الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)} وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله تعالى: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وفيه قولان. أحدهما: أن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، رواه الوالبي عن ابن عباس. والأحاديث تعضد هذ القول، كقوله عليه الصلاة والسلام: " خلق فرعون في بطن أمه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً "، وقوله: " فيؤمر الملك بأربع كلمات: بكتبِ رزقِهِ، وأجلِهِ، وعملِهِ، وشقيٌ أم سعيدٌ " والثاني: أن تمام الكلام عند قوله تعالى: {خلقكم} ثم وصفهم، فقال تعالى: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، واختلف أرباب هذا القول فيه على أربعة أقوال. أحدها: فمنكم كافر يؤمن، ومنكم مؤمن يكفر، قاله أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني: فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن في حياته كافر، في العاقبة، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، قاله عطاء بن أبي رباح، وعنى بذلك شأن الأنواء. والرابع: فمنكم كافر بالله خلقه، ومؤمن بالله خلقه، حكاه الزجاج. والكفر بالخلق مذهب الدهرية، وأهل الطبائع. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى: {وصوَّركم فأحسن صوركم} قال الزجاج: أي: خلقكم أحسن الحيوان كلِّه. وقرأ الأعمش «صوركم» بكسر الصاد. ويقال في جمع صورة: صُور، وصِور، كما يقال في جمع لحية: لِحىّ، ولُحىّ. وذكر ابن السائب أن معنى «فأحسن صُوَركم» أحكمها. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: {ويعلم ما تسرون} روى المفضل عن عاصم «يسرُّون» و«يعلنون» بالياء فيهما {ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل} هذا خطاب لأهل مكة خوفهم ما نزل بالكفار قبلهم، فذلك قوله تعالى: {فذاقوا وبال أمرهم} أي: جزاء أعمالهم، وهو ما أصابهم من العذاب في الدنيا {ولهم عذاب أليم} في الآخرة {ذلك} الذي أصابهم {بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} فينكرون ذلك، ويقولون: {أبشر} أي: ناس مثلنا، {يهدوننا؟!} والبشر اسم جنس معناه الجمع، وإن كان لفظه واحداً {فكفروا وتولَّوا} أي: أعرضوا عن الإيمان {واستغنى الله} عن إيمانهم وعبادتهم.
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} قوله تعالى: {زعم الذين كفروا} كان ابن عمر يقول: «زعموا» كناية الكذب. وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان. قوله تعالى: {وذلك على الله يسير} يعني: البعث {والنّور} هو القرآن، وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء. قوله تعالى: {يوم يجمعكم} هو منصوب بقوله تعالى: «لتبعثنَّ ثم لتنبؤنَّ بما عملتم» {يوم يجمعكم ليوم الجمع} وهو يوم القيامة. وسمي بذلك لأن الله تعالى يجمع فيه الجن والإنس، وأهل السموات، وأهل الأرض {ذلك يوم التغابن} تفاعل من الغبن، وهو فوت الحظ. والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التغابن فيه أربعة أقوال. أحدها: أنه ليس من كافر إلا وله منزل وأهل في الجنة، فيرث ذلك المؤمن، فيغبن حينئذ الكافر، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: غبن أهل الجنة أهل النار، قاله مجاهد، والقرظي. والثالث: أنه يوم غبن المظلوم الظالم، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً، فصار في الآخرة غابناً، ذكره الماوردي. والرابع: أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، ذكره الثعلبي. قال الزجاج: وإنما ذكر ذلك مثلاً للبيع والشراء، كقوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} [البقرة: 16]، وقوله تعالى: {هل أدلكم على تجارة} [الصف: 10] وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: {يكفر عنه سيئآته} قرأ نافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم «نكفر» «وندخله» بالنون فيهما. والباقون: بالياء {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله} قال ابن عباس: بعلمه وقضائه {ومن يؤمن بالله يهد قلبَه} فيه ستة أقوال. أحدها: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله تعالى، فيسلم، ويرضى. والثاني: يهد قلبه للاسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون قاله مقاتل. والثالث: أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر، قاله ابن السائب، وابن قتيبة. والرابع، يهد قلبه، أي: يجعله مهتدياً، قاله الزجاج. والخامس: يهد وليَّه بالصبر والرضى، قاله أبو بكر الورَّاق. والسادس: يهد قلبه لاتباع السنة إِذا صح إيمانه، قاله أبو عثمان الحيري. وقرأ أبو بكر الصديق، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: «يَهْدَ» بياءٍ مفتوحة. ونصب الدال «قَلْبُهُ» بالرفع. قال الزجاج: هذا من هدأ يهدأ: إذا سكن. فالمعنى: إذا سلَّم لأمر الله سَكَنَ قلبُه. وقرأ عثمان بن عفان، والضحاك، وطلحة بن مصرف، والأزرق عن حمزة: «نَهْد» بالنون. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن: «يُهْدَ» بضم الياء، وفتح الدال «قَلْبُهُ» بالرفع. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم} سبب نزولها أن الرجل كان يسلم. فإِذا أراد الهجرة منعه أهله، وولده، وقالوا: نَنْشُدُك الله أن تذهب وتَدَعَ أهلك وعشيرتك وتصير إِلى المدينة بلا أهل ولا مال. فمنهم من يَرِقُّ لهم، ويقيم فلا يهاجر، فنزلت هذه الآية. فلما هاجر أولئك، ورأَوا الناس قد فَقُهوا في الدِّين همُّوا أن يعاقبوا أَهلهم الذين منعوهم، فأنزل الله تعالى: {وإِن تعفوا وتصفحوا} إلى آخر الآية، هذا قول ابن عباس. وقال الزجاج: لما أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم، وأولادهم: قد صبرنا لكم على مفارقة الدِّين ولا نصبر لكم على مفارقتكم، ومفارقة الأموال، والمساكن، فأعلم الله عز وجل أن من كان بهذه الصورة، فهو عدوٌّ، وإِن كان ولداً، أو كانت زوجة. وقال مجاهد: كان حب الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربه. وقال قتادة: كان من أزواجهم، وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام، ويثبِّطهم عنه، فخرج في قوله تعالى: {عدواً لكم} ثلاثة أقوال. أحدها: بمنعه من الهجرة، وهذا على قول ابن عباس. والثاني: بكونهم سبباً للمعاصي، وعلى هذا قول مجاهد. والثالث: بنهيهم عن الإسلام، وهذا على قول قتادة. قوله تعالى: {فاحذروهم} قال الفراء: لا تطيعوهم في التخلُّف. قوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} أي: بلاء وشغل عن الآخرة. فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلا من عصمه الله. وقال ابن قتيبة: أي: إغرام. يقال: فتن فلان بالمرأة، وشغف بها، أي: أغرم بها. وقال الفراء: قال أهل المعاني: إنما دخل «من» في قوله تعالى: «إن من أزواجكم» لأنه ليس كل الأزواج، والأولاد أعداءً. ولم يذكر «من» في قوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} لأنها لا تخلو من الفتنة، واشتغال القلب بها. وقد روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب، فجاء الحسن، والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان، ويعثران، فنزل من المنبر، فحملهما، فوضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله عز وجل: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان، ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما. قوله تعالى: {والله عنده أجر عظيم} أي: ثواب جزيل، وهو الجنة. والمعنى: لا تعصوه بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم {فاتقوا الله ما استطعتم} أي: ما أطقتم {واسمعوا} ما تُؤمَرُون به {وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم} وفي هذه النفقة ثلاثة أقوال. أحدها: الصَّدقة، قاله ابن عباس. والثاني: نفقة المؤمن على نفسه، قاله الحسن. والثالث: النفقة في الجهاد، قاله الضحاك {ومن يُوقَ شُحَّ نفسه} حتى يعطيَ حق الله في ماله. وقد تقدم بيان هذا في [الحشر: 9] وما بعده قد سبق بيانه إِلى آخر السورة [البقرة: 245، والحديد: 11، 18، والحشر: 23، 24].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} قال الزجاج: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمؤمنون داخلون معه فيه. ومعناه: إذا أردتم طلاق النساء، كقوله تعالى: {إذا قمتم إِلى الصلاة} [المائدة: 6] وفي سبب نزول هذه الآية قولان. أحدهما: أنها نزلت حين طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حَفْصَةَ، وقيل له: راجعها، فإنها صَوَّامةٌ قَوَّامةٌ، وهي من إحدى زوجاتك في الجنة، قاله أنس بن مالك. والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن عمر، وذلك أنه طلق امرأته حائضاً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، قاله السدي. قوله تعالى: {لِعِدَّتِهنَّ} أي: لزمان عِدَّتهن، وهو الطهر. وهذا للمدخول بها، لأن غير المدخول بها لا عدَّة عليها. والطلاق: على ضربين: سُنِّيٌّ، وبِدْعيٌّ. فالسُّنِّيُّ: أن يطلِّقها في طهر لم يجامعها فيه، وذلك هو الطلاق لِلْعِدَّة، لأنها تعتدُّ بذلك الطهر من عدَّة، وتقع في العدة عقيب الطلاق، فلا يطول عليها زمان العدة. والطلاق البدعي: أن يقع في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، فهو واقع، وصاحبه آثم، وإِن جمع الطلاق الثلاث في طهرٍ واحد، فالمنصور من مذهبنا أنه بدعة. قوله تعالى: {وأحصوا العدة} أي: زمان العدة. وفي إحصائها فوائد. منها: مراعاة زمان الرجعة، وأوان النفقة، والسكنى، وتوزيع الطلاق على الإقرار إذا أراد أن يطلِّق ثلاثاً، ولِيَعْلَمَ أنها قد بانت، فيتزوّج بأختها، وأربع سواها. قوله تعالى: {واتقوا الله ربَّكم} أي: فلا تعصوه فيما أمركم به. {ولا تخرجوهن من بيوتهن} فيه دليل على وجوب السكنى. ونسب البيوت إليهن، لسكناهن قبل الطلاق فيهن، ولا يجوز لها أن تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة. فإن خرجت أثِمتْ {إلا أن يأتين بفاحشة} وفيها أربعة أقوال: أحدها: المعنى: إلا أن يخرجن قبل انقضاء المدة، فخروجهن هو الفاحشة المبّينة، وهذا قول عبد الله بن عمر، والسدي، وابن السائب. والثاني: أن الفاحشة: الزنا، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، والضحاك. فعلى هذا يكون المعنى: إلا أن يزنين فَيُخْرَجْنَ لإقامة الحدِّ عليهنَّ. والثالث: الفاحشة: أن تبذُؤَ على أهلها، فيحلُّ لهم إخراجها، رواه محمد بن إبراهيم عن ابن عباس. والرابع: أنها إصابة حدٍّ، فتخرج لإقامة الحدِّ عليها، قاله سعيد ابن المسيب. قوله تعالى: {وتلك حدود الله} يعني: ما ذكر من الأحكام {ومن يتعدَّ حدود الله} التي بيَّنها. وأمر بها {فقد ظلم نفسه} أي: أثم فيما بينه وبين الله تعالى {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} أي: يُوقع في قلب الزوج المحبَّة لرجعتها بعد الطَّلْقة والطلقتين. وهذا يدل على أن المستحب في الطلاق تفريقه، وأن لا يجمع الثلاث.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن} أي: قاربن انقضاء العدة {فأمسكوهن بمعروف} وهذا مبيَّن في [البقرة: 231] {وأشهدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم} قال المفسرون: أشهدوا على الطلاق، أو المراجعة. واختلف العلماء: هل الإشهاد على المراجعة واجب، أم مستحب؟ وفيه عن أحمد روايتان، وعن الشافعي قولان ثم قال للشهداء: {وأقيموا الشهادة لله} أي: اشهدوا بالحق، وأدُّوها على الصحة، طلباً لمرضاة الله، وقياماً بوصيَّته. وما بعده قد سبق بيانه [البقرة: 232] إلى قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} فذكر أكثر المفسرين أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدوُّ ابناً له، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه الفاقة، فقال: اتق الله، واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل ذلك، فغفل العدوُّ عن ابنه، فساق غنمهم، وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت هذه الآية. وفي معناها للمفسرين خمسة أقوال. أحدها: ومن يتق الله يُنجِه من كل كرب في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس. والثاني: بأن مَخْرَجَه: علمُه بأن ما أصابه من عطَاءٍ أو مَنْع، من قِبَل الله، وهو معنى قول ابن مسعود. والثالث: ومن يتق الله، فيطلق للسُّنَّةِ، ويراجع للسُّنَّةِ، يَجْعَلْ له مخرجاً، قاله السدي. والرابع: ومن يتَّق الله بالصبر عند المصيبة، يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، قاله ابن السائب. والخامس: يجعل له مخرجاً من الحرام إلى الحلال، قاله الزجاج. والصحيح أن هذا عام، فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجاً من كل ما يضيق عليه. ومن لا يتقي، يقع في كل شدة. قال الربيع بن خُثَيْم: يجعل له مخرجاً من كل ما يضيق على الناس {ويرزقْه من حيث لا يحتسب} أي: من حيث لا يأمل، ولا يرجو. قال الزجاج: ويجوز أن يكون: إذا اتقى الله في طلاقه، وجرى في ذلك على السُّنَّة، رزقه الله أهلاً بدل أهله {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أي: مَنْ وَثِقَ به فيما نابه، كفاه الله ما أهمّه {إن الله بالغٌ أمرَه} وروى حفص، والمفضل عن عاصم «بالغُ أمرِه» مضاف. والمعنى: يقضي ما يريد {قد جعل الله لكل شيء قدراً} أي: أجلاً ومنتهىً ينتهي إليه، قدَّر الله ذلك كلَّه، فلا يقدَّم ولا يؤخر. قال مقاتل: قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء قدراً، فقدَّر متى يكون هذا الغني فقيراً، وهذا الفقير غنياً.
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض} في سبب نزولها قولان. أحدهما: أنها لما نزلت عِدَّة المطلَّقة، والمتوفَّى عنها زوجُها في [البقرة 227: 232] قال أُبَيُّ بن كعب: يا رسول الله إن نساء من أهل المدينة يقلن: قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء. قال: «وما هو؟» قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل، فنزلت هذه الآية، قاله عمرو بن سالم. والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى: {والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن...} [الآية البقرة: 228] قال خلاَّد بن النعمان الأنصاري: يا رسول الله، فما عِدَّة التي لا تحيض، وعدَّة التي لم تحض، وعدة الحُبلى؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية: {إن ارتبتم}، أي: شككتم فلم تَدْرُوا ما عِدتَّهن {فَعِدَّتُهنَّ ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} كذلك. فصل قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالارتياب هاهنا: ارتياب المخاطبين في مقدار عدة الآيسة والصغيرة كما هو؟ وليس المراد به ارتياب المعتدات في اليأس من المحيض، أو اليأس من الحمل للسبب الذي ذكر في نزول الآية. ولأنه لو أريد بذلك النساء لتوجَّه الخطاب إليهن، فقيل: إن ارتبتنُّ، أو ارتبْنَ، لأن الحيض إنما يعلم من جهتهنَّ. وقد اختلف في المرأة إذا تأخر حيضها لا لعارض كم تجلس؟ فمذهب أصحابنا أنها تجلس غالب مدة الحمل، وهو تسعة أشهر، ثم ثلاثة. والعدة: هي الثلاثة التي بعد التسعة. فإن حاضت قبل السنة بيوم، استأنفت ثلاث حيض، وإن تَمَّتْ السَّنَةُ من غير حيض، حَلَّت، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة، والشافعي في الجديد: تمكث أبداً حتى يعلم براءة رحمها قطعاً، وهي أن تصير في حدّ لا يحيض مثلها، فتعتدُّ بعد ذلك ثلاثة أشهر. قوله تعالى: {واللائي لم يحضن} يعني: عدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، لأنه كلام لا يستقلُّ بنفسه، فلا بدَّ له من ضمير، وضميره تقدَّم ذكره مظهراً، وهو العدَّة بالشهور. وهذا على قول أصحابنا محمول على من لم يأت عليها زمان الحيض: أنها تعتد ثلاثة أشهر. فأما من أتى عليها زمان الحيض، ولم تحض، فإنها تعتدُّ سنة. قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} عامٌّ في المطلقات، والمتوفَّى عنهن أزواجهن، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وفقهاء الأمصار. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: تعتدُّ آخر الأجلين. ويدل على قولنا عموم الآية. وقول ابن مسعود: من شاء لاعنته، ما نزلت «وأولات الأحمال» إِلا بعد آية المتوفَّى عنها زوجها، وقولِ أم سلمة: إن سُبَيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج. قوله تعالى: {ومن يتق الله} أي: فيما أُمِرَ به {يَجْعَلْ له من أمره يسراً} يُسَهِّلْ عليه أمر الدنيا والآخرة، وهذا قول الأكثرين. وقال الضحاك: ومن يتق الله في طلاق السُّنَّة، يجعل الله له من أمره يسراً في الرَّجعة {ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله} بطاعته {يُكفِّرْ عنه سيآتهِ} أي: يمح عنه خطاياه {ويُعظِم له أجراً} في الآخرة.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} {أسكنوهنَّ من حيثُ سكنتم} و«من» صلة قوله: {من وُجدكم} قرأ الجمهور بضم الواو. وقرأ أبو هريرة، وأبو عبد الرحمن، وأبو رزين، وقتادة، ورَوْح عن يعقوب بكسر الواو. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة: بفتح الواو. قال ابن قتيبة: أي: بِقَدْر وُسْعِكم. والوُجد: المقدرة، والغنى، يقال: افتقر فلان بعد وُجْدٍ. قال الفراء: يقول: على ما يجد، فإن كان مُوَسَّعاً عليه، وسَّعَ عليها في المسكن والنَّفَقة، وإن كان مقتَّراً عليه، فعلى قَدْرِ ذلك. قوله تعالى: {ولا تُضَارُّوهنَّ} بالتضييق عليهنّ في المسكن، والنفقة، وأنتم تجدون سَعَة. قال القاضي أبو يعلى: المراد بهذا: المطلقة الرجعية دون المبتوتة، بدليل قوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [الطلاق: 1] وقولِه: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهنَّ بمعروف أو فارقوهن بمعروف} [الطلاق: 2] فدل ذلك على أنه أراد الرجعية. وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة: هل لها سكنى، ونفقة في مدة العدة، أم لا؟ فالمشهور عند أصحابنا: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة لها السكنى، والنفقة. وقال مالك والشافعي: لها السكنى، دون النفقة. وقد رواه الكوسج عن أحمد. ويدل على الأول حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها، فلا نفقة ولا سكنى. ومن حيث المعنى: إِن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها. واختلفوا في الحامل، والمتوفَّى عنها زوجها، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وأبو العالية، والشعبي، وشريح، وإبراهيم: نفقتها من جميع المال، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والثوري. وقال ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء: نفقتها في مال نفسها، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه. وعن أحمد كالقولين. قوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} يعني: أجرة الرضاع. وفي هذا دلالة على أن الأم إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها {وَأْتمروا بينكم بمعروف} أي: لا تشتطُّ المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرضاع، ولا يقصِّر الزَّوج عن المقدار المستحق {وإِن تعاسرتم} في الأجرة، ولم يتراضَ الوالدان على شيء {فسترضع له أخرى} لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. {لينفق ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ} أمر أهل التَّوسِعَة أن يوسِّعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سَعَتِهم. وقرأ ابن السميفع «لينفق» بفتح القاف {ومن قُدِرَ عليه رِزْقُه} أي: ضُيِّق عليه من المطلّقين. وقرأ أبي بن كعب، وحميد «قُدّر» بضم القاف، وتشديد الدال. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة «قَدّر» بفتح القاف وتشديد الدال «رزقَه» بنصب القاف {فلينفِقْ مما آتاه الله} على قدر ما أعطاه {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} أي: على قدر ما أعطاها من المال {سيجعل الله بعد عسر يسراً} أي: بعد ضيق وشدة، غنىً وسَعَةً، وكان الغالب عليهم حينئذ الفقر، فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد ذلك.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} قوله تعالى: {وكأين} أي: وكم {من قرية عتت عن أمر ربها ورسله} أي: عن أمر رسله. والمعنى: عتا أهلها. قال ابن زيد: عتت، أي: كفرت، وتركت أمر ربها، فلم تقبله. وفي باقي الآية قولان. أحدهما: أن فيها تقديماً، وتأخيراً. والمعنى: عذَّبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع، والسيف، والبلايا، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة، قاله ابن عباس، والفراء في آخرين. والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: حاسبناها بعملها في الدنيا، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها؛ فذلك قوله تعالى: «وعذَّبناها» فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة. والحساب الشديد: الذي لا عفو فيه، والنكر: المنكر {فذاقت وبال أمرها} أي: جزاء ذنبها {وكان عاقبة أمرها خسراً} في الدنيا، والآخرة، وقال ابن قتيبة: الخسر: الهلكة. قوله تعالى: {قد أنزل الله إليكم ذكراً} أي: قرآنا {رسولاً} أي: وبعثه رسولاً، قاله مقاتل. وإِلى نحوه ذهب السدي. وقال ابن السائب: الرسول هاهنا: جبرائيل، فعلى هذا: يكون الذِّكر والرسول جميعاً منزَّلين. وقال ثعلب: الرسول: هو الذِّكر. وقال غيره: معنى الذكر هاهنا: الشرف. وما بعده قد تقدَّم [البقرة: 257، والأحزاب: 43، والتغابن: 9] إِلى قوله تعالى: {قد أحسن الله له رزقاً} يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} قوله: {ومن الأرض مثلهن} أي: وخلق الأرض بعددهن. وجاء في الحديث: كثافة كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام، وما بينها وبين الأخرى كذلك، وكثافة كل أرض خمسمائة عام، وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك. وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس قال: في كل أرض آدم مثل آدمكم، ونوح مثل نوحكم، وإبراهيم مثل إبراهيمكم، وعيسى كعيسى، فهذا الحديث تارة يرفع إلى ابن عباس، وتارة يوقف على أبي الضحى، وليس له معنى إلا ما حكى أبو سليمان الدمشقي، قال سمعت أن معناه: إن في كل أرض خلقاً من خلق الله لهم سادة، يقوم كبيرهم ومتقدِّمهم في الخلق مقام آدم فينا، وتقوم ذُرِّيَّتُه في السِّنِّ والقِدَم كمقام نوح. وعلى هذا المثال سائرهم. وقال كعب: ساكن الأرض الثانية: البحر العقيم، وفي الثالثة: حجارة جهنم، والرابعة: كبريت جهنم، والخامسة: حيات جهنم، والسادسة: عقارب جهنم، والسابعة: فيها إبليس. قوله تعالى: {يتنزَّل الأمر بينهن}، في الأمر قولان. أحدهما: قضاء الله وقدره، قاله الأكثرون. قال قتادة: في كل أرضٍ من أرضهِ وسماءٍ من سمائه خَلْقٌ من خَلْقِهِ، وأمْرٌ من أمْرِهِ، وقَضَاءٌ من قَضَائِهِ. والثاني: أنه الوحي، قاله مقاتل. قوله تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} أعلمكم بهذا لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)} قوله تعالى: {لم تحرِّم ما أحل الله لك} في سبب نزولها قولان. أحدهما: " أن حفصة ذهبتْ إلى أبيها تَتَحَدَّثُ عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غَيْرةً شديدةً. فلما دخلت حفصة قالت: قد رأيت من كان عندك. والله لقد سُؤْتَني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والله لأُرْضِيَنَّك، وَإني مُسِرٌّ إليك سراً فاحفظيه»، قالت: وما هو؟ قال: «إِني أشهدكِ أن سِرِّيَّتي هذه عليَّ حرام رضىً لَكِ»، وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت حفصة إلى عائشة، فقالت لها: أبشري، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرَّم عليه فتاته "، فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس. وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى، وقال فيه: " فقالت حفصة: كيف تحرمها عليك، وهي جاريتك؟! فحلف لها أن لا يقربها، فقال لها: «لا تذكريه لأحد»، فذكرته لعائشة، فآلى أن لا يدخل على نسائه شهراً "، فنزلت هذه الآية وقال الضحاك: قال لها: " لا تذكري لعائشة ما رأيت "، فذكرته، فغضبت عائشة، ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها، فنزلت هذه الآية، وإلى هذا المعنى: ذهب سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، ومسروق، ومقاتل، والأكثرون. والثاني: ما روى عروة عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء والعسل، وكان إِذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، فدخل على حَفصَة بنت عمر، واحتبس عندها، فسألت عن ذلك، فقيل: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّةً من عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أما والله لنحتالَنَّ له، فقلت لسودة: إنه سيدنو منكِ إذا دخل عليك، فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ وسأقول ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي فيه، قالت: تقول: سودة سبحان الله، والله لقد حَرَمْنَاه قلت لها: اسكتي "، أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين». وفي رواية ابن أبي ملكية عن ابن عباس: أن التي شرب عندها العسل سودة، فقالت له عائشة: إِني لأجد منك ريحاً، ثم دخل على حفصة، فقالت: إني أجد منك ريحاً، فقال: إني أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه، فنزلت هذه الآية. وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة أن التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش، فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك القول. قال أبو عبيد: المغافير: شيء شبيه بالصمغ فيه حلاوة. وخرج الناس يتمغفرون: إذا خرجوا يجتنونه. ويقال: المغاثير بالثاء، مثل جدث، وجدف. وقال الزجاج: المغافير: صمغ متغير الرائحة. فخرج في المراد بالذي أحلَّ الله له قولان. أحدهما: أنه جاريته. والثاني: العسل. قوله تعالى: {تبتغي مرضات أزواجك} أي: تطلب رضاهن بتحريم ذلك. {والله غفور رحيم} غفر الله لك التحريم {قد فرض الله لكم} قال مقاتل: قد بيَّن الله لكم {تَحِلَّة أَيْمانِكم} أي: كفارة أيمانكم، وذلك البيان في [المائدة: 89] قال المفسرون: وأصل «تَحِلَّة» تَحْلِلَه على وزن تَفْعِلَة، فأدغمت، والمعنى: قد بين الله لكم تحليل أيمانكم بالكفَّارة، فأمره الله أن يكفِّر يمينه، فأعتق رقبة. واختلفوا هل حرّم مارية على نفسه بيمين، أم لا؟ على قولين. أحدهما: حرَّمها من غير ذكر يمين، فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه حلف يميناً حرَّمها بها، قاله الحسن. والشعبي، وقتادة، {والله مولاكم} أي: وليُّكم وناصركم. قوله تعالى: {وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً} يعني: حفصة من غير خلاف علمناه. وفي هذا السِّرِّ ثلاثة أقوال. أحدها: أنه قال لها: إني مُسِرٌّ إِليك سِرَّاً فاحفظيه، سرّيتي هذه عليَّ حرام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابنه، والسدي. والثاني: أنه قال لها: أبوك، وأبو عائشة، والِيا الناس من بعدي، فإياك أن تخبري أحداً، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: أنه أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي، قاله ميمون بن مهران. قوله تعالى: {فلما نَبَّأَتْ به} أي: أخبرت به عائشة {وأظهره الله عليه} أي: أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، لأنه استكتم حفصة ذلك، ثم دعاها، فأخبرها ببعض ما قالت، فذلك قوله تعالى: {عرَّف بعضَه وأعرض عن بعض} وفي الذي عرَّفها إياه قولان. أحدهما: أنه حدَّثها ما حدثتها عائشة من شأن أبي بكر وعمر، وسكت عما أخبرتْ عائشة من تحريم مارية، لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن الذي عرَّف: تحريم مارّية، والذي أعرض عنه: ذِكر الخلافة لئلا ينتشر، قاله الضحاك، وهذا اختيار الزجاج. قال: ومعنى «عرَّف بعضه» عرَّف حفصة بعضه. وقرأ الكسائي، «عَرَفَ» بالتخفيف. قال الزجاج: على هذه القراءة قد عرف كل ما أسرَّه، غير أن المعنى جارٍ على بعضه، كقوله تعالى: {وما تَفْعلوا من خَير يعلمْه الله} [البقرة: 179] أي: يعلمه ويجازِ عليه، وكذلك: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزلة: 7] أي: ير جزاءه. فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فكان ذلك جزاءها عنده، فأمره الله أن يراجعها. وقال مقاتل بن حيَّان: لم يطلقها، وإنما همَّ بطلاقها، فقال له جبريل: لا تطلقها، فإنها صوَّامة قوَّامة. وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، ثم قرأ «عرَّف بعضه وأعرض عن بعض» وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن السميفع «عُرَّاف» برفع العين، وتشديد الراء وبألف «بعضِه» بالخفض. قوله تعالى: {فلما نَبَّأها به} أي: أخبر حفصة بإفشائها السرَّ {قالت من أنبأك هذا؟} أي: من أخبرك بأني أفشيت سرك؟ {قال نبأني العليم الخبير} ثم خاطب عائشة وحفصة، فقال: {إِن تتوبا إلى الله} أي: من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء {فقد صغت قلوبكما} قال ابن عباس: زاغت، وأثمت. قال الزجاج: عدلت، وزاغت عن الحق. قال مجاهد: كنا نرى قوله تعالى: «فقد صغت قلوبكما» شيئاً هيِّناً حتى وجدناه في قراءة ابن مسعود: فقد زاغت قلوبكما. وإنما جعل القلبين جماعة لأن كل اثنين فما فوقهما جماعة. وقد أشرنا إِلى هذا في قوله تعالى: {فإن كان له إخوة} [النساء: 11] وقولِه تعالى: {إِذ تسوَّروا المحراب} [ص: 11]. قال المفسرون: وذلك أنهما أحبَّا ما كَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته، {وإن تظاهرا} وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن ومجاهد، والأعمش «تظاهرا» بتخفيف الظاء، أي: تعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء {فإن الله هو مولاه} أي: وَليُّه في العون، والنصرة {وجبريل} وليُّه {وصالح المؤمنين} وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال. أحدها: أنهم أبو بكر وعمر، قاله ابن مسعود، وعكرمة، والضحاك. والثاني: أبو بكر، رواه مكحول عن أبي أُمامة. والثالث: عمر، قاله ابن جبير، ومجاهد. والرابع: خيار المؤمنين، قاله الربيع بن أنس. والخامس: أنهم الأنبياء، قاله قتادة، والعلاء بن زياد العدوي، وسفيان. والسادس: أنه علي رضي الله عنه، حكاه الماوردي. قاله الفراء: «وصالح المؤمنين» موحّد في مذهب جميع، كما تقول: لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا ساسة للحرب، فقد أمر بالمجيء، ومثله قوله تعالى: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38]، وقوله تعالى: {واللَّذان يأتيانها منكم} [النساء: 16]، وقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً} [المعارج: 19] في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع. قوله تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير} أي: ظهراً، وهذا مما لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجميع، ومثله {يخرجكم طفلاً} [غافر: 67]، وقد شرحناه هناك. ثم خوَّف نساءه، فقال تعالى: {عسى ربُّه إن طلقكنَّ} وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن الخطاب قال: بلغني بعض ما آذى به رسولَ الله نساؤه، فدخلتُ عليهنَّ، فجعلت أَستقرئهن واحدةً واحدةً، فقلت: والله لتنتهِنَّ، أو ليبدلنَّه الله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية. والمعنى: واجبٌ من الله {إن طلقكنَّ} رسوله {أن يبدلَه أزواجاً خيراً منكنَّ مسلماتٍ} أي: خاضعات لله بالطاعة {مؤمناتٍ} مصدِّقات بتوحيد الله {قانتاتٍ} أي: طائعات {سائحات} فيه قولان. أحدهما: صائمات، قاله ابن عباس، والجمهور. وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى: {السائحون} [التوبة: 112]. والثاني: مهاجرات، قاله زيد بن أسلم، وابنه. {والثيّبات} جمع ثَيِّب، وهي المرأة التي قد تزوَّجت، ثم ثابت إلى بيت أبويها، فعادت كما كانت غير ذات زوج. «والأبكار»: العذارى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)} قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} وقاية النفس: بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ووقاية الأهل: بأن يُؤْمَروا بالطاعة، ويُنْهَوا عن المعصية. وقال علي رضي الله عنه: علِّموهم وأدِّبوهم {وقودها الناس والحجارة} وقد ذكرناه في [البقرة: 24] {عليها ملائكةٌ غِلاظٌ} على أهل النار {شِدادٌ} عليهم. وقيل: غلاظ القلوب شِدَاد الأبدان. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: خَزَنَةُ النَّار تسعةَ عشر، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، وقُوَّته: أن يضرب بالمقمعة، فيدفع بتلك الضربة سبعين ألفاً. فيهوُون في قعر جهنَّم {لا يعصون الله ما أمرهم} أي: لا يخافون فيما يأمر {ويفعلون ما يؤمرون} فيه قولان. أحدهما: لا يتجاوزون ما يؤمرون. والثاني: يفعلونه في وقته لا يؤخِّرونه، ولا يقدِّمونه. ويقال لأهل النار: {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم}. قوله تعالى: {توبوا إلى الله توبة نصوحاً} قرأ أبو بكر عن عاصم، وخارجة عن نافع «نصوحاً» بضم النون. والباقون بفتحها. قال الزجاج: فمن فتح فعلى صفة التوبة، ومعناه: توبةً بالغةً في النصح، و«فَعُول» من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف. تقول: رجل صبور، وشكور. ومن قرأ بالضم، فمعناه: ينصحون فيها نصوحاً، يقال: نصحت له نصحاً، ونصاحة، ونصوحاً. وقال غيره: من ضم أراد: توبة نُصْحٍ لأنفسكم. وقال عمر بن الخطاب: التوبة النصوح: أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدِّث نفسه أنَّه لا يعود. وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح، فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود. وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، ثم قرأ هذه الآية. قوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي} قد بيَّنا معنى «الخزي» في [آل عمران: 192] وبيَّنا معنى قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} في [الحديد: 12] {يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم نورهم، ويبلِّغهم به الجنة. قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إِلا يعطى نوراً يوم القيامة. فأما المنافق فيُطفَأ نورُه، والمؤمن مُشْفِق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهم يقولون: «ربنا أتمم لنا نورنا».
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} قوله تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين} قد شرحناه في [براءة: 73]. قوله تعالى: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح} قال المفسرون منهم مقاتل: هذا المثل يتضمن تخويف عائشة وحفصة أنهما إن عَصيا ربَّهما لم يُغْنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما شيئاً. قال مقاتل: اسم امرأة نوح «والهة» وامرأة لوط «والغة». قوله تعالى: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين} يعني: نوحاً ولوطاً عليهما السلام {فخانتاهما} قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدِّين، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف، فإذا نزل بلوط ضيفٌ بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه قد نزل به ضيف. وقال السدي: كانت خيانتهما: كفرهما. وقال الضحاك: نميمتهما. وقال ابن السائب: نفاقهما. قوله تعالى: {فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً} أي: فلم يدفعا عنهما من عذاب الله شيئاً. وهذه الآية تقطع طمع مَن ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره. ثم أخبر أن معصية الغير لا تضر المطيع. بقوله تعالى: {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون} وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها. وقال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذِّر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما. ثم ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسك بالطاعة. وكانت آسية قد آمنت بموسى. قال أبو هريرة: ضرب فرعون لامرأته أوتاداً في يديها ورجليها، وكانوا إذا تفرَّقوا عنها أظلتها الملائكة، فقالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها {ونجني من فرعون وعمله} فيه قولان. أحدهما: أن عمله: جِمَاعُهُ. والثاني: أنه دينه رويا عن ابن عباس {ونجني من القوم الظالمين} يعني: أهل دين المشركين. قوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها} قد ذكرنا فيه قولين في سورة [الأنبياء: 92] فمن قال: هو فرج ثوبها، قال «الهاء» في قوله تعالى: {فنفخنا فيه} يرجع إليه، وذلك أن جبريل مَدَّ جيب درعها، فدخل فيه. ومن قال: هو مخرج الولد، قال: «الهاء» كناية عن غير مذكور، لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها. قوله تعالى: {وصدَّقت بكلمات ربها} وفيه قولان. أحدهما: أنها قول جبريل {إِنما أنا رسول ربكِ} [مريم: 19]. والثاني: أن الكلمات هي التي تضمنَّتها كتب الله المنزلة. وقرأ أُبيُّ ابن كعب، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري، «بكلمةِ ربها» على التوحيد «وكُتُبه» قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وابو بكر عن عاصم «وكتابِهِ» على التوحيد، وقرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وخارجة عن نافع «وكُتُبه» جماعة، وهي التي أنزلت على الأنبياء، ومن قرأ «وكتابه» فهو اسم جنس على ما بيَّنَّا في خاتمة [البقرة: 285] وقد بيَّنَّا فيها القنوت مشروحاً [البقرة: 116]. ومعنى الآية: وكانت من القانتين، ولذلك لم يقل: من القانتات.
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} قوله تعالى: {تبارك} قد شرحناه في [الأعراف: 54]. قوله تعالى: {الذي بيده الملك} قال ابن عباس: يعني: السلطان يُعِزُّ ويُذِلُّ. قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة} قال الحسن: خلق الموت المزيل للحياة، والحياة التي هي ضد الموت {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} قد شرحناه في [هود: 7] قال الزجاج: والمعلَّق ب {أيكم} مضمر تقديره: ليبلوكم، فيعلم أيُّكم أحسن عملاً، وهذا علم وقوع. وارتفعت «أي» بالابتداء، ولا يعمل فيها ما قبلها، لأنها على أصل الاستفهام، ومثله {أيُّ الحزبين أحصى} [الكهف: 12]. والمعنى: خلق الحياة ليختبركم فيها، وخلق الموت ليبعثَكم ويجازيَكم. وقال غيره: اللام في «ليبلوَكم» متعلق بخلق الحياة دون خلق الموت، لأن الابتلاء بالحياة، {الذي خلق سبع سموات طباقاً} أي: خلقهنَّ مطابقات، أي: بعضها فوق بعض {ما ترى} يا ابن آدم {في خلق الرحمن من تفاوت} قرأ حمزة والكسائي: «من تفوُّت» بتشديد الواو من غير ألف. وقرأ الباقون بألف. قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة، كما تقول: تعاهدت الشيء، وتعهَّدته. والتفاوت: الاختلاف. وقال ابن قتيبة: التفاوت: الاضطراب والاختلاف، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً، فيقع الخلل، ولكنه متصل بعضه ببعض. قوله تعالى: {فارجع البصر} أي: كرِّر البصر {هل ترى من فطور} وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، «هل ترى» بإدغام اللام في التاء، أي: هل ترى فيها فروجاً وصُدوعاً. قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرَّتين} أي: مرَّةً بعد مرَّة {ينقلبْ إليك البصر خاسئاً} قال ابن قتيبة: أي: مبعداً من قولك: خسأتُ الكلب: إذا باعدتَه {وهو حسير} أي: كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه. وقال الزجاج: قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خَلَلاً. قوله تعالى: {ولقد زيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} وقد شرحناه في [حم السجدة: 12] {وجعلناها رجوماً للشياطين} أي: يرجم بها مسترقو السمع. وقد سبق بيان هذا المعنى [الحجر: 18] {وأعتدنا لهم} أي: في الآخرة {عذاب السعير} وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: {سمِعوا لها شهيقاً} أي: صوتاً مثل صوت الحمار. وقد بينا معنى الشهيق في [هود: 106] {وهي تفور} أي: تغلي بهم كغلي المِرْجَل {تكاد تميَّز} أي: تتقطَّع من تَغَيُّظها عليهم {كلما أُلقي فيها فَوْجٌ} أي: جماعة منهم {سألهم خَزَنَتُها ألم يأتكم نذير؟!} وهذا سؤال توبيخ. قوله تعالى: {إِن أنتم} أي: قلنا للرسل: {إن أنتم إلا في ضلال} أي: في ذهاب عن الحق بعيد. قال الزجاج: ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا: {لو كنا نسمع} أي: سماع من يعي ويفكِّر {أو نعقل} عقل من يُميِّز وينظر {ما كنا} من أهل النار {فسحقاً} أي: بُعْدَاً. وهو منصوب على المصدر، المعنى: أسحقهم الله سحقاً، أي: باعدهم الله من رحمته مباعدة، والسحيق: البعيد. وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «فسحقاً» أي: بُعْدَاً. وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح: السُّحق: وادٍ في جهنم يقال له: سُحق.
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} قوله تعالى: {إن الذين يَخْشَوْنَ ربَّهم بالغيب} قد شرحناه في [سورة الأنبياء: 49] {لهم مغفرة} لذنوبهم {وأجر كبير} وهو: الجنة. ثم عاد إلى خطاب الكفَّار، فقال تعالى: {وأَسِرُّوا قولكم أو اجهروا به} قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبرائيل بما قالوا، فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد. قوله تعالى: {ألا يعلم من خلق؟!} أي: ألا يعلم ما في الصدور خالقها؟!، و«اللطيف» مشروح في [الأنعام: 103] و«الخبير» في [البقرة: 234]. قوله تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذَلُولاً} أي: مُذَلَّلةً سَهْلَةَ لم يجعلها ممتنعة بالحُزُونَة والغِلَظ. قوله تعالى: {فامشوا في مناكبها} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: طرقاتها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: جبالها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، قال: لأن المعنى: سهل لكم السلوك فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ في التذليل. والثالث: في جوانبها، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة، واختاره ابن قتيبة، قال: ومنكبا الرجل: جانباه. قوله تعالى: {وإليه النشور} أي: إليه تُبْعَثُون من قبوركم.
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} ثم خوف الكفار فقال: {أأمنتم} قرأ ابن كثير: «وإليه النشور وأمنتم» وقرأ نافع، وأبو عمرو: «النشور آمنتم» بهمزة ممدودة. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أأمنتم» بهمزتين {مَنْ في السماء} قال ابن عباس: أمنتم عذاب مَنْ في السماء، وهو الله عزَّ وجل؟! و«تمور» بمعنى تدور. قال مقاتل: والمعنى: تدور بكم إلى الأرض السفلى. قوله تعالى: {أن يرسل عليكم حاصباً} وهي: الحجارة، كما أرسل على قوم لوط {فستعلمون كيف نذيرِ} أي: كيف كانت عاقبة إِنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب {ولقد كذَّب الذين من قبلهم} يعني: كفار الأمم {فكيف كان نكيرِ} أي: إنكاري عليهم بالعذاب. {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافَّات} أي: تصفُّ أجنحتها في الهواء، وتقبض أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط {ما يُمسِكُهنَّ} أن يقعن {إلا الرحمنُ}.
{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)} قوله تعالى: {أمَّن هذا الذي هو جند لكم} هذا استفهام إنكار. ولفظ «الجُنْدِ» مُوحَّد، فلذلك قال تعالى: «هذا الذي هو» والمعنى: لا جُنْدَ لكم {ينصركم} أي: يمنعكم من عذاب الله إن أراده بكم {إنِ الكافرون إلا في غرور} وذلك أن الشيطان يغرُّهم، فيقول: إن العذاب لا ينزل بكم {أمَّن هذا الذي يرزقكم} المطر وغيرَه {إن أمسك} الله ذلك عنكم {بل لجُّوا في عُتُوٍّ} أي: تمادٍ في كفر {ونفور} عن الإيمان. ثم ضرب مثلاً، فقال تعالى: {أفمن يمشي مُكِبّاً على وجهه} قال ابن قتيبة: أي: لا يبصر يميناً، ولا شمالاً، ولا من بين يديه. يقال: أكبَّ فلانٌ على وجهه بالألف، وكبَّه الله لوجهه، وأراد: الأعمى. قال المفسرون: هذا مثل للمؤمن، والكافر. و«السويُّ»: المعتدل، أي: الذي يبصر الطريق. وقال قتادة: هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مُكِبّاً على وجهه، والمؤمن يمشي سوياً. قوله تعالى: {قليلاً ما تشكرون} فيه قولان. أحدهما: أنهم لا يشكرون، قاله مقاتل. والثاني: يشكرون قليلاً، قاله أبو عبيد. قوله تعالى: {ذَرَأَكُمْ} أي: خلقكم {ويقولون متى هذا الوعد} يعنون بالوعد: العذابَ {فلما رأوه زُلْفَةً} أي: رأوا العذاب قريباً منهم {سِيْئَتْ وجوه الذين كفروا} قال الزجاج: أي: تبين فيها السُّوءُ. وقال غيره: قُبِّحْت بالسواد {وقيل هذا الذي كنتم به تَدَّعُونَ} فيه قولان. أحدهما: أنَّ «تدَّعون» بالتشديد، بمعنى تدعون بالتخفيف، وهو «تفتعلون» من الدعاء. يقال: دعوت، وادَّعيت، كما يقال: خَبَرْتُ وَاخْتَبَرْتُ، ومثله: يَدَّكِرون، ويَدْكُرون، هذا قول الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أن المعنى: هذا الذي كنتم من أجله تَدَّعون الأباطيلَ والأكاذيبَ، تَدَّعون أنكم إِذا مُتُّم لا تُبْعَثُون؟! وهذا اختيار الزجاج. وقرأ أبو رزين، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «تَدْعون» بتخفيف الدال، وسكونها، بمعنى تَفْعَلون من الدعاء. وقال قتادة: كانوا يَدعُون بالعذاب.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أهلكني الله} بعذابه {ومن معيَ} من المؤمنين. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «معيَ» بفتح الياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي: «معي» بالإسكان {أو رَحِمَنَا} فلم يعذِّبْنَا {فَمَنْ يجير الكافرين} أي يمنعهم ويؤمِّنُهم {من عذاب أليم} ومعنى الآية: إنا مع إِيماننا، بين الخوف الرَّجاء: فمن يجيرُكم مع كفركم من العذاب؟! أي: لأنه لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين {قل هو الرحمن} الذي نعبُدُ {فستعلمون} وقرأ الكسائي: «فسيعلمون» بالياء عند معاينة العذاب مَن الضالُّ نَحْن أم أنتم. قوله تعالى: {إن أصبح ماؤكم غَوْراً} قد بيَّنَّاه في [الكهف: 41] {فمن يأتيكم بماءٍ معينٍ؟!} أي: بماءٍ ظاهر تراه العيون، وتناله الأرشية.
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} قوله تعالى: {ن} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص: {نْ والقلم} النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو، وهذا اختيار الفراء. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يُبين النون من {نون}. وبها قرأ الكسائي، وخلف، ويعقوب، وهو اختيار الزجاج. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والأعمش: «نونِ والقلم» بكسر النون. وقرأ الحسن، وأبو عمران، وأبو نهيك: «نُ والقلم» برفع النون. وفي معنى نون سبعة أقوال. أحدها: أنها الدواة. روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النون، وهي الدواة " وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير، وبه قال الحسن وقتادة. والثاني: أنه آخر حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه الحوت الذي على ظهر الأرض، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس، وهو مذهب مجاهد، والسدي، وابن السائب، ومقاتل. والرابع: أنه لَوْح من نور، قاله معاوية بن قُرَّة. والخامس: أنه افتتاح اسمه «نصير»، و«ناصر»، قاله عطاء. والسادس: أنه قَسَم ٌبِنُصْرَةِ الله للمؤمنين، قاله القرظي. والسابع: أنه نهر في الجنة، قاله جعفر الصادق. وفي القلم قولان. أحدهما: أنه الذي كتب به في اللوح المحفوظ. والثاني: أنه الذي يكتب به الناس. وإنما أقسم به، لأن كتبه إنما تكتب و{يسطرون} بمعنى: يكتبون. وفي المشار إليهم قولان. أحدهما: أنهم الملائكة. وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان. أحدهما: أنه الذّكر، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أعمال بني آدم، قاله مقاتل. والقول الثاني: أنهم جميع الكَتَبة، حكاه الثعلبي {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} أي: ما أنت بِإنْعامِ ربِّك عليك بالإيمان والنُّبوَّة بمجنون. قال الزجاج: هذا جواب قولهم: إنك لمجنون. وتأويله: فارقك الجنون بنعمة الله. قوله تعالى: {وإِنَّ لك} بصبرك على افترائهم عليك، ونسبتهم إيّاك إلى الجنون {لأجراً غير ممنون} أي: غير مقطوع ولا منقوص، {وإِنك لعلى خلق عظيم} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن. والثالث: الطبع الكريم. وحقيقة «الخُلُق»: ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خُلُقاً، لأنه يصير كالخِلْقة في صاحبه. فأما ما طبع عليه فيسمى: «الخِيم» فيكون الخِيم: الطبع الغريزي، والخُلُق: الطبع المُتكلَّف. هذا قول الماوردي. وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلُقُه القرآن. تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن. قوله تعالى: {فستبصر ويبصرون} يعني: أهل مكة. وهذا وعيد لهم بالعذاب. والمعنى: سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب بِبَدْرٍ {بأيِّكم المفتون} وفيه أربعة أقوال. أحدها: الضالُّ، قاله الحسن. والثاني: الشيطان، قاله مجاهد. والثالث: المجنون، قاله الضحاك. والمعنى: الذي قد فتن بالجنون. والرابع: المعذَّب، حكاه الماوردي. وفي الباء قولان. أحدهما: أنها زائدة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا: [نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الفَلَجْ] *** نَضْرِبُ بِالسَّيْف وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ والثاني: أنها أصلية، وهذا قول الفراء، والزجاج. قال الزجاج: ليس كونها لغواً بجائز في العربية في قول أحد من أهلها. وفي الكلام قولان للنحويين. أحدهما: أن «المفتون» هاهنا: الفتون. والمصادر تجيء على المفعول. تقول العرب: ليس هذا معقود رأي، أي: عقد رأي، وتقول: دعه إلى ميسوره، أي: يسره. والمعنى: بأيكم الجنون. والثاني: بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى: في أي الفرقتين المجنون. وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج. وقد قرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «في أي المفتون». ثم أخبر أنه عالم بالفريقين بما بعد هذا.
{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} قوله تعالى: {فلا تطع المكذبين} وذلك أن رؤساء أهل مكة دَعَوْه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم {وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيُدْهنون} فيه سبعة أقوال. أحدها: لو ترخص فيرخصون، قاله ابن عباس. والثاني: لو تُصَانِعُهم في دِينك فَيَصانِعون في دينهم، قاله الحسن. والثالث: لو تكفر فيكفرون، قاله عطية، والضحاك، ومقاتل. والرابع: لو تَلِينُ فيلينون لك، قاله ابن السائب. والخامس: لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون، قاله زيد بن أسلم. والسادس: ودُّوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم. وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مُدَّة، ويعبدوا الله مدة، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة. والسابع: لو تقاربهم فيقاربونك، قاله ابن كيسان. قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاَّف} وهو كثير الحلف بالباطل {مَهينٍ} وهو الحقير الدنيء. وروى العوفي عن ابن عباس قال: المَهين: الكذَّاب. واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: الأخنس بن شريق، قاله عطاء، والسدي. والثالث: الأسود بن عبد يغوث، قاله مجاهد. قوله تعالى: {همَّاز} قال ابن عباس: هو المغتاب. وقال ابن قتيبة: هو العَيَّاب. قوله تعالى: {مَشَّاءٍ بنميم} أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهو نقل الكلام السيء من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم {مَنَّاعٍ للخير} فيه قولان. أحدهما: أنه منع ولده وعشيرته الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: مَنَّاعٍ للحقوق في ماله، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {معتدٍ} أي: ظلوم {أثيم} فاجر {عُتُلٍّ بعد ذلك} أي: مع ما وصفناه به. وفي «العُتُلِّ» سبعة أقوال. أحدها: أنه العاتي الشديد المنافق، قاله ابن عباس. والثاني: أنه المتوفِّر الجسم، قاله الحسن. والثالث: الشديدُ الأَشِرُ، قاله مجاهد. والرابع: القويُّ في كفره، قاله عكرمة. والخامس: الأكول الشروب القوي الشديد، قاله عبيد بن عمير. والسادس: الشديد الخصومة بالباطل، قاله الفراء. والسابع: أنه الغليظ الجافي، قاله ابن قتيبة. وفي «الزنيم» أربعة أقوال. أحدها: أنه الدَّعيُّ في قريش وليس منهم، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا معروف في اللغة أن الزنيم: هوالملتصق في القوم وليس منهم، وبه قال الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. قال حسان: وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ *** كما نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ والثاني: أنه الذي يعرف بالشَّرِّ، كما تعرف الشاة بِزَنَمتها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: أنه الذي له زَنَمة مثل زنمة الشاة. وقال ابن عباس: نُعت فلم يعرف حتى قيل: زنيم، فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد، لأنه وصفه بالحلف، والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنميمة، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدِّعوة، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة. والزَّنَمَتان: المعلقتان عند حلوق المعزى. وقال ابن فارس: يعني التي تتعلق من أذنها. والرابع: أنه الظلوم، رواه الوالبي عن ابن عباس. قوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم: «أن كان» على الخبر، أي: لأن كان. والمعنى: لا تطعه لماله وبنيه. وقرأ ابن عباس بهمزتين، الأولى: مخففة. والثانية: ملينة، وفصل بينهما بألف أبو جعفر. وقرأ حمزة: «أأن كان» بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وله وجهان. أحدهما: لأن كان ذا مال تطيعه؟!. والثاني: ألأن كان ذا مال وبنين، {إِذا تتلى عليه آياتنا} يكفر بها؟ فيقول: {أساطير الأولين} ذكر القولين الفراء. وقرأ ابن مسعود: «أن كان» بهمزة واحدة مقصورة. ثم أوعده فقال تعالى: {سنسمه على الخرطوم} الخرطوم: الأنف. وفي هذه السِّمة ثلاثة أقوال. أحدها: سنسمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة على أنفه ما عاش، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف، قاله ابن عباس. والثاني: سنُلْحق به شيئاً لا يفارقه، قاله قتادة، واختاره ابن قتيبة. والثالث: أن المعنى: سَنُسَوِّد وجهه. قال الفراء: و«الخرطوم» وإِن كان قد خص بالسِّمة، فإنه في مذهبٍ الوجه، لأن بعض الوجه يؤدِّي عن البعض. وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وجائز والله أعلم أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتبيَّن بها عن غيره.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)} قوله تعالى: {إنا بلوناهم} يعني: أهل مكة، أي: ابتليناهم بالجوع، والقحط {كما بَلَوْنا أصحاب الجنة} حين هلكت جَنَّتهم. وهذه الإشارة إِلى قصتهم ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمناً. وذلك بعد عيسى بن مريم عليهما السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل: كان يترك للمساكين ما تعدَّاه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدِّراس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاث بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإِنما كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً، والعيال قليلاً، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدُنَّ قبل خروج الناس، فليصرمُنَّ نخلهم، فذلك قوله تعالى: {إذْ أقسموا} أي: حلفوا {ليصرُمنّها} أي: ليقطعنّ نخلهم {مصبحين} أي: في أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء. وفي قوله تعالى: {ولا يستثنون} قولان. أحدهما: لا يقولون: إن شاء الله قاله الأكثرون. والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة {فطاف عليها طائف من ربك} أي: من أمر ربك. قال الفراء: الطائف لا يكون إلا بالليل. قال المفسرون: بعث الله عليها ناراً بالليل، فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله تعالى: {فأصبحت كالصريم} وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: كالرَّماد الأسود، قاله ابن عباس. والثاني: كالليل المسودّ، قاله الفراء. وكذلك قال ابن قتيبة: أصبحت سوداء كالليل محترقة. والليل: هو الصريم، والصبح أيضاً: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه. والثالث: أصبحت وقد ذهب ما فيها من الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجُذَّ حكاه ابن قتيبة أيضاً. قوله تعالى: {فتنادَوْا مصبحين} أي: نادى بعضهم بعضاً لما أصبحوا {أن اغْدُوا على حرثكم} يعني: الثمار والزروع والأعناب {إن كنتم صارمين} أي: قاطعين للنخل، {فانطلقوا} أي: ذهبوا إلى جنَّتهم {وهم يتخافتون} قال ابن قتيبة: يتساررون ب {أن لا يدخلنَّها اليوم عليكم مسكين وغَدَوُا على حرد} فيه ثمانية أقوال. أحدهما: على قدرة، قاله ابن عباس. والثاني: على فاقة، قاله الحسن في رواية. والثالث: على جد، قاله الحسن في رواية، وقتادة، وأبو العالية، والفراء، ومقاتل. والرابع: على أمر مجمع قد أسَّسوه بينهم، قاله مجاهد، وعكرمة. والخامس: أن الحرد: اسم الجنة، قاله السدي. والسادس: أنه الحنَق والغضب على المساكين، قاله الشعبي، وسفيان. وأنشد أبو عبيدة: أُسُودُ شَرَىً لاَقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ *** تَسَاقَوْا على حَرْدٍ دِمَاءَ الأَسَاوِدِ والسابع: أنه المنع، مأخوذ من حارَدَتِ السَّنَة فليس فيها مطر، وحاردت الناقة فليس لها لبن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثامن: أنه القصد. يقال: حَرَدْتُ حَرْدَكَ، أي: قَصَدْتُ قَصْدَكَ، حكاه الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا: قَدْ جَاءَ سَيْلٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ اللهْ *** يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ أي: يقصد قصدها. قال ابن قتيبة: وفيها لغتان: حَرَدٌ، وحَرْدٌ، كما يقال: الدَّرَك، والدَّرْك. وفي قوله تعالى: {قادرين} ثلاثة أقوال. أحدها: قادرين على جَنَّتهم عند أنفسهم، قاله قتادة. والثاني: قادرين على المساكين، قاله الشعبي. والثالث: أن المعنى: منعوا وهم قادرون، أي: واجدون، قاله ابن قتيبة. قالوا: {فلما رَأَوْها} محترقة {قالوا إنا لضالون} أي: قد ضللنا طريق جَنَّتنا، فليست هذه. ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: {بل نحن محرومون} أي: حرِمْنَا ثَمَرَ جَنَّتنَا بمنعنا المسكين {قال أوسطهم} أي: أعدلهم، وأفضلهم {لولا} أي: هلاَّ {تسبِّحون} وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: هلا تَسْتَثْنُون عند قولكم: «ليصرُمنَّها مصبحين» قاله ابن جريج والجمهور. والمعنى: هلاَّ قلتم: إن شاء الله. قال الزجاج: وإنما قيل للاستثناء: تسبيح، لأن التسبيح في اللغة: تنزيه الله عز وجل عن السوء. والاستثناء تعظيم لله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلاً إلا بمشيئة الله. والثاني: أنه كان استثناؤهم قول: «سبحان الله»، قاله أبو صالح. والثالث: هلا تسبِّحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم، حكاه الثعلبي. وقوله تعالى: {قالوا سبحان ربنا} فنزَّهوه أن يكون ظالماً فيما صنع، وأقرُّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا: {إنَّا كنَّا ظالمين} بمنعنا المساكين {فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} أي: يلوم بعضهم بعضاً في منع المساكين حقوقهم. يقول هذا لهذا: أَنْتَ أَشَرْتَ علينا، ويقول الآخر: أنت فَعَلْتَ، ثم نادَوْا على أنفسهم بالويل فقالوا: {يا ويلنا إنا كنا طاغين} حين لم نصنع ما صنع آباؤنا، ثم رجعوا إِلى الله تعالى فسألوه أن يبدِّلهم خيراً منها، فذلك قوله: {عسى رَبُّنا أن يبدِّلنا خيراً منها}. وقرأ قوم: «يبدِلنا» بالتخفيف، وهما لغتان. وفرَّق قوم بينهما، فقالوا: التبديل: تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية. والإبدال: إزالة الشيء ووضع غيره مكانه. ونقل أن القوم أخلصوا، فبدَّلهم الله جنَّةً العنقودُ منها وِقْرُ بَغْلٍ. قوله تعالى: {كذلك العذاب} ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدَّى حدودنا. وهاهنا انتهت قصة أهل الجنة. ثم قال تعالى: {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} يعني: المشركين. ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا، فقال المشركون: إنا لنُعْطى في الآخرة أفضل مما تُعْطَوْنَ، فقال تعالى مكذِّباً لهم {أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟!} قال الزجاج: هذه ألف الاستفهام مجازها هاهنا مجاز التوبيخ، والتقرير. قوله تعالى: {كيف تحكمون} أي: كيف تقضون بالجَوْرِ {أم لكم كتاب} أُنْزِلَ من عند الله {فيه} هذا {تدرسون} أي: تقرؤون ما فيه {إن لكم} في ذلك الكتاب {لَمَا تَخَيَّرون} أي: ما تختارون وتشتهون. وقرأ أبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: «أن لكم» بفتح الهمزة. وهذا تقريع لهم، وتوبيخ على ما يتمنَّوْن من الباطل «سَلْهم أَيُّهم بذلك زعيم» {أم لكم أَيْمانٌ علينا بالغةٌ} أي: ألكم عهود على الله تعالى حلف لك على ما تَدَّعُونَ بأَيْمانٍ بالغةٍ، أي: مُؤكَّدةٍ. وكل شيء متناهٍ في الجودة والصحة فهو بالغ. ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأَيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها {إن لكم لَمَا تحكمون} لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى. قال الفراء: والقرَّاء على رفع «بالغةٌ» إِلا الحسن فإنه نصبها على مذهب المصدر، كقوله تعالى: {حقاً} [الروم: 47] ومعنى الآية: هل لكم أيمان علينا بالغة بأن لكم ما تحكمون؟! فلما كانت اللام في جواب «إن» كسرتَها. قوله تعالى: {سلهم أيُّهم بذلك زعيم} فيه قولان. أحدهما: أنه الكفيل، قاله ابن عباس، وقتادة. والمعنى: أيُّهُمْ كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير. والثاني: أنه الرسول، قاله الحسن. قوله تعالى: {أم لهم شركاء} يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى، والمعنى: ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا. وقيل: يشهدون لهم بصدق ما ادَّعَوْا {فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين} في أنها شركاء الله. وإنما أضيف الشركاء إليهم لادِّعائهم أنهم شركاء الله.
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)} {يوم يُكْشَفُ} المعنى: فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق. قرأ الجمهور: «يُكْشَفُ» بضم الياء، وفتح الشين. وقرأ ابن أبي عبلة، وعاصم الجحدري، وأبو الجوزاء، بفتح الياء، وبكسر الشين. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس: «تَكْشِف» بتاءٍ مفتوحة، وكسر الشين. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وابن يعمر، والضحاك: «نَكشف» بنون مفتوحة مع كسر الشين. وهذا اليوم هو يوم القيامة. وقد روى عكرمة عن ابن عباس: «يوم يُكْشَفُ عن ساق» قال: يُكْشَفُ عن شِدَّةٍ، وأنشد: وَقَامَتْ الحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ *** وهذا قول مجاهد، وقتادة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إِلى معاناته والجدّ فيه، شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، واللغويين. وقد أضيف هذا الأمر إِلى الله تعالى. فروي في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " يكشف عن ساقه "، وهذا إضافة إليه، لأن الكل له وفعله. وقال أبو عمر الزاهد: يراد بها النفس، ومنه قول علي رضي الله عنه: أقاتلهم ولو تلفت ساقي، أي: نفسي. فعلى هذا يكون المعنى: يتجلّى لهم. قوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إلى السجود} يعني: المنافقين {فلا يستطيعون} كأن في ظهورهم سفافيد الحديد. قال النقاش: وليس ذلك بتكليف لهم أن يسجدوا، وهم عجزة، ولكنه توبيخ لهم بتركهم السجود {خاشعةً أبصارهم} أي: خاضعةً {ترهقهم ذِلَّة} أي: تغشاهم {وقد كانوا يُدْعَوْن إِلى السجود} يعني: بالأذان في دار الدنيا، ويُؤْمَرون بالصلاة المكتوبة {وهم سالمون} أي: معافَوْن ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد. وفي هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة. وكان كعب يقول: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلَّفون عن الجماعات {فَذَرْني ومن يكذِّب بهذا الحديث} يعني: القرآن. والمعنى: خَلِّ بيني وبينه. قال الزجاج: أي: لا تشغل قلبك به، كِلْه إليَّ فأنا أكفيك أمره. وذكر بعض المفسرين أن هذا القدر من الآية إلى قوله: «الحديث» منسوخ بآية السيف. وما بعد هذا مفسر في [الأعراف: 183، 182] إلى قوله تعالى: {أم تسألهم أجراً} فإنها مفسرة والتي قبلها في [الطور: 40، 39].
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك} أي: اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آتٍ. وقيل: معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: {ولا تكن كصاحب الحوت} وهو يونس. وفيماذا نُهِيَ أن يكون مثله قولان: أحدهما: أنه العجلة، والغضب، قاله قتادة. والثاني: الضعف عن تبليغ الرسالة، قاله ابن جرير. قال ابن الأنباري: وهذا لا يُخْرِجُ يونس من أولي العزم، لأنها خطيئة. ولو قلنا: إن كل مخطئ من الأنبياء ليس من أولي العزم، خرجوا كلهم إلا يحيى. ثم أخبر عن عقوبته إذْ لم يصبر، فقال تعالى: {إذ نادى وهو مكظوم} قال الزجاج: مملوء غماً وكرباً. قوله تعالى: {لولا أن تداركه} وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: «لولا أن تَداركتْه» بتاء خفيفة، وبتاءٍ ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال. وقرأ أبو هريرة، وأبو المتوكل: «تَدَّاركه» بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال. وقرأ أُبَيّ بن كعب: «تتداركه» بتاءين خفيفتين {نعمةٌ من ربه} فرحمه بها، وتاب عليه من معاصيه {لَنُبِذَ بالعَرَاءِ وهو مذموم} وقد بينا معنى «العَراء» في [الصافات: 145] ومعنى الآية: أنه نبِذَ غيرَ مذموم لنعمة الله عليه بالتوبة والرحمة. وقال ابن جريج: نُبِذَ بالعراء، وهي: أرض المحشر، فالمعنى: أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة {فاجتباه ربه} أي: استخلصه واصطفاه، وخلَّصه من الذم {فجعله من الصالحين} فردَّ عليه الوحي، وشفَّعه في قومه ونفسه {وإن يكاد الذين كفروا لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم} قرأ الأكثرون بضم الياء من أزلقته، وقرأ أهل المدينة، وأبان بفتحها من زَلَقْتُه أزْلِقُهُ، وهما لغتان مشهورتان في العرب. قال الزجاج: يقال: زلق الرَّجُلُ رأسَه وأزلقه: إذا حلقه. وفي معنى الآية للمفسرين قولان: أحدهما: أن الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئاً، ثم يرفع جانب خبائه، فتمرُّ به النَّعم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها عدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين، فعصم الله نبيَّه، وأنزل هذه الآية، هذا قول الكلبي، وتابعه قوم من المفسرين تلقَّفوا ذلك من تفسيره، منهم الفراء. والثاني: أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظراً شديداً يكاد يُزْلِقُه من شدته، أي: يلقيه إلى الأرض. وهذا مستعمل في كلام العرب. يقول القائل: نظر إليَّ فلان نظراً كاد يصرعني. وأنشدوا: يَتَقَارضُون إذا التَقَوْا في مَوْطنٍ *** نَظَراً يُزيلُ مَواطِنَ الأَقْدَامِ أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظراً شديداً بالعداوة يكاد يزيل الأقدام، وإلى هذا ذهب المحققون، منهم ابن قتيبة، والزجاج. ويدل على صحته أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله تعالى: {لما سمعوا الذِّكْرَ} والقوم كانوا يكرهون ذلك أَشَدَّ الكراهة، فيُحِدُّون النظر إليه بالبغضاء، وإصابةُ العين، إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان، لا مع البغض، فلا يُظن بالكلبي أنه فهم معنى الآية {وما هو} يعني: القرآن {إلا ذكر} أي: موعظة.
|