الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} قوله تعالى: {وإِذ أخذ الله ميثاق النبين} قال الزجاج: موضع «إِذ» نصب، المعنى: واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله. قال ابن عباس: الميثاق: العهد. وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان. أحدهما: أنه تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، روي عن علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمننَّ بما جاء به الآخر منهم، قاله طاووس. قال مجاهد، والربيع بن أنس: هذه الآية خطأ من الكتَّاب، وهي في قراءة ابن مسعود: {وإِذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} واحتج الربيع بقوله تعالى: {ثم جاءكم رسول}. وقال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين، وأممهم، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع، وهذا معنى قول ابن عباس، والزجاج. واختلف العلماء في لام «لما» فقرأ الأكثرون «لما» بفتح اللام والتخفيف، وقرأ حمزة مثلها، إلا أنه كسر اللام، وقرأ سعيد بن جبير «لما» مشدَّدة الميم، فقراءة ابن جبير، معناها: حين آتيتكم. وقال الفراء في قراءة حمزة: يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم، ثم جعل قوله: {لتؤمنن به} من الأخذ. قال الفراء: ومن نصب اللام جعلها زائدة. و«ما» هاهنا بمعنى الشرط والجزاء، فالمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة. قال ابن الأنباري: اللام في قوله تعالى: {لما آتيتكم} على قراءة من شدَّد أو كسر: جواب لأخذ الميثاق، قال: لأن أخذ الميثاق يمين، وعلى قراءة من خففها، معناها: القسم، وجواب القسم اللام في قوله: {لتؤمنن به}. وإنما خاطب، فقال: آتيتكم. بعد أن ذكر النبيين وهم غيَّب، لأن في الكلام معنى قول وحكاية، فقال مخاطباً لهم: لما آتيتكم وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف. قوله تعالى: {ثم جاءكم رسول} قال علي رضي الله عنه: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد، إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. وقال غيره: أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضُهم بعضاً. والإصر هاهنا: العهد في قول الجماعة. قال ابن قتيبة: أصل الإصر: الثِّقل، فسمي العهد إصراً، لأنه منعٌ من الأمر الذي أخذ له، وثقل وتشديد. وكلهم كسر ألف «إصري». وروى أبو بكر، عن عاصم ضمَّه. قال أبو علي: يشبه أن يكون الضم لغة. قوله تعالى: {قال فاشهدوا} قال ابن فارس: الشهادة: الإخبار بما شوهد. وفيمن خوطب بهذا قولان. أحدهما: أنه خطاب للنبيين، ثم فيه قولان. أحدهما: أنه معناه: فاشهدوا على أممكم، قاله علي بن أبي طالب. والثاني: فاشهدوا على أنفسكم، قاله مقاتل. والثاني: أنه خطاب للملائكة، قاله سعيد بن المسيب. فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور.
{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} قوله تعالى: {أفغيرَ دينِ الله يبغون} قرأ أبوعمرو: «يبغون» بالياء مفتوحة. {وإِليه تُرجعون} بالتاء مضمومة، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين. وروى حفص عن عاصم: «يبغون» و«يرجعون» بالياء فيهما، وفتح الياء وكسر الجيم يعقوب على أصله. قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين، فزعمت كلُّ فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم " فغضبوا، وقالوا: والله لا نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزلت هذه الآية. والمراد بدين الله، دين محمد صلى الله عليه وسلم. {وله أسلم} انقاد، وخضع {طوعاً وكرهاً} الطوع: الانقياد بسهولة، والكره: الانقياد بمشقة وإباءٍ من النفس. وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال. أحدها: أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعاً وكرهاً، رواه مجاهد عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد، وبه قال السدي. والثاني: أن المؤمن يسجد طائعاً، والكافر يسجد ظلُّه وهو كاره، روي عن ابن عباس، ورواه ابن أبي نجيح، وليث عن مجاهد. والثالث: أن الكل أقروا له بأنه الخالق، وإن أشرك بعضهم، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه، هذا قول أبو العالية، ورواه منصور عن مجاهد. والرابع: أن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم مخافة السيف، هذا قول الحسن. والخامس: أن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم حين رأى بأس الله، فلم ينفعه في ذلك الوقت، هذا قول قتادة. والسادس: أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلتهم، لا يقدر أحد أن يمتنع من جبّلةٍ جبله عليها، ولا على تغييرها، هذا قول الزجاج، وهو معنى قول الشعبي: انقاد كلهم له.
{قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)} قوله تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: أن رجلاً من الأنصار ارتدَّ فلحق بالمشركين، فنزلت هذه الآية، إلى قوله تعالى: {إِلا الذين تابوا} فكتب بها قومه إليه، فرجع تائباً [فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وخلَّى عنه] رواه عكرمة عن ابن عباس. وذكر مجاهد، والسدي أن اسم ذلك الرجل: الحارث بن سويد. والثاني: أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا، فيهم الحارث بن سويد، فندم، فرجع. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: أنها في أهل الكتاب، عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفروا به. رواه عطية عن ابن عباس. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. وقيل: إن «كيف» هاهنا لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها الجحد، أي: لا يهدي الله هؤلاء.
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} قوله تعالى: {خالدين فيها} قال الزجاج أي: في عذاب اللعنة {ولا هم ينظرون} أي: يؤخرون عن الوقت. قال: ومعنى: {أصلحوا} أي: أظهروا أنهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه، وغرّوا به من تبعهم ممن لا علم له. فصل وهذه الآية استثنت مَن تاب ممن لم يتب وقد زعم قوم أنها نَسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد، وليس بنسخ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)} قوله تعالى: {إِن الذين كفروا بعد إِيمانهم} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال. أحدها: أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد، فإنهم قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن، قاله الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني. والثالث: أنها نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته، ثم ازدادوا كفراً باقامتهم على كفرهم، قاله أبو العالية. قال الحسن: كلما نزلت آية كفروا بها، فازداوا كفراً. وفي عِلة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال. أحدها: أنهم ارتدوا، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، قاله أبو العالية. والثالث: أن: معناه: لن تُقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي. والرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر، قاله مجاهد.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)} قوله تعالى: {إِن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، دخل من كان من أَصحاب الحارث بن سويد حياً في الإسلام، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافراً. قال الزجاج: وملء الشيء: مقدار ما يملؤه. قال سيبويه، والخليل: والملء بفتح الميم: الفعل، تقول: ملأت الشيء أملؤه ملأً، المصدر بالفتح لا غير. والملاءة: التي تلبس ممدودة. والملاوة من الدهر: القطعة الطويلة منه، يقولون: ابل جديداً، وتمل حبيباً، أي: عش معه دهراً طويلاً. و{ذهباً} منصوب على التمييز. وقال ابن فارس: ربما أُنث الذهب، فقيل: ذهبة، ويجمع على الأذهاب. قوله تعالى: {ولو افتدى به} قال الفراء: الواو هاهنا قد يستغنى عنها، ولو حذفت كان صواباً، كقوله تعالى: {وليكونَ من الموقنين} [الأنعام: 75] قال الزجاج: هذا غلط، لأن فائدة الواو بيِّنة، فليست مما يلقى. قال النحاس: قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية: الواو ليست مقحمة، وتقديره: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً تبرعاً ولو افتدى.
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} قوله تعالى: {لن تنالوا البر} في البر أربعة أقوال. أحدها: أنه الجنة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين. قال ابن جرير: فيكون المعنى: لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم. والثاني: التقوى، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الطاعة، قاله عطية. والرابع: الخير الذي يُستحق به الأجر، قاله أبو روق. قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي الأصل، وإنما نفي وجود الكمال، فكأنه قال: لن تنالوا البر الكامل. قوله تعالى: {حتى تنفقوا مما تحبون} فيه قولان. أحدهما: أنه نفقة العبد من ماله، وهو صحيح شحيح، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه الإنفاق من محبوب المال، قاله قتادة، والضحاك. وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال. أحدها: أنها الصدقة المفروضة، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك. والثاني: أنها جميع الصدقات، قاله ابن عمر. والثالث: أنها جميع النفقات التي يُبتغى بها وجه الله تعالى، سواء كانت صدقة، أو لم تكن، نُقل عن الحسن، واختاره القاضي أبو يعلى وروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ. قال أنس: " فلما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله إن الله يقول: {لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ، ذاك مال رابح أو رائح [شك الراوي] وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمِّه " وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئاً أحب إليَّ من جاريتي رميثة، فهي حرة لوجه الله، ثم قال: لولا أني أعود في شيء جعلته لله، لنكحتها، فأنكحها نافعاً، فهي أم ولده. وسُئل أبو ذر: أي الأعمال أفضل: فقال: الصلاة: عماد الإسلام، والجهاد: سنام العمل، والصدقة: شيء عَجَب. ثم قال السائل: يا أبا ذرٍ لقد تركت شيئاً هو أوثق عمل في نفسي لا أُراك ذكرته. قال: ما هو؟ قال: الصيام. فقال: قربة وليس هناك، وتلا قوله تعالى: {لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون}. قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: {فإن الله به عليم} أي: يجازي عليه.
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)} قوله تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إِسرائيل} سبب نزولها " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا على ملة إِبراهيم» فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل؟ وتشرب ألبانها؟ فقال: «كان ذلك حلاً لإبراهيم». فقالوا كل شيء نحرِّمه نحن، فإنه كان محرّماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا " فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم. قاله أبو روق، وابن السائب و«الطعام» اسم للمأكول. قال ابن قتيبة: والحل: الحلال، ومثله الحرم والحرام، واللبس واللباس. وفي الذي حرَّمه على نفسه، ثلاثة أقوال. أحدها: لحوم الإبل وألبانها. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو صالح، عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء ابن أبي رباح، وأبي العالية في آخرين. والثاني: أنه العروق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. والثالث: أنه زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، قاله عكرمة. وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال. أحدها: أنه طال به مرضٌ شديد، فنذر: لئن شفاه الله، ليحرِّمنَّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه اشتكى عرق النسا فحرّم العروق، قاله ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه النسا اجتناب ما حرمه، فحرمه، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام، أصابه عرق النسا، فيبيت وقيذاً فحرمه، قاله أبو سليمان الدمشقي. واختلفوا: هل حرم ذلك بإذن الله، أو باجتهاده؟ على قولين. واختلفوا: بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود، على ثلاثة أقوال. أحدها: أنه حرم عليهم بتحريمه، ولم يكن محرماً في التوراة، قاله عطية. وقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد. والثاني: أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه، لا أنه حرِّم عليهم بالشرع، ثم أضافوا تحريمه إلى الله، فأكذبهم الله بقوله: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إِن كنتم صادقين} هذا قول الضحاك. والثالث: أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها. وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً، حرم عليهم به طعام طيب، أو صب عليهم عذاب، هذا قول ابن السائب. قال ابن عباس: {فأتوا بالتوراة فاتلوها} هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!.
{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)} قوله تعالى: {فمن افترى} يقول: اختلق {على الله الكذب من بعد ذلك} أي: من بعد البيان في كتبهم، وقيل: من بعد مجيئكم بالتوراة وتلاوتكم إياها.
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)} قوله تعالى: {قل صدق الله} الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به، وضده الكذب. واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين. أحدهما: أنه عنى قوله تعالى: {ما كان ابراهيم يهودياً} قاله مقاتل، وأبو سليمان الدمشقي. والثاني: أنه عنى قوله تعالى: {كلُّ الطعامِ كان حلاً} قاله ابن السائب.
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} قوله تعالى: {إِن أول بيت وضع للناس} قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة. وقال المسلمون: الكعبة أفضل، فنزلت هذه الآية. وفي معنى كونه «أول» قولان. أحدهما: أنه أول بيت كان في الأرض، واختلف أرباب هذا القول، كيف كان أول بيت على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض، فخلقه قبلها بألفي عام، ودحاها من تحته، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة على وجه الماء، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة. وقال ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة. ثم دُحيت الأرض من تحت البيت، وبهذا القول يقول ابن عمر، وابن عمرو، وقتادة، ومجاهد، والسدي في آخرين. والثاني: أن آدم استوحش حين أُهبط، فأوحى الله إليه، أن: ابن لي بيتاً في الأرض، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي، فبناه، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثالث: أنه أُهبط مع آدم، فلما كان الطوفان، رُفع فصار معموراً في السماء، وبنى إبراهيم على أثره، رواه شيبان عن قتادة. القول الثاني: أنه أول بيت وُضع للناس للعبادة، وقد كانت قبله بيوت، هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن، وعطاء بن السائب في آخرين. فأما بكة، فقال الزجاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقاً من البَكِّ. يقال بكَّ الناس بعضهم بعضاً، أي: دفع. واختلفوا في تسميتها ببكة على ثلاثة أقوال. أحدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والفراء، ومقاتل. والثاني: لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، أي: تدُّقها، فلم يقصدها جبارٌ إلا قصمه الله، روي عن عبد الله ابن الزبير، وذكره الزجاج. والثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل، أي وضعت منه، ورددت نخوته، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي، وقُطرُب. واتفقوا على أن مكة اسمٌ لجميع البلدة. واختلفوا في بكة على أربعة أقوال. أحدها: أنه اسمٌ للبقعة التي فيها الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو مالك، وإبراهيم، وعطيَّة. والثاني: أنها ما حول البيت، ومكة ما وراء ذلك، قاله عكرمة. والثالث: أنها المسجد، والبيت. ومكة: اسمٌ للحرم كله، قاله الزهري، وضمرة بن حبيب. والرابع: أن بكة هي مكة، قاله الضحاك، وابن قتيبة، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم؛ يقال: سمد رأسه، وسبد رأسه: إذا استأصله. وشر لازم، ولازب. قوله تعالى: {مباركاً} قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: الذي استقر بمكة في حال بركته. قوله تعالى: {وهدىً} أي: وذا هدىً. ويجوز أن يكون «هدى» في موضع رفع، المعنى: وهو هدى، فأما بركته، ففيه تغفر الذنوب، وتضاعف الحسنات، ويأمَن مَن دخله. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من طاف بالبيت، لم يرفع قدماً، ولم يضع أُخرى، إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة " قوله تعالى: {وهدىً للعالمين}، في الهدى هاهنا أربعة أقوال. أحدها: أنه بمعنى القبلة، فتقديره: وقبلة للعالمين. والثاني: أنه بمعنى: الرحمة. والثالث: أنه بمعنى: الصلاح، لأن من قصده، صلحت حاله عند ربه. والرابع: أنه بمعنى: البيان، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره. حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي، ولا الظبي يستوحش منه، قاله القاضي أبو يعلى.
{فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} قوله تعالى: {فيه آيات بينات}، الجمهور يقرؤون: آيات. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ: {فيه آية بينة مقام إبراهيم}، وبها قرأ مجاهد. والآية: مقام إبراهيم. فأما مَن قرأ: «آيات» فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الآيات: مقام إبراهيم، وأمنُ مَنْ دخله. فعلى هذا يكون الجمع معبراً عن التثنية، وذلك جائز في اللغة، كقوله تعالى: {وكنَّا لحكمهم شاهدين} [الأنبياء: 78]. وقال أبو رجاء: كان الحسن يعدّهن، وأنا أنظر إلى أصابعه: مقام إبراهيم، ومَن دخله كان آمناً، ولله على الناس حج البيت. وقال ابن جرير: في الكلام إضمار، تقديره: منهن مقام إبراهيم. قال المفسرون: الآيات فيه كثيرة، منها مقام إبراهيم، ومنها: أمن من دخله، ومنها: امتناع الطير من العلو عليه، واستشفاء المريض منها به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه، إلى غير ذلك. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا: الحرم كلُّه، لأن هذه الآيات موجودة فيه، ومقام إبراهيم ليس في البيت، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر، فأثَّرث قدماه فيه، فكان ذلك دليلاً على قدرة الله، وصدق إبراهيم. قوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، وتقديره: ومَنْ دخَله، فأمنوه، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله، وفيمن جنى فيه بعد دخوله، إلا أن الإجماع انقعد على أن من جنى فيه لا يؤمَّن، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجاً منه، ثم لجأ إلى الحرم. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أحمد في رواية المروذي: إذا قتل، أو قطع يداً، أو أتى حداً في غير الحرم، ثم دخله، لم يقم عليه الحدُّ، ولم يقتصَّ منه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج، فإن فعل شيئاً من ذلك في الحرم، استوفي منه. وقال أحمد في رواية حنبل: إذا قتل خارج الحرم، ثم دخله، لم يقتل. وإن كانت الجناية دون النفس، فإنه يقام عليه الحد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: يقام عليه جميع ذلك في النفس، وفيما دون النفس. وفي قوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً}، دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، والشعبي، وسعيد بن جبير، وطاووس. قوله تعالى: {ولله على الناس حِج البيت}، الأكثرون على فتح حاء «الحج»، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بكسرها. قال مجاهد: لما أنزل قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإِسلام ديناً فلن يقبل منه} [آل عمران: 85] قال أهل الملل كلهم: نحن مسلمون، فنزلت هذه الآية، فحجه المسلمون، وتركه المشركون، وقالت اليهود: لا نحجه أبداً. قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا} قال النحويون: من استطاع بدل من «الناس»، وهذا بدل البعض من الكلّ، كما تقول: ضربت زيداً رأسه. وقد روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وعائشة " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل: ما السبيل؟ فقال: «من وجد الزاد والراحلة» " قوله تعالى: {ومن كفر}، فيه خمسة أقوال. أحدها: أن معناه: من كفر بالحج فاعتقده غير واجب، رواه مقسم عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، ومقاتل. والثاني: من لم يرج ثواب حجه، ولم يخف عقاب تركه، فقد كفر به، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنه الكفر بالله، لا بالحج، وهذا المعنى مروي عن عكرمة، ومجاهد. والرابع: أنه إذا أمكنه الحج، فلم يحج حتى مات، وسم بين عينيه: كافر، هذا قول ابن عمر. والخامس: أنه أراد الكفر بالآيات التي أُنزلت في ذكر البيت، لأن قوماً من المشركين قالوا: نحن نكفر بهذه الآيات، هذا قول ابن زيد.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} قوله تعالى: {قلْ يا أهلَ الكتابِ}. قال الحسن: هم اليهود والنصارى، فأما آيات الله. فقال ابن عباس: هي القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم. وأما الشهيد، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشاهد، وقال الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شيء، كأنه الحاضر الشاهد. قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله مَنْ آمَن}. قال مقاتل: دعت اليهود حذيفة، وعمار بن ياسر، إلى دينهم، فنزلت هذه الآية. وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان. أحدهما: أنهم اليهودُ والنصارى، قاله الحسن. والثاني: اليهود. قاله زيد بن أسلم، ومقاتل. قال ابن عباس: لم تصدون عن سبيل الله: الإسلام، والحج. وقال قتادة: لمَ تصدون عن نبي الله، وعن الإسلام. قال السديُّ: كانوا إذا سئلوا: هل تجدون محمداً في كتبكم؟ قالوا: لا. فصدوا عنه الناس. قوله تعالى: {تبغونها}، قال اللغويون: الهاء كناية عن السبيل، والسبيل يذكَّر ويؤَنَّث. وأنشدوا: فلا تبعُد فَكُلُّ فتى أُناس *** سَيُصبِحُ سالكاً تلك السبيلا ومعنى «تبغونها» تبغون لها، تقول العرب: ابغني خادماً، يريدون: ابتغه لي: فاذا أرادوا: ابتغ معي، وأعني على طلبه، قالوا: ابغني، ففتحوا الألف، ويقولون: وهبتك درهماً، كما يقولون: وهبت لك. قال الشاعر: فتولَّى غُلامُهم ثم نادى *** أظليماً أصيدُكم أم حماراً؟. أراد: أصيدُ لكم: ومعنى الآية: يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف، ويريدون ردَّ الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج، ويطلبون العدول عن القصد، هذا قول الفراء، والزجاج، واللغويين. قال ابن جرير: خرج هذا الكلام على السبيل، والمعنى: لأهله، كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحقِ عوجاً. أي: ضلالاً. قال أبو عبيدة: العوج بكسر العين، في الدين، والكلام، والعمل، والعَوج بفتحها، في الحائطِ والجذعِ. وقال الزجاج: العوج بكسر العين: فيما لا ترى له شخصاً، وما كان له شخص قلت: عَوج بفتحها، تقول: في أمره ودينه عِوَج، وفي العصا عَوج. وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال: العِوج عند العرب بكسر العين: في كل ما لا يحاط به، والعَوج بفتح العين في كل مالا يحصَّل، فيقال: في الأرضِ عوج، وفي الدين عوج، لأن هذين يتسعان، ولا يدركان. وفي العَصا عَوج، وفي السن عَوج، لأنهما يحاط بهما، ويبلغ كنههما. وقال ابن فارس: العوج بفتح العين: في كل منتصب، كالحائط. والعِوج: ما كان في بساط أو أرض، أو دين، أو معاش. قوله تعالى: {وأنتم شهداء} فيه قولان. أحدهما: أن معناه، وأنتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه، وبُطلان ما أنتم فيه، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وقتادة، والأكثرين. والثاني: أن معنى الشهداء هاهنا: العُقلاء، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية، فلما جاءَ النبي صلى الله عليه وسلم أطفأ تلك الحرب بالإسلام، فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان، ومعهما يهودي، جعل اليهودي يذكِّرِهُما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا، فنادى كل واحد منهما بقومه، فخرجوا بالسلاح، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأصلح بينهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وعكرمة، والجماعة. قال المفسرون: والخطاب بهذه الآية للأوس والخرزج. قال زيد بن أسلم: وعنى بذلك الفريق: شاس بن قيس اليهودي وأصحابه، قال الزجاج: ومعنى طاعتهم: تقليدهم.
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} قوله تعالى: {ومن يعتصم بالله} قال ابن قتيبةَ: أي: يمتنع، وأصل العصمة: المنع، قال الزجاج: ويعتصم جَزمٌ ب «من» والجواب {فقد هُديَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} قال عكرمةُ: نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا، وأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. وفي «حق تقاته» ثلاثة أقوال. أحدها: أن يُطاع الله فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يشكر فلا يكفر، رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أن يجاهد في الله حق الجهاد، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم، وأن يقوموا له بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن معناه: اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه، قاله الزجاج. فصل واختلف العلماء: هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين. أحدهما: أنه منسوخ، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، والسدي، ومقاتل. قالوا: لما نزلت هذه الآية، شقت على المسلمين، فنسخها قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. والثاني: أنها محكمة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول طاووس. قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها، فالمعتقد نسخها يرى أن «حق تقاته»الوقوف على جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به، فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن «حق تقاته» أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى: «ما استطعتم» مفسراً ل «حق تقاته» لا ناسخاً ولا مخصصاً.
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} قال الزجاج: اعتصموا: استمسكوا. فأما الحبل، ففيه ستة أقوال. أحدها: أنه كتاب الله: القرآن: رواه شقيق عن ابن مسعود وبه قال قتادة، والضحاك، والسدي. والثاني: أنه الجماعة، رواه الشعبي عن ابن مسعود. والثالث: أنه دين الله، قاله ابن عباس، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة. وقال ابن زيد: هو الإسلام. والرابع: عهد الله، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة في رواية، وأبو عبيد، واحتج له الزجاج بقول الأعشى: وإِذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة *** أخذت من الأخرى إِليك حبالها وأنشد ابن الأنباري: فلو حبلاً تناول من سُليمى *** لمدَّ بحبلِها حبلاً متينا والخامس: أنه الإخلاص، قاله أبوالعالية، والسادس: أنه أمر الله وطاعته، قاله مقاتل بن حيان. قال الزجاج: وقوله: «جميعاً» منصوب على الحال، أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام به. وأصل «تفرَّقوا» تتفرَّقوا، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد، والمحذوفة هي الثانية، لأن الأولى دليلة على الاستقبال، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي، والأصل: ولا تتفرقون، فحذفت النون، لتدل على الجزم. قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم} اختلفوا فيمن أُريد بهذا الكلام على قولين. أحدهما: أنهم مشركو العرب، كان القوي يستبيح الضعيف، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: الأوس والخزرج، كان بينهم حرب شديد، قاله ابن إسحاق. والأعداء: جمع عدو. قال ابن فارس: وهو من عَدَا: إِذا ظَلم. قوله تعالى: {فأصبحتم} أي: صرتم، قال الزجاج: وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه، والعرب تقول: فلان يتوخى مسارّ فلان، أي: ما يسره. والشَّفا: الحرف. واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك. وقربهم من العذاب، كأنه قال: كنتم على حرف حفرةٍ من النَّار، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر. قال السدي: فأنقذكم منها محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} قوله تعالى: {ولتكن منكم أُمَّة} قال الزجاج: معنى الكلام: ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير، وتأمرون بالمعروف، ولكن «من» هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 20] معناه: اجتنبوا الأوثان، فانها رِجس. ومثله قول الشاعر: أخو رغائبَ يعطيها ويسألها *** يأبى الظلامة منه النَّوفل الزفر وهو النوفل الزفر. لأنه وصفه بإعطاء الرغائب. والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر: الذي يحمل الأثقال. ويدل على أن الكل أُمروا بالمعروف والنهي عن المنكر. قوله تعالى: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} قال: ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة، لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء، والعلم ينوب بعض الناس فيه عن بعض، كالجهاد. فأما الخير، ففيه قولان. أحدهما: أنه الإسلام، قاله مقاتل. والثاني: العمل بطاعة الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وأما المعروف، فهو ما يعرف كل عاقل صوابه، وضده المنكر، وقيل: المعروف هاهنا: طاعة الله، والمنكر: معصيته.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا} فيهم قولان. أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين. والثاني: أنهم الحُرورية قاله أبو أمامة.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)} قوله تعالى: {يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ} قرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عمران الجوني، وأبو نهيك: تبيض وتسود، بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء: تبياضُّ وتسوادُّ بألف، ومدة فيهما. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر. فأما الذين اسوادَّت وابياضَّت، بألف ومدة. قال الزجاج: أخبر الله بوقت ذلك العذاب، فقال: يوم تبيض وجوه. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنَّة، وتسود وجوه أهل البدعة. وفي الذين اسودت وجوههم، خمسة أقوال. أحدها: أنهم كل من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق، قاله أُبيّ بن كعب. والثاني: أنهم الحرورية، قاله أبو أُمامة، وأبو إسحاق الهمذاني. والثالث: اليهود، قاله ابن عباس. والرابع: أنهم المنافقون، قاله الحسن. والخامس: أنهم أهل البدع، قاله قتادة. قوله تعالى: {أكفرتم} قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول لأن في الكلام دليلاً عليه، كقوله تعالى: {وإسماعيل ربَّنا تقبل منا} [البقرة: 127]، أي: ويقولان: ربنا تقبَّل منا. ومثله: {من كل باب. سلام عليكم} [الرعد: 25، 26] والمعنى: يقولون: سلام عليكم. والألف لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. فإن قلنا: إنهم جميع الكفار، فإنهم آمنوا يوم الميثاق، ثم كفروا، وإن قلنا: إنهم الحرورية، وأهل البدع، فكفرهم بعد إيمانهم: مفارقة الجماعة في الاعتقاد، وإن قلنا: اليهود، فإنهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه، ثم كفروا بعد ظهوره، وإن قلنا: المنافقون، فإنهم قالوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم. قوله تعالى: {فذوقوا العذاب} أصل الذوق إنما يكون بالفم، وهذا استعارة منه، فكأنهم جعلوا ما يُتَعَرَّف ويُعرف مذوقاً على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم، تقول العرب: قد ذُقتُ من إكرام فلان ما يُرغبني في قصده، يعنون: عرفت، ويقولون: ذق الفرس، فاعرف ما عنده. قال تميم بن مقبل: أو كاهْتِزَازِ رُديني تُذاوِقُه *** أيدي التجار فزادوا متنه لينا وقال الآخر: وإنَّ الله ذاقَ حُلومَ قيس *** فلمَا راءَ خِفَّتَها قلاها يعنون بالذوق: العلم. وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروهٍ، فقد ذاقه.
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} قوله تعالى: {وأما الذين ابيضت وجوههم} قال ابن عباس: هم المؤمنون. ورحمة الله: جنته، قال ابن قتيبة: وسمَّى الجنة رحمة، لأن دخولهم إياها كان برحمته. وقال الزجاج: معناه: في ثواب رحمته، قال: وأعاد ذكر «فيها» توكيداً.
{تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)} قوله تعالى: {وما الله يريد ظلماً للعالَمين} قال بعضهم: معناه: لا يعاقبهم بلا جُرمٍ. وقال الزجاج: أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} قوله تعالى: {كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجت للناس} سبب نزولها أن مالك بن الضيف ووهب بن يهوذا اليهوديين، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة [وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل]: ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن أفضل منكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة، ومقاتل. وفيمن أُريد بهذه الآية، أربعة أقوال. أحدها: أنهم أهل بدر. والثاني: أنهم المهاجرون. والثالث: جميع الصحابة. والرابع: جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس. وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إِنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله تعالى» قال الزجاج: وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعم سائر أمته. وفي قوله تعالى: {كنتم}، قولان. أحدهما: أنها على أصلها، والمراد بها الماضي، ثم فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أن معناه: كنتم في اللوح المحفوظ. والثاني: أن معناه: خُلِقتم ووُجِدْتم. ذكرهما المفسرون. والثالث: أن المعنى: كنتم مذكنتم، ذكره ابن الأنباري. والثاني: أن معنى كنتم: أنتم، كقوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيما} [النساء: 96]. ذكره الفراء، والزجاج. قال ابن قتيبة: وقد يأتي الفعل على بنية الماضي، وهو راهن، أو مستقبل، كقوله تعالى: {كنتم} ومعناه: أنتم، ومثله: {وإذ قال الله يا عيسى} [المائدة: 116] أي: وإذ يقول. ومثله: {أتى أمر الله} [النحل: 1]، أي: سيأتي، ومثله: {كيف نُكلِّم مَنْ كان في المهد صبياً} [مريم: 29] أي: من هو في المهد، ومثله: {وكان الله سميعاً بصيراً} [النساء: 134] أي: والله سميع بصير، ومثله: {فتثير سحاباً فسقناه} [فاطر: 9] أي: فنسوقه. وفي قوله تعالى: {كنتم خيرَ أمة أُخرجت للناس} قولان. أحدهما: أن معناه: كنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: يأتون بهم في السلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام. والثاني: أن معناه: كنتم خير الأمم التي أُخرجت. وفي قوله تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} قولان. أحدهما: أنه شرط في الخيريَّة، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب، ومجاهد، والزجاج. والثاني: أنه ثناء من الله عليهم، قاله الربيع بن أنس. قال أبو العالية: والمعروف: التوحيد. والمنكر: الشرك. قال ابن عباس: وأهل الكتاب: اليهود والنصارى. قوله تعالى: {منهم المؤمنون}: مَنْ أسلم، كعبد الله بن سلام وأصحابه. {وأكثرهم الفاسقون}، يعني: الكافرين، وهم الذين لم يسلموا.
{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)} قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذىً} قال مقاتل: سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: والأذى قولهم: {عزير ابن الله} [التوبة: 30] و{المسيح ابن الله} [التوبة: 30] و{ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وقال الحسن: هو الكذب على الله، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة. وقال الزجاج: هو البهت والتحريف. ومقصود الآية: إعلام المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال، وإسماعهم الكفر، ثم وعدهم النَّصرَ عليهم في قوله: {وإِن يقاتلوكم يولُّوكُم الأدبار}.
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} قوله تعالى: {أين ما ثقفوا} معناه: أُدركوا وَوُجِدوا، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان، وأداء جزية. قال الحسن: أدركتهم هذه الأمة، وإن المجوس لنجبيهم الجزية. وأما الحبل، فقال ابن عباس، وعطاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد: الحبل: العهد، قال بعضهم: ومعنى الكلام: إلا بعهدٍ يأخذونه من المؤمنين بإذن الله. قال الزجاج: وما بعد الاستثناء في قوله تعالى: {إلا بحبلٍ من الله} ليس من الأول، وإنما المعنى: أنهم أذلاء، إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه. وقد سبق في «البقرة» تفسير باقي الآية.
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)} قوله تعالى {ليسوا سواءً}، في سبب نزولها قولان. أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم، احتبس عن صلاة العشاء ليلةً حتى ذهب ثلث الليل، ثم جاء فبشرهم، فقال: " إِنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب " فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه لما أسلم ابن سلاَّم في جماعة من اليهود، قال أحبارهم: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، ومقاتل. وفي معنى الآية قولان. أحدهما: ليس أمة محمد واليهود سواء، هذا قول ابن مسعود، والسدي. والثاني: ليس اليهود كلهم سواء، بل فيهم من هو قائم بأمر الله، هذا قول ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: الوقف التام {ليسوا سواءً} أي: ليس أهل الكتاب متساوين. وفي معنى «قائمة» ثلاثة أقوال. أحدها: أنها الثابتة على أمر الله، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها العادلة، قاله الحسن، ومجاهد، وابن جريج. والثالث: أنها المستقيمة، قاله أبو عيبد، والزجاج. قال الفراء: ذكر أمة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبني على أخرى، لأن «سواءً» لا بد لها من اثنين، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه. قال أبو ذؤيب: عصيت إِليها القلب إني لأمرِهِ *** سميعٌ فما أدري أرشد طلابها؟! ولم يقل: أم لا، ولا أم غيّ، لأن الكلام معروف المعنى. وقال آخر: وما أدري إذا يمَّمت أرضاً *** أريدُ الخيرَ أيُّهما يليني أأَلخيرَ الذي أنا أبتغيهِ *** أم الشرَّ الذي هو يبتغيني ومثله قوله تعالى: {أمَّن هو قانت آناءَ الليل ساجداً وقائماً} [الزمر: 9] ولم يذكر ضده، لأن في قوله: {قل هي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9]. دليلاً على ما أضمر من ذلك، وقد رد هذا القول الزجاج، فقال: قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى: {كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق} فأعلم الله أن منهم أمة قائمة. فما الحاجة إلى أن يقال: وأمة غير قائمة؟ وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم، وهو الكفر والمشاقة، فذكر من كان منهم مبايناً لهؤلاء. قال: و«آناء الليل» ساعاته، وواحد الآناء: إنى. قال ابن فارس: يقال: مضى من الليل إني، وإتيان، والجمع: الآناء. واختلف المفسرون: هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا؟ على قولين. أحدهما: أنها معينة، ثم فيها ثلاثة أقوال. أحدها: أنها صلاة العشاء، قاله ابن مسعود، ومجاهد. والثاني: أنها ما بين المغرب والعشاء، رواه سفيان عن منصور. والثالث: جوف الليل، قاله السدي. والثاني: أنها ساعات الليل من غير تعيين، قاله قتادة في آخرين. وفي قوله تعالى: {وهم يسجدون} قولان. أحدهما: أنه كناية عن الصلاة، قاله مقاتل، والفراء، والزجاج. والثاني: أنه السجود المعروف، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود، ولكنهم جمعوا الأمرين، التلاوة والسجود.
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} قوله تعالى: {وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفروه} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: تفعلوا، وتكفروه، بالتاء في الموضعين على الخطاب، لقوله تعالى: {كنتم خير أُمة}. قال قتادة: فلن تُكفروه: لن يضل عنكم. وقرأ قوم، منهم حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وعبد الوارث عن أبي عمرو: يفعلوا، ويكفروا، بالياء فيهما، إخباراً عن الأمة القائمة. وبقية أصحاب أبي عمرو يخِّرون بين الياء والتاء.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)} قوله تعالى: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا} اختلفوا فيمن أنزلت على أربعة أقوال. أحدها: أنها في نفقات الكفار، وصدقاتهم، قاله مجاهد. والثاني: في نفقة سفلة اليهود على علمائهم، قاله مقاتل. والثالث: في نفقة المشركين يوم بدر. والرابع: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي. وقال السدي: إنما ضرب الإنفاق مثلاً لأعمالهم في شركهم. وفي الصرّ ثلاثة أقوال. أحدها: أنه البرد، قاله الأكثرون. والثاني: أنه النار، قاله ابن عباس، وقال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صرّ لتصويتها عند الالتهاب. والثالث: أن الصرّ: التصويت، والحركة من الحصى والحجارة، ومنه صرير النعل، ذكره ابن الأنباري. والحرث: الزرع. وفي معنى «ظلموا أنفسهم» قولان. أحدهما: ظلموها بالكفر، والمعاصي، ومنع حق الله تعالى. والثاني: بأن زرعوا في غير وقت الزرع. قوله تعالى: {وما ظلمهم الله} قال ابن عباس: أي: ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه، وإنما أُنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه، وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة. وحدثنا عن ثعلب، قال: بدأ الله تعالى هذه الآية بالريح، والمعنى: على الحرث، كقوله تعالى: {كمثل الذي ينعِق بما لا يسمع} وإنما المعنى على المنعوق به، وقريب منه قوله تعالى: {والذين يُتوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن} فخبر عن «الأزواج» وترك «الذين» كأنه قال: أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فبدأ بالذين، ومراده: بعد الأزواج. وأنشد: لعلِّيَ إِن مالت بي الريح ميلةً *** على ابن أبي ديَّان أن يتندَّما فخبر عن ابن أبي ديان، وترك نفسه، وإنما أراد: لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلةً. وقد يبدأ بالشيء، والمراد التأخير، كقوله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله وجوهُهم مسودةٌ} [الزمر: 60] والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة يوم القيامة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم} قال ابن عباس، ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصِلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة، والصداقة، والجوار، والرضاع، والحلف، فنهوا عن مباطنتهم. قال الزجاج: البطانة: الدُّخلاء الذين يستبطنون [أمره] وينبسط إليهم، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مُداخل له، مؤانس. ومعنى لا يألونكم: لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يُضرُّكم. قوله تعالى: {ودُّوا ما عنتُّم} أي: ودُّوا عَنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضرٍ، يقال: فلان يعنت فلاناً، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، وأصل هذا من قولهم: أكمةٌ عنوتٌ، إذا كانت طويلة، شاقة المسلك. قال ابن قتيبة: ومعنى {من دونكم} أي: من غير المسلمين. والخبال: الشر. قوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم} قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم الكذب، والشتم، ومخالفة دينكم. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب. وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلهم الله.
{هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)} قوله تعالى: {ها أنتم أُولاء تحبونهم} قال ابن عباس: كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود، فنزلت هذه الآية. والخطاب بهذه الآية للمؤمنين. قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء. فأما «تحبونهم». فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم. وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال. أحدها: أنها الميل إليهم بالطباع، لموضع القرابة، والرضاع، والحلف، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس. والثاني: أنها بمعنى الرحمة لهم، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد، وهذا المعنى منقول عن قتادة. والثالث: أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان، روي عن أبي العالية. والرابع: أنها بمعنى إرادة الإسلام لهم، وهم يريدون المسلمين على الكفر، وهذا قول المفضل، والزجاج. والكتاب: بمعنى الكتب، قاله الزجاج. قوله تعالى: {وإِذا لقوكم قالوا آمنَّا} هذه حالة المنافقين، وقال مقاتل: هم اليهود. والأنامل: أطراف الأصابع. قال ابن عباس: والغيظ: الحنق عليكم، وقيل: هذا من مجاز الكلام، ضُرِب مثلاً لما حلَّ بهم، وإن لم يكن هناك عض على أنملة، ومعنى «موتوا بغيظكم»: ابقوا به حتى تموتوا، وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئماً. قال ابن جرير: هذا أمر من الله تعالى لنبيِّه أن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله كمداً من الغيظ.
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} قوله تعالى: {إن تمسسكم حسنة} قال قتادة: وهي الألفة والجماعة. والسيئة: الفرقة والاختلاف، وإصابة طرف من المسلمين. وقال ابن قتيبة: الحسنة: النعمة. والسيئة: المصيبة. قوله تعالى: {وإن تصبروا} فيه قولان. أحدهما: على أذاهم، قاله ابن عباس. والثاني: على أمر الله، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: {وتتقوا} قولان. أحدهما: الشرك، قاله ابن عباس. والثاني: المعاصي، قاله مقاتل. قوله تعالى: {لا يضرُّكم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، يضِركم بكسر الضاد، وتخفيف الراء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: لا يضركم بضم الضاد وتشديد الراء. قال الزجاج: الضر والضير بمعنى واحد. فأما الكيد فقال ابن قتيبة: هو المكر. قال أبو سليمان الخطابي: والمحيط: الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وأحاط علمه بالأشياء كلها.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)} قوله تعالى: {وإِذ غدوت من أهلك} قال المفسرون: في هذا الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ولقد نصركم الله ببدر، وإذ غدوت من أهلك. وقال ابن قتيبة: تبوئ، من قولك: بوَّأتُك منزلاً: إذا أفدتك إياه، أو أسكنتكه. ومعنى مقاعد للقتال: المعسكر والمصافُّ. واختلفوا في أي يوم كان ذلك، على ثلاثة أقوال. أحدها: أنه يوم أُحد، قاله عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، والزهري، وقتادة، والسدي، والربيع، وابن إسحاق، وذلك أنه خرج يوم أُحد من بيت عائشة إلى أُحد، فجعل يصف أصحابه للقتال. والثاني: أنه يوم الأحزاب، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: يوم بدر، نقل عن الحسن أيضاً. قال ابن جرير: والأول أصح، لقوله تعالى: {إذ همَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا} وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أُحد. قوله تعالى: {والله سميع عليم} قال أبو سليمان الدمشقي: سميع لمشاورتك إياهم في الخروج، ومرادهم للخروج، عليم بما يخفون من حب الشهادة.
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} قوله تعالى: {إِذ همَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا} قال الزجاج: كنت النبوئة في ذلك الوقت. وتفشلا: تجبنا، وتخورا. {والله وليهما}، أي: ناصرهما. قال جابر بن عبد الله: نحن هم بنو سلمة، وبنو حارثة، وما نحبُّ أن لو لم يكن ذلك لقول الله: {والله وليهما}. وقال الحسن: [هما] طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله. وقيل: لما رجع عبد الله بن أُبي في أصحابه يوم أُحد، همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله. فصل فأما التوكل، فقال ابن عباس: هو الثقة بالله. وقال ابن فارس: هو إظهار العجز [في الأمر]، والاعتماد على غيرك، ويقال: فلان وُكَلَهٌ تُكَلَةٌ، أي: عاجز، يكل أمره إلى غيره. وقال غيره: هو تفعل من الوكالة، يقال: وكلت أمري إلى فلان فتوكل به، أي: ضمنه، وقام به، وأنا متوكل عليه. وقال بعضهم: هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} قوله تعالى: {ولقد نصركم الله ببدرٍ} في تسمية بدر قولان. أحدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر، قاله الشعبي. والثاني: أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه، ذكره الواقدي عن أشياخه. قوله تعالى: {وأنتم أذِلَّةٌ} أي: لقلة العَدد والعُدد. {لعلكم تشكرون}، أي: لتكونوا من الشاكرين.
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)} قوله تعالى: {إِذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يُمِدَّكم ربُّكم} قال الشعبي: قال كُرْز ابن جابر لمشركي مكة: إني أمدكم بقومي، فاشتد ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية، وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان. أحدهما: يوم بدر، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة. والثاني: يوم أُحد، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا، فلما لم يصبروا، لم يُمدُّوا، روي عن عكرمة، والضحاك، ومقاتل، والأول أصح. والكفاية: مقدار سد الخلة. والاكتفاء: الاقتصار على ذلك. والإمداد: إعطاء الشيء بعد الشيء. قوله تعالى: {منزِلين} قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي، وشددها ابن عامر.
{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} قوله تعالى: {ويأتوكم من فورهم هذا} فيه قولان. أحدهما: أن معناه: من وجههم وسفرهم هذا، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومقاتل، والزجاج. والثاني: من غضبهم هذا، قاله عكرمة، ومجاهد، والضحاك في آخرين. قال ابن جرير: من قال: من وجههم، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر، ومن قال: من غضبهم، أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر. وأصل الفور: ابتداء الأمر يؤخذ فيه، يقال: فارت القدر: إذا ابتدأ ما فيها بالغليان، ثم اتصل. وقال ابن فارس: الفور: الغليان، يقال: فارت القدر تفور، وفار غضبه: إذا جاش، ويقولون: فعله من فوره، أي: قبل أن يسكن. وفي يوم فورهم قولان. أحدهما: أنه يوم بدر، قاله قتادة. والثاني: يوم أُحد، قال مجاهد، والضحاك، كانوا غضبوا يوم أُحد ليوم بدر مما لقوا. قوله تعالى: {مسوِّمين} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو، والباقون بفتحها، فمن فتح الواو، أراد أن الله سوَّمها، ومن كسرها، أراد أن الملائكة سومت أنفسها. وقال الأخفش: سوّمت خيلها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: «سوموا فإن الملائكة قد سومت» ونسب الفعل إليها، فهذا دليل الكسر. قال ابن قتيبة: ومعنى مسومين: معلمين بعلامة الحرب، وهو من السيماء [مأخوذ]، والسومة: العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه. قال علي رضي الله عنه: وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر، الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها. وقال أبو هريرة: العهن الأحمر. وقال مجاهد: كانت أذناب خيولهم مجزوزة، وفيها العهن. وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بلق، وعليهم عمائم صفر. وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت أنا وابن عم لي بدراً، ونحن على شركنا، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الخيل سمعنا فيها حمحمة الخيل، وسمعنا فارساً يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت. وقال أبو داود المازني: إني لأتبع يوم بدر رجلاً من المشركين لأضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله. وفي عدد الملائكة يوم بدر خسمة أقوال. أحدها: خمسة آلاف، قاله الحسن. وروى جبير بن مطعم عن علي رضي الله عنه، قال: بينا أنا أمتح من قليب بدر، جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله، وكنت عن يساره، وهزم الله أعداءه. والثاني: أربعة آلاف: قاله الشعبي. والثالث: ألف، قاله مجاهد. والرابع: تسعة آلاف، ذكره الزجاج. والخامس: ثمانية آلاف، ذكره بعض المفسرين.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} قوله تعالى: {وما جعله الله} يعني المدد {إِلا بشرى}، أي: إلا بشارة تطيِّب أنفسكم، {ولتطمئن قلوبكم به}، فتسكن في الحرب، ولا تجزع، والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر. وقال مجاهد: يوم أُحد، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدهم في اليومين بالملائكة جميعاً، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. قوله تعالى: {وما النّصر إِلا من عند الله} أي: ليس بكثرة العَدد والعُدد.
{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} قوله تعالى: {ليقطع طرفاً} معناه: نصركم ببدر ليقطع طرفاً. قال الزجاج: أي: ليقتل قطعةً منهم. وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان. أحدهما: في يوم بدر، قاله الحسن، وقتادة، والجمهور. والثاني: يوم أُحد، قتل منهم ثمانية وعشرون، قاله السدي. قوله تعالى: {أو يكبتهم} فيه سبعة أقوال. أحدها: أن معناه يهزمهم، قاله ابن عباس، والزجاج. والثاني: يخزيهم، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: يصرعهم، قاله أبو عبيد، واليزيدي. وقال الخليل: هو الصرع على الوجه. والرابع: يهلكهم، قاله أبو عبيدة. والخامس: يلعنهم، قاله السدي. والسادس: يُظفِّر عليهم، قاله المبرّد. والسابع: يغيظهم، قاله النضر بن شميل، واختاره ابن قتيبة. وقال ابن قتيبة: أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال، كأن الأصل فيه: يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، وشدة العداوة، ومنه يقال: فلان قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، والعرب تقول: العدو: أسود الكبد. قال الأعشى: فما أُجْشِمْتُ من إِتيان قوم *** هم الأعداء والأكباد سود كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة، اسودت، ومنه يقال للعدو: كاشح، لأنه يخبأ العداوة في كشحه. والكشح: الخاصرة، وإنما يريدون الكبد، لأن الكبد هناك. قال الشاعر: وأُضمِر أضغاناً عليَّ كشوحُها *** والتاء والدال متقاربتا المخرج، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من الأخرى، كقولهم: هرت الثوب وهرده: إذا خرقه، وكذلك: كبت العدو، وكبده، ومثله كثير. قوله تعالى: {فينقلبوا خائبين} قال الزجاج: الخائب: الذي لم ينل ما أمَّل. وقال غيره: الفرق بين الخيبة واليأس، أن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل، واليأس قد يكون من غير أمل.
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} قوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} في سبب نزولها خمسة أقوال. أحدها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أُحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إِلى ربهم عز وجل؟!»فنزلت هذه الآية "، أخرجه مسلم في «أفراده» من حديث أنس. وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لعن قوماً من المنافقين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر. والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بسب الذين انهزموا يوم أُحد، فنزلت هذه الآية، فكفَّ عن ذلك، نقل عن ابن مسعود، وابن عباس. والرابع: أن سبعين من أهل الصفة، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم، عصية وذكوان، فقتلوا جميعاً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أربعين يوماً، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل ابن سليمان. والخامس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة ممثلاً به، قال: «لأُمثلن بكذا وكذا منهم» فنزلت هذه الآية "، قاله الواقدي. وفي معنى الآية قولان. أحدهما: ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء. والثاني: ليس لك من النصر والهزيمة شيء. وقيل: إن «لك» بمعنى «إليك». قوله تعالى: {أو يتوب عليهم} قال الفراء: في نصبه وجهان، إن شئت جعلته معطوفاً على قوله تعالى: {ليقطع طرفاً} وإن شئت جعلت نصبه على مذهب «حتى» كما تقول: لا أزال معك حتى تعطيني، ولما نفى الأمر عن، نبيه أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض}.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا} قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية. قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فاذا حلّ الأجل، فيقول: أخّر عني، وأزيدك على مالك، فتلك الأضعاف المضاعفة.
{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} قوله تعالى: {واتقوا النار التي أُعدت للكافرين} قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين، لئلا يستحلوا الربا. قال الزجاج: والمعنى: اتقوا أن تحلوا ما حرّم الله فتكفروا.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} كلهم أثبت الواو في «وسارعوا» إلا نافعاً، وابن عامر، فإنهما لم يذكراها. وقال أبو علي: وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، فمن قرأ بالواو، عطف «وسارعوا» على «وأطيعوا» ومن حذفها، فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى، فاستغنت عن العطف. ومعنى الآية: بادروا إلى ما يوجب المغفرة. وفي المراد بموجب المغفرة. هاهنا عشرة أقوال. أحدها: أنه الإخلاص، قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه. والثاني: أداء الفرائض، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث: الإسلام، قاله ابن عباس. والرابع: التكبيرة الأولى من الصلاة، قاله أنس بن مالك. والخامس: الطاعة، قاله سعيد بن جبير. والسادس: التوبة، قاله عكرمة. والسابع: الهجره، قاله أبوالعالية. والثامن: الجهاد، قاله الضحاك. والتاسع: الصلوات الخمس، قاله يمان. والعاشر: الأعمال الصالحة، قاله مقاتل. قوله تعالى: {وجنة عرضها السموات والأرض} قال ابن قتيبة: أراد بالعرض السعة، ولم يرد العرض الذي يخالف الطول، والعرب تقول: بلاد عريضة، أي: واسعة. " وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمنهزمين يوم أحد «لقد ذهبتم فيها عريضة» ". قال الشاعر: كأن بلاد الله وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كِفَّةُ حابل قال: وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول، وإذا عرض الشيء اتسع، وإذا لم يعرض ضاق ودق. وقال سعيد بن جبير: لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهن.
|