَلِكَ لُغَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةِ عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ بِالْقُرْآنِ بُكُوًّا وَعُتُوًّا بِالضَّمِّ، وَبُكِيًّا وَعِتِيًّا بِالْكَسْرِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبُكِيُّ هُوَ الْبُكَاءُ بِعَيْنِهِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سُورَةَ مَرْيَمَ فَسَجَدَ وَقَالَ: هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ: فَأَيْنَ الْبُكَاءُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْتُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ، وَوَصَفْتُ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، خَلْفُ سُوءٍ فِي الْأَرْضِ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ إِضَاعَتِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ إِضَاعَتُهُمُوهَا تَأْخِيرُهُمْ إِيَّاهَا عَنْ مَوَاقِيتِهَا، وَتَضْيِيعُهُمْ أَوْقَاتِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعْدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، فِي قَوْلِهِ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} قَالَ: إِنَّمَا أَضَاعُوا الْمَوَاقِيتَ، وَلَوْ كَانَ تَرْكًا كَانَ كُفْرًا. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ زَيْدٍ الْخَطَابِيُّ، قَالَ: ثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ، قَالَ: ثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ: أَضَاعُوا الْمَوَاقِيتَ، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَصَارُوا بِتَرْكِهَا كُفَّارًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعَثَ رَجُلًا إِلَى مِصْرَ لِأَمْرٍ أَعْجَلَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ إِلَى حَرَسِهِ، وَقَدْ كَانَ تُقَدِّمَ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُومُوا إِذَا رَأَوْهُ، قَالَ: فَأَوْسَعُوا لَهُ، فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَعْرِفُ الرَّجُلَ الَّذِي بَعَثْنَاهُ إِلَى مِصْرَ؟ فَقَالُوا: كُلُّنَا نَعْرِفُهُ، قَالَ: فَلْيَقُمْ أَحْدَثُكُمْ سِنًّا، فَلْيَدْعُهُ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: لَا تَعَجَّلْنِي أَشُدَّ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الْيَوْمَ الْجُمْعَةُ، فَلَا تَبْرَحَنَّ حَتَّى تُصَلِيَ، وَإِنَّا بَعَثْنَاكَ فِي أَمْرٍ أُعَجِّلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُعْجِلَنَّكَ مَا بَعَثْنَاكَ لَهُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا، فَإِنَّكَ مُصَلِّيهَا لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَرَأَ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَكُنْ إِضَاعَتَهُمْ تَرْكَهَا، وَلَكِنْ أَضَاعُوا الْوَقْتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحُسْنِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} و {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} و {عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا، قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا عَلَى التَّرْكِ، قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا عُمَرُ أَبُو حَفْصٍ الْأَبَّارُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، قَالَ: قَالَ مَسْرُوقٌ: لَا يُحَافِظُ أَحَدٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَيُكْتَبُ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَفِي إِفْرَاطِهِنَّ الْهِلْكَةُ، وَإِفْرَاطُهُنَّ: إِضَاعَتُهُنَّ عَنْ وَقْتِهِنَّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ إِضَاعِتُهُمُوهَا: تَرْكَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبَدَ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو صَخْرٍ، عَنِ الْقُرَظِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} يَقُولُ: تَرَكُوا الصَّلَاةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِضَاعَتُهُمُوهَا تَرْكُهُمْ إِيَّاهَا لِدَلَالَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} فَلَوْ كَانَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ ضَيَّعُوهَا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَهُمْ مُؤْمِنُونَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا لَا يُصَلُّونَ لِلَّهِ، وَلَا يُؤَدُّونَ لَهُ فَرِيضَةً، فَسَقَةً قَدْ آثَرُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى. وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ. قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَهَابِ صَالِحِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْـزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَزِقَّةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: زِنَا. وَقَالَ الْحَارِثُ: زُنَاةٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ: زِنَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَمْرٍو. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}.... الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ. وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْأَشْيَبُ، قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي تَمِيمِ بْنِ مُهَاجِرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} قَالَ: هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ يَتَرَاكَبُونَ تَرَاكُبَ الْأَنْعَامِ وَالْحُمُرِ فِي الطُّرُقِ، لَا يَخَافُونَ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا يَسْتَحْيُونَ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ. وأَمَّا قَوْلُهُ {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَلْفَ الَّذِينَ خُلِّفُوا بَعْدَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ سَيَدْخُلُونَ غَيًّا، وَهُوَ اسْمُ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ، أَوِ اسْمُ بِئْرٍ مِنْ آبَارِهَا. كَمَا حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ رَزَانَ قَالَ: ثَنَا شَرْقِيُّ بْنُ قَطَامِيٍّ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: جِئْتُ أَبَا أُمَامَةَ صَدِيَّ بْنَ عِجْلَانَ الْبَاهِلِيَّ، فَقُلْتُ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَدَعَا بِطَعَامٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ أَوَاقٍ قُذِفَ بِهَا مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ مَا بَلَغَتْ قَعْرَهَا خَمْسِينَ خَرِيفًا، ثُمَّ تَنْتَهِي إِلَى غَيٍّ وَأَثَامٍ، قَالَ: قُلْتُ وَمَا غَيٌّ وَمَا أَثَامٌ؟ قَالَ: بِئْرَانِ فِي أَسْفَلَ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَهُمَا اللَّتَانِ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، وَقَوْلُهُ فِي الْفُرْقَانِ {وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: وَادِيًا فِي النَّارِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: نَهْرٌ فِي جَهَنَّمَ خَبِيثُ الطَّعْمِ بَعِيدُ الْقَعْرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: الْغَيُّ: نَهْرُ جَهَنَّمَ فِي النَّارِ، يُعَذَّبُ فِيهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: الْغَيُّ: نَهْرُ جَهَنَّمَ فِي النَّارِ، يُعَذَّبُ فِيهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: نَهْرٌ فِي النَّارِ يُقْذَفُ فِيهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِالْغَيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْخُسْرَانُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} يَقُولُ: خُسْرَانًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ الشَّرُّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: الْغَيُّ: الشَّرُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَـنْ يَلْـقَ خَـيْرًا يَحْـمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ *** وَمَـنْ يَغْـوَ لَا يَعْـدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ وَرَدَ الْبِئْرَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْوَادِي الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي جَهَنَّمَ، فَدَخَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ لَاقَى خُسْرَانًا وَشَرًّا، حَسْبُهُ بِهِ شَرًّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَسَوْفَ يَلْقَى هَؤُلَاءِ الْخَلَفُ السُّوءَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ غَيًّا، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَرَاجِعُوا أَمْرَ اللَّهِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ {وَعَمِلَ صَالِحًا} يَقُولُ: وَأَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ عَنْهُ، وَأَدَّى فَرَائِضَهُ، وَاجْتَنَبَ مَحَارِمَهُ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، وَإِضَاعَتِهِ الصَّلَاةَ وَاتِّبَاعِهِ الشَّهَوَاتِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} يَقُولُ: وَلَا يُبْخَسُونَ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ هَلَكُوا مِنَ الْخَلْفِ السُّوءِ مِنْهُمْ قَبْلَ تَوْبَتِهِمْ مِنْ ضَلَالِهِمْ، وَقَبْلَ إِنَابَتِهِمْ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ فِي جَهَنَّمَ، وَلَكِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَدْخَلَ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} وَقَوْلُهُ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} نُصِبَ تَرْجَمَةً عَنِ الْجَنَّةِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} بَسَاتِينَ إِقَامَةٍ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِهِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} يَقُولُ: هَذِهِ الْجَنَّاتُ هِيَالْجَنَّاتُ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْخُلُوهَا بِالْغَيْبِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهَا وَلَمْ يُعَايِنُوهَا، فَهِيَ غَيْبٌ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ وَعْدُهُ، وَوَعْدُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَوْعُودُهُ، وَهُوَ الْجَنَّةُ مَأْتِيًّا يَأْتِيهِ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ الَّذِينَ يُدْخِلُهُمُوهَا اللَّهُ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: خَرَجَ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ هُوَ الْمَأْتِيُّ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي، وَلَمْ يَقِلْ: وَكَانَ وَعْدُهُ آتِيًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَاكَ فَأَنْتَ تَأْتِيهِ، وَقَالَ: أَلَّا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَتَيْتُ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً، وَأَتَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ سَنَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ صَوَابٌ، وَقَدْ بَيَّنْتُ الْقَوْلَ فِيهِ، وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ (إِنَّهُ) مِنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا يَسْمَعُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُدْخِلُونَ الْجَنَّةَ فِيهَا لَغْوًا، وَهُوَ الْهَذْيُ وَالْبَاطِلُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ (إِلَّا سَلَامًا) وَهَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنْ يَسْمَعُونَ سَلَامًا، وَهُوَ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ. وَقَوْلُهُ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} يَقُولُ: وَلَهُمْ طَعَامُهُمْ وَمَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ فِي قَدْرِ وَقْتَ الْبُكْرَةِ وَوَقْتَ الْعَشِيِّ مِنْ نَهَارِ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ الَّذِي بَيْنَ غَدَائِهِمْ وَعَشَائِهِمْ فِي الْجَنَّةِ قَدْرُ مَا بَيْنَ غَدَاءِ أَحَدِنَا فِي الدُّنْيَا وَعَشَائِهِ، وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَ الْعَشَاءِ وَالْغَدَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا نَهَارَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} وَ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} يَعْنِي بِهِ: مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ زُهَيْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، هُمْ فِي نُورٍ أَبَدًا، وَلَهُمْ مِقْدَارُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ، وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ بِرَفْعِ الْحُجُبِ، وَفَتْحِ الْأَبْوَابِ. حَدَّثَنَا عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيد، عَنْ خُلَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أَبْوَابٌ يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، فَتُكَلَّمُ وَتَكَلَّمُ، فَتُهِمُّهُمُ انْفَتِحِي انْغَلِقِي، فَتَفْعَلْ. حَدَّثَنِي ابْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثَنَا عَامِرُ بْنُ يَسَافٍ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي زَمَانِهِمْ مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ عَشَاءً وَغَدَاءً، فَذَاكَ النَّاعِمُ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}: قَدْرُ مَا بَيْنَ غَدَائِكُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى عَشَائِكُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمُ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ عُجِبَ لَهُ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، قَدْرَ ذَلِكَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَيْسَ بُكْرَةً وَلَا عَشِيَّ، وَلَكِنْ يُؤْتُونَ بِهِ عَلَى مَا كَانُوا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فِيهَا سَاعَتَانِ بَكَرَةٌ وَعَشِيٌّ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لَيْسَ ثَمَّ لَيْلٌ، إِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْتُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ صِفَتَهَا، هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُهَا، يَقُولُ: نُورِثُ مَسَاكِنَ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا {مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} يَقُولُ: مَنْ كَانَ ذَا اتِّقَاءِ عَذَابِ اللَّهِ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ مِنْ أَجْلِ اسْتِبْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرَائِيلَ بِالْوَحْي، وَقَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَ الرِّوَايَةِ، وَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَاقِيَ مَا حَضَرَنَا ذَكَرُهُ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْ قَبْلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَانَ الْعِجْلِيُّ، وَقَبِيصَةُ وَوَكِيعٌ؛ وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثَنَا أَبِي، جَمِيعًا عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، قَالَ: سَمِعَتْ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ لِجِبْرَائِيلَ: "مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا" فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}» قَالَ: هَذَا الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرَائِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ فَنَـزَلَتْ (وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ ثَنْيَ عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} إِلَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} قَالَ: «احْتَبَسَ جِبْرَائِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَحَزِنَ، فَأَتَاهُ جِبْرَائِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «لَبِثَ جِبْرَائِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ اسْتَبْطَأَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ جِبْرَائِيلُ (وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).... الْآيَةَ». حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} قَالَ: هَذَا قَوْلُ جِبْرَائِيلَ، «احْتَبَسَ جِبْرَائِيلُ فِي بَعْضِ الْوَحْيِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا جِئْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ لَهُ جِبْرَائِيلُ: {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا}». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) قَالَ: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ حِينَ اسْتَرَاثَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَالَّتِي فِي الضُّحَى. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «لَبِثَ جِبْرَائِيلُ عَنْ مُحَمَّدٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَيَقُولُونَ: قُلِيَ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: أَيْ جَبْرائِيلُ لَقَدْ رِثْتَ عَلَيَّ حَتَّى لَقَدْ ظَنَّ الْمُشْرِكُونَ كُلَّ ظَنٍّ فَنَـزَلَتْ {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}». حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} «احْتَبَسَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَكَلَّمَ الْمُشْرِكُونَ فِي ذَلِكَ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، فَأَتَاهُ جِبْرَائِيلُ، فَقَالَ: اشْتَدَّ عَلَيْكَ احْتِبَاسُنَا عَنْكَ، وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، إِذَا أَمَرَنِي بِأَمْرٍ أَطَعْتُهُ {وَمَا نَتَنَـزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} يَقُولُ: بِقَوْلِ رَبِّك». ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مِنَ الدُّنْيَا، وَبِقَوْلِهِ {وَمَا خَلْفَنَا} الْآخِرَةَ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} النَّفْخَتَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} يَعْنِي الدُّنْيَا {وَمَا خَلْفَنَا} الْآخِرَةَ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} النَّفْخَتَيْنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مِنَ الدُّنْيَا {وَمَا خَلْفَنَا} مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} الْآخِرَةُ {وَمَا خَلْفَنَا} الدُّنْيَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {بَيْنَ أَيْدِينَا} الْآخِرَةُ {وَمَا خَلْفَنَا} مِنَ الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَمَا خَلْفَنَا} مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مِنَ الْآخِرَةِ {وَمَا خَلْفَنَا} مِنَ الدُّنْيَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مِنَ الْآخِرَةِ {وَمَا خَلْفَنَا} مِنَ الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} قَالَ: مَا مَضَى أَمَامَنَا مِنَ الدُّنْيَا {وَمَا خَلْفَنَا} مَا يَكُونُ بَعْدَنَا مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} قَالَ: مَا بَيْنَ مَا مَضَى أَمَامَهُمْ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ بَعْدَهُمْ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ لَهُ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} قَبْلَ أَنْ نُخْلَقَ {وَمَا خَلْفَنَا} بَعْدَ الْفِنَاءِ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} حِينَ كُنَّا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَجِئْ وَهُوَ جَاءَ، فَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنَّ الْأَغْلَبَ فِي اسْتِعْمَالِ النَّاسِ إِذَا قَالُوا: هَذَا الْأَمْرُ بَيْنَ يَدَيْكَ، أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِهِ مَا لَمْ يَجِئْ، وَأَنَّهُ جَاءَ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ. وَمَا خَلْفَنَا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مَا قَدْ خَلَّفُوهُ فَمَضَى، فَصَارَ خَلْفَهُمْ بِتَخْلِيفِهِمْ إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لَمَّا قَدْ جَاوَزَهُ الْمَرْءُ وَخَلَفَهُ هُوَ خَلْفَهُ، وَوَرَاءَهُ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ: مَا بَيْنَ مَا لَمْ يَمْضِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي بَيْنَ ذَيْنِكَ الْوَقْتَيْنِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ الْأَغْلَبُ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ مَعَانِيهِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. فَتَأَمَّلِ الْكَلَامَ إِذَنْ: فَلَا تَسْتَبْطِئْنَا يَا مُحَمَّدُ فِي تَخَلُّفِنَا عَنْكَ، فَإِنَّا لَا نَتَنَـزَّلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَنَا بِالنُّـزُولِ إِلَيْهَا، لِلَّهِ مَا هُوَ حَادِثٌ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الَّتِي لَمَّ تَأْتِ وَهِيَ آتِيَةٌ، وَمَا قَدْ مَضَى فَخَلَّفْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَمَا بَيْنَ وَقْتِنَا هَذَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، بِيَدِهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَهُوَ مَالِكُهُ وَمُصَرِّفُهُ، لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُحْدِثَ فِي سُلْطَانِهِ أَمْرًا إِلَّا بِأَمْرِهِ إِيَّانَا بِهِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} يَقُولُ: وَلَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ذَا نِسْيَانٍ، فَيَتَأَخَّرُ نُـزُولِي إِلَيْكَ بِنِسْيَانِهِ إِيَّاكَ بَلْ هُوَ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ فَتَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَكِنَّهُ أَعْلَمَ بِمَا يُدَبِّرُ وَيَقْضِي فِي خَلْقِهِ. جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا نَسِيًّا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَسِيًّا لَمْ يَسْتَقِمْ ذَلِكَ، وَلَهَلَكَ لَوْلَا حِفْظُهُ إِيَّاهُ، فَالرَّبُّ مَرْفُوعٌ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ (رَبُّكَ) وَقَوْلُهُ (فَاعْبُدْهُ) يَقُولُ: فَالْزَمْ طَاعَتَهُ، وَذُلَّ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} يَقُولُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ عَلَى النُّفُوذِ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، تَفُزْ بِرِضَاهُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا عَدْلَ وَلَا شَبِيهَ فِي جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَفَضْلِهِ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يَقُولُ: هَلْ تَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِعِبَادَتِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ مِثْلًا فِي كَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَتَعْبُدُهُ رَجَاءَ فَضْلِهِ وَطَوْلِهِ دُونَهُ كَلَّا مَا ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}يَقُولُ: هَلْ تَعْلَمُ لِلرَّبِّ مَثَلًا أَوْ شَبِيهًا. حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِيِّ، قَالَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَوَّامٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قَالَ: شَبِيهًا. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ شَبِيهًا، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ مِثْلًا تَبَارَكَ وَتَعَالَى. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} لَا سَمِيَّ لِلَّهِ وَلَا عَدْلَ لَهُ، كُلُّ خَلْقِهِ يُقِرُّ لَهُ، وَيَعْتَرِفُ أَنَّهُ خَالِقُهُ، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قَالَ: يَقُولُ: لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مِثْلَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْرُجُ حَيًّا، فَأُبْعَثُ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَبَعْدَ الْبَلَاءِ وَالْفَنَاءِ إِنْكَارًا مِنْهُ ذَلِكَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} الْمُتَعَجِّبُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْكِرُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهِ بَعْدَ فَنَائِهِ، وَإِيجَادِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ فِي خَلْقِ نَفْسِهِ، أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ قَبْلِ مَمَاتِهِ، فَأَنْشَأَهُ بَشَرًا سَوِيًّا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ (وَلَمْ يَكُ) مِنْ قَبْلِ إِنْشَائِهِ إِيَّاهُ (شَيْئًا) فَيَعْتَبِرُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَنْشَأَهُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِحْيَائِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَإِيجَادِهِ بَعْدَ فَنَائِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} فَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ {أَوَلَا يَذْكُرُ} بِتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَقَدْ قَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ {أَوَلَا يَذْكُرُ} بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَالْكَافِ، بِمَعْنَى: أَوْ لَا يَتَذَكَّرُ، وَالتَّشْدِيدُ أَعْجَبُ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى جَائِزَةً، لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: أَوْ لَا يَتَفَكَّرُ فَيَعْتَبِرُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَوَرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ لِنَحْشُرُنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ: أَئِذَا مِتْنَا لَسَوْفَ نُخْرَجُ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِهِمْ، مُقْرَنِينَ بِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} وَالْجِثِيُّ: جَمْعُ الْجَاثِي. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} يَعْنِي: الْقُعُودُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ {وَتَرَى كُلَ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَنَنْـزِعَنَّ مِنْ كُلِ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ لَنَأْخُذُنَّ مِنْ كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَشَدُّهُمْ عَلَى اللَّهِ عُتُوًّا، وَتَمَرُّدًا فَلَنَبْدَأَنَّ بِهِمْ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي أَلِأَحْوَصَ {ثُمَّ لَنَنْـزِعَنَّ مِنْ كُلِ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} قَالَ: نَبْدَأُ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {ثُمَّ لَنَنْـزِعَنَّ مِنْ كُلِ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} يَقُولُ: أَيَهُمُّ أَشَدُّ لِلرَّحْمَنِ مَعْصِيَةً، وَهِيَ مَعْصِيَتُهُ فِي الشِّرْكِ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} يَقُولُ: عَصِيًّا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {مِنْ كُلِ شِيعَةٍ} قَالَ: أُمَّةٌ. وَقَوْلُهُ (عِتِيًّا) قَالَ: كُفْرًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ، وَزَادَ فِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَلَنَبْدَأَنَّ بِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالشِّيعَةُ هُمُ الْجَمَاعَةُ الْمُتَعَاوِنُونَ عَلَى الْأَمْرِ مِنَ الْأُمُورِ، يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: تَشَايَعَ الْقَوْمُ: إِذَا تَعَاوَنُوا؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ: إِنَّهُ لَمُشَيَّعٌ: أَيْ مُعَانٌ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: ثُمَّ لَنَنْـزِعَنَّ مِنْ كُلِّ جَمَاعَةٍ تَشَايَعَتْ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، أَشَدَّهمْ عَلَى اللَّهِ عُتُوًّا، فَلَنَبْدَأَنَّ بِإِصْلَائِهِ جَهَنَّمَ. وَالتَّشَايُعُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: التَّفَرُّقُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَكَانُوا شِيَعًا} يَعْنِي: فِرَقًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ سَعْدٍ؛ إِنِّي أَكْرَهُ أَنَّ آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: شَيَّعْتَ بَيْنَ أُمَّتِي، بِمَعْنَى: فَرَّقْتَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَنَـزِعُهُمْ مَنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَوْلَاهُمْ بِشِدَّةِ الْعَذَابِ، وَأَحَقَّهمْ بِعَظِيمِ الْعُقُوبَةِ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} قَالَ: أَوْلَى بِالْخُلُودِ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ يَنْـزِعُهُمْ مَنْ كُلِّ شِيعَةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ أَشَدُّهمْ كُفْرًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا كَافِرَ بِاللَّهِ إِلَّا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، فَلَا وَجْهَ، وَجَمِيعُهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي جَهَنَّمَ، لِأَنَّ يُقَالُ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينِ هُمْ أَحَقُّ بِالْخُلُودِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّدِينَ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينِ هُمْ أَوْلَى بِبَعْضِ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ صِلِيًّا. وَالصِّلِيُّ: مَصْدَرُ صَلِيَتْ تَصَلَى صِلِيًّا، وَالصِّلِيُّ: فُعُولٌ، وَلَكِنَّ وَاوَهَا انْقَلَبَتْ يَاءً فَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ الَّتِي بَعْدَهَا الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ، فَصَارَتْ يَاءً مُشَدَّدَةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا وَارِدُ جَهَنَّمَ، كَانَ عَلَى رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ إِيرَادُهُمُوهَا قَضَاءً مَقْضِيًّا، قَدْ قَضَى ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْوُرُودِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الدُّخُولُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: أَخْبَرَنِي مِنْ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَاصِمُ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوُرُودُ: الدُّخُولُ، وَقَالَ نَافِعٌ: لَا فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أَوُرُودٌ هُوَ أَمْ لَا؟ وَقَالَ {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} أَوُرُودٌ هُوَ أَمْ لَا؟ أَمَا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ وَمَا أَرَى اللَّهَ مُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكَ، قَالَ: فَضَحِكَ نَافِعٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ. قَالَ أَبُو رَاشِدٍ الْحَرُورِيُّ: ذَكَرُوا هَذَا فَقَالَ الْحَرُورِيُّ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْلُكَ أَمْجَنُونٌ أَنْتَ؟ أَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}، وَقَوْلُهُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وَاللَّهِ إِنْ كَانَ دُعَاءُ مَنْ مَضَى: اللَّهُمَّ أَخْرِجْنِي مِنَ النَّارِ سَالِمًا، وَأَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ غَانِمًا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُ: الْوُرُودُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: الدُّخُولُ، لَيَرِدَنَّهَا كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةَ أَوْرَادٍ {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} وَ {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}، وَقَوْلُهُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} يَعْنِي الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِفِرْعَوْنَ {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} وَقَالَ {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} فَسَمَّى الْوُرُودَ فِي النَّارِ دُخُولًا وَلَيْسَ بِصَادِرٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَ: ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ بِكَارِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، قَالَ: قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ: أَلَمْ يَعِدْنَا رَبُّنَا الْوُرُودَ عَلَى النَّارِ؟ قَالَ: قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَيْهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ، قَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ بَكَّارُ بْنُ أَبِي مَرْوَانَ، أَوْ قَالَ: جَامِدَةٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثَنِي أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمًا نَارًا، فَمَاذَا أَعْدَدْتُمْ لَهَا؟ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: ذَكَرُوا وُرُودَ النَّارِ، فَقَالَ كَعْبٌ: تَمَسُّكُ النَّارِ لِلنَّاسِ كَأَنَّهَا مَتْنُ إِهَالَةٍ، حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَيْهَا أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، ثُمَّ يُنَادِيهَا مُنَادٍ: أَنْ أَمْسِكِي أَصْحَابَكَ، وَدَعِي أَصْحَابِي، قَالَ: فَيُخْسَفُ بِكُلِّ وَلِيٍّ لَهَا، وَلَهِيَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنَ الرَّجُلِ بِوَلَدِهِ، وَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ نِدِّيَّةً أَبْدَانُهُمْ. قَالَ: وَقَالَ كَعْبٌ: مَا بَيْنَ مَنْكِبِي الْخَازِنِ مِنْ خَزَنَتْهَا مَسَيَرةُ سَنَةٍ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَمُودٌ لَهُ شُعْبَتَانِ، يَدْفَعُ بِهِ الدَّفْعَةَ، فَيَصْرَعُ بِهِ فِي النَّارِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَ أَبُو مَيْسَرَةَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: يَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، ثُمَّ يَبْكِي، فَقِيلَ: وَمَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا مَيْسَرَةَ؟ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَنَّا وَارِدُوهَا، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّا صَادِرُونَ عَنْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: بَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي مَرَضِهِ، فَبَكَتِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ، قَالَتْ: رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ، قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ إِنَّى وَارِدٌ النَّارَ فَمَا أَدْرِي أَنَاجٍ مِنْهَا أَنَا أَمْ لَا؟. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَمْرٍو دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ السُّدِّيَّ يَذْكُرُ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قَالَ: دَاخِلُهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قَالَ: يَدْخُلُهَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَاضِعَ رَأْسِهِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ، فَبَكَى، فَبَكَتِ امْرَأَتُهُ، قَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ، قَالَ: إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ {وَإِنَّ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فَلَا أَدْرِي أَنْجُو مِنْهَا، أَمْ لَا؟. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلَّ هُوَ الْمَرُّ عَلَيْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} يَعْنِي جَهَنَّمَ مَرَّ النَّاسُ عَلَيْهَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قَالَ: هُوَ الْمَرُّ عَلَيْهَا. حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قَالَ: الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ، فَتَمُرُّ الطَّبَقَةُ الْأُولَى كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيحِ، وَالثَّالِثَةُ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعَةُ كَأَجْوَدَ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْوُرُودُ: هُوَ الدُّخُولُ، وَلَكِنَّهُ عَنَى الْكُفَّارَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ رَجُلٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} يَعْنِي الْكُفَّارَ، قَالَ: لَا يَرِدُهَا مُؤْمِنٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ الْوَلِيدِ الشَّنِّيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} يَعْنِي الْكُفَّارَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْوُرُودُ عَامٌّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، غَيْرَ أَنَّ وُرُودَ الْمُؤْمِنِ الْمُرُورُ، وَوُرُودَ الْكَافِرِ الدُّخُولُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وُرُودُ الْمُسْلِمِينَ الْمُرُورُ عَلَى الْجِسْرِ بَيْنَ ظَهْرَيْهَا وَوُرُودُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَدْخُلُوهَا، قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزَّالُّونَ والزَّالَّاتُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَقَدْ أَحَاطَ الْجِسْرَ سِمَاطَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، دَعْوَاهُمْ يَوْمَئِذٍ يَا اللَّهُ سَلِّم». وَقَالَ آخَرُونَ: وُرُودُ الْمُؤْمِنِ مَا يُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حُمًّى وَمَرَضٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْحُمَّى حَظُّ كَلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}. حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكُلَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَبِهِ وَعْكٌ وَأَنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَة». وَقَالَ آخَرُونَ: يَرِدُهَا الْجَمِيعُ، ثُمَّ يَصْدُرُ عَنْهَا الْمُؤْمِنُونَ بِأَعْمَالِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: ثَنِي السُّدِّيُّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قَالَ: يَرِدُونَهَا ثُمَّ يَصُدُّونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا شَعْبَةُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو رَاشِدٍ، وَهُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} قَالَ: أَمَا أَنَا وَأَنْتَ يَا أَبَا رَاشِدٍ فَسَنَرِدُهَا، فَانْظُرْ هَلْ نَصْدُرُ عَنْهَا أَمْ لَا؟. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ، فَقَالَ: نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كُوًى أَوْ كَرًى، فَوْقَ النَّاسِ، فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا، وَمَا كَانَتْ تَعَبُّدُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتْبَعُونَهُ، قَالَ: وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مُنَافِقٍ وَمُؤْمِنٍ نُورًا، وَيُغْشَى ظَلَمَةً ثُمَّ يَتْبَعُونَهُ، وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِ، وَيَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ، فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَسَبْعُونَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَاءِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ فَيُشَّفَعُونَ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ شُعَيْرَةٍ مَنْ خَيْرٍ، ثُمَّ يُلْقُونَ تِلْقَاءَ الْجَنَّةِ، وَيُهَرِيقُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَاءَ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الشَّيْءِ فِي السَّيْلِ، ثُمَّ يَسْأَلُونَ فَيُجْعَلُ لَهُمُ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِأَخِيهِ: هَلْ أَتَاكَ بِأَنَّكَ وَارِدٌ النَّارَ؟ قَالَ: نَعِمَ، قَالَ: فَهَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ صَادِرٌ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَفِيمَ الضَّحِكُ؟ قَالَ: فَمَا رُؤِيَ ضَاحِكًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ لِبُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ: إِنَّ وُرُودَ النَّارِ الْقِيَامُ عَلَيْهَا. قَالَ بُسْرٌ: أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ نَادَى مُنَادٍ: لِيُلْحَقْ كُلُّ أُنَاسٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَقُومُ هَذَا إِلَى الْحَجَرِ، وَهَذَا إِلَى الْفَرَسِ، وَهَذَا إِلَى الْخَشَبَةِ حَتَّى يَبْقَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَإِذَا رَأَوْهُ قَامُوا إِلَيْهِ، فَيَذْهَبُ بِهِمْ فَيَسْلُكُ بِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ، وَفِيهِ عَلِيقٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْذَنُ بِالشَّفَاعَةِ، فَيَمُرُّ النَّاسُ، وَالنَّبِيُّونَ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. قَالَ بُكَيرٌ: فَكَانَ ابْنُ عُمَيْرَةَ يَقُولُ: فَنَاجٍ مُسْلِمٌ وَمَنْكُوسٌ فِي جَهَنَّمَ وَمَخْدُوشٌ، ثُمَّ نَاجٍ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَرِدُهَا الْجَمِيعُ ثُمَّ يَصْدُرُ عَنْهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَيُنْجِيهِمُ اللَّهُ، وَيَهْوِي فِيهَا الْكَفَّارُ وَوُرُودُهُمُوهَا هُوَ مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُرُورِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمَنْصُوبِ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، فَنَاجٍ مُسْلِمٌ وَمُكَدَّسٌ فِيهَا. ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْأُمِّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ، قَالَتْ: فَقَالَتْ حَفْصَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "فَمَهْ {ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا}». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْأُمِّ مُبَشِّرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْأُمِّ مُبَشِّرٍ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «"إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ، قَالَتْ: فَقَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}؟ قَالَ: فَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}»؟ ". حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ العِتْوَارِيِّ، أَحَدِ بَنِي لَيْثٍ، وَكَانَ فِي حَجْرِ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدريَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُوضَعُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، ثُمَّ يَسْتَجِيزُ النَّاسُ، فَنَاجٍ مُسْلِمٌ وَمَجْرُوحٌ بِهِ، ثُمَّ نَاجٍ وَمُحْتَبِسٌ وَمُكَدَّسٌ فِيهَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ تَفَقَّدَ الْمُؤْمِنُونَ رِجَالًا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا يُصَلُّونَ صَلَاتَهُمْ، وَيُزَكُّونَ زَكَاتَهُمْ وَيَصُومُونَ صِيَامَهُمْ، وَيَحُجُّونَ حَجَّهُمْ، وَيَغْزُونَ غَزْوَهُمْ، فَيَقُولُونَ: أَيْ رَبَّنَا عِبَادٌ مِنْ عِبَادِكَ كَانُوا مَعَنَا فِي الدُّنْيَا، يُصَلُّونَ صَلَاتَنَا، وَيُزَكُّونَ زَكَاتَنَا، وَيَصُومُونَ صِيَامَنَا، وَيَحُجُّونَ حَجَّنَا، وَيَغْزُونَ غَزْونَا، لَا نَرَاهُمْ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إِلَى النَّارِ، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْهُمْ فَأَخْرِجُوهُ، فَيَجِدُونَهُمْ قَدْ أَخَذَتْهُمُ النَّارُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى قَدَمَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى نِصْفِ ساقِيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى ثَدْيَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى عُنُقِهِ وَلَمْ تَغْشَ الْوُجُوهَ، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا، فَيَطْرَحُونَهُمْ فِي مَاءِ الْحَيَاةِ؛ قِيلَ: وَمَا مَاءُ الْحَيَاةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ غُسْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الزَّرْعَةُ فِي غُثَاءِ السَّيْلِ، ثُمَّ تَشْفَعُ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا، ثُمَّ يَتَحَنَّنُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ عَلَى مَنْ فِيهَا، فَمَا يَتْرُكُ فِيهَا عَبْدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا أَخْرَجَهُ مِنْهَا». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثَنَا أَبِي وَشُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدريِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَي بِالْجِسْرِ- يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ- فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرِيْ جَهَنَّمَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: مَدْحَضَةٌ مَزَلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، يَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهَا كَالطَّرَفِ وَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسْلِمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُسْلِمٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي جَهَنَّمَ، ثُمَّ يَمُرُّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدِّ مُنَاشَدَةً لِي فِي الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِذَا رَأَوْهُمْ قَدْ نَجَوْا وَبَقِيَ إِخْوَانُهُم». حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْوُرُودِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «هُوَ الدُّخُولُ، يَرِدُونَ النَّارَ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، فَآخِرُ مَنْ يَبْقَى رَجُلٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَزْحَفُ، فَيَرْفَعُ اللَّهُ لَهُ شَجَرَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْهَا، قَالَ: فَيُدْنِيهِ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهَا، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: فَيَقُولُ: سَلْ، قَالَ: فَيَسْأَلُ، قَالَ: فَيَقُولُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشْرَةُ أَضْعَافِهِ أَوْ نَحْوَهَا؛ قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ تَسْتَهْزِئُ بِي؟ قَالَ: فَيَضْحَكُ حَتَّى تَبْدُوَ لَهْوَاتُهُ وَأَضْرَاسُه». حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ "ح "؛ وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ رِشْدَينَ، جَمِيعًا عَنْ زِيَادِ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَرَسَ وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَطَوِّعًا، لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ بِحَرَسٍ، لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنِهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي الزَّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «"مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ تَمَسْهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةِ الْقَسَمِ" يَعْنِي: الْوُرُود». وأَمَّا قَوْلُهُ {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ قَضَاءً مَقْضِيًّا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ (حَتْمًا) قَالَ: قَضَاءٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {حَتْمًا مَقْضِيًّا} قَالَ: قَضَاءٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ قَسَمًا وَاجِبًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَمْرٍو دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ السُّدِّيَّ يُذْكُرُ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} قَالَ: قَسَمًا وَاجِبًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} يَقُولُ: قَسَمًا وَاجِبًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنْتُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (ثُمَّ نُنَجِّي) مِنَ النَّارِ بَعْدَ وُرُودِ جَمِيعِهِمْ إِيَّاهَا، {الَّذِينَ اتَّقَوْا} فَخَافُوهُ، بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَنَدَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، وَعَصَوْا رَبَّهُمْ، وَخَالَفُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ فِي النَّارِ جِثِيًّا، يَقُولُ: بُرُوكًا عَلَى رُكَبِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} عَلَى رُكَبِهِمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} عَلَى رُكَبِهِمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} قَالَ: الْجِثِيُّ: شَرُّ الْجُلُوسِ، لَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ جَاثِيًا إِلَّا عِنْدَ كَرْبٍ يَنْـزِلُ بِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} إِنَّ النَّاسَ وَرَدُوا جَهَنَّمَ وَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَضَاءَتْ لَهُمْ حَسَنَاتُهُمْ، فَأُنْجُوا مِنْهَا. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَأَوْبَقَتْهُمْ أَعْمَالُهُمْ، وَاحْتَبَسُوا بِذُنُوبِهِمْ.
|