الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال. أحدها: أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عز وجل، رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس وهو قول أبي الدرداء، وأبي أمامه، ومكحول، والأوزاعي في آخرين. والثاني: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كان معه أربعة دراهم، فأنفق في الليل درهماً وبالنهار درهماً، وفي السر درهماً، وفي العلانية درهماً، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن السائب، ومقاتل. والثالث: أنها نزلت في عليّ، وعبد الرحمن بن عوف، فإن علياً بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلاً، وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهاراً، رواه الضحاك عن ابن عباس.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا} الربا: أصله في اللغة: الزيادة، ومنه الربوة والرابية، وأربى فلان على فلان: زاد. وهذا الوعيد يشمل الآكل، والعامل به، وإنما خص الآكل بالذكر، لأنه معظم المقصود. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه " قوله تعالى: {لا يقومون} قال ابن قتيبة أي: يوم البعث من القبور. والمس: الجنون، يقال: رجل ممسوس. فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا كما قال تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} [المعارج: 43] إلا أكله الربا، فانهم يقومون ويسقطون، لأن الله أربى الربا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فلا يقدرون على الإسراع. وقال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة. قوله تعالى: {ذلك} أي: هذا الذي ذكر من عقابهم {بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا} وقيل: إن ثقيفاً كانوا أكثر العرب رباً، فلما نهوا عنه؛ قالوا: إِنما هو مثل البيع. قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه} قال الزجاج: كل تأنيث ليس بحقيقي، فتذكيره جائز، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبران عن معنى واحد. قوله تعالى: {فله ما سلف} أي: ما أكل من الربا. وفي قوله تعالى: {وأمره إلى الله} قولان. أحدهما: أن «الهاء» ترجع إلى المربي، فتقديره: إن شاء عصَمَه منه، وإن شاء لم يفعل، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أنها ترجع إلى الربا، فمعناه: يعفو الله عما شاء منه، ويعاقب على ما شاء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {ومن عاد} قال ابن جبير: من عاد إلى الربا مستحلاً محتجاً بقوله تعالى: {إِنما البيع مثل الربا}
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} قوله تعالى: {يمحق الله الربا} فيه قولان. أحدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله، ومنه: محاق الشهر لنقصان الهلال فيه. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها، رواه الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى: {ويُربي الصدقات} قال ابن جبير: يضاعفها. والكَفَّار: الذي يكثر فعل ما يكفر به، والأثيم: المتمادي في ارتكاب الإثم المصر عليه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا} في نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف، فلما وضع الله الربا، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان، والعباس، كانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال صاحب التمر: إن أخذتما مالكما، لم يبق لي ولعيالي ما يكفي، فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعّف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهما، فنزلت هذه الآية، هذا قول عطاء وعكرمة. والثالث: أنها نزلت في العباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، وكانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أَلا إِن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس» هذا قول السدي. قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك: إنما قال: {ما بقي من الربا} لأن كل رباً كان قد ترك، فلم يبق إلا ربا ثقيف. وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه، وقبض بعضه في كفره، ثم أسلم، فيجب عليه أن يترك ما بقي، ويعفى له عما مضى. فأما المراباة بعد الإسلام، فمردودة فيما قبض، ويسقط ما بقي.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} قوله تعالى: {فان لم تفعلوا فأذنوا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر {فأذنوا} مقصورة، مفتوحة الذال. وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: «فآذنوا» بمد الألف وكسر الذال. قال الزجاج: من قرأ: فأذنوا، بقصر الألف، وفتح الذال، فالمعنى: أيقنوا. ومن قرأ بمد الألف، وكسر الذال، فمعناه: أعلموا كل من لم يترك الربا أنه حرب. قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. قوله تعالى: {وإِن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون} أي: التي أقرضتموها، لا تَظلمون، فتأخذون أكثر منها، ولا تُظلَمون فتنقصون منها، والجمهور على فتح «تاء» تظلمون الأولى، وضم «تاء» تظلمون الثانية. وروى المفضل عن عاصم: ضم الأولى، وفتح الثانية.
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة} ذكر ابن السائب، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا} قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، وندع لكم الربا، فشكا بنو المغيرة العسرة، فنزلت هذا الآية. فأما العسرة، فهي الفقر، والضيق. والجمهور على تسكين السين، وضمها أبو جعفر هاهنا، وفي {ساعة العسرة} وقرأ الجمهور بفتح سين «الميسرة»، وضمها نافع، وتابعه زيد عن يعقوب على ضم السين، إلا أنه زاد، فكسر الراء، وقلب التاء هاء، ووصلها بباء. قال الزجاج: ومعنى وإن كان: وإن وقع. والنظرة: التأخير، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسراً، وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى: {وأن تصدقوا} والأكثرون على تشديد الصاد، وخففها عاصم مع تشديد الدال. وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصدق.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} قوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى الله} قرأ أبو عمرو بفتح تاء «ترجعون» وضمها الباقون. قاله ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، وعطية، ومقاتل في آخرين: هذه آخر آية نزلت من القرآن. قال ابن عباس: وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها بأحد وثمانين يوماً، وقال ابن جريج: توفي بعدها بتسع ليال. وقال مقاتل: بسبع ليال. قوله تعالى: {ثم توفى كل نفس ما كسبت} أي: تعطى جزاء ما كسبت.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} قال الزجاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته، فأخذت منه بدين، وأعطيته. قال الشاعر: داينت أروى والديون تقضى *** فماطلت بعضاً وأدت بعضاً والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى، فاكتبوه، فأمر الله تعالى بكتابة الدين، وبالإشهاد، حفظاً منه للأموال، وللناس من الظلم، لأن من كانت عليه البينة، قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم خاصة. فإن قيل: ما الفائدة في قوله «بدين» و«تداينتم» يكفي عنه؟ فالجواب: إن تداينتم يقع على معنيين. أحدهما: المشاراة والمبايعة والإقراض. والثاني: المجازاة بالأفعال، فالأول يقال فيه: الدين بفتح الدال، والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال. قال تعالى: {يسألون أيان يوم الدين} [الذاريات: 12] أي: يوم الجزاء. وأنشدوا: .... ***.. دناهم كما دانوا فدل قوله: «بدين» على المراد بقوله «تداينتم» ذكره ابن الأنباري. فأما العدل فهو الحق. قال قتادة: لا تدعن حقاً، ولا تزيدن باطلا. قوله تعالى: {ولا يأب كاتب} أي: لا يمتنع أن يكتب كما علمه الله، وفيه قولان. أحدهما: كما علمه الله الكتابة، قاله سعيد بن جبير. وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد. والثاني: كما أمره الله به من الحق، قاله الزجاج. قوله تعالى: {وليملل الذي عليه الحق} قال سعيد بن جبير: يعني المطلوب، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب، {ولا يبخس منه شيئاً} أي: لا ينقص عند الإملاء. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل، وأمليت أملي لغتان، فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره. قوله تعالى: {فان كان الذي عليه الحق سفيهاً} في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال. أحدها: أنه الجاهل بالأموال، والجاهل بالإملاء. قاله مجاهد، وابن جبير. والثاني: أنه الصبي والمرأة، قاله الحسن. والثالث: أنه الصغير، قاله الضحاك، والسدي. والرابع: أنه المبذر، قاله القاضي أبو يعلى. وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال. أحدها: أنه العاجز والأخرس، ومن به حمق، قاله ابن عباس، وابن جبير. والثاني: أنه الأحمق، قاله مجاهد، والسدي. والثالث: أنه الصغير قاله القاضي أبو يعلى. قوله تعالى: {أو لا يستطيع أن يملَّ هو} قاله ابن عباس: لا يستطيع لعيِّه. وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما عليه، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون. قوله تعالى: {فليملل وليه} في هاء الكناية قولان. أحدها: أنها تعود إلى الحق، فتقديره: فليملل ولي الحق، هذا قول ابن عباس، وابن جبير، والربيع بن أنس، ومقاتل، واختاره ابن قتيبة. والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق، وهذا قول الضحاك، وابن زيد، واختاره الزجاج، وعاب قول الأولين، فقال: كيف يقبل قول المدّعى؟! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضاً. والعدل: الإنصاف. وفي قوله تعالى: {من رجالكم} قولان. أحدهما: أنه يعني الأحرار، قاله مجاهد، والثاني: أهل الإسلام، وهذا اختيار الزجاج، والقاضي أبي يعلى، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية. قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين} أراد: فإن لم يكن الشهيدان رجلين {فرجل وامرأتان} ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان. قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين. قوله تعالى: {أن تضل إِحداهما فتذكرّ إِحداهما الأخرى} ذكر الزجاج، أن الخليل، وسيبويه، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين، لأن تذكر إِحداهما الأخرى. ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى. وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الألف. والضلال هاهنا: النسيان، قاله ابن عباس والضحاك، والسدي والربيع، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وأما قوله: «فتذكر» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بالتخفيف مع نصب الراء، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف، وقرأ الباقون بالنصب، وتشديد الكاف، فمن شدد أراد الإِدِّكار عند النسيان، وفي قراءة من خفف قولان. أحدهما: أنها بمعنى المشددة أيضاً، وهذا قول الجمهور. قال الضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: ومعنى القراءتين واحد. والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر، وهذا مذهب سفيان بن عيينة، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه، واختاره القاضي أبو يعلى، وقد رده جماعة، منهم ابن قتيبة. قال أبو علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي، لأنهن لو بلغن ما بلغن، لم تجز شاهدتهن إلا أن يكون معهن رجل، ولأن الضلال هاهنا: النسيان، فينبغي أن يقابل بما يعادله، وهو التذكير. قوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحِواء العظيم، [فيه القوم، فيدعوهم إلى الشهادة] فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت هذه الآية. وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: إلى تحمل الشهادة، وإثباتها في الكتاب، قاله ابن عباس، وعطية، وقتادة، والربيع. والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها، قاله سعيد بن جبير، وطاووس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والشعبي، وأبو مجلز، والضحاك، وابن زيد. ورواه الميموني عن أحمد ابن حنبل. والثالث: إلى تحملها وإلى أدائها، روي عن ابن عباس، والحسن، واختاره الزجاج، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره، فأما إن كان قد تحملها جماعة، لم تتعين عليه، وكذلك في حال تحملها، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه. قوله تعالى: {ولا تسأموا} أي: لا تملوا وتضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله، أي: إلى محل أجله {ذلكم أقسط عند الله} أي: أعدل، {وأقوم للشهادة} لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه {وأدنى} أي: أقرب {ألاَّ ترتابوا} أي: لا تشكوا {إلا أن تكون} الأموال {تجارة} أي: إلا أن تقع تجارة. وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل، فأباح ترك الكتاب فيها توسعة، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول أو مشروب. قوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه. فصل وهذا الآية تتضمن الأمر باثبات الدين في كتاب، وإثبات شهادة في البيع والدين. واختلف العلماء، هل هذا أمر وجوب، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب فعلى هذا هو محكم، وذهبت طائفة إلى أن الكتاب والإشهاد واجبان، روي عن ابن عمر، وأبي موسى، ومجاهد، وابن سيرين، وعطاء، والضحاك، وأبي قلابة، والحكم، وابن زيد. ثم اختلف هؤلاء، هل هذا الحكم باقٍ، أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: {فان أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته}. قوله تعالى: {ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد} قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال. أحدها: أن معناه: لا يضارَّ بأن يدعى وهو مشغول، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، والربيع بن أنس، والفراء، ومقاتل. وقال الربيع: كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي، فيقول: إني مشغول، فيلزمه، ويقول: إنك قد أُمرت بالكتابة، فيضاره، ولا يدعه، وهو يجد غيره، وكذلك يفعل الشاهد، فنزلت {ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد}. والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له، بأن يكتب غير ما يمل عليه، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه، هذا قول الحسن، وطاووس، وقتادة، وابن زيد، واختاره ابن قتيبة، والزجاج. واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى: {وإن تفعلوا فانه فسوق بكم} قال: ولا يسمى من دعا كاتباً ليكتب، وهو مشغول، أو شاهداً؛ فاسقاً، إنما يسمى من حرف الكتاب، أو كذب في الشهادة، فاسقاً. والثالث: أن معنى المضارّة: امتناع الكاتب أن يكتب، والشهادة أن يشهد، وهذا قول عطاء في آخرين. قوله تعالى: {وإن تفعلوا} يعني: المضارة.
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر} إنما خص السفر، لأن الأغلب عدم الكاتب، والشاهد فيه. ومقصود الكلام: إذا عدمتم التوثق بالكتاب، والإشهاد، فخذوا الرهن. قوله تعالى: {فرهان} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعبد الوارث {فرهن} بضم الراء والهاء من غير ألف، وأسكن الهاء عبد الوارث. ووجهه التخفيف. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي {فرهان} بكسر الراء، وفتح الهاء، وإثبات الألف. قال ابن قتيبة: من قرأ {فرهان} أراد: جمع رهن، ومن قرأ {فرهن} أراد: جمع رهان، فكأنه جمع الجمع. قوله تعالى: {مقبوضة} يدل على أن من شرط لزوم الرهن القبض، وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولاً، فإن كان مما لا ينقل، كالدور والأرضين، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه. قوله تعالى: {فإن أَمِنَ بعضكم بعضاً} أي: فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع ماله بغير كتاب، ولا شهود، ولا رهن، {فليؤد الذي اؤتمن} وهو المدين {أمانته وليتق الله ربه} أن يخون من ائتمنه. قوله تعالى: {فإنه آثم قلبه} قال السدي عن أشياخه: فانه فاجر قلبه. قال القاضي أبو يعلى: إنما أضاف الإثم إلى القلب، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أَدائِها.
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} قوله تعالى: {وإِن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} أما إبداء ما في النفس، فانه العمل بما أضمره العبد، أو النطق، وهذا مما يحاسب عليه العبد، ويؤاخذ به، وأما ما يخفيه في نفسه، فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين. أحدهما: أنه عام في جميع المخفيات، وهو قول الأكثرين. واختلفوا: هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة، أم منسوخ؟ على قولين. أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إِلا وسعها} [البقرة: 286] هذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم، فيؤاخذ به من يشاء، ويغفره لمن يشاء، وهذا مروي عن ابن عمر، والحسن، واختاره أبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله عز وجل إذا جمع الخلائق، يقول لهم: إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطَّلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم، ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله تعالى: {يحاسبكم به الله} يقول: يخبركم به الله، وأما أهل الشرك والريب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} والأكثرون على تسكين راء «فيغفر» وباء «يعذب» منهم ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي. وإنما جزموا لإتباع هذا ما قبله، وهو «يحاسبْكم» وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم ويعقوب: برفع الراء، والباء فيهما. فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول، قال ابن الأنباري: وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء. قال: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة، لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي. وقد روي عن عائشة أنها قالت: أما ما أعلنت، فالله يحاسبك به، وأما ما أخفيت، فما عُجلت لك به العقوبة في الدنيا. والقول الثاني: أنه أمر خاص في نوع من المخفيات، ولأرباب هذا القول فيه قولان. أحدهما: أنه كتمان الشهادة، قاله ابن عباس في رواية، وعكرمة، والشعبي. والثاني: أنه الشك واليقين، قاله مجاهد. فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة.
{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إِليه من ربه}. روى البخاري ومُسلم في «صحيحيهما» من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه " قال أبو بكر النقاش: معناه: كفتاه عن قيام الليل. وقيل: إنهما نزلتا على سبب، وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما أنزل الله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبْكم به الله} اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الركب] فقالوا: قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير " فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها {آمن الرسول}. قال الزجاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام، ختمها بتصديق نبيه، والمؤمنين. وقرأ ابن عباس {وكتابه} فقيل له في ذلك، فقال: كتاب أكثر من كُتُب، ذهب به إلى اسم الجنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وقد وافق ابن عباس في قراءته حمزة، والكسائي، وخلف، وكذلك في {التحريم}، وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر {وكتبه} هاهنا بالجمع، وفي {التحريم} بالتوحيد. وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين. قوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين، مثل «رسلنا» و«رسلكم» باسكان السين، وثقَّل ما عدا ذلك. وعنه في قوله تعالى: {على رسلك} روايتان، التخفيف والتثقيل. وقرأ الباقون كل ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل. ومعنى قوله: {لا نفرق بين أحد من رسله} أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. وقرأ يعقوب «لا يفرق» بالياء، وفتح الراء. قوله تعالى: {غفرانك} أي: نسألك غفرانك. والمصير: المرجع.
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} الوسع: الطاقة. قاله ابن عباس، وقتادة. ومعناه: لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزمن السعي، والأعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلف، لا لفقد الآلات، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان، فالآية محمولة على القول الأول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية {ربنا لا تحملنا مالا طاقة لنا به} فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعاً، كان السؤال عبثاً، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: {وان تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً} [الكهف: 57] وقال ابن الأنباري: المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وان كنا مطيقين له على تجشم، وتحمل مكروه، فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه، ومثله قوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع}. قوله تعالى: {لها ما كسبت} قال ابن عباس: لها ما كسبت من طاعة {وعليها ما اكتسبت} من معصية. قال أبو بكر النقاش: فقوله: «لها» دليل على الخير، و«عليها» دليل على الشر. وقد ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات، و«اكتسبت» لا يكون إلا لشيء بعد شيء، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد، كقوله عز وجل: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} [الطارق: 17]. قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا} هذا تعليم من الله للخلق أن يقولوا ذلك، قال ابن الأنباري: والمراد بالنسيان هاهنا: الترك مع العمد، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته. والخطأ أيضاً هاهنا من جهة العمد، لا من جهة السهو، يقال: أخطأ الرجل: إذا تعمد، كما يقال: أخطأ إذا غفل. وفي «الإصر» قولان. أحدهما: أنه العهد، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي. والثاني: الثقل أي: لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني اسرائيل، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فيه خمسة أقوال. أحدهما: أنه ما يصعُب ويشق من الأعمال، قاله الضحاك، والسدي، وابن زيد، والجمهور. والثاني: أنه المحبة، رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم. والثالث: الغلمة قاله مكحول. والرابع: حديث النفس ووساوسها. والخامس: عذاب النار. قوله تعالى: {أنت مولانا} أي: أنت ولينا {فانصرنا} أي: أعنا. وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة قال: آمين.
{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} قوله تعالى: {نزل عليك الكتاب} يعني: القرآن {بالحق} يعني: العدل. {مصدقاً لما بين يديه} من الكتب. وقيل: إنما قال في القرآن: «نزّل» بالتشديد، وفي التوراة والإنجيل: أنزل، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة، وأنزل القرآن في مرات كثيرة. فأما التوراة، فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجعلها من: وري الزند يري: إذا خرجت ناره، وأوريتُه، يريد أنها ضياء. قال ابن قتيبة: وفيه لغة أخرى: ورى يري، ويقال: وريت بك زنادي. والإنجيل، من نجلت الشيء: إذا أخرجته، وولد الرجل: نجله، كأنه هو استخرجه، يقال: قبح الله ناجليه، أي: والديه، وقيل للماء يقطر من البئر: نجل، يقال: قد استنجل الوادي: [إذا ظهر نزوزه]. وإنجيل: إفعيل من ذلك، كأن الله أظهر به عافياً من الحق دارساً. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: والإنجيل: أعجمي معرب، قال: وقال بعضهم: إن كان عربياً، فاشتقاقه من النجل، وهو ظهور الماء على وجه الارض، واتساعه، ونجلت الشيء: إذا استخرجته وأظهرته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم وقيل: هو إفعيل من النجل وهو الأصل: فالإنجيل أصل لعلوم وحكم وفي الفرقان هاهنا قولان. أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة، والجمهور. قال أبو عبيدة: سمي القرآن فرقاناً، لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر، والثاني: أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقال السدي: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: وأنزل التوراة، والإنجيل، والفرقان، فيه هدى للناس.
{مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)} قوله تعالى: {إن الذين كفروا بآيات الله} قال ابن عباس: يريد وفد نجران النصارى، كفروا بالقرآن، وبمحمد. والانتقام: المبالغة في العقوبة.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} قوله تعالى: {إِن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} قال أبو سليمان الدمشقي: هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبي صلى الله عليه وسلم وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} قوله تعالى: {منه آيات محكمات} المحكم: المتقن المبيّن، وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال. أحدها: أنه الناسخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أنه الحلال والحرام، روي عن ابن عباس، ومجاهد. والثالث: أنه ما علم العلماء تأويله. روي عن جابر بن عبد الله. والرابع: أنه الذي لم ينسخ، قاله الضحاك. والخامس: أنه مالم تتكرر ألفاظه، قاله ابن زيد. والسادس: أنه ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد. وقال الشافعي، وابن الأنباري: هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والسابع: أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة. والثامن: أنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى. وأم الكتاب أصله. قاله ابن عباس، وابن جبير، فكأنه قال: هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام، ومجمع الحلال والحرام. وفي المتشابه سبعة أقوال. أحدها: أنه المنسوخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة، روي عن جابر بن عبد الله. والثالث: أنه الحروف المقطعة كقوله: «ألم» ونحو ذلك، قاله ابن عباس. والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه، قاله مجاهد. والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد. والسادس: أنه ما احتمل من التأويل وجوهاً. وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات، ولا يخفى على مميّز، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات. والسابع: أنه القصص، والأمثال، ذكره القاضي أبو يعلى. فإن قيل: فما فائدة إنزال المتشابه، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة. أحدها: أنه لما كان كلام العرب على ضربين. أحدهما: الموجز الذي لا يخفى على سامعه، ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني: المجاز، والكنايات، والإشارات، والتلويحات، وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب، والبديع في كلامهم، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكماً واضحاً، لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا. ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية، أو تعريض أو تشبيه، كان أفصح وأغرب. قال امرؤ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لنضر بي *** بسهميك في أعشار قلب مقتَّل فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد، وزاد في بلاغته. وقال امرؤ القيس أيضاً: رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أننصر *** وقال أيضاً: فقلت له لما تمطى بصُلبه *** وأردف أعجازاً وناء بكلكل فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه، فحسن بذلك شعره. وقال غيره: من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور... أراد بالطابخين: الليل والنهار على جهة التشبيه. وقال آخر: تبكي هاشماً في كل فجر *** كما تبكي على الفنن الحمام وقال آخر: عجبت لها أنى يكون غناؤها *** فصيحاً ولم تفتح بمنطقها فما فجعل لها غناء وفماً على جهة الاستعارة. والجواب الثاني: أن الله تعالى أنزله مختبراً به عباده، ليقف المؤمن عنده، ويرده إلى عالمه، فيعظم بذلك ثوابه، ويرتاب به المنافق، فيداخله الزيغ، فيستحق بذلك العقوبة، كما ابتلاهم بنهر طالوت. والثالث: أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم، فيطول بذلك فكرهم، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم، فيثابون على تعبهم، كما يثابون على سائر عباداتهم، ولو جعل القرآن كله محكماً لاستوى فيه العالم والجاهل، ولم يفضل العالم على غيره، ولماتت الخواطر، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم. وقد قال الحكماء: عيب الغنى: أنه يورث البلادة، وفضل الفقر: أنه يبعث على الحيلة، لأنه إذا احتاج احتال. والرابع: أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلَّمون، ويمرّنوهم على انتزاع الجواب، لأنهم إذا قدروا على الغامض، كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسناً عند العلماء، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة، وابن الأنباري. قوله تعالى: {فأما الذين في قلبوهم زيغ} في الزيغ قولان. أحدهما: أنه الشك، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أنه الميل، قاله أبو مالك وعن ابن عباس كالقولين. وقيل: هو الميل عن الهدى. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال. أحدها: أنهم الخوارج، قاله الحسن. والثاني: المنافقون، قاله ابن جريج. والثالث: وفد نجران من النصارى، قاله الربيع. والرابع: اليهود، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمّل، قاله ابن السائب. قوله تعالى: {فيتبعون ما تشابه منه} قال ابن عباس: يُحيلون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويُلبسون. وقال السدي: يقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا، ثم نسخت؟! وفي المراد بالفتنة هاهنا، ثلاثة أقوال. أحدها: أنها الكفر، قاله السدي، والربيع، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: الشبهات، قاله مجاهد. والثالث: إفساد ذات البين، قاله الزجاج: وفي التأويل وجهان. أحدهما: أنه التفسير. والثاني: العاقبة المنتظرة. والراسخ: الثابت، يقال: رسخ يرسخ رسوخاً. وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان. أحدهما: أنهم لا يعلمونه، وأنهم مستأنفون، وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ {ويقول الراسخون في العلم آمنّا به} وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والفراء، وأبو عبيدة، وثعلب، وابن الأنباري، والجمهور. قال ابن الأنباري: في قراءة عبد الله {إِن تأويله، إِلا عند الله والراسخون في العلم} وفي قراءة أُبيّ، وابن عباس {ويقول الراسخون} وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء، استأثر بعلمها، كقوله تعالى: {قل إنما علمها عند الله} [الأعراف: 187] وقوله تعالى: {وقروناً بين ذلك كثيراً} [الفرقان: 38] فأنزل الله تعالى المجمل، ليؤمن به المؤمن، فيسعد، ويكفر به الكافر، فيشقى. والثاني: أنهم يعلمون، فهم داخلون في الاستثناء. وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله، وهذا قول مجاهد، والربيع، واختاره ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي. قال ابن الأنباري: الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} قوله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا} أي يقولون: {ربنا لا تُمل قلوبنا عن الهدى بعد إِذ هديتنا} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وابن يعمر، والجحدري «لا تزغ» بفتح التاء «قلوبنا» برفع الباء. ولدنك: بمعنى عندك. والوهاب: الذي يجود بالعطاء من غير استثابة، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيم، ولا ولداً لعقيم، والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)} قوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم} أي: لن تدفع، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا، وكذلك الأولاد، فأما في الآخرة، فلا ينفع الكافر ماله، ولا ولده. وقوله تعالى: {من الله} أي: من عذابه.
{كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)} قوله تعالى: {كدأب آل فرعون} في الدأب قولان. أحدهما: أنه العادة، فمعناه: كعادة آل فرعون، يريد: كفر اليهود، ككفر من قبلهم، قاله ابن قتيبة، وقال ابن الأنباري: و«الكاف» في «كدأب» متعلقة بفعل مضمر، كأنه قال: كفرت اليهود، ككفر آل فرعون. والثاني: أنه الاجتهاد، فمعناه: أن دأب هؤلاء، وهو اجتهادهم في كفرهم، وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام، قاله الزجاج.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)} قوله تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون} قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر {ستغلبون وتحشرون} بالتاء و{يرونهم} بالياء، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء، وقرأهن حمزة. والكسائي بالياء. وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: أن يهود المدينة لما رأوا وقعة بدر، همّوا بالإِسلام، وقالوا: هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا، لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى، فلما كانت أُحد، شكّوا، وقالوا: ما هو به، ونقضوا عهداً كان بينهم وبين النبي، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة، فقالوا: تكون كلمتنا واحدة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر، فحقق الله وعده يوم بدر، روي عن ابن عباس، والضحاك. والثالث: أن أبا سفيان في جماعة من قومه، جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد وقعة بدر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} قوله تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم المؤمنون، روي عن ابن مسعود، والحسن. والثاني: الكفار، فيكون معطوفاً على الذي قبله، وهو يتخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً. والثالث: أنهم اليهود، ذكره الفراء، وابن الأنباري، وابن جرير. فإن قيل: لم قال {قد كان لكم} ولم يقل: قد كانت لكم؟ فالجواب من وجهين. أحدهما: أَن ما ليس بمؤنث حقيقي، يجوز تذكيره. والثاني: أنه ردّ المعنى إلى البيان، فمعناه: قد كان لكم بيان، فذهب إلى المعنى، وترك اللفظ، وأنشدوا: إِن امرءاً غره منكنَّ واحدةٌ *** بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور وقد سبق معنى «الآية» و«الفئة»، وكل مشكل تركت شرحه، فإنك تجده فيما سبق، والمراد بالفئتين: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومشركو قريش يوم بدر. قاله قتادة والجماعة. وفي قوله تعالى: {يرونهم مثليهم} قولان. أحدهما: يرونهم ثلاثة أمثالهم، قاله الفراء، واحتج بأنك إذا قلت: عندي ألف دينار، وأحتاج إلى مثليه، فانك تحتاج إلى ثلاثة آلاف. والثاني: أن معناه يرونهم ومثلهم، قال الزجاج: وهو الصحيح. قوله تعالى: {رأي العين} أي: في رأي العين. قال ابن جرير: جاء هذا على مصدر رأيته، يقال: رأيته رأياً، ورؤية. واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال، هي التي ذكرناها في قوله تعالى: {قد كان لكم آية} فان قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين، فرأوهم على ما هم عليه، ثم نصرهم الله، وكذلك إن قلنا: إنهم اليهود. وإن قلنا: إنهم المشركون، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر. وقد قرأ نافع: «ترونهم» بالتاء. قال ابن الأنباري: ذهب إلى أن الخطاب لليهود. قال الفراء: ويجوز لمن قرأ «يرونهم» بالياء أن يجعل الفعل لليهود، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى: {قد كان لكم آية} لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. وقد شرحنا هذا في «الفاتحة» وغيرها. فإن قيل: كيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين، وإن المسلمين استكثروا المشركين، وقد بين قوله تعالى: {وإِذ يريكموهم إِذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم} [الأنفال: 44] أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب: أنهم استكثروهم في حال، واستقلوهم في حال، فإن قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ماهم عليه، ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم، فنصرهم الله بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وقال في رواية اخرى: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة، فأسرنا منهم رجلاً، فقلت: كم كنتم؟ قال: ألفاً. وإن قلنا: إن الفئة الرائية المشركون، فإنهم استقلوا المسلمين في حال، فاجترؤوا عليهم، واستكثروهم في حال، فكان ذلك سبب خذلانهم، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر. قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا. قوله تعالى: {والله يؤيد} أي: يقوي {إن في ذلك} في الإشارة قولان. أحدهما: أنها ترجع إلى النصر. والثاني: إلى رؤية الجيش مثليهم، والعبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين، المؤدية إلى العلم، وهي من العبور، كأنه طريق يُعبر به، ويتوصل به إلى المراد. وقيل: العبرة: الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم. والأبصار: العقول والبصائر.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)} قوله تعالى: {زيِّن للناس حب الشهوات} قرأ أبو رزين العقيلي، وأبو رجاء العطاردي، ومجاهد، وابن محيصن «زين» بفتح الزاي «حب» بنصب الباء، وقد سبق في «البقرة» بيان التزيين. والقناطير: جمع قنطار، قال ابن دريد: ليست النون فيه أصلية، وأحسب أنه معرب. واختلف العلماء: هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان. أحدهما: أنه محدود، ثم فيه أحد عشر قولاً. أحدها: أنه ألف ومئتا أوقية، رواه أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال معاذ بن جبل، وابن عمر، وعاصم بن أبي النجود، والحسن في رواية. والثاني: أنه اثنا عشر ألف أوقية، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة كالقولين، وفي رواية عن أبي هريرة أيضاً: اثنا عشر أوقية. والثالث أنه ألف ومئتا دينار، ذكره الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: أنه اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروي عن الحسن، والضحاك، كهذا القول، والذي قبله. والخامس: أنه سبعون ألف دينار، روي عن ابن عمر، ومجاهد. والسادس: ثمانون ألف درهم، أو مئة رطل من الذهب، روي عن سعيد بن المسيب، وقتادة. والسابع: أنه سبعة آلاف دينار، قاله عطاء. والثامن: ثمانية آلاف مثقال، قاله السدي. والتاسع: أنه ألف مثقال ذهب أو فضة، قاله الكلبي. والعاشر: أنه ملء مسك ثور ذهباً، قاله أبو نضرة، وأبو عبيدة. والحادي عشر: القنطار: رطل من الذهب، أو الفضة، حكاه ابن الأنباري. والقول الثاني: أن القنطار ليس بمحدود. وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير، بعضه على بعض، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحد، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قاله ابن الأنباري: قال بعض اللغويين: القنطار: العقدة الوثيقة المحكمة من المال. وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال. أحدهما: أنها المضعَّفة، قال ابن عباس: القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، وهذا قول الفراء. والثاني: أنها المكملة، كما تقول: بدرة مبدَّرة. وألف مؤلَّفة، وهذا قول ابن قتيبة. والثالث: أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم، قاله السدي. وفي المسومة ثلاثة أقوال. أحدها: أنها الراعية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد في رواية، والضحاك، والسدي، والربيع، ومقاتل. قال ابن قتيبة: يقال: سامت الخيل، وهي سائمة: إذا رعت، وأسمتها وهي مسامة، وسومتها فهي مسوَّمة: إذا رعيتها والمسومة في غير هذا: المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيِّماء، أي: بالعلامة. والثاني: أنها المعلمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، وعن الحسن كالقولين. وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال. أحدها: أنها معلمة بالشية، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها، روي عن قتادة. والثاني: بالكي، روي عن المؤرج. والثالث: أنها البلق، قاله ابن كيسان. والثالث: أنها الحسان، قاله ابن عكرمة، ومجاهد. فأما الأنعام، فقال ابن قتيبة: هي: الإبل، والبقر، والغنم، واحدها. نعم، وهو جمع لا واحد له من لفظه. والمآب: المرجع. وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها، فيثاب عليها، وإنما يتوجه الذم إلى سوء القصد فيها وبها.
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} قوله تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم} روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزل قوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات}. قال عمر: يارب الآن حين زينتها؟! فنزلت: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم} ووجه الآية أنه خبَّر أن ما عنده خير مما في الدنيا، وإن كان محبوباً، ليتركوا ما يحبون لما يرجون. فأما الرضوان، فقرأ عاصم، إلا حفصا وأبان بن يزيد عنه، برفع الراء في جميع القرآن، واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى: {من اتبع رضوانه} [المائدة: 16]. وقرأ الباقون بكسر الراء، والكسر لغة قريش. قال الزجاج: يقال رضيت الشيء أرضاه رضىً ومرضاة ورِضواناً ورُضواناً. {والله بصير بالعباد}. يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا، فهو يجازيهم على أعمالهم.
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} قوله تعالى: {الصابرين} أي: على طاعة الله عز وجل، وعن محارمه {والصادقين} في عقائدهم وأقوالهم {والقانتين} بمعنى المطيعين لله {والمنفقين} في طاعته. وقال ابن قتيبة يعني: بالنفقة الصدقة. وفي معنى استغفارهم قولان. أحدهما: أنه الاستغفار المعروف باللسان، قاله ابن مسعود، والحسن في آخرين. والثاني: أنه الصلاة. قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل في آخرين. فعلى هذا إنما سميت الصلاة استغفاراً، لأنهم طلبوا بها المغفرة. فأما السحر فقال إبراهيم بن السري: السحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر، فوصفهم الله بهذه الطاعات ثم وصفهم بأنهم لشدة خوفهم يستغفرون.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إِله إِلا هو} سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم، عرفاه بالصفة، فقالا: أنت محمد؟ قال: «نعم». قالا: وأحمد؟ قال: «نعم». قالا: نسألك عن شهادة، فان أخبرتنا بها، آمنا بك، وصدقناك فقال: «سلاني». فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله، فنزلت هذه الآية، فأسلما، قاله ابن السائب، وقال غيره: هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام، وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة، وقال سعيد بن جبير، كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذا الآية، خرّت الأصنام سجداً. وفي معنى {شهد الله} قولان. أحدهما: أنه بمعنى قضى وحكم، قاله مجاهد، والفراء، وأبو عبيدة. والثاني: بمعنى بيّن، قاله ثعلب والزجاج، قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمات عند خلقه، أنه لا إله إلا هو، وسئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على الصانع الخبير؟! وقرأ ابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وابن السميفع، وعاصم الجحدري، {شهداء الله} بضم «الشين»، وفتح «الهاء والدال» وبهمزة مرفوعة بعد المد، وخفض «الهاء» من اسم الله تعالى {قائماً بالقسط} أي: بالعدل. قال جعفر الصادق: وإنما كرر {لا إِله إِلا هو} لأن الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، أي: قولوا: لا إله إلا هو.
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإِسلام} الجمهور على كسر «إِن» إِلا الكسائي، فإنه فتح «الألف»، وهي قراءة ابن مسعود، وابن عباس، وأبي رزين، وأبي العالية، وقتادة. قال أبو سليمان الدمشقي: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية، نزلت هذه الآية. قال الزجاج: الدين: اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، وأن يكون عادتهم، وبه يجزيهم. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الدين: ما التزمه العبد لله عز وجل. قال ابن قتيبة، والإسلام الدخول في السلم، أي: في الانقياد والمتابعة، ومثله الاستسلام، يقال: سلم فلان لأمرك، واستسلم، وأسلم، كما تقول: أشتى الرجل، أي: دخل في الشتاء، وأربع: دخل في الربيع. وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم اليهود، قاله الربيع. والثاني: أنهم النصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير. والثالث: أنهم اليهود، والنصارى، قاله ابن السائب. وقيل: الكتاب هاهنا: اسم جنس بمعنى الكتب. وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال. أحدها: دينهم. والثاني: أمر عيسى. والثالث: دين الإسلام، وقد عرفوا صحته. والرابع: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عرفوا صفته. قوله تعالى: {إِلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: الإيضاح لما اختلفوا فيه {بغياً بينهم} قال الزجاج: معناه: اختلفوا للبغي، لا لقصد البرهان، وقد ذكرنا في «البقرة» معنى: سريع الحساب.
{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} قوله تعالى: {فان حاجوك} أي: جادلوك، وخاصموك. قال مقاتل: يعني اليهود، وقال ابن جرير: يعني نصارى نجران في أمر عيسى، وقال غيرهما: اليهود والنصارى. {فقل أسلمت وجهي لله} قال الفراء: معناه: أخلصت عملي، وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله. قوله تعالى: {ومن اتبعن} أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة، وابن شنبوذ عن قنبل، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء. قال الزجاج: والأحب إِلىَّ اتباع المصحف. وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى: {ومن اتبعن} و{لئن أخرتن} و{ربي أكرمن} و{ربي أهانن}. فهو على ضربين. أحدهما: ما كان مع النون، فإن كان رأس آية، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء، ويسمون أواخر الآي الفواصل، كما أجازوا ذلك في الشعر. قال الأعشى: ومن شانئ كاسف باله *** إذا ما انتسبت له أنكرن وهل يمنعني ارتيادي البلا *** د من حذر الموت أن يأتين فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية، فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جيد أيضاً، خاصة مع النونات، لأن أصل «اتبعني» «اتبعي» ولكن «النون» زيدت لتسلم فتحة العين، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء، فأما إذا لم تكن النون، نحو غلامي وصاحبي، فالأجود إثباتها، وحذفها عند عدم النون جائز على قلته، تقول: هذا غلام، قد جاء غلاميَ، وغلاميْ بفتح الياء وإسكانها، فجاز الحذف، لأن الكسرة تدل عليها. قوله تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب} يريد اليهود والنصارى {والأميين} بمعنى مشركي العرب، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم. قوله تعالى: {ءَأسلمتم} قال الفراء: هو استفهام ومعناه الأمر، كقوله تعالى {فهل أنتم منتهون} [المائدة 91]. فصل اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأن المراد بها تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم عند امتناع من لم يجبه، لأنه كان يحرص على إيمانهم، ويتألم من تركهم الإجابة. وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التبليغ، وهذا منسوخ بآيه السيف.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)} قوله تعالى: {إن الذين يكفرون بآيات الله} قال أبو سليمان الدمشقي: عنى بذلك اليهود والنصارى. قال ابن عباس: والمراد بآيات الله محمد والقرآن. وقد تقدم في «البقرة» شرح قتلهم الأنبياء، والقسط، والعدل. وقرأ الجمهور {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} وقرأ حمزة «ويقاتلون» بألف. وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني اسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً في آخر النهار، فهم الذين ذكرهم الله في كتابه " وأنزل الآية فيهم. وإنما وبخ بهذا اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تولوا أولئك، ورضوا بفعلهم {فبشرهم} بمعنى: أخبرهم، وقد تقدم شرحه في «البقرة» ومعنى حبطت: بطلت.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} في سبب نزولها أربعة أقوال. أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم: على أي دين أنت؟ فقال على ملة إبراهيم، قالا: فإنه كان يهودياً. قال: فهلموا إلى التوراة، فأبيا عليه، فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. والثاني: أن رجلاً من اليهود، وامرأة زنيا، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرفعوا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يكون عنده رخصة، فحكم عليها بالرجم، فقالوا: جرْت علينا يا محمد، ليس علينا الرجم. فقال: بيني وبينكم التوراة، فجاء ابن صوريا، فقرأ من التوراة، فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها، وقرأ ما بعدها، فقال ابن سلام: قد جاوزها، ثم قام، فقرأها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، باليهوديِّين، فرجما، فغضب اليهود. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام، فقال: نعمان بن أبي أوفى: هلم نحاكمك إلى الأحبار. فقال: بل إلى كتاب الله، فقال: بل إلى الأحبار، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. والرابع: أنها نزلت في جماعة من اليهود، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا: نحن أحق بالهدى منك، وما أرسل الله نبياً إلا من بني اسرائيل. قال: فأخرجوا التوراة، فإني مكتوب فيها أني نبي، فأبوا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان. فأما التفسير: فالنصيب الذي أوتوه: العلم الذي علموه من التوراة. وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان. أحدهما: أنه التوراة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه القرآن، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وقتادة. وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال. أحدها: ملة إبراهيم. والثاني: حد الزنى. رويا عن ابن عباس. والثالث: صحة دين الإسلام، قاله السدي. والرابع: صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل. فان قيل: التولي هو الإعراض، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه. أحدها: التأكيد. والثاني: أن يكون المعنى: يتولون عن الداعي، ويعرضون عما دعا إليه. والثالث: يتولون بأبدانهم، ويعرضون عن الحق بقلوبهم. والرابع: أن يكون الذين تولوا علماءهم، والذين أعرضوا أتباعهم، قاله ابن الأنباري.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا} يعني: الذي حملهم على التولي والإعراض أنهم قالوا: {لن تمسنا النار إِلا أياماً معدودات} وقد ذكرناها في «البقرة». و{يفترون} يختلقون وفي الذي اختلقوه قولان. أحدهما: أنه قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، قاله مجاهد، والزجاج. والثاني: قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، قاله قتادة: ومقاتل.
{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)} قوله تعالى: {فكيف إذا جمعناهم} معناه: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم، {ليوم} أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم. وقيل «اللام» بمعنى: «في».
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة، ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات، فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فنزلت هذه الآية. حكاه قتادة. والثالث: أن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلاً جاء ينقل النبوة من بني اسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما التفسير، فقال الزجاج: قال الخليل، وسيبويه، وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: «اللهم» بمعنى «يا الله»، و«الميم» المشددة زيدت عوضاً من «يا»، لأنهم لم يجدوا «يا» مع هذه «الميم» في كلمة، ووجدوا اسم الله عز وجل مستعملاً ب «يا» إذا لم تذكر الميم، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة «يا» في أولها والضمة التي في «الهاء» هي ضمة الاسم المنادى المفرد. قال أبو سليمان الخطابي: ومعنى: «مالك الملك»: أنه بيده، يؤتيه من يشاء، قال: وقد يكون معناه، مالك الملوك، ويحتمل أن يكون معناه: وارث الملك يوم لا يدعيه مدّع كقوله تعالى: {الملك يومئذ الحقّ للرحمن} [الفرقان: 26]. قوله تعالى: {تؤتي الملك من تشاء} في هذا الملك قولان. أحدهما: أنه النبوة، قاله ابن جبير، ومجاهد. والثاني: أنه المال، والعبيد، والحفدة، ذكره الزجاج. وقال مقاتل: تؤتي الملك من تشاء، يعني: محمداً وأمته، وتنزع الملك ممن تشاء، يعني فارس والروم. {وتعزُّ من تشاء} محمداً وأمته {وتذل من تشاء} فارس والروم. وبماذا يكون هذا العز والذل؟ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: العز بالنصر، والذل بالقهر. والثاني: العز بالغنى، والذل بالفقر، والثالث: العز بالطاعة، والذل بالمعصية. قوله تعالى: {بيدك الخير} قال ابن عباس: يعني النصر والغنيمة، وقيل: معناه بيدك الخير والشر، فاكتفى بأحدهما، لأنه المرغوب فيه.
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} قوله تعالى: {تولج الليل في النهار} أي: تدخل ما نقّصت من هذا في هذا. وقال ابن عباس، ومجاهد: ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر. قال الزجاج: يقال: ولج الشيء يلج ولوجاً وولجاً وولجة. قوله تعالى: {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبوبكر عن عاصم، {وتخرج الحي من الميْت وتخرج الميْت من الحي} و{لبلد ميْت} [الأعراف: 57]. و{أوَ مَنْ كان ميْتاً} [الأنعام: 122]. و{وإِن يكن ميتةً} [الأنعام: 139]، و{الأرض الميتة} [يس: 33]. كله بالتخفيف. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: {وتخرج الحي من الميِّت وتخرج الميّت من الحي} و{لبلد ميِّت} و{إِلى بلد ميِّت} وخفف حمزة، والكسائي غير هذه الحروف. وقرأ نافع {أومن كان ميِّتاً} و{الأرض الميِّتة} و{لحم أخيه ميِّتاً} [الحجرات: 12]. وخفف في سائر القرآن ما لم يمت. وقال أبو علي: الأصل التثقيل، والمخفف محذوف منه، وما مات، ومالم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال. وأنشدوا: ومنهل فيه الغراب مَيتُ *** سَقَيتُ مِنه القومَ واستقيت فهذا قد مات. وقال آخر: ليسَ مَن ماتَ فاستراحَ بميتٍ *** إِنما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياء فخفف ما مات، وشدد مالم يمت. وكذلك قوله تعالى: {إِنك ميّت وإِنهم ميتون} [الزمر: 30]. ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال. أحدها: أنه إخراج الإنسان حياً من النطفة، وهي ميتة. وإخراج النطفة من الإنسان، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة، وإخراج البيضة من الطائر، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والجمهور. والثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء. والثالث: أنه إخراج السنبلة الحيّة من الحبة الميّتة، والنخلة الحيّة من النواة الميّتة، والنواة الميّتة من النخلة الحية، قاله السدي. وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس، والحب اليابس من النبات الحي النامي. قوله تعالى: {بغير حساب} أي: بغير تقتير. قال الزجاج: يقال للذي ينفق موسعاً: فلان ينفق بغير حساب، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقاً.
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} قوله تعالى: {لا يتخِذِ المؤمنون الكافرين أولياءَ} في سبب نزولها أربعة أقوال. أحدها: أن عبادة بن الصامت كان له حُلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ، وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن قوماً من اليهود، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود، فأبوا، فنزلت هذا الآية. روي عن ابن عباس أيضا. والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، هذا قول المقاتلين، ابن سليمان، وابن حيان. فأما التفسير، فقال الزجاج: معنى قوله تعالى: {من دون المؤمنين} أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، أي: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان، كما تقول: زيد دونك، ولست تريد المكان، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخسة كالاستفال في المكان. ومعنى {فليس من الله في شيء} أي: فالله بريء منه. قوله تعالى {إِلا أن تتقوا منهم تُقاةً} قرأ يعقوب، والمفضل عن عاصم، «تَقيِّةً» بفتح التاء من غير ألف، قال مجاهد: إلا مُصانعة في الدنيا. قال أبوالعالية: التقاة باللسان، لا بالعمل. فصل والتقية رخصة، وليست بعزيمة. قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا. وقال إِذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل، فمتى يتبين الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في «النحل» عند قوله تعالى: {إلا من أكره} [النحل: 106]. إن شاء الله.
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} قوله تعالى: {قل إِن تُخفوا ما في صدوركم أو تُبدوه} قال ابن عباس: يعني اتخاذ الكافرين أولياء.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} قوله تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} قال الزجاج: نصب «اليوم» بقوله: {ويحذركم الله نفسه} في ذلك اليوم. قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون متعلقاً بالمصير، والتقدير: والى الله المصير، يوم تجد. ويجوز أن يكون متعلقاً بفعل مضمر، والتقدير: اذكر يوم تجد. وفي كيفية وجود العمل وجهان. أحدهما: وجوده مكتوباً في الكتاب. والثاني: وجود الجزاء عليه. والأمد: الغاية. قال الطرماح: كلُّ حيٍّ مُسْتَكْملٌ عِدَة العم *** رِ ومُودٍ إِذا انقضى أمَدُه يريد: غاية أجله.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} قوله تعالى: {قل إِن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} في سبب نزولها أربعة أقوال. أحدها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم، وقف على قريش، وقد نصبوا أصنامهم يسجدون لها، فقال: يا معشر قريش: «لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم». فقالوا: يا محمد إِنما نعبد هذه حباً لله، ليقربونا إلى الله زلفى "، فنزلت هذه الآية. رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحبَّاؤه، فنزلت هذه الآية، فعرضها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فلم يقبلوها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن ناساً قالوا: إنّا لنحب ربنا حبّاً شديداً، فأحب الله أن يجعل لحبه علماً، فأنزل هذه الآية، قاله الحسن، وابن جريج. والرابع: أن نصارى نجران، قالوا: إنما تقول هذا في عيسى حباً لله، وتعظيماً له، فنزلت هذه الآية، ذكره ابن اسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، واختاره أبو سليمان الدمشقي.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} قوله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: أن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حبّاً لله مما تدعونا إليه، فنزلت: {قل إِن كنتم تحبون الله} ونزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران، قاله أبو سليمان الدمشقي.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} قوله تعالى: {إِن الله اصطفى آدم} قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق، ويعقوب، ونحن على دينهم، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم، فجعلهم صفوة خلقه، وهذا تمثيل بما يرى، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي، فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عياناً، فنحن نُعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة الله من خلقه. وفيه ثلاث لغات: صَفوة، وصِفوة، وصُفوة، وأما آدم فعربي، وقد ذكرنا اشتقاقه في «البقرة» وأما نوح، فأعجمي مُعربّ، قال أبو سليمان الدمشقي: اسم نوح: السكن، وإنما سمي نوحاً لكثرة نوحه. وفي سبب نوحه خمسة أقوال. أحدها: أنه كان ينوح على نفسه، قاله يزيد الرقاشي، والثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله، وقومه. والثالث: لمراجعته ربه في ولده. والرابع: لدعائه على قومه بالهلاك. والخامس: أنه مر بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه: أعِبتني يا نوح، أم عبت الكلب؟ وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال. أحدها: أنه من كان على دينه، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنهم إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد «آل إبراهيم» هو نفسه، كقوله: {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} [البقرة: 248]، ذكره بعض أهل التفسير. وفي «عمران» قولان. أحدهما: أنه والد مريم، قاله الحسن، ووهب. والثاني: أنه والد موسى، وهارون، قاله مقاتل. وفي «آله» ثلاثة أقوال. أحدها: أنه عيسى عليه السلام، قاله الحسن. والثاني: أن آله موسى وهارون، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد ب «آله» نفسه، ذكره بعض المفسرين، وإنما خصّ هؤلاء بالذكر، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم. وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال. أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، قاله ابن عباس، واختاره الفراء، والدمشقي. والثاني: اصطفاهم بالنبوة، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم. والمراد ب «العالمين»: عالمو زمانهم، كما ذكرنا في «البقرة».
|