الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عبيد الله بن عتبة ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى بين رجلين من أهله : أحدهما الفضل ابن العباس ، ورجل أخر ،عاصبا رأسه ، تخط قدماه ،حتى دخل بيتي . قال عبيد فحدثت هذا الحديث عبدالله بن العباس فقال : هل تدري من الرجل الآخر ؟ قال : قلت : لا ، قال : علي بن أبي طالب . ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد به وجعه ، فقال : هريقوا على سبع قرب من أبار شتى ، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم . قالت : فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر ، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول : حسبكم حسبكم . قال ابن إسحاق : وقال الزهري حدثني أيوب بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد ، واستغفر لهم ، فأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا بين ما عنده ،فاختار ما عند الله ، قال : ففهمها أبو بكر ، وعرف أن نفسه يريد ، فبكى ، وقال : بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : على رسلك يا أبا بكر ، ثم قال : انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد ، فسدوها إلا بيت أبي بكر ، فأني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه . قال ابن هشام :ويروى إلا باب أبي بكر . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالرحمن بن عبدالله ، عن بعض آل أبي سعيد بن المعلى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ في كلامه هذا : فإني لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ،وغيره من العلماء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد ، وهو في وجعه ، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا : في إمرة أسامة : أمر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار . فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : أيها الناس أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقاً لها . قال : ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكمش الناس في جهازهم ، واستعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ، فخرج أسامة ، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف ، من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره ، وتتام إليه الناس ، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام أسامة والناس ، لينظروا ما الله قاض في رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : قال الزهري وحدثني عبدالله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد ، وذكر من أمرهم ما ذكر ، مع مقالته يومئذ : يا معشر المهاجرين ، استوصوا بالأنصار خيراً ، فإن الناس يزيدون ، وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد ، وأنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها ، فأحسنوا إلى محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم . قال عبدالله : ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل بيته ، وتتام به وجعه حتى غمر . شأن اللدود قال عبدالله فاجتمع إليه نساء من نسائه : أم سلمة ، وميمونة ، ونساء من نساء المسلمين ، منهن أسماء بنت عميس ، وعنده العباس عمه ، فأجمعوا أن يلدوه ، وقال العباس :لألدنه . قال : فلدوه ، فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من صنع هذا بي ؟ قالوا : يا رسول الله ، عمك ، قال :هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض ، وأشار نحو أرض الحبشة ، قال : ولم فعلتم ذلك ؟ فقال عمه العباس : خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب ، فقال : إن ذلك لداء ما كان لله عز وجل ليقذفني به ، لا يبق في البيت أحد إلا لد إلا عمي ، فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة ، لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عقوبة لهم بما صنعوا به . قال ابن إسحاق : وحدثني سعيد بن عبيد بن السباق ، عن محمد بن أسامة ، عن أبيه أسامة بن زيد ، قال : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أصمت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي ، فأعرف أنه يدعو لي . قال ابن إسحاق : وقال ابن شهاب الزهري حدثني عبيد بن عبدالله بن عتبة ، عن عائشة ،قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما أسمعه يقول : إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره ، قالت : فلما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أخر كلمة سمعتها وهو يقول : بل الرفيق الأعلى من الجنة ، قالت : فقلت : إذا والله لا يختارنا ، وعرفت أنه الذي كان يقول لنا : إن نبياً لم يقبض حتى يخير . قال الزهري وحدثني حمزة بن عبدالله ابن عمر ،أن عائشة قالت : لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، قالت : قلت : يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق ، ضعيف الصوت ، كثير البكاء إذا قرأ القرآن ، قال : مروه فليصل بالناس .قالت : فعدت بمثل قولي ، فقال : إنكن صواحب يوسف ، فمروه فليصل بالناس ، قالت : فوالله ما أقول ذلك إلا أني كنت أحب أن يصرف ذاك عن أبي بكر ، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلاً قام مقامه أبداً ، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان ، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر . قال ابن إسحاق : وقال ابن شهاب حدثني عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبيه ، عن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال : لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين ، قال : دعاه بلال إلى الصلاة ، فقال : مروا من يصلي بالناس . قال :فخرجت فإذا عمر في الناس ، وكان أبو بكر غائباً ، فقلت : قم يا عمر ، فصل بالناس ، قال : فقام ، فلما كبر ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، وكان عمر رجلاً مجهراً ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون ، قال : فبعث إلى أبي بكر ، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس ، قال : قال عبدالله بن زمعة : قال لي عمر : ويحك ! ماذا صنعت بي يا بن زمعة ، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك ، ولولا ذلك ما صليت بالناس ، قال : قلت : والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ولكني حين لم أرى أبا بكر ، رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس . قال ابن إسحاق : وقال الزهري حدثني أنس بن مالك : أنه لما كان يوم الإثنين الذي قبض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج إلى الناس ، وهم يصلون الصبح ، فرفع الستر ، وفتح الباب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام على باب عائشة ، فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه ، فرحا به ، وتفرجوا ، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم ؛ قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً لما رأى من هيئتهم في صلاتهم ، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة . قال : ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفرق من وجعه ، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث عن القاسم بن محمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، حين سمع تكبير عمر في الصلاة : أين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون ، فلولا مقالة قالها عمر عند وفاته ، لم يشك المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر ، ولكنه قال عند وفاته : إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني ، وإن أتركهم فقد تركهم من هو خير مني ، فعرف الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً ، وكان عمر غير متهم على أبي بكر . قال ابن إسحاق : وحدثني أبو بكر بن عبدالله بن أبي مليكة قال : لما كان يوم الاثنين ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه إلى الصبح ، وأبو بكر يصلى بالناس ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرج الناس ، فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنكص عن مصلاه ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره ، وقال : صل بالناس ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر ، فلما فرغ من الصلاة ، أقبل على الناس ، فكلمهم رافعا صوته ، حتى خرج صوته من باب المسجد ، يقول : أيها الناس سعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإني والله ما تمسكون علي بشيء ، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن . قال : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه ، قال له أبو بكر : يا نبي الله ، إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب ، واليوم يوم بنت خارجة ، أفآتيها ؟ قال : نعم ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح . قال ابن إسحاق : قال الزهري وحدثني عبدالله بن كعب بن مالك ، عن عبدالله بن عباس ، قال :خرج يومئذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أصبح بحمد الله بارئاً ، قال : فأخذ العباس بيده ، ثم قال : يا علي ، أنت والله عبد العصا بعد ثلاث ، أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كنت أعرفه في وجوه بني عبدالمطلب ، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ، وإن كان في غيرنا أمرناه ، فأوصى بنا الناس . قال : فقال له علي : إني والله لا أفعل ، والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أشتد الضحاء من ذلك اليوم . قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قال : قالت : رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد ، فاضطجع في حجري ، فدخل علي رجل من آل بكر ، وفي يده سواك أخضر ، قالت : فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه في يده نظرا عرفت أنه يريده ، قالت : فقلت : يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك ؟ قال : نعم ، قالت : فأخذته فمضغته له حتى لينته ، ثم أعطيته إياه ، قالت : فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ، ثم وضعه ، ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري ، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص ، وهو يقول : بل الرفيق الأعلى من الجنة ، قالت : فقلت : خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق ، قالت : وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال : سمعت عائشة تقول : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي ، لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة ، وقمت ألتدم مع النساء ، وأضرب وجهي . قال ابن إسحاق : قال الزهري وحدثني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قام عمر بن الخطاب ، فقال : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه ، كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات . قال : وأقبل أبو بكر ، حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً ، قال : ثم رد البرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج ، وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبي إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه ، وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبدالله فإن الله حي لا يموت ، قال : ثم تلا هذه الآية قال وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنما هي في أفواههم ، وقال : فقال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات .
|