الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون، بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون } قوله {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}. وعن بعضهم: أخفى غيبه على الخلق، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة. و{من}في موضع رفع؛ والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله؛ فإنه بدل من {من}قال الزجاج. الفراء: وإنما رفع ما بعد {إلا}لأن ما قبلها جحد، كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك؛ والمعنى واحد. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء؛ يعني في الكلام. قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما؛ وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية. قلت: وقد مضى هذا في الأنعام مستوفى. قوله {بل ادارك علمهم في الآخرة}هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد}بل أدرك}من الإدراك. وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش}بل ادَّرك}غير مهموز مشددا. وقرأ ابن محيصن}بل أأدرك}على الاستفهام. وقرأ ابن عباس}بلى}بإثبات الياء {أدَّارك}بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها؛ قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس. وزعم هارون القارئ أن قراءة أُبي {بل تدارك علمهم}وحكى الثعلبي أنها في حرف أُبَي أم تدارك. والعرب تضع بل موضع أم وأم موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام؛ كقول الشاعر: أي بل كل. قال النحاس: القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد، لأن أصل {ادارك}تدارك؛ أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل؛ وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به. والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة؛ فقالوا تكون وقالوا لا تكون. القراءة الثانية فيها أيضا قولان: أحدهما أن معناه كمل في الآخرة؛ وهو مثل الأول؛ قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. والقول الآخر أنه على معنى الإنكار؛ وهو مذهب أبي إسحاق؛ واستدل على صحة هذا القول بأن بعده {بل هم منها عمون}أي لم يدرك علمهم علم الآخرة. وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم. والقراءة الثالثة}بل ادرك}فهي بمعنى {بل ادارك}وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى؛ ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا. القراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار؛ كما تقول: أأنا قاتلتك؟! فيكون المعنى لم يدرك؛ وعليه ترجع قراءة ابن عباس؛ قال ابن عباس}بلى أدارك علمهم في الآخرة}أي لم يدرك. قال الفراء: وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروي ما لا أروي وأنت تكذبه. وقراءة سابعة}بلَ ادرك}بفتح اللام؛ عدل إلى الفتحة لخفتها. وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في {قم الليل}فإنه عدل إلى الفتح. وكذلك و{بع الثوب}ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ {بل أأدرك}بهمزتين {بل آأدرك}بألف بينهما {بلى أأدرك}{أم تدارك}{أم أدرك}فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة {بل أأدرك}على الاستفهام ؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك}و{أم تدارك}لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ}بلى أأدرك}على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. {في الآخرة}في شأن الآخرة ومعناها. {بل هم في شك منها}أي في الدنيا. {بل هم منها عمون}أي بقلوبهم واحدهم عمو. وقيل: عم، وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها. { وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين } قوله {وقال الذين كفروا}يعني مشركي مكة. {إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون}هكذا يقرأ نافع هنا وفي سورة: [العنكبوت]. وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة أيضا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد. وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب}أئذا}بمهزتين {إننا}بنونين على الخبر في هذه السورة؛ وفي سورة: [العنكبوت] باستفهامين؛ قال أبو جعفر النحاس: القراءة {إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون}موافقة للخط حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال وهذا معنى كلامه}إذا}ليس باستفهام و{آينا}استفهام وفيه {إن}فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله؟ ! وكيف يجوز أن يعمل ما بعد {إن}فيما قبلها؟! وكيف يجوز غدا إن زيدا خارج؟ ! فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره. وقال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة مشكلة، وهي قول الله {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين، ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } قوله {قل سيروا في الأرض}أي {قل}لهؤلاء الكفار {سيروا}في بلاد الشام والحجاز واليمن. {فانظروا}أي بقلوبكم وبصائركم {كيف كان عاقبة المجرمين}المكذبين لرسلهم. {ولا تحزن عليهم}أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا {ولا تكن في ضيق}في حرج، وقرئ}في ضيق}بالكسر وقد مضى في آخر النحل {ويقولون متى هذا الوعد}أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا {إن كنتم صادقين}. { قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون، وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون، وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين } قوله {قل عسى أن يكون ردف لكم}أي اقترب لكم ودنا منكم {بعض الذي تستعجلون}أي من العذاب؛ قال ابن عباس. وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره؛ وتكون اللام أدخلت لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم. أو تكون متعلقة بالمصدر. وقيل: معناه معكم. وقال ابن شجرة: تبعكم؛ ومنه ردف المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها؛ ومنه قول أبي ذؤيب: قال الجوهري: وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى؛ قال خزيمة بن مالك بن نهد: يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين. وقال الفراء}ردف لكم}دنا لكم ولهذاقال {لكم}. وقيل: ردفه وردف له بمعنى فتزاد اللام للتوكيد؛ عن الفراء أيضا. كما تقول: نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته، وكلت له ووزنت له؛ ونحو ذلك. {بعض الذي تستعجلون}من العذاب فكان ذلك يوم بدر. وقيل: عذاب القبر. {وإن ربك لذو فضل على الناس}في تأخير العقوبة وإدرار الرزق {ولكن أكثرهم لا يشكرون} فضله ونعمه. قوله {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم}أي تخفي صدورهم {وما يعلنون}يظهرون من الأمور. وقرأ ابن محيصن وحميد}ما تكن}من كننت الشيء إذا سترته هنا. وفي القصص تقديره: ما تكن صدورهم عليه؛ وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر. ومن قرأ}تكن}فهو المعروف؛ يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك. قوله {وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين}قال الحسن: الغائبة هنا القيامة. وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض؛ حكاه النقاش. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا عام. وإنما دخلت الهاء في {غائبة}إشارة إلى الجمع؛ أي. ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه. وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له؛ فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه. والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته. { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين، إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم، فتوكل على الله إنك على الحق المبين، إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون } قوله {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون}وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم فنزلت. والمعنى: إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام. {وإنه}يعني القرآن {لهدى ورحمة للمؤمنين}خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به. {إن ربك يقضي بينهم بحكمه}أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل. وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه. {وهو العزيز}المنيع الغالب الذي لا يرد أمره {العليم}الذي لا يخفى عليه شيء. قوله {فتوكل على الله}أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه؛ فإنه ناصرك. {إنك على الحق المبين}أي الظاهر. وقيل: المظهر لمن تدبر وجه الصواب. {إنك لا تسمع الموتى}يعني الكفار لتركهم التدبر؛ فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل. وقيل: هذا فيمن علم أنه لا يؤمن. {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين}يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ؛ فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون؛ نظيره وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية؛ فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية. قلت: قوله {وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم}أي كفرهم؛ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم. وقرأ حمزة}وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم}كقوله {أفأنت تهدي العمي}. الباقون: بهادي العمي وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي الروم مثله. وكلهم وقف على بهادي بالياء في هذه السورة وبغير ياء في الروم اتباعا للمصحف، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء. وأجاز الفراء وأبو حاتم: وما أنت بهاد العمي وهي الأصل. وفي حرف عبدالله {وما أن تهدي العمي}. {إن تسمع}أي ما تسمع. {إلا من يؤمن بآياتنا}قال ابن عباس: أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد. { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون، حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون، ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } قوله {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم}اختلف في معنى وقع القول وفي الدابة؛ فقيل: معنى {وقع القول عليهم}وجب الغضب عليهم؛ قاله قتادة. وقال مجاهد: أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون. وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما: إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم. وقال عبدالله بن مسعود: وقع القول يكون بموت العلماء، وذهاب العلم، ورفع القرآن. قال عبدالله: أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال: يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا، وينسون لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع القول عليهم. قلت: أسنده أبو بكر البزار قال حدثنا عبدالله بن يوسف الثقفي قال حدثنا عبدالمجيد بن عبدالعزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبدالله بن مسعود رضى الله عنه عن أبيه أنه قال: أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه؛ وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع؛ قالوا: يا أبا عبدالرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال: فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية، وذلك حين يقع القول عليهم. وقيل: القول هو قوله قلت: وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد. والدليل عليه آخر الآية {إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون}وقرئ}أن}: بفتح الهمزة وسيأتي. قلت: ولهذا - والله أعلم - قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة: ويحيا من حي عن بينة. قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب المفهم له: وإنما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله {تكلمهم}وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة، ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث؛ لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتقع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة؛ وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء؛ فالأولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الأمور. قلت: قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه، واختلف من أي موضع تخرج، فقال عبدالله بن عمر: تخرج من جبل الصفا بمكة؛ يتصدع فتخرج منه. قال عبدالله ابن عمرو نحوه وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت قلت: فهذه أقوال الصحابة والتابعي في خروج الدابة وصفتها، وهي ترد قول من قال من المفسرين: إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر وقد قوله {ويوم نحشر من كل أمة فوجا}أي رمزة وجماعة. {ممن يكذب بآياتنا}يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق. {فهم يوزعون}أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب. قال الشماخ: وقال قتادة}يوزعون}أي يرد أولهم على آخرهم. {حتى إذا جاؤوا قال}أي قال لهم الله {أكذبتم بآياتي}التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي. {ولم تحيطوا بها علما}أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتهم جاهلين غير مستدلين. {أمَّاذا كنتم تعملون}تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها. {ووقع القول عليهم بما ظلموا}أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم. {فهم لا ينطقون}أي ليس لهم عذر ولا حجة. وقيل: يختم على أفواههم فلا ينطقون؛ قاله أكثر المفسرين. قوله {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه}أي يستقرون فينامون. {والنهار مبصرا}أي يبصر فيه لسعي الرزق. {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}بالله. ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته أي ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا. { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون، من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } قوله {ويوم ينفخ في الصور}أي واذكر يوم أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور ومذهب الفراء أن المعنى: وذلكم يوم ينفخ في الصور؛ وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد: كهيئة البوق وقيل: هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في الأنعام بيانه وما للعلماء في ذلك. {ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} قلت: والسُنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبدالله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث؛ خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب التذكرة وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان؛ قال الله قوله {إلا من شاء الله}اختلف في هذا المستثنى من هم. ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون إنما يصل الفزع إلى الأحياء؛ وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري: الأنبياء داخلون في جملتهم؛ لأن لهم الشهادة مع النبوة وقيل: الملائكة. قال الحسن: استثني طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين قال مقاتل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. وقيل: الحور العين. وقيل: هم المؤمنون، لأن الله تعالى قال عقب هذا}من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون}وقال بعض علمائنا: والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل. قلت: خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر العربي فليعول عليه، لأنه نص في التعيين وغيره اجتهاد. والله أعلم. وقيل غير هذا ما يأتي في الزمر وقوله {ففزع من في السماوات}ماض و{ينفخ}مستقبل فيقال: كيف عطف ماض على مستقبل ؟ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى؛ لأن المعنى: إذا نفخ في الصور ففزع. {إلا من شاء الله}نصب على الاستثناء. {وكل أتوه داخرين}قرأ أبو عمر وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير}آتـُوه}جعلوه فعلا مستقبلا. وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم}وكل أتوه}مقصورا على الفعل الماضي، وكذلك قرأه ابن مسعود وعن قتادة {وكل أتاه داخرين}قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ}وكل أتوه}وحده علي لفظ {كل}ومن قرأ}أتوه}جمع على معناها، وهذا القول غلط قبيح؛ لأنه إذاقال {وكل أتوه}فلم يوحد وإنما جمع، ولو وحد لقال}أتاه}ولكن منقال {أتوه}جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنه رده إلي {ففزع}ومن قرأ {وكل آتوه}حمله على المعنى أيضا وقال {أتوه}لأنها جملة منقطعة من الأول قال ابن نصر: حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله، ونص أبي إسحاق}وكل أتوه داخرين}ويقرأ}أتوه}فمن وحد فللفظ {كل}ومن جمع فلمعناها. يريد ما أتي في القرآن أو غيره من توحيد خبر {كل}فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى؛ فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوي: ومن قرأ {وكل أتوه داخرين}فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى {كل}دون لفظها، ومن قرأ {وكل آتوه داخرين}فهو اسم الفاعل من أتى يدلك على ذلك قوله قوله {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}قال ابن عباس: أي قائمة وهي تسير سيرا حثيثا. قال القتبي: وذلك أن الجبال تُجمع وتُسير، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير؛ وكذلك كل شي عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر، لكثرته وبعد ما بين أطرافه، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير قال النابغة وفي وصف جيش: قال القشيري: وهذا يوم القيامة؛ أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب، والسحاب المتراكم يظن أنها واقفة وهي تسير أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء، فقال الله قوله {من جاء بالحسنة فله خير منها}قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: الحسنة لا إله إلا الله. وقال أبو معشر: كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له: والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالي{ومن جاء بالحسنة فله خير منها}و قلت: إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها - على ما تقدم بيانه في سورة إبراهيم فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض. قوله {فله خير منها}قال ابن عباس: أي وصل إليه الخير منها؛ وقاله مجاهد وقيل: فله الجزاء الجميل وهو الجنة وليس {خير}للتفضيل قال عكرمة وابن جريج: أما أن يكون له خير منها يعني من الإيمان فلا فإنه ليس شيء خيرا ممن قال لا إله إلا الله ولكن له منها خير وقيل {فله خير منها}للتفضيل أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد، قاله ابن عباس وقيل: ويرجع هذا إلي الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرا؛ وبالإيمان في مدة يسيرة الثواب الأبدي قاله محمد بن كعب وعبدالرحمن بن زيد {وهم من فزع يومئذ آمنون}قرأ عاصم وحمزة والكسائي {فزع يومئذ}بالإضافة. قال أبو عبيد: وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذاقال {من فزع يومئذ}صار كأنه فزع دون فزع. قال القشيري: وقرئ}من فزع}بالتنوين ثم قيل يعني به فزعا واحدا كماقال قلت: فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى. قال المهدوي: ومن قرأ}من فزع يومئذ}بالتنوين انتصب {يومئذ}بالمصدر الذي هو {فزع}ويجوز أن يكون صفة لفزع ويكون متعلقا بمحذوف؛ لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها، ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو {آمنون}. والإضافة على الإتساع في الظروف، ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لأنه ظرف زمان، وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنا، فلما أضيف إلي غير متمكن ولا معرب بني. وأنشد سيبويه: قوله {ومن جاء بالسيئة}أي بالشرك، قاله ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن، وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك في هذه الآية. {فكبت وجوههم في النار}قال ابن عباس: ألقيت وقال الضحاك: طرحت، ويقال كببت الإناء أي قلبته على وجهه، واللازم من أكب، وقلما يأتي هذا في كلام العرب {هل تجزون}أي يقال لهم هل تجزون ثم يجوز أن يكون من قول الله، ويجوز أن يكون من قول الملائكة {إلا ما كنتم تعملون}أي إلا جزاء أعمالكم. { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين، وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون } قوله {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها}يعني مكة التي عظم الله حرمتها؛ أي جعلها حرما آمنا؛ لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر؛ على ما تقدم بيانه في غير موضع وقرأ ابن عباس}التي حرمها}نعتا للبلدة وقراءة الجماعة {الذي}وهو في موضع نصب نعت لـ{رب}ولو كان بالألف واللام لقلت المحرِّمِها؛ فإن كانت نعتا للبلدة قلت المحرمة هو؛ لا بد من إظهار المضمر مع الألف واللام؛ لأن الفعل جرى على غير من هول؛ فإن قلت الذي حرمها لم تحتج أن تقول هو. {وله كل شيء}خلقا وملكا {وأمرت أن أكون من المسلمين}أي من المنقادين لأمره، الموحدين له قوله {وأن أتلو القرآن}أي وأمرت أن أتلو القرآن، أي أقرأه {فمن اهتدى}فله هدايته {ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين}فليس على إلا البلاغ نسختها آية القتال. قال النحاس}وأن أتلو}نصب بأن قال الفراء: وفي إحدى القراءتين {وأنِ اتلُ}وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذف منه الواو، قال النحاس: ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف. قوله {وقل الحمد لله}أي على نعمه وعلى ما هدانا {سيريكم آياته}أي في أنفسكم وفي غيركم كماقال
|