الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله **
قد يثير الفصل السابق عن وسائل تغيير المنكر تساؤلات كثيرة، واعتراضات كثيرة أيضا، وقد ينبري للرد علينا بطرق غير مباشرة كثيرون، ومن أهم هذه الاعتراضات والشبهات التي قد أثيرت حول هذا الموضوع هي: ما مفهوم الكفر البواح؟ هل هو بأن يعلن الفرد عن نفسه أنه كافر؟ قالوا إن هذا لا يحصل عادة، وذهب هؤلاء المعترضون إلى أن الكفر البواح هو الخروج عن أحكام الدين، ولو في أمر واحد فقط، فقد قطع كلام هؤلاء في أن كل من خالف أحكام الإسلام ولو في قضية واحدة فهو كافر، وإن صلى وصام وأعلن أنه مسلم!! وهذا الذي توصل إليه هؤلاء المعترضون هو من أعظم الفساد في الأرض لأنه إخراج للمسلمين جميعا من الإسلام بل إخراج لأنفسهم أيضا منه لأنه لا يوجد فرد ما حاكما كان أو محكوما إلا وهو مقصر، أو خارج عن بعض أحكام الدين، وقد يكون هذا ضعفا أو تقصيرا أو جهلا أو خوفا أو غير ذلك.. ولو عرف هؤلاء الآثار المدمرة لفقههم المريض في هذه القضية الخطيرة لربما كفوا عن الكلام في العقائد دون روية وتبصر وتعلموا أيضا أن دراسة العقائد ومسائل الإيمان من أهم ما ينبغي على المسلمين فعله الآن، فليس كل من حمل بعض الحماس الديني، واستطاع أن ينقل بعض الأحاديث والآيات قد أصبح فقيها بها، وهذه أعظم مشكلاتنا في الوقت الحاضر: أنصاف وأرباع المتعلمين الذين يستعجلون الفتوى وخاصة في الأمور العقائدية الخطيرة!. والآن إليك بحول الله البيان لمفهوم (الكفر البواح) الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي يرويه مسلم عن جنادة بن أمية، قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا: حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان] -انظر مختصر مسلم للمنذري ص331- فالبواح هو الظهور والإعلان وهو ضد الخفاء وبالرغم من أن الإسلام قد أمرنا أن نحكم للمسلم بالإسلام بأي ظاهر يدل على ذلك فإنه قد شدد جدا علينا أن نُخرج مسلما من جماعة المسلمين إلا بيقين مطلق لا يقبل الشك أبدا، فنحن نحكم بالإسلام للشخص إذا رأيناه يعمل أي عمل يدل على الإسلام، كالشهادتين والصلاة، ففي صحيح مسلم عن عتبان بن مالك أنه قال: [أصابني في بصري بعض الشيء فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي، فأتخذه مصلى، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه فدخل وهو يصلي في منزلي وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم، (أي أنهم اتهموا هذا الرجل بالنفاق وسوء الأفعال)، قالوا: -أي الصحابة- ودوا أنه دعا عليه رسول صلى الله عليه وسلم فهلك، أو أصابه شر.. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: [أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟] قالوا إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه] ، وهذا نص واضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن الحكم بنفاق رجل ظهرت لهم منه أفعاله القبيحة، مادام أنه يشهد أن لا إله إلا الله. وكذلك جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوما انتظر إلى صلاة الفجر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا هاجمهم، وهذا واضح أيضا أن الحكم بالإسلام يثبت للقوم إذا أعلنوا شعيرة من شعائر الإسلام، وهي الأذان، وأنهم يأخذوا بعض حقوق المسلمين، وهي عدم جواز الهجوم عليهم وقتالهم، وكذلك جاء النص القرآني في سورة الفتح الذي يعلن الل فيه أنه صرف المسلمين عن قتال الكفار في غزوة الحديبية لأن بمكة مسلمين مستترين، قال تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}، أي وتنحى هؤلاء المؤمنون وتميزوا وخرجوا عن مكة ولم يبق فيها إلا المشركون الخُلص لسلطناكم عليهم.. وهذا إعلان من الله لنا أن المؤمن - ولو كان مستترا أيضا - له كرامة المؤمنين في عدم جواز البطش بقومه، إلا إذا خرج من بين ظهرانيهم، فكيف بالذين يريدون الفتن في بلاد المسلمين، وأن يقتل المسلم أخاه، والحال أن هذه البلاد تقام فيها الصلاة وسائر العبادات؟! والمهم من كل ذلك أن الحكم بالإسلام إنما هو للظاهر، وكف اليد عن المسلم حق له وإن لم يقل لا إله إلا الله إلا تحت السيف كما جاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد، قال: [بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا (إلى المدينة) بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلته، فقال: يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟.. قلت: يا رسول الله كان متعوذا. قال: هلا شققت عن قلبه؟! فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم] (رواه البخاري ومسلم). وكذلك جاء مثل هذا عن المقداد بن الأسود أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: [أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله. أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال] (متفق عليه) ومعنى هذا أن المسلم يكفر إذا قتل مسلما ومن مات مظلو ا بعد أن قال لا إله إلا الله فهو في الجنة. ومعنى هذا كله ، أن الحكم بالإسلام لشخص ما يتحقق إذا أظهر شيئا من الإسلام، وأنه يُحكم له بذلك، ويأخذ أحكام الإسلام من وجوب الكف عن دمه وماله وعرضه، وأنه لا يجوز الحك بتاتا بأنه منافق، وإن أظهر بعض أعمال المنافقين، لأن النفاق قضية قلبية لا يطلع عليها إلا الله سبحانه.. وأن القرائن التي قد توحي بأن شخصا ما أعلن الإسلام لحاجة في نفسه، أو لمنفعة مادية لرغبة أو رهبة، لا يجوز التعويل عليها مطلقا، وإذا عرفنا هذا وتأكدنا منه بقي أن نعرف ما اليقين الذي يجوز به إخراج فرد ما أو جماعة ما من الإسلام، وإلحاقهم بالكفار، وإجراء أحكام الكفر عليهم؟ نشرنا مقالا لأحد الإخوة أنحى فيه باللائمة على من يقول: إن هناك تطرفا دينيا، فقال: فنقول.. وبالله التوفيق ، إن الغلو والتشدد والتنطع آفة في كل الشرائع السماوية، فقد غالى النصارى في نبيهم عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه حتى عبدوه وزعموا أنه الله، أو ابن الله وقال الله رداً عليهم: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فلا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيرا لكم} الآيات، وكذلك كان من تشددهم وتنطعهم اتخاذهم الرهبانية دينا لم يشرعه الله عليهم، كما قال تعالى: ولاشك أن التشدد والتنطع والتطرف في الدين درجات، فقد يكون في إلزام النفس بعبادة فوق الحد الذي شرعه الله، كمن يصوم النهار أبدا، أو يصلي الليل أبدا، ومثل هذا قال فيه الرسول: [أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، فمن رغب عن سنتي فليس مني]!. وقد يكون بتحريم الحلال على النفس، كمن يحرم على نفسه الزواج مثلا تبتلأ، ولا شك في حرمة ذلك، ومثل هذا النوع من التشدد خفيف الضرر، قليل الأثر، بل هو أمر طبيعي فطري يجابه المتدين بمجرد انفتاح قلبه إلى الخير، وانشراح صدره للإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: [لكل عابد شرة ثم فترة، فمن كانت فترته إلى سُنة فقد هُدي، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل]. والشرة هي النهم، وازدياد الرغبة، والمقصود هنا النهم إلى كثرة العبادة، ثم تأتي بعد ذلك الفترة وهي السكون والراحة، فمن سكن إلى عبادة مشروعة فقد اهتدى، ومن ابتدع عبادة ولازمها بعد ذلك فقد ضل، وعلى كل حال هذا النوع من التشدد ليس آفة وليس خطراً لأنه إلى أمد محدود وعلاجه سهل ميسور. ولكن التشدد والتطرف الذي هو آفة الآفات وغاية الشرور وسبيل هدم الدين وتمزيق جماعة المسلمين، هو الغلو في التكفير، والتنطع بإخراج المسلم من الإسلام بالمعصية التي لا تبلغ درجة الكفر، واستحلال دمه وماله بذلك. وهذا النوع من الغلو هو الذي فرق أمة الإسلام في عهدها الأول، فعن طريقه استحلت طائفة من المسلمين دم الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، زاعمين أنه لا يسير على سنة الشيخين، واستحلوا بعد ذلك قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستحلوا قتل معاوية وعمرو بن العاص، ثم حاربوا الخلفاء من بني أمية الواحد منهم بعد الآخر، وظل هذا دينهم في خلافة بني العباس، كل منهم يدعي نصر الدين، فيخرج مع مجموعة معه على المسلمين فيعمل فيهم القتل والتشريد، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يخرج من ضئضئي هذا قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد]، وقال في رواية: [يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان]. ولاشك أنه قد وقع بعض أفراد وجماعات من المسلمين المعاصرين في هاوية التطرف، وقد كتب الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي كتابا في ذلك، ولما سئل عن التطرف قال: (ومبلغ هذا التطرف وغايته حين يسقط عصمة الآخرين، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ولا يرى لهم حرمة ولا ذمة، وذلك إنما يكون حين يخوض لجة التكفير واتهام جمهور الناس بالخروج من الإسلام أو عدم الدخول فيه أصلا -كما هي أقوال بعضهم- وهذا يمثل قمة التطرف الذي يجعل صاحبه في واد وسائر الأمة في واد آخر). ويقول الأستاذ محمد الغزالي عن هذا الموضوع أيضا: (وعندما أبحث عن جراثيم الانحراف بين المتدينين أجد هذا اللون من "الفراعنة" وراء جملة المسالك التي نشجبها، ونضيق بأهلها، فالجماعة التي تحمل عنوان "التكفير والهجرة" مثلا تبنت أفكارها في السجون، ونمت أشواكها وراء القضبان.. هل أدافع بهذا القول عن التطرف.. لا.. فأي عالم مسلم يأبي العوج الفكري والانحرافات النفسية، إن ذات الشاب مختل المزاج، فصاحب الرسالة ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهؤلاء الشباب ما خُيروا بين أمرين إلا اختاروا أصعبهما، والإسلام يقدم الدليل ويؤخر العنف، فما يلجأ إليه إلا كارها.. أما أولئك الشباب فقد نظروا إلى الأسلوب الذي عُوملوا به، واستبيحت به حرمتهم، فلم يروا أمامهم إلا السلاح). (العربي عدد يناير 1982م) وبهذه الكلمات القليلة فسر الأستاذ الغزالي الظاهرة وبين أسبابها. ولاشك أن هذه الحركات الغوغائية البائسة التي يقوم بها بعض المتطرفين بين آن وآخر، تعطي السلطات السياسية التي تريد بالمسلمين شرا الدليل المادي لاستباحة حرمات المسلمين وتقتيلهم وتشريدهم، وبذلك يكون هؤلاء أعظم عونا للسلطات الجائرة، بل إن كثيرا من هذه السلطات تفتعل هي أحيانا مثل هذه الأعمال وتنسبها إلى الجماعات الإسلامية، فيكون هذا مبررا لاستئصال النبت الإسلامي الجديد. قد يقابل العنوان السابق باستهجان أو استغراب ممن لم يخبر تجدد الوقائع واختلاف الأحوال، ويظن أن النص الشرعي لا يخالف المصلحة الشرعية مطلقا، وهذا خطأ لأن المصلحة الشرعية ثابتة بنصوص وقواعد شرعية أيضا.. أعني قد يتصور بليد الذهن وقاصر العلم أن نصا ما يجب أن يجري على إطلاقه، وفي كل الظروف والأحوال، وهذا خطأ، وذلك أن النصوص الشرعية مطلقة من حيث الزمان حقا، بمعنى أن ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله هو تشريعه أبدا وإلى قيام الساعة، ولكن الله سبحانه وتعالى قد وضع قواعد وضوابط للتنفيذ والامتثال، كقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسها إلا وسعها} ومعلوم أن وسع فلان غير وسع غيره ولذلك فالنص العام ينزل منازله بحسب الأفراد لا بحسب العموم، ولذلك جاءت الشريعة باستثناءات كثيرة للمضطر والمريض والمسافر والأعرج والأعمى، وذلك في الطعام والشراب والقتال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الإسلام، وقول كلمة الكفر، والصلاة والصيام، وسائر العبادات، وهذا معلوم مشهور، ولكن ما يقع الخلاف فيه من أهل العلم هو تغليب المصلحة الشرعية على تنفيذ نص شرعي، والسبب في الخلاف حول هذه القضية: أن المصلحة الشرعية لا يراها الناس بمنظور واحد، وكذلك الاختلاط وامتزاج المصالح الخاصة أحيانا بالمصالح الشرعية، وكذلك لقصور الإنسان عن معرفة ما يصلح له في الحقيقة مما لا يصلح له.. وعلى كل حال فالأخذ بالمصالح الشرعية من منهج الإسلام ومن أصوله الثابتة، ففي السنة غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم جوانب المصلحة التي رآها، فقد شاور الصحابة في شأن أسرى بدر ، وكلهم أشار بما يرى أنه المصلحة للمسلمين، كما أشار عمر بأن يقتل الأسرى حتى لا يقوم للكفار قائمة بعد، وهذه مصلحة شرعية، وأشار أبوبكر وغيره بالإبقاء على حياتهم وأخذ فدية مالية منه ليتقوى بها المسلمون، ولعل الله أن يهدي الكفار، وهذه مصالح شرعية، وقد أخذ الرسول بما رآه مصلحة في نظره، وأقره الله على ذلك، وإن كان قد وجهه سبحانه أن المصلحة الحقيقية في الرأي الأول، وكذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين الذين أعلنوا الكفر كعبد الله ابن أبي والمستهزئين بالله ورسوله الذين نزل فيه قوله تعالى: وكذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذ حد القذف الثابت في القرآن على عبدالله بن أبي بن سلول رأس الإفك ورأس المنافقين، وذلك حذرا من إعلانه الردة وتمزيق جماعة المسلمين وانتقاض أحوال المدينة على الرسول، إذ كان عبدالله بن أبي زعيما مسموعا مطاعا في قومه، ومازال كذلك حتى وفاته. وأما في حياة الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخذوا بكثير من المصالح الشرعية، ومن أشهر ذلك ما سنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة الخراج، وهي حبس الأرض المغنومة من الكفار على بيت المسلمين أبدا، وفرض ضريبة عليها وهي عشر ما يخرج منها ليكون في مصالح المسلمين العامة، وليس عند عمر في هذه القضية نص يحدد هذا الأمر، وإنما كان ذلك اجتهادا، ولاشك أنه اجتهاد صائب استفاد المسلمون منه طيلة حياة الدولة الإسلامية في عصور القوة والفتح، إذ كان دخل الخراج هو أعظم موارد بيت مال المسلمين، والذي توقف عليه إعداد الجيوش وإمداد المسلمين بالقوة العسكرية. والحق أن الأخذ بالمصالح الشرعية عند الصحابة لم يكن فقط في قضايا السياسات والمعاملات، بل تعدى ذلك إلى قضايا العبادات، فقد أفتى عمر بن الخطاب وابن مسعود بوجوب ترك الصلاة للجنب الذي لم يجد ماء يغتسل به، وأنه يجوز له الصلاة ولو لم يجد الماء شهرا، وقد أفتوا بذلك خوفا من أن يتهاون الناس في غسل الجنابة، كما قال عمر: [يوشك إن أحللنا لهم ذلك أن يتركوا الغسل إذا برد عليهم الماء]، وكذلك أفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بوجوب إفراد الحج خوفا من هجران الناس للبيت في غير موسم الحج، وحملا للناس على أن يعتمروا في غير وقت الحج، وكذلك صلى عثمان رضي الله عنه بالناس في الحج الظهر والعصر أربعا خوفا من أن يظن الأعراب أن صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين فقط.. وهذا قليل من كثير من اجتهاد الصحابة -رضوان الله عليهم- في الأخذ بالمصالح الشرعية في أمور العبادات، فضلا عن أمور المعاملات والسياسات. قال الإمام ابن تيمية: " ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ يه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمن الرسول بما أنزل إليه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم. والخوارج المارقون، الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -أحد الخلفاء الراشدين- واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وانحازوا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا على أنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا، مع أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله.. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: [إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا وفي شهركم هذا]، وقال صلى الله عليه وسلم: [كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه]. وقال: [لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض]، وقال: [إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما]، وهذه الأحاديث كلها في الصحاح. وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يُكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن حاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنه شهد بدرا، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم]؟ وهذا في الصحيحين. وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال: لا إله إلا الله، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره، وقال: [يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ]، ومع هذا لم يوجب عليه قودا، ولا دية، ولا كفارة، لأن كان متأولا ، ظن جواز قتل ذلك القائل، لظنه أنه قالها تعوذا. فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم ، وكلهم مسلمون مؤمنون، كما قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن طغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين}، فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض أخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل. ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم ا علم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سأل ربه: [ألا يُهلك أمته بسنة عامة، فأعطاه ذلك، وسأله ألا سلط عليهم عدوا من غيرهم، فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم، فلم يُعطه ذلك]. وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا. وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: قال رحمه الله ورضي الله عنه في كتابة الحسبة: "معلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات، لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بُعِثت الرسل ونزلت الكتب، كالله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح. وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين: وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: إنكم تعدون هذه الآية: ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: التوحيد الذي هو سلب الصفات، والعدل الذي هو التكذيب بالقدر، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي منه قتال الأئمة.. وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع، وجماع ذلك داخل القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان تضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام، وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها ويُنهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله (الحسبة في الإسلام ص43،42،41). انتهي منه بلفظه.
|