الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله **
فصول من السياسة الشرعيةفي الدعوة إلى الله الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الأمين الذي أرسله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، بشيرا للمؤمنين، ونذيرا للكافرين، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد.. أخي المسلم: هذه فصول في السياسة الشرعية كتبتها بحمد الله في أوقات متفاوتة، ونشرت بعضا منها في الصحف، وبعضها الآخر كتبته أخيرا ولم أنشره، ثم رأيت بعد إلحاح بعض الأخوة أن أجمعه في هذا الكتاب الذي بين يديك، وذلك من أجل المساهمة في ترشيد الشباب المسلم المقبل على ربه ودينه، وقد ناقشت في هذه الفصول أهم القضايا التي تعترض الشباب المسلم في الوقت الحاضر كحكم المجتمع الذي يعيشون فيه هل هو مسلم أم كافر؟ وحكم الحكام الذين يحكمون في بلاد الإسلام الآن، والموقف الواجب منهم، وكيفية الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كل ذلك مع البيان والاستشهاد من واقع المسلمين اليوم، والتدليل على كل قضية بما في الكتاب والسنة، مما يرشد إليها أو ينص عليها.. هذا وقد ضمنت هذه الفصول أيضا آراء وأقوالاً في السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله لبعض علمائنا العاملين من السابقين كالإمام ابن تيمية -رحمه الله- والمعاصرين كإمامنا الجليل الشيخ ابن باز، والشيخ الفاضل سيد سابق، والأستاذ عمر التلمساني وكل ذلك لتستنير السبيل لسالكها ويتضح القصد والهدف، ويستطيع شباب أمة الإسلام إعزاز أمتهم ونصرها. واعلم -أخي المسلم- أن من أعظم الفتن التي تجابه المسلمين في العصر الحاضر فتنة التكفير، وأعني بها القول والاعتقاد الذي يعتقده ويقول به كثير من أبناء الأمة الإسلامية في أن المجتمع المعاصر مجتمع كافر (هكذا بإطلاق الكلمة) والرمي بالكفر لكل من فعل مكفرا دون نظر إلى الشروط والموانع، أعني الشروط التي لابد من توفرها ليكون فاعل المكفِّر كافرا، والموانع إن وجدت انتفى القول بالكفر. ولقد كان من آثار إلقاء القول بالكفر على عواهنه أن رتب بعض من لا علم عندهم ولا فقه أن ديار الإسلام المعاصرة ديار حرب تستباح فيها الأموال والنساء، ولا تجوز فيها الجمعة ولا الجماعة، ولا حرمة فيها إلا لمن عرف معتقده على الحقيقة، واستبان أمره ظاهرا وباطنا.. وكذلك كان من آثار ذلك أن اعتقد وظن كل من يرى كفر المجتمع أنه وحده أو من يدين بدينه هم أهل الإيمان والإسلام فقط فسمى نفسه "جماعة المسلمين" وإن كان واحدا، وإن كانوا أكثر من ذلك، جعلوا أنفسهم جماعة المسلمين دون غيرهم ولذلك بايعوا أحدهم وأعطوه ما يعطى الإمام العام من الطاعة والنصح، ورأوا أن كل خارج عن بيعة أميرهم خارج عن الإسلام يستباح ماله وعرضه إذا قدر على ذلك. ولقد كان من آثار هذه العقيدة أيضا أن نفي باب الاضطرار في الشريعة، وجعل الجاهل في التكليف كالعالم، والمتأول كالمعاند، ونفيت المصالح الشرعية جملة وتفصيلا، وجعلت الشريعة الإسلامية بلا حكمة ولا عقل، وعندما سنتعرض -إن شاء الله- لضرب أمثلة من الفقه الجديد الذي خرجت به الطائفة الجديدة التي تتزعم هذه الفتنة سنرى إلى أي حد تنتفي كل الحكم عن الشريعة المطهرة التي جعلها الله رحمة للعالمين. في زيارتي الأخيرة لمصر (كان ذلك في صيف سنة 1979) تلقيت أكثر من ألف سؤال حول موضوع واحد: هل الجاهل معذور أم لا؟ وكنت أقول سبحان الله، وهل الجاهل مكلف؟! والله يقول: ولقد كان أيضا من آثار القول بالكفر بإطلاقه القول بحرمة التعامل مع المجتمع، ووجوب العزلة عنه، والبدء في الدعوة إلى الإسلام من جديد كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الجاهلية الأولى، بل لقد كان من آثار هذه الفتنة العقائدية ظهور الفتن الدموية التي تستباح فيها دماء كثير من المسلمين الغافلين. ولهذا رأيت من واجبي تحديد البيان لرفع هذه الغمة -بحول الله ومشيئته- بعد أن كنت قد كتبت فصولا عن ذلك في كتاب الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وكتاب الولاء والبراء -نفع الله بهما من شاء من عباده- وكذلك أصدرنا بحمد الله رسالة (الطريق إلى ترشيد حركة البعث الإسلامي) التي كان لها قبول طيب بحمد الله وتوفيقه. وهأنذا أجمع هذه الفصول لتكون بين أيدي الأخوة الحريصين على جمع وحدة هذه الأمة، ورفع لوائها، والوصول بها إلى المكانة التي يحبها الله لها وهي العزة والتمكين.. وأسأل الله أن يتقبل عملي هذا ويرزقني فيه الإخلاص والتوفيق إنه سميع مجيب. عبد الرحمن عبد الخالق الكويت: الاثنين 17 من محرم سنة 1404هـ الموافق /1983م. من المسلمات عند دارس الإسلام أن هذا الدين دين زاحف وذلك أنه يجعل التبشير به والدعوة إليه واجبا على كل مسلم حسب استطاعته وذلك أن الإسلام الذي بعث به النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس دينا خاصا بشعب أو مدينة أو حقبة من الزمان بل هو دين عام للناس جميعا. كما قال سبحانه وتعالى: وفي صدر الإسلام حيث تفجر نهر الدعوة إلى الله، وخرج المسلمون من هذه الجزيرة مبشرين ومنذرين استطاعوا نشر الإسلام في معظم المعمورة في أقل من نصف قرن من الزمان، ثم فترت همة الأمة وقل الدعاة المبشرون ولكن الأرض لم تخل منهم قط مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك] وأمر الله الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم هو ما فسره به في حديث آخر حيث قال: [حتى يقاتل آخرهم الدجال]. ولقد كان الإسلام منتصرا في دعوته على سائر أديان الأرض ودعواتها طيلة ثلاثة عشر قرنا مضت ونعني بانتصاره ثبات أتباعه على دينهم واكتسابهم المزيد دائما من أهل الملل الأخرى، ولكن هذا الأمر تغير في القرن الرابع عشر الأخير حيث ابتدأت جموع المسلمين تنسلخ عن دينها انسلاخا عمليا أولا، ثم تبع ذلك الانسلاخ العقائدي والفكري، ولهذا أسباب عدة أهمها: أن السيف والسلطان كان يحمي العقيدة في القرون السالفة ثم تغير هذا الأمر. والسبب الثاني الهام أن الغزو الخارجي للإسلام والمسلمين كان أكثره غزوا عسكريا وأقله غزوا فكريا عقائديا، ثم تغير هذا فصاحب الغزو العسكري الاستعماري الحديث غزو عقائدي فكري هو أقوى أثرا وأشد فتكاً. ولقد وجد أصحاب هذا الدين الإسلامي وأتباعه أنفسهم مبهورين بزخرف القول وحلاوة المنطق الذي صبغ الغزو الفكري العقائدي، كما وجدوا أنفسهم مبهورين حائرين أمام الغزو العسكري المنظم القوي الذي ضم آلات من آلات الدمار والحرب ما كان يحلم أهل الإسلام بها، وبالرغم من الكثرة العظيمة الهائلة للمسلمين في العالم ودخول بعض الأفراد والجماعات في الإسلام -كل يوم وإلى يومنا هذا- فإن هذا الدين يفقد مع كل طلعة شمس مواقع جديدة في فكر أهله وعقائدهم وذلك بفعل الدعاية المنظمة القوية لأهل الدعوات الباطلة الأخرى وللإعلام الخبيث الموجه إلى عقول المسلمين وقلوبهم، وليس هذا التراجع والهزيمة النفسية عند المسلمين مرده ضعف العقيدة ذاتها، وإنما مرده إلى قوة الرسالة الإعلامية الموجهة من أعداء المسلمين إلى نفوس المسلمين وقلوبهم، وضعف الرسالة الإعلامية الموجهة لهذا الغزو الفكري والعقائدي الخبيث. وأصدق تشبيه وأقربه لفهم القارىء هذه المقارنة: وهي أن نتصور جيشا مسلحا بأقوى أنواع الأسلحة وأفتكها وقد نظم صفوفه وأعد خططه إعدادا محكماً، ويواجه جيشا مشتتا متضارب الآراء ومعه أسلحة بدائية قديمة، وهكذا نجد الدعاة إلى الإسلام اليوم بوسائلهم القديمة وكلامهم المكرور وأساليبهم المنفرة وباختلافهم وتخاصمهم يواجهون دعايات الإلحاد والإباحية والمذاهب الهدامة بكلامهم المنمق وأساليبهم المتطورة، ووسائلهم الحديثة التي يسرتها علوم العصر، فنجد أن المعركة غير متكافئة ونجد أن النصر في النهاية لذلك الغزو الشرير، وهذا يعني التخلص التدريجي من عقائد الإسلام وأحكامه والتحول التدريجي إلى الكفر والانحلال. وفي هذه الدراسة سيجد إخواني الذين شرفهم الله سبحانه بنعمة الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى الأصول والقواعد الضرورية للدعوة الناجحة المثمرة وللإعلام القوي المؤثر، وللطرق السليمة لمجابهة الإعلام الخبيث الموجه. أنواع الجهاد في سبيل الله ماذا تعني هذه الكلمة "الجهاد في سبيل الله"؟! تطلق هذه الكلمة كثيرا ولكن قليلا من الناس من يعي معناها على الحقيقة بالسعة والشمول الذي وردت به في الكتاب والسنة. وخلاصة ذلك أن الجهاد مشتق من الجهد والجهد هو الطاقة والوسع، والجهاد هو المبالغة واستفراغ الوسع والطاقة في الحرب أو اللسان أو أي جهد يثمر إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى وإعزاز دينه. وبالمعنى اللغوي السابق يدخل القتال، وهو القمة في بذل الجهد وتدخل الدعوة باللسان ومقارعة الكفار بالقول والحجة كما قال تعالى: أولا: الإعلام وهو مطلق الإخبار وهذا المعنى الذي تردد كثيرا في القرآن بالتبشير والنذارة، وكذلك بالردود الكثيرة والحجج والبراهين الدامغة لشبهات الكافرين وافتراءاتهم، وهذا كله دعوة قولية. ثانيا: التربية والتقويم ، وهما جانبان عظيمان من جوانب الجهاد، ويدخل فيهما أساليب كثيرة يشملها القول وغيره وسيأتي تفصيل هذا في حينه إن شاء الله تعالى. ثالثاً: قتال الكفار وهو قمة الجهاد في سبيل الله والقتال له قواعده وفقهه وقد تنوسيت هذه القواعد وهذا الفقه بابتعاد الأمة عن رفع أعلامه وبعث جيوشه. من أخص صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان معلماً، وقد امتن الله علينا بهذا فقال جل وعلا: فعمل النبي وجهاده مع إخوانه المؤمنين كان في تعليمهم الكتاب الحكمة وتزكيتهم وتطهيرهم وقراءة القرآن عليهم. وقد جاء معنى هذه الآية في آيات كثيرة من القرآن. فكيف استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب (التعليم) في دعوته؟! أ- كلنا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم أولا العلاقات العامة فكان يعرض دعوته (بضاعته) على كل من يقابله ممن يظن أنهم يقبلون بها أولا في سرية الدعوة ثم جميع من يستطيع الوصول اليهم بعد أن أمره ربه بالجهر بالدعوة. وكان لابد من لقاء خاص مع المؤمنين به للتلقي والتعليم والتزكية فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المدرسة الإسلامية الأولى. كان المسلمون يصلون إلى هذه الدار سراً، وإننا لنعجب من حيطة المسلمين وحذرهم في هذا الوقت كيف تمكنوا من أن يجتمعوا بهذه الدار ويتلقوا العلم من الرسول لعدة سنوات ولا يعلم بهم أحد غيرهم وذلك في دار وسط مكة.. المهم أن طلاب هذه المدرسة كانوا يصلون إليها في غاية الخفاء وقد كانوا أشتاتاً حر وعبد وشريف ووضيع وصغير وكبير ولنا أن نتصور ونتخيل تلك الدروس التي كان يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، ولو كان المسلمون يملكون في ذلك الوقت الوسائل السمعية والبصرية للتعليم لكنا نملك أعظم ثروة في أساليب التعليم والتربية من أعظم معلم عرفته الأرض، ولكن حتى الأخبار الكاملة لهذه المدرسة لم تصلنا، فلم يصلنا الآن إلا أن النبي كان يعلم أصحابه هناك ويقرأ عليهم القرآن. لكن كيف كان يعلم؟ وكيف كان يبدأ درسه وينهيه؟ وكيف كان يناقش طلابه؟ وكيف عولجت مواضيع العقيدة والدعوة التي طرحها الرسول عليهم في تلك الفترة؟ لا نملك شيئاً كثيرا عن هذا.. ولكننا نتخيل فقط أن تلك الدروس كانت في منتهى الحياة والنشوة الروحية والنفسية، والسمو والعزة التي تملأ هذه الفئة التي جلست تستشعر أنها تتلقى بواسطة الرسول عن الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون، وأنهم محاطون من قبل هذا الإله الواحد بالعناية والرعاية وأن عليهم أن يقوموا بأمره، وأنه ناصرهم ومؤيدهم ولنا أن نتصور كيف كانوا ينقلون مشاكل الدعوة إلى الرسول وينتظرون جواب الله عليها في لهفة وشوق وكيف كانوا يخرجون بعد كل اجتماع ودرس من هذه المدرسة الفريدة ورؤوسهم تطاول السماء عظمة وعزة، وظهورهم تنوء بالحمل الثقيل الذي حملوه من أمانة الدعوة والتبليغ. ب- يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على هذه المدرسة في مكة فقد كان يعلم أصحابه في بيته وفي منازلهم وفي الطرقات وفي رحلاته للدعوة فقد جاء في السيرة أنه كان يسمر كل ليلة (تقريبا) في منزل صديقه أبي بكر الصديق، وهذا ابن مسعود يأخذ السبع الطوال من القرآن من فم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلم بعض أصحابه ويده في أيديهم ثم يسمع منهم بعد أن يقرأ عليهم. ولكن بعد أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت فرصة التعليم أكبر بل تحولت حياة النبي كلها تقريبا إلى تعليم، وكان المسجد أفضل مكان معدٍ لهذا ولم يكن أيضا المكان الوحيد. ج- وإذا طالعنا منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في التعليم وجدنا أنه أكمل أسلوب عرفته الأرض للآن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد في التعليم على الصحبة، وهذه الصحبة تقتضي المحبة والملازمة وهكذا كان أصحابه معه رضوان الله عليهم أجمعين وعلى قدر هذه الصحبة كانت الإفادة والتلقي، ولم يكن يتكلف في درسه شيئا أصلا لا طريقة للجلوس ولا زياً خاصا بحضور الدرس، ولا ميعادا معينا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه وهو جالس أحيانا وهو واقف أحيانا وهو مضطجع أخرى كما جاء في الحديث: [ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين. وكان مضطجعا فجلس فقال: ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور..] الحديث، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ درسه مضطجعا وهنا تجاوز في قولنا بدأ درسه لأن دروسه لم يكن لها نقطة بدء بالمعنى المعروف الآن. وكان صلى الله عليه وسلم يستخدم وسيلة الإيضاح المناسبة فكان يستخدم يديه وتعبيرات وجهه (في غير تمثيل أو اصطناع) وكان يرسم ما يريد أحيانا على الأرض كما رسم لهم صراط الله كخط مستقيم وسبل الشيطان بخطوط معوجة، وكما رسم لهم مربعا وقال هذا أجل الانسان ورسم دائرة في وسطه وقال هذا هو ابن آدم ورسم دائرة خارجة من المربع وقال هذا أمله ورسم خطوطاً معترضة بين الدائرة الوسطى (الإنسان) وبين الدائرة الخارجة (الأمل) وقال عن هذه الخطوط هذه الأعراض (أي المشاكل والحوادث التي تعرض للإنسان قبل الأجل). ويريد بهذا صلى الله عليه وسلم أن يصور أن الإنسان يموت قبل أن يصل إلى مراده وأمله فصورها بصورة حسية عجيبة. د- وكان صلى الله عليه وسلم يستعمل المواعظ بحذر شديد ولا يعظ إلا بين فترة وأخرى، وذلك أن الموعظة إذا كثرت تبلد الشعور والإحساس وتشيع الملل واحتقار النفس، وإذا كانت قليلة مناسبة أيقظت الشعور ووجهت إلى العمل (فمتى يعلم هذا معلمونا ومشايخنا الذين لا يحسنون إلا سب الناس وإلقاء المواعظ المكررة)!!؟ وكان يغضب أحيانا في موعظته إذا اقتضى الأمر هذا كما غضب على معاذ لما علم أنه يطيل الصلاة بأصحابه، وغضب على أسامة لما علم أنه قتل رجلا في الحرب بعد أن قال لا إله إلا الله. هـ - وكان صلى الله عليه وسلم واسع الصدر في التعليم لم يعنف سائلا قط لسؤاله، ولا معترضا قط لاعتراضه فقد كان يسأل ويناقش ويغلظ عليه أحيانا في المسألة وكل هذا وهو حليم واسع الصدر وكان يأتيه الأعرابي الجاهل فيبول في المسجد فيقع الصحابة به فيقول لهم: [لا تزرموه.. دعوه حتى يتم بوله] فتركه ليكمل بوله في المسجد ثم يعلمه أن هذا لا يجوز لأن المسجد مكان وضع لعبادة الله والصلاة. وصلى معه أعرابي مرة فعطس أحد الصحابة فقال له الأعرابي: (يرحمك الله) فنظر الصحابي إليه أن اسكت فصرخ الأعرابي بأعلى صوته قائلا: (وا ثكل أماه ما لكم تنظرون إليَّ هكذا) وبعد أن انتهت الصلاة تبسم له الرسول صلى الله عليه وسلم وناداه وعلمه فقال الأعرابي: (اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا) فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: [لقد حجرت واسعا] أي ضيقت رحمة الله وهي واسعة تسع كل مؤمن، وخرج الأعرابي وهو يقول: بأبي هو وأمي مارأيت معلما قط ارحم منه، فوالله ما ضربني ولا شتمني ولا كهرني ولكن قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس.. الحديث. والمهم أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم كان أكمل المناهج ولو ذهبنا نتتبع وقائعه وحوادثه لطال بنا المقال، ولكن المهم التنبيه إلى بعض قواعد هذا المنهج النبوي الكريم في التعليم، وذلك أن التعليم هو أعظم أسلوب عُرف حتى الآن لنقل العلم وتهذيب الأخلاق وتزكيتها، وللتعليم قواعد وآداب لابد من مراعاتها، وصفات لابد وأن يتصف بها المعلم وطالب العلم حتى تكون هذه العملية كاملة تؤتي ثمارها، والتعليم في الدعوة غير التبليغ والإعلام. هذا الانقلاب العقائدي الاجتماعي السياسي الأخلاقي والفكري الذي أحدثته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في معاصريه من العرب وغيرهم مخطىء من يظن أنه كان نتيجة لاستعمال السيف والقهر، وإنما كان نتيجة للدعوة والإعلام الناجح والتوفيق العظيم الذي يسَّره الله لخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الانقلاب الذي أحدثته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في العرب شيء لا خلاف عليه بين الناس، وهذه الشهادة من دائرة المعارف البريطانية على هذه القضية: "جاء محمد بدعوة جديدة هي دعوة الإسلام، وكان هذا الرسول أوفر الأنبياء والشخصيات الدينية حظا من النجاح، فقد أنجز في عشرين عاما من حياته ما عجزت عن إنجازه قرون من جهود المصلحين من اليهود والنصارى، رغم السلطة الزمنية التي كانت تساند هؤلاء، ورغم أنه كان أمام الرسول تراث أجيال من الوثنية والخرافة والجهل والبغاء والربا والقمار، ومعاقرة الخمور، واضطهاد الضعفاء والحروب الكثيرة بين القبائل العربية، ومئات الشرور الأخرى (مادة قرآن - دائرة المعارف البريطانية)". ويقول توماس أرنولد أيضا في كتابه الدعوة إلى الإسلام: " دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدل على مجرد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب، وإنما كان انقلابا كاملا لمثل الحياة التي كانت من قبل ". وليس هناك أوضح من هاتين الشهادتين -وهما من مصدرين غير إسلاميين- على مدى نجاح دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وتغييرها لمناهج حياة الناس في عهده صلى الله عليه وسلم ، ودراستنا للأساليب والوسائل التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم ترينا مدى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأبلغ الأساليب وأحكمها في نجاح مهمته الإعلامية.. ودراستنا أيضا للوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته سترينا مدى استفادة النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الوسائ الإعلامية التي وجدت في عصره صلى الله عليه وسلم. ولاشك أن دراستنا الواعية لهذه القضايا سنستفيد منها عدة فوائد: - الأولى: هي التأسي والاتباع، وهذا أمر واجب لقوله تعالى: الثانية: أنا واثق أن دراستنا الفاحصة لهذا الجانب المهمل من جوانب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سيرشدنا إلى استخدام وسائل كثيرة استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم وأصبحت الآن في حقل الدعوة الإسلامية نسيا منسيا، وكذلك سيرشدنا إلى الاستعمال الصحيح للوسائل والأساليب التي استخدمها النبي ومازالت تتخذ الآن، ولكنها تستخدم استخداما منفِّرا يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى. ولسنا نشك أن نجاح النبي صلى الله عليه وسلم معزو أولا وأخيرا إلى توفيق الله ورحمته، فهو الذي أتم نعمته وفضله عليه، وقوَّم خطواته خطوة خطوة، وأرشده بفضله وتوفيقه إلى اتباع الطرق، وأنزل عليه هذا القرآن الكريم الذي كان له الفضل الأول في انقياد القلوب وانشراحها لهذه الدعوة الإسلامية.. ولذلك فدراستنا لهذه القواعد والأساليب في دعوة النبي لا تعني أننا ندرس اجتهاد النبي الشخصي في نشر دعوته فقط، بل وأيضا القواعد الإسلامية التي اتبعها النبي وأوجبها الله سبحانه وتعالى عليه من فوق سبع سماواته ولا نشك أيضا أن اجتهاد النبي واجب الاتباع مادام أن الله سبحانه وتعالى قد أقره عليه. والآن، هذا أوان بيان القواعد التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والتي كفلت تحطيم دعوة الإسلام لكل دعوات الجاهلية التي سادت في وقته صلى الله عليه وسلم. أولا: الإسلام عقيدة عُليا لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته لم يقل يوما أن هذه الدعوة دعوة منافسة للدعوات القائمة، أو مشاركة لها في شيء أو على الأقل متعايشة مع غيرها من الدعوات ولقد دُعِي النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا إلى لقاء بين دعوته ودعوات الجاهلية فيتنازل عن شيء من دينه ليتنازلوا عن شيء من دعوتهم، فكان رد الله سبحانه وتعالى وأمره له أن يقول: لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليقول للناس من أول يوم أن دعوته ورسالته هي الدعوة الوحيدة الواجبة الاتباع في كل شؤون الحياة، وأنه لا تنازل عن صغير أو كبير منها، ولا خلط بتاتا بين الحق الذي جاءت به والباطل المتلبس بكل دعوة غيرها. وجاءته الأوامر الكثيرة الصريحة في هذا الصدد، من هذا قوله تعالى: وقال سبحانه وتعالى له أيضا: {قل آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}... الآية. فأمر بألا نسلم لأهل الكتاب إيمانهم إلا إذا كان إيمانا مطابقا لما جاء في من الله سبحانه وتعالى. فانظر إلى هذا واعجب اليوم من المؤتمرات التي تُقام بين علماء من المسلمين ورهبان النصارى وقساوستهم لعمل لقاء بين العقيدتين وعقد صلح بين الحق والباطل. الإسلام من أول يوم جاء ليقول للناس هذا الحق حده وكل ما سواه باطل، وهذا النور وحده وكل ما سواه ظلام، وجاء ليقول للناس: {يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فالذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما}. وبهذا جاء النبي من أول يوم ليعلن كفر أهل الأرض جميعا -إلا من آمن بدعوته وحمل رسالته- وضلالهم وخلودهم في النار، ولم يخبِّىء النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإعلان والإعلام من أول يوم، بل جابه به الناس جميعا: مشركي العرب واليهود والنصارى ومجوس فارس وجميع أمم الأرض. والثمرة الإعلامية التي استفادها النبي صلى الله عليه وسلم من وراء تفجيره لهذه القنبلة: أنه أثار اهتمام الناس جميعا وفتح آذانهم على الرغم منها، وكيف لا يسمع الناس له وهو يصرخ بأعلى صوته: أنتم كفار إن لم تسمعوا دعوتي وتستجيبوا لي.. الله خالقكم وربكم أرسلني إليكم. وأنا منذر للعالم أجمع، وديني هذا سيظهر على جميع الأديان ويحطم جميع العقائد والأوثان، إن هذا الكلام في هذا الوقت يسمع له الوادي والجبل والصخر الأصم فضلا عن الإنس والجن. وهكذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا جميعا آذانا لدعوته، ولم يضره بالطبع آثار هذه الدعوة وهذه الصراحة، فقد جرّت عليه الاتهام بالجنون، إذ كيف يعقل الناس في زمانه أن هذا النبي ومعه جماعة قليلة مستضعفة تستطيع أن تمشي آمنة في بلاد الروم وفارس وتعلن مخالفتها لعقيدة أولئك الملوك العظام، فضلا عن أن تدك هذه العروش وتقيم على أنقاضها حضارة أخرى للتوحيد. لقد كانت هذه الدعوة من الغرابة والصراحة والقوة أن حملت الناس حملا على السماع لها.. وهذه هي المهمة الأولى في الرسالة الإعلامية الناجحة أن يسمع الناس لها. يتوقف قبول الناس لأي رسالة إعلامية على مدى إيمانهم بصدق القائمين عليها، ونزاهتهم، وبعدهم عن الغرض. ففي اليوم الذي يثق الناس فيه بصاحب دعوة ما ويتأكدون من صدقه ونزاهته يقبلون كلامه ويدخلون في دعوته إذا وافقت اقتناعا ورضى.. وكثيرا ما يقتنع الناس بحق ما ولكنهم إذا شعروا بكذب قائله، أو علموا أن له غاية وهدفا وراء هذه الدعوة فإنهم ينفضُّون عن دعوته، ويصمُّون الآذان لها. ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توثيق مصدر رسالته الإعلامية منذ بدأها، ففي مراحل دعوته الأولى لم يدع إلا رجالا قد خالطوه وعرفوا صدقه وأمانته ونزاهته، وبعده عن الغرض. وفي أول لقاء إعلامي مع الناس كان أول عمل قام به هو أن وثّق مصدر رسالته، أعني أن أخذ إقرارا من الناس بصدقه وأمانته، فلقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، ثم قال: [واصباحاه!! واصباحاه!!] -وهذه تعني عند العرب إنذاراً بالحرب والخطر- فاجتمع الناس حوله من كل شعب من شعاب مكة، وبعد أن تكامل وجودهم لديه ناداهم بأسماء بطونهم: [يابني هاشم، يا بني عبد مناف، يا بني لؤي.. يا بني فلان] ثم قال لهم: [لو قلت لكم أن خيلا خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟!!] فقالوا: ما جربنا عليك كذبا!!. وهكذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ إقراراً جماعيا وهو أشبه بالإجماع على صدقه وأمانته وذلك من هذا الجمهور الذي يدعوه إلى الإسلام. وكان هذا الإقرار الجماعي هو الأرض التي وقف عليها النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن دعوته إليهم، أو هو الباب الذي دلف النبي من خلاله إلى عقولهم وقلوبهم. إذا كان صدق المصدر شرطاً أساسياً في قبول أي خبر، وفي نشر أي رسالة إعلامية، فإنه لشرط لا غنى عنه مطلقا في الإسلام وللرسول بالذات وذلك أن كل ما يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم ليس هناك من دليل مادي لإثباته غير دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم. فقد نتفق أن الإسلام دين يوافق العقل، ويوافق الفطرة، ويقبله كل ذوق سليم، ونفس مستقيمة، ولكن مع ذلك تبقي عقائد الإسلام وأخباره الغيبية عرضة للشك والريب، ما لم يكن المؤمن قد صدّق جازماً بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الإقرار الجماعي على صدقه ممن يدعوهم إلى الإسلام، بل لم يترك مناسبة إلا وجدَّد لأتباعه وأعدائه على السواء أنه رسول الله صدقاً، وأنه لم يكن ليكذب على الله، وأن الذين آمنوا به ما آمنوا إلا تصديقا له، وإقرارا بأن ما جاء به هو الحق. وهكذا كانت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما تصدر بـ (والله)، والذي نفسي بيده، وايم الله، ولا يكف عن قوله: لا ومقلب القلوب، أي ومقلب القلوب. يحلف ويقسم بكل هذه الأيمان إشعارا لمن يبلغهم أن ما يقوله حق وصدق. وتقرأ القرآن فلا تكاد تجاوز صفحة من صفحاته إلا وقابلك قسم من الله على صدق نفسه سبحانه، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن ما يأتيهم هو الحق الذي لا شبهة فيه، ولا ريب. فمن ذلك قوله جل وعلا: وذلك للإلحاح على قضية واحدة وهي توثيق المصدر وبيان أن ما جاء به النبي حق وصدق. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يخبر الناس بأشياء يستغربونها، ولا يكادون يصدقون بها فها هو البخاري يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [بينما رجل ممن كان قبلكم يركب بقرة إذ التفتت إليه فقالت: إني لم أخلق لهذا!!! فقال الناس سبحان الله: بقرة تتكلم!! فقال: إني لأؤمن بهذا وأبو بكر وعمر]، يقول هذا مؤكداً قوله وأنه لا يقول إلا حقاً. ولذلك كان أول واجب على الدعاة إلى الإسلام أن يكونوا صادقين، بعيدين عن الغرض والهوى، ولذلك كان السقوط في هذه القضية سقوطاً كاملاً لدعوتهم. ولعل مما يحسن التدليل به هنا على انهيار الرسالة الإعلامية بالكذب هو تلك السياسية التي اتبعها الإعلام العربي في العقدين الأخيرين من هذا القرن تطبيقا لنظرية (جوبلز) في الإعلام وهي: اكذب ثم اكذب ولابد أن يصدقك الناس. فقد رأينا كيف وصل المواطن العربي إلى عدم الثقة بإعلانات وبلاغات حكوماته العسكرية وتصريحات زعمائه وكيف تحول إلى إذاعات العدو وبلاغاته. وإذا كان الكذب مستنكرا مع غير المسلمين فإنه أشد نكرانا مع المسلمين ولذلك يعجب المرء منا طويلا وهو يرى أناسا ينتحلون الدعوة إلى الله سبحانه ثم يستحلون الكذب مع خصومهم ومنافسيهم وإخوانهم، زعما منهم أن هذا لمصلحة الدعوة، وليس من مصلحة الدعوة الإسلامية قط أن يتصف أربابها بالكذب. عندما كلف الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى دينه أوحى إليه (بالعلم) الذي يجب عليه نشره وإبلاغه للناس وهذه القضية لا اجتهاد مطلقا للرسول فيها، ولكن الله ترك للنبي صلى الله عليه وسلم حرية اتخاذ الوسيلة المناسبة لنشر هذا العلم وإبلاغه فلم يقل له مثلا ادع فلانا ثم فلانا، واستخدم هذه الوسيلة ولا تستخدم هذه الوسيلة، وإنما وضع له حدودا وضوابط عامة في هذا الصدد كما قال تعالى: ولقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته جميع الوسائل المعروفة في عصره، فقد استخدم العلاقات العامة، والدروس الخاصة (دار الأرقم والمسجد) والخطبة، والمناداة، والاتصال الفردي والجمعي، والبعوث والسرايا، والرسائل إلى الملوك والأمراء والقصيدة الشعرية، والمشاعر والشعائر، والجدال والمناظرة، واستخدم الإسلام أسلوبا للدعوة جديدا على العرب -وكان أعظم أسلوب على الإطلاق، ومازال- وهو القرآن الكريم، ثم الحديث الشريف.. وسنتكلم بالتفصيل عن كل أسلوب من هذه الأساليب من حيث هو أسلوب للدعوة لا من حيث العلم (الموضوع) الذي يتضمنه هذا الأسلوب أو ذاك. العلاقات العامة عرف في الدراسات الحديثة (للإعلام) الآن وسيلة من أهم وسائل الترويج للأفكار وهي العلاقات العامة، ويستخدم هذه الوسيلة الآن المؤسسات الفكرية، والتجارية وأيضا التربوية والرياضية، فأي مؤسسة فكرية ناجحة الآن لابد لها من اتصالات بالوسط الذي يحيط بها، ويتعامل معها، ويشاركها نفس الغاية، وتكون مهمة هذه الاتصالات هو الترويج لبضاعتها الفكرية، وتعريف الناس بها أو التعاون مع المؤسسات المشابهة، أو التعرف على نواحي القصور في المؤسسة.. وهذا النوع من الأساليب الإعلامية ليس اختراعا ولكنه فقط اكتشاف لأسلوب فطري عرفه الإنسان منذ عرف نقل الأفكار منه إلى الآخرين وشعر بالحاجة إلى ذلك.. وكان هذا الأسلوب هو أول الأساليب التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته. فقد عمد النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى نشر رسالة الإسلام أولا في الوسط الذي يحيط به عن طريق العلاقات العامة فدعا أولاً زوجته، وخادمه، وابن عمه، وأصدقاءه، ومعارفه والتقى مع كل غريب ووافد إلى مكة في حج أو تجارة، سواء كانوا أفراداً أو وفوداً وجماعات واتصل بأقاربه وعشيرته جميعا ودعاهم إلى الإسلام اتصل بهم في أماكنهم وبيوتهم، وصنع لهم ولائم متكررة في منزله ودعاهم إلى الطعام ثم عرض عليهم رسالته، وهكذا فعل أيضا كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم تقريبا.. وكان من أنشطهم في ذلك أبوبكر الصديق رضي الله عنه حيث آمن له سعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام وكثير من العبيد والموالي والضعفاء. وعن طريق هذه العلاقات العامة غشي رسول الله الأسواق التي كانت تقيمها العرب للتجارة والشعر وتبادل المعلومات فغشي عكاظ، ومنى وأماكن الحجيج، وسافر إلى الطائف ليعرض الإسلام على كبرائها ورؤسائها، وغشي الأماكن التي يتجمع أهل مكة فيها في الحرم وغيره، وفي المدينة كان يذهب أول الأمر إلى أماكن تجمع اليهود والمشركين من العرب ويعرض عليهم الإسلام، وأحيانا كانوا يردون عليه رداً قبيحاً، كما فعل عبدالله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم، قبل بدر حيث قال للنبي بعدما دعاه وهو في مجموعة من اليهود والمشركين والمسلمين: "يا هذا اجلس في رحالك فمن أتاك فحدثه ولا تغشنا في مجالسنا بما نكره!!". فقام عبد الله بن رواحة -وكان مسلماً- وقال: "بل اغشنا يا رسول الله فإنا نحب ذلك". وسب عبدالله بن أبي بن سلول وكادت تنشب المعارك لذلك فهدَّأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب. وهكذا استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب الفطري القديم من أساليب الدعوة وترويج الأفكار ولكن على خير وجه فلم يترك صغيراً ولا كبيراً حراً ولا عبداً التقى به إلا وأبلغه رسالة ربه، لم يمنعه من ذلك ضعف العبد وفقره، ولا صغر الغلام وضعفه وإنما بذل الإسلام لكل أحد يملك التمييـز.. وكـذلك لم يخص بدعوته الضعفاء والمساكين -وإن كانوا أسبق الناس إليها- وإنما تصدى أيضا للكبراء والملأ ، فدعاهم إلى الإسلام ورغبهم فيه. والشاهد من كل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس في منزله وعلَّق لافتة في جداره تقول "هذه دار محمد رسول الله" أو {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} وانتظر حتى يقرأ الناس (لافتته) وإنما خرج من منزله داعياً ومبشراً ومنذراً في كل صوب يستطيع أن يصل إليه وعرض الإسلام على كل من قابله من حر وعبد وامرأة ورجل وشريف وضعيف لم يصده عن ذلك عزة الرسالة، وسوء الرد من كثير من الناس كأن يقال له "أما وجد الله غيرك حتى يرسله!!؟" وهذه كلمة لو قيلت اليوم لعالم من علمائنا حمل شهادة واحدة لما خرج إلى الناس بدعوة قط!! والعجب أيضا ممن يزعمون القيام بالدعوة واقتفاء أثر الرسول ويقولون نجلس في أماكننا ومن أراد الهداية فليأت إلينا!! بل وجب على كل من حمَّله الله علما من علوم الدين أن يغشى الناس في أماكنهم وأن يعرض عليهم بضاعته النظيفة الطيبة وأن يدعوهم إلى الخير الذي وفقه الله إليه. وفي سبيل استخدام هذه الوسيلة (العلاقات العامة) لم يترك الرسول الذهاب إلى أسواق الجاهلية -مع ما فيها من المنكرات والآثام- ولم يترك أيضا بيوت الملأ والكبراء -مع ما فيها من ذلة للداعي واستهزاء به- ولم يترك النبي أيضا دعوة الكفار إلى منزله للطعام والشراب مع ما في هذا مما ينكره بعض المسلمين اليوم. وهذا كله أقوله لأدلل على فساد فهم الدعوة اليوم لدى كثير ممن يدعون إلى الله الذين اتخذوا الدعوة وظيفة وحرفة وشرفا وكهانة ولا يطمعون إلا في الدنيا، ولأبيِّن أيضا السبيل لمن أراد أن يقتفي أثر النبي المصلح الداعي إلى الله سبحانه وتعالى.
|