الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
سورة المطففين مكية قال مقاتل: وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثماني آيات من قوله{إن الذين أجرموا} إلى آخرها، مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة. {ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} " قوله تعالى{ويل} أي شدة عذاب في الآخرة. وقال ابن عباس: إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد. أهل النار، فهو قوله تعالى{ويل للمطففين} أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم. وروي عن ابن عمر قال: المطفف: الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه. وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث. في الموطأ قال مالك: ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف. وروى عن سالم ابن أبي الجعد قال: الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك{ويل للمطففين}. قال أهل اللغة: المطفف: هو الذي يخسر في الكيل والوزن، ولا يوفي حسب ما بيناه؛ وروى ابن القاسم عن مالك: أنه قرأ {ويل للمطففين} فقال: لا تطفف ولا تخلب، ولكن أرسل وصب عليه صبا، حتى إذا استوفى أرسل يدك ولا تمسك. وقال عبدالملك بن الماجشون: نهى، رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الطفاف، وقال: إن البركة في رأسه. قال: وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد. قوله تعالى{الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} قال الفراء: أي من الناس يقال: اكتلت منك: أي استوفيت منك ويقال أكتلت ما عليك: أي أخذت ما عليك. وقال الزجاج: أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل؛ والمعنى: الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم. الطبري{على} بمعنى عند. قوله تعالى{وإذا كالوهم أو وزنوهم}: أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام، فتعدى الفعل فنصب؛ ومثله نصحتك ونصحت لك، وأمرتك به وأمرتكه؛ قاله الأخفش والفراء. قال الفراء: وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل. وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج: لا يجوز الوقف على {كالوا} و{وزنوا} حتى تصل به {هم} قال: ومن الناس من يجعلها توكيدا، ويجيز الوقف على {كالوا} و{وزنوا} والأول الاختيار؛ لأنها حرف واحد. وهو قول الكسائي. قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين، ويقف على {كالوا} و{وزنوا} ويبتدئ {هم يخسرون} قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا. قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط؛ وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا {كالوا} و{وزنوا} بالألف، والأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنك بمعنى كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي؛ كما يقال: صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك. قوله{يخسرون}: أي ينقصون؛ والعرب تقول: أخسرت الميزان وخسرته. و(هم) في موضع نصب، على قراءة العامة، راجع إلى الناس، تقديره (وإذا كانوا) الناس (أو وزنوهم يخسرون) وفيه وجهان: أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار، وأوصل الفعل، كما قال: أراد: جنيت لك، والوجه الآخر: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل والموزون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان. وخص الأعاجم، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا، وكانا مفرقين في الحرمين؛ كان أهل مكة يزنون، وأهل المدينة يكيلون. وعلى القراءة الثانية {هم} في موضع رفع بالابتداء؛ أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون. ولا يصح؛ لأنه تكون الأولى ملغاة، ليس لها خبر، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها: وإذا كالوا هم ينقصون، أو وزنوا هم يخسرون. الثانية: { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون . ليوم عظيم . يوم يقوم الناس لرب العالمين . كلا إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين } قوله تعالى{ألا يظن أولئك} إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم، ولا يخمنون تخمينا {أنهم مبعوثون} فمسؤولون عما يفعلون. والظن هنا بمعنى اليقين؛ أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وقيل: الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث، فهلا ظنوه، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه، ويأخذوا بالأحوط {ليوم عظيم} شأنه وهو يوم القيامة. قوله تعالى{يوم يقوم الناس} العامل في {يوم} فعل مضمر، دل عليه {مبعوثون} والمعنى يبعثون {يوم يقوم الناس لرب العالمين}. ويجوز أن يكون بدلا من يوم في {ليوم عظيم}، وهو مبني. وقيل: هو في موضع خفض؛ لأنه أضيف إلى غير متمكن. وقيل: هو منصوب على الظرف أي في يوم، ويقال: أقم إلى يوم يخرج فلان، فتنصب يوم، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون: أقم إلى يوم خروج فلان. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم. وعن عبدالملك بن مروان: أن أعرابيا قال لي: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين؛ أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين، بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل، في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل. قرأ ابن عمر{ويل للمطففين} حتى بلغ {يوم يقوم الناس لرب العالمين} فبكى حتى سقط، وامتنع من قراءة ما بعده، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قلت: قد ذكرناه مرفوعا من القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس؛ فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه. وقد ">الآية رقم (9 : 13)">
الآية رقم ( {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين، وما أدراك ما سجين، كتاب مرقوم، ويل يومئذ للمكذبين، الذين يكذبون بيوم الدين، وما يكذب به إلا كل معتد أثيم، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} قوله تعالى{كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} قال قوم من أهل العلم بالحربية{كلا} ردع وتنبيه، أي ليس الأم على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك. فهي كلمة ردع وزجر، ثم استأنف فقال{إن كتاب الفجار}. وقال الحسن{كلا} بمعنى حقا. وروى ناس عن ابن عباس {كلا} قال: ألا تصدقون؛ فعلى هذا: الوقف لرب العالمين. وفي تفسير مقاتل: إن أعمال الفجار. وروى ناس عن ابن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم {لفي سجين}. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها. ونحوه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب؛ قال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خد إبليس. وعن كعب أيضا قال: سجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تلقى أنفس، الكفار عندها. وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس. يحيى بن سلام: حجر أسود تحت الأرض، يكتب فيه أرواح الكفار. وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذريته. وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يروه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة، وهي سجين، وهي آخر سلطان إبليس، فأثبتوا فيها كتابه. وعن كعب الأحبار في هذه الآية قال: إن روح الفاجر إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل في سبع أرضين، حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس. فيخرج لها من سجين من تحت خد إبليس رق، فيرقم فيوضع تحت خد إبليس. وقال الحسن: سجين في الأرض السابعة. وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم. قال مجاهد: المعنى عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منها شيء. وقال: سجين صخرة في الأرض السابعة. وروى أبو هريرة والمعنى: كتابهم في حبس؛ جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم، أو لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان. وقيل: أصله سجيل، فأبدلت اللام نونا. وقد تقدم ذلك. وقال زيد بن أسلم: سجين في الأرض السافلة، وسجيل في السماء الدنيا. القشيري: سجين: موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون. وهذا دليل على خبث أعمالهم، وتحقير الله إياها؛ ولهذا قال في كتاب الأبرار{يشهده المقربون}. {وما أدراك ما سجين} أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك. ثم فسره فقال{كتاب مرقوم} أي مكتوب كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى. وقال قتادة: مرقوم أي مكتوب، رقم لهم بشر: لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وقال الضحاك: مرقوم: مختوم، بلغة حمير؛ وأصل الرقم: الكتابة؛ قال: وليس في قوله{وما أدراك ما سجين} ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربيا، كما لا يدل في قوله قوله تعالى{ويل يومئذ للمكذبين} أي شدة وعذاب يوم القيامة للمكذبين. ثم بين تعالى أمرهم فقال{الذين يكذبون بيوم الدين} أي بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد. {وما يكذب به إلا كل معتد أثيم} أي فاجر جائز عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله. وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما لقوله تعالى{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} وقراءة العامة {تتلى} بتاءين، وقراءة أبي حيوة وأبي سماك وأشهب العقيلي والسلمي{إذا يتلى} بالياء. وأساطير الأولين: أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها. وأحدها أسطورة وإسطارة، وقد تقدم. ">الآية رقم (14 : 17)">
الآية رقم ( {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، ثم إنهم لصالوا الجحيم، ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} قوله تعالى{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} {كلا}: ردع وزجر، أي ليس هو أساطير الأولين. وقال الحسن: معناها حقا {ران على قلوبهم}. وقيل: في الترمذي: ورانت الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النعاس: إذا غطاه؛ ومنه قول عمر في الأسيفع - أسيفع جهينة - : فأصبح قد رين به. أي غلبته الديون، وكان يدان؛ ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا، فقال: فقوله: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه. وقال الأموي: قد أران القوم فهم مرينون: إذا هلكت مواشيهم وهزلت. وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون احتماله. قال أبو زيد يقال: قد رين بالرجل رينا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهذا أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع. الزجاج: الرين: هو كالصدأ يغشي القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غين على قلبه: غطي. والغين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيرة الورق، ملتفة الأغصان. وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب. وذكر الثعلبي عن ابن عباس{ران على قلوبهم}: أي غطى عليها. وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل {ران} بالإمالة؛ لأن فاء الفعل الراء، وعينه الألف منقلبة من ياء، فحسنت الإمالة لذلك. ومن فتح فعلى الأصل؛ لأن باب فاء الفعل في (فعل) الفتح، مثل كال وباع ونحوه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص {بل} ثم يبتدئ {ران} وقفا يبين اللام، لا للسكت. قوله تعالى{كلا} أي حقا {إنهم} يعني الكفار {عن ربهم يومئذ} أي يوم القيامة {لمحجوبون} وقيل{كلا} ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه ">الآية رقم (18 : 21)">
الآية رقم ( {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون} قوله تعالى{كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} {كلا} بمعنى حقا، والوقف على {تكذبون}. وقيل أي ليس الأمر كما يقولون ولا كما ظنوا بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عليين. وقال مقاتل: كلا، أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه. ثم استأنف فقال{إن كتاب الأبرار} مرفوع في عليين على قدر مرتبتهم. قال ابن عباس: أي في الجنة. وعنه أيضا قال: أعمالهم في كتاب الله في السماء. وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وروى ابن الأجلح عن الضحاك قال: هي سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شيء من أمر الله لا يعدوها، فيقولون: رب عبدك فلان، وهو. أعلم به منهم، فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب. فذلك قوله تعالى{كلا إن كتاب الأبرار}. وعن كعب الأحبار قال: إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون. وقال قتادة أيضا{في عليين} هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى. و قوله تعالى{وما أدراك ما عليون} أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ثم فسره له فقال{كتاب مرقوم يشهده المقربون}. وقيل: إن {كتاب مرقوم} ليس تفسيرا لعليين، بل تم الكلام عند قوله{عليون} ثم ابتدأ وقال{كتاب مرقوم} أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار؛ قال القشيري. وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد، فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين. قوله تعالى{يشهده المقربون} أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وقال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صعدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله{يشهده المقربون} أي يشهد كتابتهم. ">الآية رقم (22 : 28)">
الآية رقم ( {إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقربون} قوله تعالى{إن الأبرار} أي أهل الصدق والطاعة. {لفي نعيم} أي نعمة، والنعمة بالفتح: التنعيم؛ يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى. أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون. {على الأرائك} وهي الأسرة في الحجال {ينظرون} أي إلى ما أعد الله لهم من الكرامات؛ قال عكرمة وابن عباس ومجاهد. وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار. و قوله تعالى{تعرف في وجوههم نضرة النعيم} أي بهجته وغضارته ونوره؛ يقال: نضر النبات: إذا آزهر ونور. وقراءة العامة {تعرف} بفتح التاء وكسر الراء {نضرة} نصبا؛ أي تعرف يا محمد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وابن أبي إسحاق{تعرف} بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول {نضرة} رفعا. {يسقون من رحيق} أي من شراب لا غش فيه. قاله الأخفش والزجاج. وقيل، الرحيق الخمر الصافية. وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر. والمعنى واحد. الخليل: أقصى الخمر وأجودها. وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان: وقال آخر: قوله تعالى{مختوم} المختوم الممزوج. وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار. وقرأ علي وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي {خاتمه} بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: أجعل خاتمه مسكا، تريد آخره. والخاتم والختام متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر؛ قال الفراء. وفي الصحاح: والختام: الطين الذي يحتم به. وكذا قال مجاهد وابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين. حكاه المهدوي. وقال الفرزدق: وبت أفض أغلاق الختام وقال الأعشى: أي عليها طينة مختومة؛ مثل نفض بمعنى منفوض، وقبض بمعنى مقبوض. وذكر ابن المبارك وابن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبدالله. بن مسعود في قوله تعالى{ختامه مسك}: خلطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خلطه من الطيب كذا وكذا. إنما خلطه مسك؛ قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها. و قوله تعالى{ومزاجه} أي ومزاجه ذلك الرحيق {من تسنيم} وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل؛ ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. وروي عن عبدالله قال: تسنيم عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب. وقال ابن عباس في قول عز وجل{ومزاجه من تسنيم} قال: هذا مما قال الله تعالى {عينا يشرب بها المقربون} أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة صرفا، وهي لغيرهم مزاج. و{عينا} نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال من تسنيم، وتسنيم معرفة، ليس يعرف له أشتقاق، وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام فـ {عينا} نصب؛ لأنه مفعول به؛ كقوله تعالى ">الآية رقم (29 : 36)">
الآية رقم ( {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا عليهم حافظين، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون، هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} قوله تعالى{إن الذين أجرموا} وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك. روى ناس عن ابن عباس قال: هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث؛ وأولئك {كانوا من الذين آمنوا} من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل عمار، وخباب وصهيب وبلال {يضحكون} على وجه السخرية.{وإذا مروا بهم} عند إتيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم {يتغامزون} يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم. وقيل: أي يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به يقال: غمزت الشيء بيدي؛ قال: و قوله تعالى{وإذا انقلبوا} أي أنصرفوا إلى أهلهم وأصحابهم وذويهم {انقلبوا فكهين} أي معجبين منهم. وقيل: معجبون بما هم عليه من الكفر، متفكهون بذكر المؤمنين. وقرأ ابن القعقاع وحفص والأعرج والسلمي{فكهين} بغير ألف. الباقون بألف. قال الفراء: هما لغتان مثل طمع وطامع وحذر وحاذر، وقد تقدم في سورة الدخان والحمد لله. وقيل: الفكه: الأشر البطر والفاكه: الناعم المتنعم. {وإذا رأوهم} أي إذا رأى هؤلاء الكفار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا إن هؤلاء لضالون} في اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم {وما أرسلوا عليهم حافظين} لأعمالهم، موكلين بأحوالهم، رقباء عليهم. قوله تعالى{فاليوم} يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامة {الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {من الكفار يضحكون} كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. نظيره في آخر سورة {المؤمنين} وقد تقدم. وذكر ابن المبارك: أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} قال: ذكر لنا أن كعبا كان يقول إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى؛ قال الله تعالى في آية أخرى
|