الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} في المراد بالناس ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان، فضمن لهم ضماناً لتخويف النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، قاله ابن عباس، وابن إسحاق. والثاني: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، قاله مجاهد، وعكرمة، ومقاتل في آخرين. والثالث: أنهم المنافقون لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، يتجهز، نهوا المسلمين عن الخروج، وقالوا: إن أتيتموهم في ديارهم، لم يرجع منكم أحد، هذا قول السدي. قوله تعالى: {إن الناس قد جمعوا لكم} يعني أبا سفيان وأصحابه. قوله تعالى: {فزادهم إِيماناً} قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتاً في دينهم، وإِقامة على نصرة نبيهم، وقالوا: {حسبنا الله} أي: هو الذي يكفينا أمرهم. فأما «الوكيل»، فقال الفراء: الوكيل: الكافي، واختاره ابن القاسم، وقال ابن قتيبة، هو الكفيل،. قال: ووكيل الرجل في ماله: هو الذي كفله له، وقام به. وقال الخطابي: الوكيل: الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم، وحقيقته: أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه، وحكى ابن الأنباري: أن قوماً قالوا: الوكيل: الرب.
{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} قوله تعالى: {فانقلبوا بنعْمة من الله} الانقلاب: الرجوع. وفي النعمة، ثلاثة أقوال. أحدها: أنها الأجر، قاله مجاهد. والثاني: العافية، قاله السدي. والثالث: الإيمان والنصر، قاله الزجاج، وفي الفضل، ثلاثة أقوال. أحدها: ربح التجارة، قاله مجاهد، والسدي، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان. قال الزهري: لما استنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر. خرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان، فهو الذي خرجنا إليه، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا، وكانت بدر متجراً يوافى كل عام، فانطلقوا فقضوا حوائجهم، وأخلف أبو سفيان الموعد. والثاني: أنهم أصابوا سرية بالصفراء، فرزقوا منها، قاله مقاتل. والثالث: أنه الثواب، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {لم يمسسهم سوء} قال ابن عباس: لم يؤذهم أحد. {واتبعوا رضوان الله} في طلب القوم. {والله ذو فضل} أي: ذو منٍّ بدفع المشركين عن المؤمنين.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} قوله تعالى: {إِنما ذلكم الشيطان} قال الزجاج: معناه: ذلك التخويف كان فعل الشيطان، سوّله للمخوِّفين. وفي قوله تعالى {يخوف أولياءه} قولان. أحدهما: أن معناه: يخوّفكم بأوليائه، قاله الفراء، واستدل بقوله تعالى: {لينذر بأساً شديداً} [الكهف: 4] أي ببأس، وبقوله تعالى: {لينذر يوم التلاق} [غافر: 15] أي: بيوم التلاق. وقال الزجاج: معناه: يخوفكم من أوليائه، بدليل: قوله تعالى: {فلا تخافوهم وخافون} وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وإبراهيم، وابن قتيبة. وأنشد ابن الأنباري في ذلك: وأيقنتُ التفرُّقَ يوم قالوا *** تُقُسِّمَ مال أربد بالسهام أراد: أيقنت بالتفرق. قال: فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه. قال: والذي نختاره في الآية: أن المعنى: يخوفكم أولياءه. تقول العرب: قد أعطيت الأموال، يريدون: أعطيت القوم الأموال، فيحذفون القوم، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني. فهذا أشبه من ادعاء «باء» ما عليها دليل، ولا تدعوا إليها ضرورة. والثاني: أن معناه: يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، قاله الحسن والسدي، وذكره الزجاج. قوله تعالى {فلا تخافوهم} يعني: أولياء الشيطان {وخافون} في ترك أمري، وفي «إنْ» قولان. أحدهما: أنها بمعنى «إذ» قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها للشرط، وهو قول الزجاج في آخرين.
{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)} قوله تعالى: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} قرأ نافع «يُحزنك» «ليُحزنني» «وليُحزن» بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، إلا في (الأنبياء) {لا يحزنهم الفزع} [الأنبياء: 103]، فإنه فتح الياء، وضم الزاي. وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي. قال أبو علي: يشبه أن يكون نافع تبع في سورة {الأنبياء} أثراً، أو أحب أن يأخذ بالوجهين. وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال. أحدها: أنهم المنافقون، ورؤساء اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قاله مجاهد. والثالث: كفار قريش قاله الضحاك. والرابع: قوم ارتدوا عن الإسلام، ذكره الماوردي. وقيل: معنى مسارعتهم في الكفر: مظاهرتهم للكفار، ونصرهم إياهم. فإن قيل: كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر؟ فالجواب لا يحزنك فعلهم، فإنك منصور عليهم. قوله تعالى: {إِنهم لن يضرّوا الله شيئاً} فيه قولان. أحدهما: لن: ينقصوا الله شيئاً بكفرهم، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: لن يضروا أولياء الله شيئاً، قاله عطاء. قال ابن عباس: والحظ: النصيب، والآخرة: الجنة. {ولهم عذاب عظيم} في النار.
{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)} قوله تعالى: {إِن الذين اشتروا الكفر بالإيمان} قال مجاهد: المنافقون آمنوا ثم كفروا، وقد سبق في (البقرة) معنى الاشتراء.
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال. أحدها: في اليهود والنصارى والمنافقين، قاله ابن عباس. والثاني: في قريظة والنضير، قاله عطاء. والثالث: في مشركي مكة، قاله مقاتل. والرابع: في كل كافر، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، ونافع {ولا يحسبن الذين كفروا} [آل عمران: 178] {ولا يحسبن الذين يبخلون} [آل عمران: 180] {ولا يحسبن الذين يفرحون} [آل عمران: 188] بالياء وكسر السين، ووافقهم ابن عامر غير أنه فتح السين، وقرأهن حمزة بالتاء وقرأ عاصم والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين {ولا يحسبن الذين كفروا} {ولا يحسبن الذين يبخلون} فإنهما بالياء، إلا أن عاصماً فتح السين، وكسرها الكسائي، ولم يختلفوا في {ولا تحسبن الذين قتلوا} أنها بالتاء. {ونملي لهم} أي: نطيل لهم في العمر ومثله {واهجرني ملياً} قال ابن الأنباري: واشتقاق «نملي لهم» من الملوة، وهي المدة من الزمان، يقال: مَلوة من الدهر، ومِلوة، ومُلوة، ومَلاوة، ومِلاوة، ومُلاوة، بمعنى واحد، ومنه قولهم: البس جديداً وتملّ حبيباً، أي: لتطل أيامك معه. قال متمم بن نويرة: بودِّيَ لو أني تملَّيت عُمرَه *** بماليَ من مالٍ طريفٍ وتالد
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} قوله تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه} في سبب نزولها خمسة أقوال. أحدها: أن قريشا قالت: تزعم يا محمد أن من اتبعك، فهو في الجنة، ومن خالفك فهو في النار؟! فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. والثاني: أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق، فنزلت هذه الآية، هذا قول أبي العالية. والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " عُرضتْ عليَّ أُمتي، وأُعلمت من يؤمن بي، ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين، فاستهزؤوا، وقالوا: فنحن معه ولا يعرفنا " فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي. والرابع: أن اليهود، قالت: يا محمد قد كنتم راضين بديننا، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم؟! فنزلت هذه الآية. هذا قول عمر مولى غفرة. والخامس: أن قوماً من المنافقين ادَّعوْا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين، فأظهر الله نفاقهم يوم أُحد، وأنزل هذه الآية، هذا قول أبي سليمان الدمشقي. وفي المخاطب بهذه الآية قولان. أحدهما: أنهم الكفار، والمنافقون، وهو قول ابن عباس، والضحاك. والثاني: أنهم المؤمنون، فيكون المعنى: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق. قال الثعلبي: وهذا قول أكثر أهل المعاني. قوله تعالى: {حتى يميز الخبيث من الطيب} قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر {حتى يميز} و{ليميز الله الخبيث} بفتح الياء والتخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب: «يميز» بالتشديد، وكذلك في [الأنفال: 37] {ليميّز الله الخبيث} قال أبو علي: مزت وميَّزت لغتان. قال ابن قتيبة: ومعنى: يميز: يخلص. فأما الطيب، فهو المؤمن. وفي الخبيث قولان. أحدهما: أنه المنافق، قاله مجاهد، وابن جريج. والثاني: الكافر، قاله قتادة، والسدي. وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الهجرة والقتال، قاله قتادة، وهو قول من قال: الخبيث: الكافر. والثاني: أنه الجهاد، وهو قول من قال: هو المنافق. قال مجاهد: فميّز الله يوم أُحد بين المؤمنين والمنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلّفوا. والثالث: أنه جميع الفرائض والتكاليف، فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار، فإذا جاءت التكاليف بانَ أمرُه، هذا قول ابن كيسان. وفي المخاطب بقوله: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} قولان. أحدهما: أنهم كفار قريش، فمعناه: ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر، لأنهم طلبوا ذلك، فقالوا: أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن، هذا قول ابن عباس. والثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فمعناه: وما كان الله ليطلع محمداً على الغيب، قاله السدي «ويجتبي» بمعنى يختار، قاله الزجاج وغيره. فمعنى الكلام على القول الأول: أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا الأنبياء الذين اجتباهم، وعلى القول الثاني: أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء.
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)} قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله} اختلفوا فيمن نزلت على قولين. أحدهما: أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح، والشعبي، ومجاهد، وفي رواية السدي في آخرين. والثاني: أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبوته، رواه عطية عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، واختاره الزجاج. قال الفراء: ومعنى الكلام: لا يحسبن الباخلون البخل هو خيراً لهم، فاكتفى بذكر «يبخلون» من البخل، كما تقول: قدم فلان، فسررت به، أي: سررت بقدومه. قال الشاعر: إِذا نُهي السفيهُ جرى إِليه *** وخالف والسفيه إِلى خلاف يريد: جرى إلى السفه. والذي آتاهم الله على قول من قال: البخل بالزكاة: هو المال، وعلى قول من قال: البخل بذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم هو العلم. قوله تعالى {هو} إشارة إلى البخل وليس مذكوراً، ولكنه مدلول عليه ب «يبخلون» وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال. أحدها: أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان، روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة}. وهذا مذهب ابن مسعود، ومقاتل. والثاني: أنه يجعل طوقاً من نار، رواه منصور عن مجاهد، وإبراهيم. والثالث: أن معنى تطويقهم به: تكليفهم أن يأتوا به، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد. والرابع: أن معناه: يلزم أعناقهم إثمه، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى {ولله ميراث السموات والأرض} قال ابن عباس: يموت أهل السموات وأهل الأرض، ويبقى رب العالمين. قال الزجاج: خوطب القوم بما يعقلون، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له، وقال ابن الأنباري: معنى: الميراث: انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به، فلما مات الخلق، وانفرد عزّ وجل، صار ذلك له وراثة. قوله تعالى: {والله بما تعملون خبير} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، «يعملون» بالياء إتباعاً لقوله تعالى: {سيطوَّقون} وقرأ الباقون بالتاء، لأن قبله {وإن تؤمنوا وتتقوا}.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إِن الله فقير} في سبب نزولها قولان. أحدهما: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله. فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك. فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب {ولتسمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً} [آل عمران: 186]. هذا قول ابن عباس وإلى نحوه ذهب مجاهد، وعكرمة، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه لما نزل قوله {مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً} [البقرة 245] قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، وقتادة. وفي الذين قالوا: إن الله فقير، أربعة أقوال. أحدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حيي بن أخطب، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: أن جماعة من اليهود قالوه. قال مجاهد: صكَّ أبو بكر رجلاً من الذين قالوا: {إِن الله فقير ونحن أغنياء} لم يستقرضنا وهو غني؟!. والرابع: أنه النَّباش بن عمرو اليهودي، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {سنكتب ما قالوا} قرأ حمزة وحده: «سيُكتب» بياء مضمومة، و«قتلُهم» بالرفع و«يقول» بالياء، وقرأ الباقون: {سنكتب ما قالوا} بالنون، و«قتلهم» بالنصب و«نقول» بالنون، وقرأ ابن مسعود «ويقال»، وقرأ الأعمش، وطلحة: و«يقول». وفي معنى: {سنكتب ما قالوا} قولان. أحدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا، قاله ابن عباس. والثاني: سنأمر الحفظة بكتابته، قاله مقاتل. قوله تعالى: {وقتلَهم الأنبياء} أي: ونكتب ذلك. فإن قيل: هذا القائل لم يقتل نبياً قط، فالجواب أنه رضي بفعل متقدميه لذلك، كما بينا في قوله تعالى {ويقتلون النبيين بغير الحق} قال الزجاج: ومعنى {عذاب الحريق} عذاب محرق، أي: عذاب بالنار، لأن العذاب قد يكون بغير النار.
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} قوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى العذاب، والذي قدمت أيديهم: الكفر والخطايا.
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)} قوله تعالى: {الذين قالوا إِن الله عهد إلينا} قال ابن عباس: نزلت في كعب ابن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وجماعة من اليهود، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الله عهد إلينا، أي: أمرنا في التوراة: أن لا نؤمن لرسول، أي: لا نصدق رسولاً يزعم أنه رسول، حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قال ابن قتيبة: والقربان: ما تُقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره. وإنما طلبوا القربان، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين، وكان نزول النار علامة القبول. قال ابن عباس: كان الرجل يتصدق، فإذا قبلت منه، نزلت نار من السماء، فأكلته، وكانت ناراً لها دويُّ، وحفيف. وقال عطاء: كان بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون أطايب اللحم، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء، فيقوم النبي في البيت، ويناجي ربه، فتنزل نار، فتأخذ ذلك القربان، فيخر النبي ساجداً، فيوحي الله إليه ما يشاء. قال ابن عباس: قل يا محمد لليهود {قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات} أي: بالآيات، {وبالذي} سألتم من القربان.
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)} قوله تعالى: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك} معناه: لست بأول رسول كذب. قال أبو علي: وقرأ ابن عامر وحده «بالبينات وبالزبر» بزيادة باءٍ، وكذلك في مصاحف أهل الشام، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد، ووجه قراءة الجمهور أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل، تقول: مررت بزيد وعمرو، فتستغني عن تكرير الباء. وقال الزجاج: والزُّبُر: جمع زبور، والزبور: كل كتاب ذي حكمة. قوله تعالى: {والكتاب المنير} قال أبو سليمان: يعني به الكتب النيرة بالبراهين والحجج.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} قوله تعالى: {كل نفسٍ ذائقة الموت} قال ابن عباس: لما نزل قوله {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكِّل بكم} [السجدة: 11]. قالوا: يا رسول الله إنما نزل في بني آدم، فأين ذكر الموت في الجن، والطير، والأنعام، فنزلت هذه الآية. وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير، وتزهيد في الدنيا، وتنبيه على اغتنام الأجل. وفي قوله تعالى: {إِنما توفون أُجوركم يوم القيامة} بشارة للمحسنين، وتهديد للمسيئين. قوله تعالى: {فمن زحزح} قال ابن قتيبة: نُجِّي وأُبعد. {فقد فاز} قال الزجاج: تأويل فاز: تباعد عن المكروه، ولقي ما يحب، يقال لمن نجا من هلكة، ولمن لقي ما يغتبط به: قد فاز. قوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إِلا متاع الغرور} يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنِّيه من طول البقاء، وسينقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، فأما من يشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها.
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} قوله تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسِكم} في سبب نزولها خمسة أقوال. أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن رواحة، فغشي المجلس عجاجة الدابة، فخمر ابن أُبيّ أنفه بردائه، وقال: لا تغبِّروا علينا، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أُبي: إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا. وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله، فإنَّا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون، والمشركون، واليهود، فنزلت هذه الآية، رواه عروة عن أسامة بن زيد. والثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فنزلت هذه الآية، قاله كعب ابن مالك الأنصاري. والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق، وبين فنحاص اليهودي، وقد سبق ذكره عن ابن عباس. والرابع: أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره مقاتل، وقال عكرمة: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، وفنحاص اليهودي. والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرِّض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزهري. قال الزجاج: ومعنى «لتبلون»: لتختبرُنَّ، أي: توقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن حقاً من غيره. و«النون» دخلت مؤكدة مع لام القسم، وضمت الواو لسكونها، وسكون النون. وفي البلوى في الأموال قولان. أحدهما: ذهابها ونقصانها. والثاني: ما فرض فيها من الحقوق. وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال. أحدها: المصائب، والقتل. والثاني: ما فرض من العبادات. والثالث: الأمراض. والرابع: المصيببة بالأقارب، والعشائر. وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم، وباعوا رباعهم، وعذبوهم. قوله تعالى: {ولتسمعن من الذين أُوتوا الكتاب} قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، والذين أشركوا: مشركو العرب {وإِن تصبروا} على الأذى {وتتقوا} الله بمجانبة معاصيه. قوله تعالى: {فإن ذلك من عزم الأمور} أي: ما يعزم عليه، لظهور رشده. فصل والجمهور على إحكام هذه الآية، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السيف.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} قوله تعالى: {وإِذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب} فيهم ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي، ومقاتل، فعلى هذا، الكتاب: التوراة. والثاني: أنهم اليهود، والنصارى، والكتاب: التوراة والإنجيل. والثالث: أنهم جميع العلماء، فيكون الكتاب اسم جنس. قوله تعالى: {لتبينُنَّه للناس}. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب {ليبيننه للناس ولا يكتمونه} بالياء فيهما، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم بالتاء فيهما. وفي هاء الكناية في «لتبيننه»، و«تكتمونه» قولان. أحدهما: أنها ترجع إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول من قال: هم اليهود. والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصح، لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا. قوله تعالى: {فنبذوه} قال الزجاج: أي: رمَوْا به، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر. قال الفرزدق: تميم بن قيس لا تكوننَّ حاجتي *** بظهر ولا يعيا عليَّ جوابها معناه: لا تكونن حاجتي مُهمَلة عندك، مطرحة. وفي هاء «فنبذوه» قولان. أحدهما: أنها تعود إلى الميثاق. والثاني إلى الكتاب. قوله تعالى: {واشتَروا به} يعني: استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به، ووعدهم عليه الجنة {ثمناً قليلاً} أي: عرضاً يسيراً من الدنيا.
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)} قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا} وقرأ أهل الكوفة: لا تحسبنَّ بالتاء. وفي سبب نزولها ثمانية أقوال. أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، سأل اليهود عن شيء، فكتموه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه به، واستحمدوا بذلك إِليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية. والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود، فرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وهذا القول، والذي قبله عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير. والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها: أن محمداً ليس بنبي، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة، وأولياء الله. فنزلت هذه الآية، هذا قول الضحاك، والسدي. والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبي لله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. والسادس: أن ناساً من اليهود جهزوا جيشاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واتفقوا عليهم، فنزلت هذه الآية، قاله إبراهيم النخعي. والسابع: أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية، ذكره الزجاج. والثامن: أن رجالاً من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم، اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فنزلت هذه الآية، قاله أبو سعيد الخدري، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود. وفي الذي أتوا ثمانية أقوال. أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق. والثاني: تبديلهم التوراة. والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب. والرابع: إضلالهم الناس. والخامس: اجتماعهم على تكذيب النبي. والسادس: نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده. والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والثامن: تخلُّفهم في الغزوات، وهذا قول من قال: هم المنافقون. وفي قوله تعالى: {ويحبُّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} ستة أقوال. أحدها: أحبوا أن يُحمدوا على إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه. والثاني: أحبوا أن يقول الناس: هم علماء، وليسوا كذلك. والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة، والصيام، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن عباس. والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: إنا راضون بما جاء به النبي، وليسوا كذلك، قاله قتادة. وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك، قاله أبو سعيد الخدري، وهو قول من قال: هم المنافقون. قوله تعالى: {فلا يحسبُنهم} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، فلا يحسبُنهم، بالياء وضم الباء. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، بالتاء، وفتح الباء. قال الزجاج: إنما كررت «تحسبنهم» لطول القصة، والعرب تعيد إذا طالت القصة «حسبت»، وما أشبهها، إعلاماً أن الذي يجرى متصل بالأول، وتوكيداً له، فتقول: لا تظننَّ زيداً إذا جاء وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننَّه صادقاً. قوله تعالى: {بمفازة} قال ابن زيد، وابن قتيبة، بمنجاة.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)} قوله تعالى: {ولله ملك السموات والأرض} فيه تكذيب القائلين: بأنه فقير. وفي قوله تعالى: {والله على كل شيء قدير} تهديد لهم، أي: لو شئت لعجلت عذابهم.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: أن قريشاً قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء. وقالوا للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: {وإِلهكم إِله واحد} [البقرة: 163]. قالت قريش: قد سوى بين آلهتنا، إئتنا بآية، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الضحى، واسمه: مُسلم بن صُبيح. فأما تفسير الآية فقد سبق.
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} قوله تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً} في هذا الذكر ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الذكر في الصلاة، يصلي قائماً، فإن لم يستطع، فقاعداً، فإن لم يستطع، فعلى جنب، هذا قول علي، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة. والثاني: أنه الذكر في الصلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين. والثالث: أنه الخوف، فالمعنى: يخافون الله قياماً في تصرفهم، وقعوداً في دعتهم، وعلى جنوبهم في منامهم. قوله تعالى: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} قال ابن فارس: التفكر: تردد القلب في الشيء. قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكرٍ، خيرٌ من قيام ليلة، والقلب ساه. قوله تعالى: {ربَّنا} قال الزجاج: معناه: يقولون: ربنا {ما خلقت هذا باطلاً}، أي: خلقته دليلاً عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. ومعنى {سبحانك}: براءةً لك من السوء، وتنزيهاً لك أن تكون خلقتهما باطلاً {فقنا عذاب النار} فقد: صدَّقْنا أنَّ لك جنَّة وناراً.
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)} قوله تعالى: {ربنا إِنك من تدخلِ النار فقد أخزيته} قال الزجاج: المخزى في اللغة: المذَّل المحقور بأمرٍ قد لزمه، وبحجة. يقال: أخزيته، أي: ألزمته حجةً أذللته معها. وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان: أحدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلَّداً، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وقتادة، وابن جريج، ومقاتل. والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله، واختاره ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {وما للظالمين من أنصار} قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى.
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)} قوله تعالى: {ربنا إِننا سمعنا منادياً} في المنادي قولان. أحدهما: أنه النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنه القرآن، قاله محمد بن كعب القرظي، واختاره ابن جرير الطبري. قوله تعالى: {ينادي للإيمان} فيه قولان. أحدها: أن معناه: ينادي إلى الإيمان، ومثله {الذي هدانا لهذا} [الأعراف: 43]. {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5]. [يريد: هدانا إلى هذا، وأوحى إليها] قاله الفراء. والثاني: بأنه مقدم ومؤخر، والمعنى: سمعنا منادياً للإيمان ينادي، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: {وكفِّرْ عنا سيئاتنا} قال مقاتل: امح عنا خطايانا. وقال غيره غطها عنا، وقيل: إنما جمع بين غفران الذنوب، وتكفير السيئات، لأن الغفران بمجرد الفضل، والتكفير بفعل الخير {وتوفنا مع الأبرار} قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «الأبرار»، و«الأشرار» و«ذات قرار» وما كان مثله بين الفتح والكسر، وقرأ ابن كثير، وعاصم بالفتح: ومعنى: «مع الأبرار» فيهم، قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصالحون.
{رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} قوله تعالى: {ربنا وآتنا ما وعدتنا} قال ابن عباس: يعنون: الجنة {على رسلك} أي: على ألسنتهم. فإن قيل: ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: أنه خرج مخرج المسألة، ومعناه: الخبر، تقديره: فآمنا، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا. والثاني: أنه سؤال له، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده، لا أنهم استحقوا ذلك، إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار، لكانت تزكية لأنفسهم. والثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، لأنه وعدهم نصراً غير مؤقت، فرغبوا في تعجيله، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير، وقال: أولى الأقوال بالصواب، أن هذه صفة المهاجرين، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم. فكأنهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء، فعجل خزيهم، وظفرنا بهم.
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} قوله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم} روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فنزلت هذه الآية، واستجاب: بمعنى أجاب. والمعنى: أجابهم بأن قال لهم: إني لا أُضيع عمل عامل منكم، ذكراً كان أو أُنثى. وفي معنى قوله تعالى: {بعضكم من بعض} ثلاثة أقوال. أحدها: بعضكم من بعض في الدين، والنُصرة والموالاة. والثاني: حكم جميعكم في الثواب واحد، لأن الذكور من الإناث، والإناث من الذكور. والثالث: كلكم من آدم وحواء. قوله تعالى: {فالذين هاجروا} أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر {وأخرجوا من ديارهم} يعني: المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين، فهاجروا، {وقاتلوا} المشركين {وقتلوا}. قرأ ابن كثير، وابن عامر: «وقاتلوا وقتّلوا» مشددة التاء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: و«قتلوا وقاتلوا». قال أبو علي: تقديم «قتلوا» جائز، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى، مؤخراً في اللفظ. قوله تعالى: {ثواباً من عند الله} قال الزجاج: هو مصدرٌ مؤكد لما قبله، لأن معنى {لأدخلنّهم جنَّات} لأثيبنَّهم.
{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} اختلفوا فيمن نزلت على قولين. أحدهما: أنها نزلت في اليهود، ثم في ذلك قولان. أحدهما: أن اليهود كانوا يضربون في الأرض، فيصيبون الأموال، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيراً، فأبى إلا على رهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء أمينٌ في الأرض " فنزلت، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاءٍ، فقال بعض المؤمنين: قد أهلكنا الجهد، وأعداء الله فيما ترون، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. قال قتادة: والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره. وقال غيره: إنما خاطبه تأديباً، وتحذيراً، وإن كان لا يغتر. وفي معنى «تقلبهم» ثلاثة أقوال. أحدها: تصرُّفهم في التجارات، قاله ابن عباس، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: تقلُّب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم، قاله عكرمة، ومقاتل. والثالث: تقلُّبهم غير مأخوذين بذنوبهم، ذكره بعض المفسرين، قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا، والمهاد: الفراش.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} قوله تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم} قرأ أبو جعفر: «لكنَّ» بالتشديد هاهنا، وفي (الزُمر) قال مقاتل: وحدوا. قال ابن عباس: «النزل» الثواب. قال ابن فارس: النُّزُل: ما يهيأ للنزيل، والنزيل: الضيف.
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)} قوله تعالى: {وإِن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال. أحدها أنها نزلت في النجاشي، لأنه لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قائل: يصلي على هذا العلج النصراني، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر ابن عبد الله، وابن عباس، وأنس. وقال الحسن. وقتادة: فيه وفي أصحابه. والثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: في عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والرابع: في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قاله عطاء. قوله تعالى: {وما أُنزل إِليكم} يعني: القرآن، {وما أُنزل إِليهم} يعني: كتابهم. والخاشع: الذليل. {لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً} أي: عرضاً من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود، وقد سلف بيان سرعة الحساب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا} قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: نزلت في انتظار الصلاة بعد الصلاة، وليس يؤمئذ غزوٌ يرابَط. وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال. أحدها: البلاء والجهاد، قاله ابن عباس. الثاني: الدين، قاله الحسن، والقرظي، والزجاج. والثالث: المصائب، روي عن الحسن أيضاً. والرابع: الفرائض، قاله سعيد بن جبير. والخامس: طاعة الله، قاله قتادة. وفي الذي أمروا بمصابرته قولان. أحدهما: العدو، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: الوعد الذي وعدهم الله: قاله عطاء، والقرظي. وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان. أحدهما: الجهاد للأعداء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأصل المرابطة والرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في الثغر، كلٌ يُعدُّ لصاحبه. والثاني: أنه الصلاة، أُمروا بالمرابطة عليها، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد ذكرنا في (البقرة) معنى «لعل»، ومعنى «الفلاح».
|