الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{الحاقة، ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة} قوله تعالى{الحاقة. ما الحاقة} يريد القيامة؛ سميت بذلك لأن الأمور تُحَقّ فيها؛ قاله الطبري. كأنه جعلها من باب {ليل نائم}. وقيل: سميت حاقة لأنها تكون من غير شك. وقيل: سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة، وأحقت لأقوام النار. وقيل: سميت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله. وقال الأزهري: يقال حاققته فحققته أحقه؛ أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل؛ أي كل مخاصم. وفي الصحاح: وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق؛ فإذا غلبه قيل حقه. ويقال للرجل إذا خاصم في صغار الأشياء: إنه لنزق الحقاق. ويقال: مال فيه حق ولا حقاق؛ أي خصومة. والتحاق التخاصم. والاحتقاق: الاختصام. والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى. وقال الكسائي والمورج: الحاقة يوم الحق. وتقول العرب: لما عرف الحقة مني هرب. والحاقة الأولى رفع بالابتداء، والخبر المبتدأ الثاني وخبره وهو {ما الحاقة} لأن معناها ما هي. واللفظ استفهام، معناه التعظيم والتفخيم لشأنها؛ كما تقول: زيد ما زيد على التعظيم لشأنه. {وما أدراك ما الحاقة} استفهام أيضا؛ أي أي شيء أعلمك ما ذلك اليوم. والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بالقيامة ولكن بالصفة فقيل تفخيما لشأنها: وما أدراك ما هي؛ كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن {وما أدراك} فقد أدراه إياه وعلمه. وكل شيء قال{وما يدريك} فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه{وما أدراك} فأنه أخبر به، وكل شيء قال فيه{وما يدريك} فإنه لم يخبر به. {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} ذكر من كذب بالقيامة. والقارعة القيامة؛ سميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها. يقال: أصابتهم قوارع الدهر؛ أي أهواله وشدائده. ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه وقوارص لسانه؛ جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الجن أو الإنس، نحو آية الكرسي؛ كأنها تقرع الشيطان. وقيل: القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين؛ قاله المبرد. وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا؛ وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. وثمود قوم صالح؛ وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز. قال محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى؛ وكانوا عربا. وأما عاد فقوم هود؛ وكانت منازلهم بالأحقاف. والأحقاف: الرمل بين عمان إلى حضر موت واليمن كله؛ وكانوا عربا ذوي خلق وبسطة؛ ذكره محمد بن إسحاق. وقد تقدم. {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} فيه إضمار؛ أي بالفعلة الطاغية. وقال قتادة: أي بالصيحة الطاغية؛ أي المجاوزة للحد؛ أي لحد الصيحات من الهول. كما قال {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} قوله تعالى{وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر} أي باردة تحرق ببردها كإحراق النار؛ مأخوذ من الصر وهو البرد؛ قال الضحاك. وقيل: إنها الشديدة الصوت. وقال مجاهد: الشديدة السموم. {عاتية} أي عتت على خزانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبا؛ غضبت لغضب الله. وقيل: عتت على عاد فقهرتهم. وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره. وقيل: الحسم الاستئصال. ويقال للسيف حسام؛ لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته. وقال الشاعر: والمعنى أنها حسمتهم، أي قطعتهم وأذهبتهم. فهي القاطعة بعذاب الاستئصال. قال ابن زيد: حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعنه أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوعبتها. لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم. وقال الليث: الحسوم الشؤم. ويقال: هذه ليالي الحسوم، أي تحسم الخير عن أهلها، وقال في الصحاح. وقال عكرمة والربيع بن أنس: مشائيم، دليله قوله تعالى فإذا انقضت أيامها ومضت صِنٌّ وصَنَّبْـر مع الوبر
وبآمر وأخيه مؤتمر ومعَلِّل وبمطفئ الجمر
ذهب الشتاء موليا عجلا وأتتك واقدة من النجْر و{حسوما} نصب على الحال. وقيل على المصدر. قال الزجاج: أي تحسمهم حسوما أي تفنيهم، وهو مصدر مؤكد. ويجوز أن يكون مفعولا له؛ أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال؛ أي لقطعهم واستئصالهم. ويجوز أن يكون جمع حاسم. وقرأ السدي {حسوما} بالفتح، حالا من الريح؛ أي سخرها عليهم مستأصلة. قوله تعالى{فترى القوم فيها} أي في تلك الليالي والأيام. {صرعى} جمع صريع؛ يعني موتى. وقيل{فيها} أي في الريح. {كأنهم أعجاز} أي أصول. {نخل خاوية} أي بالية؛ قاله أبو الطفيل. وقيل: خالية الأجواف لا شيء فيها. والنخل يذكر ويؤنث. وقد قال تعالى في موضع آخر {فهل ترى لهم من باقية} أي من فرقة باقية أو نفس باقية. وقيل: من بقية. وقيل: من بقاء. فاعلة بمعنى المصدر؛ نحو العاقبة والعافية. ويجوز أن يكون أسما؛ أي هل تجد لهم أحدا باقيا. وقال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر ذلك قوله عز وجل{فهل ترى لهم من باقية}، وقوله عز وجل {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة} قوله تعالى{وجاء فرعون ومن قبله} قرأ أبو عمرو والكسائي {ومن قبله} بكسر القاف وفتح الباء؛ أي ومن معه وتبعه من جنوده. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبدالله وأبي {ومن معه}. وقرأ أبو موسى الأشعري {ومن تلقاءه}. الباقون {قبله} بفتح القاف وسكون الباء؛ أي ومن تقدمه من القرون الخالية والأمم الماضية. {والمؤتفكات} أي أهل قرى لوط. وقراءة العامة بالألف. وقرأ الحسن والجحدري {والمؤتفكة} على التوحيد. قال قتادة: إنما سميت قرى قوم لوط {مؤتفكات} لأنها ائتفكت بهم، أي انقلبت. وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: خمس قريات: صبعة وصعرة وعمرة ودوما وسدوم؛ وهي القرية العظمى. {بالخاطئة} أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر. وقال مجاهد: بالخطايا التي كانوا يفعلونها. وقال الجرجاني: أي بالخطأ العظيم؛ فالخاطئة مصدر. {فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} قوله تعالى{فعصوا رسول ربهم} قال الكلبي: هو موسى. وقيل: هو لوط لأنه أقرب. وقيل: عنى موسى ولوطا عليهما السلام؛ كما قال تعالى {فأخذهم أخذة رابية} أي عالية زائدة على الأخذات وعلى عذاب الأمم. ومنه الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال: ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف. وقال مجاهد: شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة. {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} قوله تعالى{إنا لما طغى الماء} أي ارتفع وعلا. وقال علي رضي الله عنه: طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا. وقال ابن عباس: طغى الماء زمن نوح على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج. وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم. وقد مضى هذا مرفوعا أول السورة. والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب: زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم من عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله{حملناكم} أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. {في الجارية} أي في السفن الجارية. والمحمول في الجارية نوح وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك. قوله تعالى{لنجعلها لكم تذكرة} يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. جعلها الله تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم؛ في قول قتادة. قال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. والمعنى: أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح، وإنجاء الله آباءكم؛ وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شيء. وقيل: لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم؛ ولهذا قال الله تعالى{وتعيها أذن واعية} أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. والسفينة لا توصف بهذا. قال الزجاج: ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي، أعيه وعيا. ووعيت العلم، ووعيت ما قلت؛ كله بمعنى. وأوعيت المتاع في الوعاء. قال الزجاج: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك{أوعيته} بالألف، ولما حفظته في نفسك {وعيته} بغير ألف. وقرأ طلحة وحميد والأعرج {وتعيها} بإسكان العين؛ تشبيها بقول {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات. وجاز تذكير {نفخ} لأن تأنيث النفخة غير حقيقي. وقيل: إن هذه النفخة هي الأخيرة. وقال{نفخة واحدة} أي لا تثنى. قال الأخفش: ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل: نفخة. ويجوز {نفخة} نصبا على المصدر. وبها قرأ أبو السمال. أو يقال: اقتصر على الإخبار عن الفعل كما تقول: ضرب ضربا. وقال الزجاج{في الصور} يقوم مقام ما لم يسم فاعله. {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} قوله تعالى{وحملت الأرض والجبال} قراءة العامة بتخفيف الميم؛ أي رفعت من أماكنها. {فدكتا} أي فتتا وكسرتا. {دكة واحدة} لا يجوز في {دكة} إلا النصب لارتفاع الضمير في {دكتا}. وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة، والأرض كالجملة الواحدة. ومثله {فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية، والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} قوله تعالى{فيومئذ وقعت الواقعة} أي قامت القيامة. {وانشقت السماء} أي أنصدعت وتفطرت. وقيل: تنشق لنزول ما فيها من الملائكة؛ دليله قوله تعالى أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. {والملك} يعني الملائكة؛ اسم للجنس. {على أرجائها} أي على أطرافها حين تنشق؛ لأن السماء مكانهم؛ عن ابن عباس. الماوردي: ولعله قول مجاهد وقتادة. وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم ينشق منها. يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها. وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا؛ أي ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها. وقيل: إذا صارت السماء قطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم؛ فيندوا كما تند الإبل، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاؤوا. وقيل{على أرجائها} ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جبير. ويدل عليه ويقال ذلك لحرف البئر والقبر. قوله تعالى{ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} قال ابن عباس: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله. وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، ثمانية أم ثمانية آلاف. والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعة لهم في رسلها إلا معذبة وإلا تجلد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق) {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} قوله تعالى{يومئذ تعرضون} أي، على الله؛ دليله{وعرضوا على ربك صفا} وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة. {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية، وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية} قوله تعالى{فأما من أوتي كتابه بيمينه} إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. وقال ابن عباس: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس. قيل له: فأين أبو بكر؟ فقال هيهات هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة. ذكره الثعلبي. وقد ذكرناه مرفوعا من حديث زيد بن ثابت بلفظه ومعناه في كتاب التذكرة{. والحمد لله. {فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه} أي يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح، والشمال من دلائل الغم. قال الشاعر: ومعنى{هاؤم} تعالوا؛ قاله ابن زيد. وقال مقاتل: هلم. وقيل: أي خذوا؛ ومنه الخبر في الربا (إلا هاء وهاء) أي يقول كل واحد لصاحبه: خذ. قال ابن السكيت والكسائي: العرب تقول هاء يا رجل اقرأ، وللاثنين هاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال، وللمرة هاء بكسر الهمزة وهاؤما وهاؤمن. والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف؛ قال القتيبي. وقيل: إن {هاؤم} كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم {هاؤم} يطول صوته. {وكتابيه} منصوب بـ {هاؤم} عند الكوفيين. وعند البصريين بـ {اقرؤوا} لأنه أقرب العاملين. والأصل {كتابي} فأدخلت الهاء لتبين فتحة الياء، وكان الهاء للوقف، وكذلك في أخواته{حسابيه}، وماليه، وسلطانيه{ وفي القارعة {ماهيه}. وقراءة العامة بالهاء فيهن في الوقف والوصل معا؛ لأنهن وقعن في المصحف بالهاء فلا تترك. واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد ويعقوب بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف فيهن جمع. ووافقهم حمزة في {ماليه وسلطانيه}، و{ماهيه} في القارعة. وجملة هذه الحروف سبعة. واختار أبو حاتم قراءة يعقوب ومن معه إتباعا للغة. ومن قرأهن في الوصل بالهاء فهو على نية الوقف. قوله تعالى{إني ظننت} أي أيقنت وعلمت، عن ابن عباس وغيره. وقيل: أي إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي عذبني فقد تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين. ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك. وقال الحسن في هذ الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل. {أني ملاق حسابي} أي في الآخرة ولم أنكر البعث؛ يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب، لأنه تيقن أن الله يحاسبه فعمل للآخرة. {فهو في عيشة راضية} أي في عيش يرضاه لا مكروه فيه. وقال أبو عبيدة والفراء{راضية} أي مرضية؛ كقولك: ماء دافق؛ أي مدفوق. وقيل: ذات رضا؛ أي يرضى بها صاحبها. مثل لابن وتامر؛ أي صاحب اللبن والتمر. وفي الصحيح وذكر الضحاك أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد المخزومي؛ وقاله مقاتل. والآية التي تليها في أخيه الأسود بن عبد الأسد؛ في قول ابن عباس والضحاك أيضا؛ قال الثعلبي. ويكون هذا الرجل وأخوه سبب نزول هذه الآيات. ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة وأهل السعادة؛ يدل عليه قوله تعالى{كلوا وأشربوا}. وقد قيل: إن المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر. فإذا كان الرجل رأسا في الخير، يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه، دعي باسمه واسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرأها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه {هذه سيئاتك وقد غفرت لك} فيفرح عند ذلك فرحا شديدا، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا؛ حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه {هذه حسناتك قد ضوعفت لك فيبيض وجهه ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويكسى حلتين، ويحلى كل مفصل منه ويطول ستين ذراعا وهي قامة آدم عليه السلام؛ ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم وبشرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا. فإذا أدبر قال: هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه. قال الله تعالى{فهو في عيشة راضية} أي مرضية قد رضيها {في جنة عالية} في السماء {قطوفها} ثمارها وعناقيدها. {دانية} أدنيت منهم. فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: قد غمرتك كرامة، من أنت؟ فيقول: أنا فلان بن فلان أبشر كل رجل منكم بمثل هذا. {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأسا في الشر، يدعو إليه ويأمر به فيكثر تبعه عليه، نودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرأها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه {هذه حسناتك وقد ردت عليك} فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا، ولا يزداد وجهه إلا سوادا، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك أي يضاعف عليه العذاب. ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل - قال - فيعظم للنار وتزرق عيناه ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران ويقال له: انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا؛ ينطلق وهو يقول{يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية} يتمنى الموت. {ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين} قوله تعالى{هلك عني سلطانيه} تفسير ابن عباس: هلكت عنه حجتي. وهو قول مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. وقال ابن زيد: يعني سلطانيه في الدنيا الذي هو الملك. وكان هذا الرجل مطاعا في أصحابه؛ قال الله تعالى {خذوه فغلوه} قيل: يبتدره مائة ألف ملك ثم تجمع يده إلى عنقه وهو قوله عز وجل{فغلوه} أي شدوه بالأغلال {ثم الجحيم صلوه} أي اجعلوه يصلى الجحيم {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا} الله أعلم بأي ذراع، قاله الحسن. وقال ابن عباس: سبعون ذراعا بذراع الملك. وقال نوف: كل ذراع سبعون باعا، وكل باع أبعد ما بينك وبين مكة. وكان في رحبة الكوفة. وقال مقاتل: لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص. وقال كعب: إن حلقة من السلسلة التي قال الله تعالى ذرعها سبعون ذراعا - أن حلقة منها - مثل جميع حديد الدنيا. {فاسلكوه} قال سفيان: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. وقاله مقاتل. والمعنى ثم أسلكوا فيه سلسلة. وقيل: تدخل عنقه فيها ثم يجربها. وجاء في الخبر: أنها تدخل من دبره وتخرج من منخريه. وفي خبر آخر: تدخل من فيه وتخرج من دبره، فينادي أصحابه هل تعرفوني؟ فيقولون لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت؟ فينادي أصحابه أنا فلان بن فلان، لكل إنسان منكم مثل هذا. قلت: وهذا التفسير أصح ما قيل في هذه الآية، يدل عليه قوله تعالى أراد بعد إعطائك. فبين أنه عذب على ترك الإطعام وعلى الأم بالبخل، كما عذب بسبب الكفر. والحض: التحريض والحث. وأصل {طعام} أن يكون منصوبا بالمصدر المقدر. والطعام عبارة عن العين، وأضيف للمسكين للملابسة التي بينهما. ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام فموضع المسكين نصب. والتقدير على إطعام المطعم المسكين؛ فحذف الفاعل وأضيف المصدر إلى المفعول. {فليس له اليوم هاهنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين، لا يأكله إلا الخاطئون} قوله تعالى{فليس له اليوم هاهنا حميم} خبر {ليس} قوله{له} ولا يكون الخبر قوله{ها هنا} لأن المعنى يصير: ليس ها هنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك؛ لأن ثم طعاما غيره. و{ها هنا} متعلق بما في {له} من معنى الفعل. والحميم ها هنا القريب. أي ليس له قريب يرق له ويدفع عنه. وهو مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار؛ كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. والغسلين فعلين من الغسل؛ فكأنه ينغسل من أبدانهم، وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم؛ عن ابن عباس. وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار. والغسل بالكسر : ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. الأخفش: ومنه الغسلين، وهو ما أنغسل من لحوم أهل النار ودمائهم. وزيد فيه الياء والنون كما زيد في عفرين. وقال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه. ابن زيد: لا يعلم ما هو ولا الزقوم. وقال في موضع آخر {فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم} قوله تعالى{فلا أقسم بما تبصرون. وما لا تبصرون} المعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. و{لا} صلة. وقيل: هو رد لكلام سبق؛ أي ليس الأمر كما يقوله المشركون. وقال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر. وقال أبو جهل: شاعر. وقال عقبة: كاهن؛ فقال الله عز وجل{فلا أقسم} أي أقسم. وقيل{لا} ها هنا نفي للقسم، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، وعلى هذا فجوابه كجواب القسم. {إنه} يعني القرآن {لقول رسول كريم} يريد جبريل، قاله الحسن والكلبي ومقاتل. دليله {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون} قوله تعالى{وما هو بقول شاعر} لأنه مباين لصنوف الشعر كلها. {ولا بقول كاهن} لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من يسبهم. و{ما} زائدة في قوله{قليلا ما تؤمنون}، {قليلا ما تتذكرون}؛ والمعنى: قليلا تؤمنون وقليلا تذكرون. وذلك القليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله. ولا يجوز أن تكون {ما} مع الفعل مصدرا وتنصب {قليلا} بما بعد {ما}، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول؛ لأن ما عمل فيه المصدر من صلة المصدر. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وابن عامر ويعقوب {ما يؤمنون}، و{يذكرون} بالياء. الباقون بالتاء لأن الخطاب قبله وبعده. أما قبله فقوله{تبصرون} وأما بعده{فما منكم} الآية. {تنزيل من رب العالمين} قوله تعالى{تنزيل} أي هو تنزيل. {من رب العالمين} وهو عطف على قوله {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين} قوله تعالى{ولو تقول علينا بعض الأقاويل} {تقول} أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه. وقرئ {ولو تقول} على البناء للمفعول. {لأخذنا منه باليمين} أي بالقوة والقدرة، أي لأخذناه بالقوة. و{من} صلة زائدة. وعبر عن القوة والقدرة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه، قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشماخ: أي بالقوة. عرابة اسم رجل من الأنصار من الأوس. وقال آخر: وقال السدي والحكم{باليمين} بالحق. قال: تلقاها عرابة باليمين أي بالاستحقاق. وقال الحسن: لقطعنا يده اليمين. وقيل: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف؛ قاله نفطويه. وقال أبو جعفر الطبري: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. كما يقول السلطان لمن يريد هوانه: خذوا يديه. أي لأمرنا بالأخذ بيده وبالغنا في عقابه. {ثم لقطعنا منه الوتين} يعني نياط القلب؛ أي لأهلكناه. وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه؛ قال ابن عباس وأكثر الناس. قال: إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فأشرقي بدم الوتين وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع؛ فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. والموتون الذي قطع وتينه. وقال محمد بن كعب: إنه القلب ومراقه وما يليه. قال الكلبي: إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء: عصب العنق. وهما علباوان بينهما ينبت العرق. وقال عكرمة: إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف، ولا إن شبع عرف. {فما منكم من أحد عنه حاجزين، وإنه لتذكرة للمتقين} قوله تعالى{فما منكم من أحد عنه حاجزين} {ما} نفي و{أحد} في معنى الجمع، فلذلك نعته بالجمع؛ أي فما منكم قوم يحجزون عنه كقوله تعالى {وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، وإنه لحسرة على الكافرين، وإنه لحق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم} قوله تعالى{وإنا لنعلم أن منكم مكذبين} قال الربيع: بالقرآن. {وإنه لحسرة} يعني التكذيب. والحسرة: الندامة. وقيل: أي وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به. وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. {وإنه لحق اليقين} يعني أن القرآن العظيم تنزيل من الله عزو جل؛ فهو لحق اليقين. وقيل: أي حقا يقينا ليكونن ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. فعلى هذا {وإنه لحسرة} أي لتحسر؛ فهو مصدر بمعنى التحسر، فيجوز تذكيره. وقال ابن عباس: إنما هو كقولك: لعين اليقين ومحض اليقين. ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه؛ كما لا تقول: هذا رجل الظريف. وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. {فسبح باسم ربك العظيم} أي فصل لربك؛ قال ابن عباس. وقيل: أي نزه الله عن السوء والنقائص.
|