الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
مكية كلها في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا، واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا قوله {تبارك الذي نزل الفرقان}{تبارك}اختلف في معناه؛ فقال الفراء: هو في العربية و{تقدس}واحد، وهما للعظمة. وقال الزجاج}تبارك}تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير. وقيل {تبارك}تعالى. وقيل: تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر. وقيل: المعنى دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق؛ من برك الشيء إذا ثبت؛ ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام وثبت. فأما القول الأول فمخلط؛ لأن التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شيء. قال الثعلبي: ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك؛ لأنه ينتهي في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف. وقال الطرماح: وقال آخر: قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى المبارك وذكرناه أيضا في كتابنا. فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع. وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء اختلف في عده؛ كالدهر وغيره. وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله. و{الفرقان}القرآن. وقيل: إنه اسم لكل منزل؛ كماقال قوله {الذي له ملك السماوات والأرض}عظم تعالى نفسه. {ولم يتخذ ولدا}نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله؛ يعني بنات الله سبحانه وتعالى. وعما قالت اليهود: عزير ابن الله؛ جل الله تعالى. وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله؛ تعالى الله عن ذلك. {ولم يكن له شريك في الملك}كما قال عبدة الأوثان. {وخلق كل شيء}لا كما قال المجوس والثنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء. ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد. فالآية رد على هؤلاء. {فقدره تقديرا}أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة، فهو الخالق المقدر؛ فإياه فاعبدوه. قوله {واتخذوا من دونه آلهة}ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته. {لا يخلقون شيئا}يعني الآلهة. {وهم يخلقون}لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما يعقل. {ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا}أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف. وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن يعبدهم، لأنها جمادات. {ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا}أي لا يميتون أحدا، ولا يحيونه. والنشور: الإحياء بعد الموت؛ أنشر الله الموتى فنشروا. وقال الأعشى: { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما } قوله {وقال الذين كفروا}يعني مشركي قريش. وقال ابن عباس: القائل منهم ذلك النضر بن الحرث؛ وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير. قال محمد بن إسحاق: كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم. {إن هذا}يعني القرآن. {إلا إفك افتراه}أي كذب اختلقه. {وأعانه عليه قوم آخرون}يعني اليهود؛ قاله مجاهد. وقال ابن عباس: المراد بقوله {قوم آخرون}أبو فكيهة مولى بني الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب. وقد مضى في - النحل - ذكرهم. {فقد جاؤوا ظلما وزورا}أي بظلم. وقيل: المعنى فقد أتوا ظلما. {وقالوا أساطير الأولين}قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة؛ مثل أحدوثة وأحاديث. وقال غيره: أساطير جمع أسطار؛ مثل أقوال وأقاويل. {اكتتبها}يعني محمدا. {فهي تملى عليه}أي تلقى عليه وتقرأ {بكرة وأصيلا}حتى تحفظ. و{تملى}أصله تملل؛ فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف: كقولهم: تقضى البازي؛ وشبهه. قوله {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض}أي قل يا محمد أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر، فهو عالم الغيب، فلا يحتاج إلى معلم. وذكر {السر}دون الجهر؛ لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم. ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها. وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهلا عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه. {إنه كان غفورا رحيما}يريد غفورا لأوليائه رحيما بهم. { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } قوله {وقالوا}ذكر شيئا آخر من مطاعنهم. والضمير في {قالوا}لقريش؛ وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور، ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره. مضمنه - أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد! إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا؛ فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم؛ فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك؛ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفي البخاري في صفته عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق وقد تقدم. وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين؛ كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق؛ خرجه البخاري. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء الله. قوله {لولا أنزل إليه ملك}أي هلا. {فيكون معه نذيرا}جواب الاستفهام. {أو يلقى إليه كنز} في موضع رفع؛ والمعنى: أو هلا يلقى {إليه كنز}{أو}هلا {تكون له جنة يأكل منها}{يأكل}بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين؛ لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأن يعود الضمير عليه أبين؛ ذكره النحاس. {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا}تقدم في {سبحان}والقائل عبدالله بن الزبعرى فيما ذكره الماوردي. { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } قوله {انظر كيف ضربوا لك الأمثال}أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك. {فضلوا}عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. {فلا يستطيعون سبيلا}إلى تصحيح ما قالوه فيك. قوله {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات}شرط ومجازاة، ولم يدغم {جعل لك}لأن الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين. {ويجعل لك}في موضوع جزم عطفا على موضع {جعل}. ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الأول. وكذلك قرأ أهل الشام. وي روى عن عاصم أيضا}ويجعل لك}بالرفع؛ أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا. قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان. والقصر في اللغة الحبس، وسمي القصر قصرا لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه. وقيل: العرب تسمى بيوت الطين القصر. وما يتخذ من الصوف والشعر البيت. حكاه القشيري. و { بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا، وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا، لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا } قوله {بل كذبوا بالساعة}يريد يوم القيامة. {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا}يريد جهنم تتلظى عليهم. {إذا رأتهم من مكان بعيد}أي من مسيرة خمسمائة عام. {سمعوا لها تغيظا وزفيرا}قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم. وقيل: المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والأول أصح؛ لما أي وحاملا رمحا. وقيل {سمعوا لها}أي فيها؛ أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين. كما قال {دعوا هنالك ثبورا}أي هلاكا؛ قاله الضحاك. ابن عباس: ويلا. قوله {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا}فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال: ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع؛ وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه. { قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا، لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا } قوله {قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون}إن قيل: كيف قال {أذلك خير}ولا خير في النار؛ فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب إليه. وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن؛ كما قال: قيل: إنما قال ذلك لأن الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل؛ فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين. وقيل: هو مردود على قوله {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك}الآية. وقيل: هو مردود على قوله قوله {لهم فيها ما يشاؤون}أي من النعيم. {خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا} قال الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم، فسألوه ذلك الوعد فقالوا { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل، قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا، فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا } قوله {ويوم يحشرهم}قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري}يحشرهم}بالياء. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله في أول الكلام}كان على ربك}وفي آخره {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء}. الباقون بالنون على التعظيم. {وما يعبدون من دون الله}من الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير؛ قاله مجاهد وابن جريج. الضحاك وعكرمة: الأصنام. {فيقول}قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم. {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل}وهذا استفهام توبيخ للكفار. {قالوا سبحانك}أي قال المعبودون من دون الله سبحانك؛ أي تنزيها لك {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء}فإن قيل: فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل. وقرأ الحسن وأبو جعفر}أن نتخذ}بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون؛ فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا يجوز {نتخذ}. وقال أبو عمرو: لو كانت {نتخذ}لحذفت {من}الثانية فقلت: أن نتخذ من دونك أولياء. كذلك قال أبو عبيدة، لا يجوز {نتخذ}لأن الله تعالى ذكر {من}مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل: إن {من}الثانية صلة قال النحاس: ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال؛ لأنه جاء ببينة. وشرج ما قال أنه يقال: ما اتخذت رجلا وليا؛ فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه؛ ثم يقال: ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما، وقولك {وليا}تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه {من}لأنه لا فائدة في ذلك. {ولكن متعتهم وآباءهم}أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم. {حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا}أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك. وفي الذكر قولان: أحدهما: القرآن المنزل على الرسل؛ تركوا العمل به؛ قاله ابن زيد. الثاني: الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم. إنهم {كانوا قوما بورا}أي هلكى؛ قال ابن عباس. مأخوذ من البوار وهو الهلاك. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص: يا أهل حمص! هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال: ما لكم لا تستحون! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا، وأملوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، ومساكنهم قبورا. فقوله {بورا}أي هلكى. وفي خبر آخر: فأصبحت منازلهم بورا؛ أي خالية لا شيء فيها. وقال الحسن}بورا}لا خير فيهم. مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير. وقال شهر بن حوشب: البوار. الفساد والكساد؛ مأخوذ من قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد؛ ومنه الحديث: (نعوذ بالله من بوار الأم). وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. قال ابن الزبعرى: إذ أباري الشيطان في سنن الغ ي ومن مال ميله مثبور وقال بعضهم: الواحد بائر والجمع بور. كما يقال: عائذ وعوذ، وهائد وهود. وقيل {بورا}عميا عن الحق. قوله {فقد كذبوكم بما تقولون}أي يقول الله تعالى عند تبري المعبودين}فقد كذبوكم بما تقولون}أي في قولكم إنهم آلهة. {فما تستطيعون}يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولأنصركم. وقيل: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون {صرفا}للعذاب {ولا نصرا}من الله. قال ابن زيد: المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد؛ وعلى هذا فمعنى {بما تقولون}بما تقولون من الحق. وقال أبو عبيد: المعنى؛ فما تقولون فيما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقراءة العامة {بما تقولون}بالتاء على الخطاب. وقد بينا معناه. وحكى الفراء أنه يقرأ {فقد كذبوكم}مخففا، {بما يقولون}. وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى }يقولون}بقولهم. وقرأ أبو حيوة}بما يقولون}بياء }فما تستطيعون}بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء. ومن قرأ بالياء فالمعنى: فما يستطيع الشركاء. }ومن يظلم منكم}قال ابن عباس: من يشرك منكم ثم مات عليه. }نذقه}أي في الآخرة. }عذابا كبيرا}أي شديدا؛ كقوله {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا } قوله }وما أرسلنا قبلك من المرسلين}نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا قوله }إلا إنهم ليأكلون الطعام}إذا دخلت اللام لم يكن في }إن}إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر؛ لأنها مستأنفة. هذا قول جميع النحويين. قال النحاس: إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال: يجوز في }إن}هذه الفتح وإن كان بعدها اللام؛ وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحاق الزجاج: وفي الكلام حذف؛ والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلا، لأن في قوله }من المرسلين}ما يدل عليه. فالموصوف محذوف عند الزجاج. ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء. قال الفراء: والمحذوف }من}والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام. وشبهه بقوله وقال كعب بن زهير: بمعنى تمشي. هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول: قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء؛ فقلت مجيبا له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء، والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق قلت: لوكان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان؛ كما ثبت في القرآن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن؛ وذلك أن المعركة موضع القتال، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا. فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها. قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون: لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة؛ ومن الأحاديث الموضوعة قوله {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون}أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني. ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه؛ فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغني، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق؛ كما قال الضحاك في معنى {أتصبرون}: أي على الحق. وأصحاب البلايا يقولون: لم لم نعاف؟ والأعمى يقول: لم لم أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة. والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره. وكذلك العلماء وحكام العدل. ألا ترى إلى قولهم قوله {وكان ربك بصيرا}أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي. وقيل {أتصبرون}أي اصبروا. مثل { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا } قوله {وقال الذين لا يرجون لقاءنا}يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي لا يؤمنون بذلك. قال: وقيل {لا يرجون}لا يبالون. قال: ابن شجرة: لا يأملون؛ قال: {لولا أنزل}أي هلا أنزل. {علينا الملائكة}فيخبروا أن محمدا صادق. {أو نرى ربنا}عيانا فيخبرنا برسالته. نظيره قوله أراد ألا أصبحت أسماء حراما محرما. وقال آخر: وروي عن الحسن أنهقال {ويقولون حجرا}وقف من قول المجرمين؛ فقال الله. عز وجل {محجورا}عليهم أن يعاذوا أو يجاروا؛ فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة. والأول قول ابن عباس. وبه قال الفراء؛ قاله ابن الأنباري. وقرأ الحسن وأبو رجاء}حجرا}بضم الحاء والناس على كسرها. وقيل: إن ذلك من قول الكفار قالوه لأنفسهم؛ قاله قتادة فيما ذكر الماوردي. وقيل: هو قول الكفار للملائكة. وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية؛ فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال: حجرا محجورا؛ أي حراما عليك التعرض لي. وانتصابه على معنى: حجرت عليك، أو حجر الله عليك؛ كما تقول: سقيا ورعيا. أي إن المحرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا: نعوذ بالله منكم؛ ذكره القشيري، وحكى معناه المهدوي عن مجاهد. وقيل {حجرا}من قول المجرمين. {محجورا}من قول الملائكة؛ أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا. فتقول الملائكة}محجورا}أن تعاذوا من شر هذا اليوم؛ قاله الحسن. { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا، أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } قوله {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل}هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة؛ أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم. يقال: قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده. وقال مجاهد}قدمناه}أي عمدنا. وقال الراجز: إن دماءكم لنا حلال وقيل: هو قدوم الملائكة، أخبر به نفسه تعالى فاعله. {فجعلناه هباء منثورا}أي لا ينتفع به؛ أي أبطلناه بالكفر. وليس {هباء}من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين. والتصغير هبي في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هبي في موضع الرفع؛ حكاه النحاس. وواحده هباة والجمع أهباء. قال الحارث بن حلزة يصف ناقة: و روى الحرث عن علي قال: الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة. وقال الأزهري: الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار. تأويله: إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور. فأما الهباء المنبث. فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار. والمنبث المتفرق. وقال ابن عرفة: الهبوة والهباء التراب الدقيق. الجوهري: ويقال له إذا ارتفع هبوا وأهبيته أنا. والهبوة الغبرة. قال رؤبة. وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة. وقيل: إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر؛ قاله قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس أيضا: إنه الماء المهراق. وقيل: إنه الرماد؛ قاله عبيد بن يعلى. قوله {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا}تقدم القول فيه عند قوله { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا، الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا } قوله {ويوم تشقق السماء بالغمام}أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام. وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو}تشقق}بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فحذفوا الأولى تخفيفا، واختاره أبو عبيد. الباقون {تشقق}بتشديد الشين على الإدغام، واختاره أبو حاتم. وكذلك في - ق- {بالغمام}أي عن الغمام. والباء وعن يتعاقبان؛ كما تقول: رميت بالقوس وعن القوس. روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه؛ وهو الذي قال قوله {الملك يومئذ الحق للرحمن}{الملك}مبتدأ و{الحق}صفة له و{للرحمن}الخبر؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك؛ فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه. وبقي الملك الحق لله وحده. {وكان يوما على الكافرين عسيرا}أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة؛ على ما تقدم في الحديث. وهذه الآية دال عليه؛ لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير. يقال: عسِر يعسَر، وعسُر يعسُر. { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } قوله {ويوم يعض الظالم على يديه}الماضي عضضت. وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير، منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن الظالم ههنا يراد به عقبة بن أبي معيط، وأن خليله أمية بن خلف؛ فعقبة قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؛ فقال: أأقتل دونهم؟ فقال. نعم، بكفرك وعتوك. فقال: من للصبية؟ فقال: النار. فقام علي رضي الله عنه فقتله. وأمية قتله النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر. ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله عز وجل: قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: وكان عقبة قد هم بالإسلام فمنعه منه أبي بن خلف وكانا خدنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما جميعا: قتل عقبة يوم بدر صبرا، وأبي بن خلف في المبارزة يوم أحد؛ ذكره القشيري والثعلبي، والأول ذكره النحاس. وقال السهيلي}ويوم يعض الظالم على يديه}هو عقبة بن أبي معيط، وكان صديقا لأمية بن خلف الجمحي ويروى لأبي بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم. وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه، فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبي بن خلف وكان غائبا. فقال عقبة: رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش. فقال له خليله: لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت. ففعل عدو الله ما أمره به خليله؛ فأنزل الله عز وجل {ويوم يعض الظالم على يديه}. قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل. وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله. {يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا}في الدنيا، يعني طريقا إلى الجنة.{يا ويلتا}دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته. {ليتني لم أتخذ فلانا خليلا}يعني أمية، وكني عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما. وقال مجاهد وأبو رجاء: الظالم عام في كل ظالم، وفلان: الشيطان. واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده {وكان الشيطان للإنسان خذولا}. وقرأ الحسن{يا ويلتي}. والخليل: الصاحب والصديق.{لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني}أي يقول هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به. وقيل {عن الذكر}أي عن الرسول. {وكان الشيطان للإنسان خذولا}قيل: هذا من قول الله لا من قول الظالم. وتمام الكلام على هذا عند قوله {بعد إذ جاءني}. والخذل الترك من الإعانة؛ ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم. وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولا عند نزول العذاب والبلاء. ولقد أحسن من قال: وأحبب حبيب الصدق وأحذر مراءه تنل منه صفو الود ما لم تماره
وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا إذا اشتعلت نيرانه في عذاره آخر: والناس مثل دراهم ميزتها فوجدت منها فضة وزيوفا وفي الصحيح من حديث أبي موسى {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا } قوله وقال الرسول يا رب}يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، يشكوهم إلى الله تعالى. {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}أي قالوا فيه غير الحق من أنه سحر وشعر؛ عن مجاهد والنخعي. وقيل: معنى {مهجورا}أي متروكا؛ فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين}أي كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك - وهو أبو جهل في قول ابن عباس - فكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من مشركي قومه، فاصبر، لأمري كما صبروا، فإني هاديك وناصرك على كل من ناوأك. وقد قيل: إن قول الرسول {يا رب}إنما يقوله يوم القيامة؛ أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني. { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } قوله {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة}اختلف في قائل ذلك على قولين: أحدهما: أنهم كفار قريش؛ قاله ابن عباس. والثاني: انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا: هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود. فقال الله {كذلك}أي فعلنا {لنثبت به فؤادك}نقوي به قلبك فتعيه وتحمله؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبي أمي؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به؛ فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب. قلت: فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته؟. قيل: في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك. وقد قيل: إن قوله {كذلك}من كلام المشركين، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على {كذلك}ثم يبتدئ {لنثبت به فؤادك}. ويجوز أن يكون الوقف على قوله {جملة واحدة}ثم يبتدئ {كذلك لتثبت به فؤادك}على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله قوله {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك؛ فمحال أن ينزل جملة واحدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا. قال النحاس: والأولى أن يكون التمام {جملة واحدة}لأنه إذا وقف على {كذلك}صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر. قال الضحاك}وأحسن تفسيرا}أي تفصيلا. والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلا؛ فحذف لعلم السامع. وقيل: كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا } قوله {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم}تقدم في {سبحان}. {أولئك شر مكانا}لأنهم في جهنم. وقال مقاتل: قال الكفار لأصحاب محمد. صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق. {وأضل سبيلا}أي دينا وطريقا. ونظم الآية: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم. { ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا، فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا } قوله {ولقد آتينا موسى الكتاب} يريد التوراة . {وجعلنا معه أخاه هارون زيرا}تقدم في - طه - {فقلنا اذهبا}الخطاب لهما. وقيل: إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب وحده في المعنى. وهذا بمنزلة قوله { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما } قوله {وقوم نوح}في نصب {قوم}أربعة أقوال: العطف على الهاء والميم في {دمرناهم}. الثاني: بمعنى اذكر. الثالث: بإضمار فعل يفسره ما بعده؛ والتقدير: وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم. الرابع: إنه منصوب بـ {أغرقناهم}قاله الفراء. ورده النحاس قال: لأن {أغرقنا}ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي {قوم نوح}. {لما كذبوا الرسل}ذكر الجنس والمراد نوح وحده؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده؛ فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة. وقيل: إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين. {أغرقناهم}أي بالطوفان. {وجعلناهم للناس آية}أي علامة ظاهرة على قدرتنا {وأعتدنا للظالمين}أي للمشركين من قوم نوح {عذابا أليما}أي في الآخرة. وقيل: أي هذه سبيلي في كل ظالم.
|