الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: لا يكون العفو عن الظالم، ولا قليله مسقطا لأجر المظلوم عند اللّه، ولا منقصا له، بل العفو عن الظالم يصير أجره على اللّه تعالى؛ فإنه إذا لم يعف كان حقه على الظالم، فله أن يقتص منه بقدر مظلمته، وإذا عفا وأصلح فأجره على اللّه. وأجره الذي هو على اللّه خير وأبقي. قال تعالى: فقد أخبر أن جزاء السيئة سيئة مثلها بلا عدوان، وهذا هو القصاص في الدماء، والأموال، والأعراض،ونحو ذلك.ثم قال: / وقد قال تعالى: وقد قال تعالى: وفي المسند: أنه لما نزل قوله تعالى: والدلائل على أن المصائب كفارات كثيرة، إذا صبر عليها أثيب على صبره، فالثواب والجزاء إنما يكون على العمل ـ وهو الصبر ـ وأما نفس المصيبة فهي من فعل اللّه، لا من فعل العبد، وهي من جزاء اللّه للعبد على ذنبه، وتكفيره ذنبه بها. وفي المسند: أنهم دخلوا على أبي عبيدة بن الجراح وهو مريض، فذكروا أنه يؤجر على مرضه، فقال: مالى من الأجر ولا مثل هذه. ولكن المصائب حطة. فبين لهم أبو عبيدة ـ رضي اللّه عنه ـ أن نفس المرض لا يؤجر عليه، بل يكفر به عن خطاياه. وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب،فيكون فيه أجر بهذا /الاعتبار.ومن الناس من يقول: لابد فيه من التعويض والأجر والامتنان، وقد يحصل له ثواب بغير عمل، كما يفعل عنه من أعمال البر. وأما الصبر على المصائب ففيها أجر عظيم، قال تعالى: وقد قال تعالى: ولو لم يكن الإحسان إلى الخلق إحسانًا إلى المحسن، يعود نفعه عليه، لكان فاعلا إثمًا أو ضررًا؛ فإن العمل الذي لا يعود نفعه على فاعله، إما حيث لم يكن فيه فائدة، وإما شر من العبث؛ إذا ضر فاعله. والعفو عن الظالم أحد نوعي الصدقة؛ المعروف، والإحسان إلى الناس. وجماع ذلك الزكاة. واللّه ـ سبحانه ـ دائمًا يأمر بالصلاة، والزكاة، وهي الصدقة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: (كل معروف صدقة)، وذلك نوعان: أحدهما: اتصال نفع اليه. الثاني: دفع ضرر عنه. فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم، ونفسه تدعوه اليه، فكف نفسه عن ذلك، ودفع عنه ما يدعوه اليه من إضراره، فهذا إحسان منه اليه، وصدقة عليه، واللّه تعالى يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين. فكيف يسقط أجر العافي؟! وهذا عام في سائر ما للعبد من الحقوق على الناس؛ولهذا إذا /ذكر اللّه في كتابه حقوق العباد، وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان، فإنه ـ سبحانه ـ يأمر بالعدل والإحسان، كما قال تعالى: وقال تعالى: وأما عفو الذي بيده عقدة النكاح، فقيل: هو عفو الزوج، وأنه تكميل للصداق للمرأة، وعلى هذا يكون هذا العفو من جنس ذلك العفو، فهذا العفو إعطاء الجميع، وذلك العفو إسقاط الجميع. والذي حمل من قال هذا القول عليه؛ أنهم رأوا أن غير المرأة لا تملك إسقاط حقها الواجب، كما لا تملك إسقاط سائر ديونها. وقيل: الذي بيده عقدة النكاح هو ولي المرأة المستقل بالعقد بدون استئذانها؛ /كالأب للبكر الصغيرة، وكالسيد للأمة، وعلى هذا يكون العفوان من جنس واحد. ولهذا لم يقل: إلا أن يعفون، أو يعفوهم، والخطاب في الآية للأزواج. وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه: فهناك في قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال: فالعادل من انتصر بعد ظلمه وهذا جزاؤه أنه ما عليه من سبيل،فلم يكن بذلك ممدوحا، ولكن لم يكن بذلك مذمومًا. وذكر الظالم بقوله: وهذا كما ذكر في آخر البقرة أصناف الناس في المعاملات، التي تكون باختيار المتعاملين، وهم ثلاثة: محسن، وظالم، وعادل. فالمحسن: هو المتصدق. والظالم: هو المربي. والعـادل: هـو البائع. فذكـر هنـا حكـم الصدقـات، وحكم الربـا، وحكم المبايعـات، والمداينات. وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص، غالط جاهل ضال، بل بالعفو يكون أجره أعظم؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل، ويحصل للظالم عز واستطالة عليه، فهو غالط في ذلك. كما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث إن كنتُ لحالفا عليهن: ما زاد اللّه عبدًا بعفو إلا عزًا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد للّه إلا رفعه اللّه). فبين الصادق المصدوق: أن اللّه لا يزيد العبد بالعفو إلا عزًا، وأنه لا تنقص صدقة من مال، وأنه ما تواضع أحد للّه إلا رفعه اللّه. وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن، وما تهوي الأنفس، من أن العفو يذله، والصدقة تنقص ماله، والتواضع يخفضه. وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت: ماضرب /رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خادمًا له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل اللّه، ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه؛ إلا أن تنتهك محارم اللّه، فإذا انتهكت محارم اللّه لم يقم لغضبه شيء. حتي ينتقم للّه. وخُلُق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم القرآن أكمل الأخلاق، وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه، وإذا انتهكت محارم اللّه لم يقم لغضبه شيء حتي ينتقم للّه، فيعفو عن حقه، ويستوفي حق ربه. والناس في الباب أربعة أقسام: منهم: من ينتصر لنفسه ولربه، وهو الذي يكون فيه دين وغضب. ومنهم: من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه، وهو الذي فيه جهل وضعف دين. ومنهم: من ينتقم لنفسه لا لربه، وهم شر الأقسام. وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحق اللّه، ويعفو عن حقه. كما قال أنس بن مالك: خدمت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف قط. وما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله:لم لا فعلته؟وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: (دعوه لو قضي شيء لكان).فهذا في العفو عما يتعلق بحقوقه /وأما في حدود اللّه،فلما شفع عنده أسامة بن زيد ـ وهو الحب ابن الحب، وكان هو أحب اليه من أنس، وأعز عنده ـ في امرأة سرقت شريفة أن يعفو عن قطع يدها. غضب، وقال: (يا أسامة، أتشفع في حد من حدود اللّه؟! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها). فغضب على أسامة لما شفع في حد للّه، وعفا عن أنس في حقه. وكذلك لما أخبره أسامة أنه قتل رجلا بعد أن قال: لا إله إلا اللّه. قال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا اللّه)، فما زال يكررها حتي قلت: ليته سكت. والأحاديث والآثار في استحباب العفو عن الظالم، وأن أجره بذلك أعظم كثيرة جدًا. وهذا من العلم المستقر في فطر الآدميين. وقد قال تعالى لنبيه:
فأجاب: وأما إذا كان لرجل عند غيره حق من عين أو دين. فهل يأخذه أو نظيره، بغير إذنه؟ فهذا نوعان: أحدهما: أن يكون سبب الاستحقاق ظاهرا لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها، واستحقاق الولد أن ينفق عليه والده، واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به، فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب؛ كما ثبت في الصحيحين أن هند بنت عتبة بن ربيعة قالت: يارسول اللّه إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني، وبَنِي. فقال: (خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف)، فأذن لها أن تأخذ نفقتها بالمعروف بدون إذن وليه. /وهكذا من علم أنه غصب منه ماله غصبا ظاهرا يعرفه الناس،فأخذ المغصوب،أو نظيره من مال الغاصب. وكذلك لو كان له دين عند الحاكم وهو يمطله، فأخذ من ماله بقدره، ونحو ذلك. والثاني: ألا يكون سبب الاستحقاق ظاهرا، مثل أن يكون قد جحد دينه، أو جحد الغصب، ولا بينة للمدعي. فهذا فيه قولان: أحدهما: ليس له أن يأخذ وهو مذهب مالك، وأحمد. والثاني: له أن يأخذ، وهو مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة ـ رحمه اللّه تعالى ـ فيسوغ الأخذ من جنس الحق؛ لأنه استيفاء، ولا يسوغ الأخذ من غير الجنس؛ لأنه معاوضة فلا يجوز إلا برضا الغريم. والمجوزون يقولون: إذا امتنع من أداء الواجب عليه ثبتت المعاوضة بدون إذنه للحاجة، لكن من منع الأخذ مع عدم ظهور الحق استدل بما في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، وفي المسند عن بشير بن الخصاصية أنه قال: يارسول اللّه، إن لنا جيرانًا لا يدعون لنا شاذة، ولا فاذة، إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ /قال: (لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك). وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ قال: (لا). رواه أبو داود وغيره. فهذه الأحاديث تبين أن حق المظلوم في نفس الأمر إذا كان سببه ليس ظاهرا، أخذه خيانة، لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقه، لكنه خان الذي ائتمنه، فإنه لما سلم اليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه، والاستحقاق ليس ظاهرا كان خائنا. وإذا قال: أنا مستحق لما أخذته في نفس الأمر، لم يكن ما ادعاه ظاهرا معلوما. وصار كما لو تزوج امرأة فأنكرت نكاحه، ولا بينة له، فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة، فإنه ليس له ذلك. ولو قدر أن الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته ببينة اعتقد صدقها، وكانت كاذبة في الباطن، لم يكن له أن يطأها لما هو الأمر عليه في الباطن. فإن قيل: لا ريب أن هذا يمنع منه ظاهرًا، وليس له أن يظهر ذلك قدام الناس؛ لأنهم مأمورون بإنكار ذلك؛ لأنه حرام في الظاهر، لكن الشأن إذا كان يعلم سرا فيما بينه وبين اللّه؟ قيل: فعل ذلك سرا يقتضي مفاسد كثيرة منهي عنها، فإن فعل/ ذلك في مظنة الظهور والشهرة، وفيه ألا يتشبه به من ليس حاله كحاله في الباطن، فقد يظن الإنسان خفاء ذلك، فيظهر مفاسد كثيرة، ويفتح ـ أيضا ـ باب التأويل. وصار هذا كالمظلوم الذي لا يمكنه الانتصار إلا بالظلم؛ كالمقتص الذي لا يمكنه الاقتصاص إلا بعدوان، فإنه لا يجوز له الاقتصاص. وذلك أن نفس الخيانة محرمة الجنس. فلا يجوز استيفاء الحق بها، كما لو جرعه خمرا، أو تلوط به، أو شهد عليه بالزور، لم يكن له أن يفعل ذلك؛ فإن هذا محرم الجنس. والخيانة من جنس الكذب. فإن قيل: هذا ليس بخيانة، بل هو استيفاء حق. والنبي صلى الله عليه وسلم نهي عن خيانة من خان، وهو أن يأخذ من ماله مالا يستحق نظيره. قيل هذا ضعيف لوجوه: أحدها: أن الحديث فيه أن قوما لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها. أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون؟ فقال: (لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك. ولا تخن من خانك). وكذلك قوله في حديث الزكاة: أفنكتم من أموالنا بقدر ما يأخذون منا؟ فقال: (لا). الثاني: أنه قال: (ولا تخن من خانك). ولو أراد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين من خانه ومن لم يخنه، وتحريم مثل /هذا ظاهر، لا يحتاج إلى بيان وسؤال. وقد قال: (ولا تخن من خانك) فعلم أنه أراد أنك لا تقابله على خيانته، فتفعل به مثل ما فعل بك. فإذا أودع الرجل مالًا فخانه في بعضه، ثم أودع الأول نظيره ففعل به مثل ما فعل، فهذا هو المراد بقوله: (ولا تخن من خانك). الثالث: أن كون هذا خيانة لا ريب فيه، وإنما الشأن في جوازه على وجه القصاص؛ فإن الأمور منها ما يباح فيه القصاص كالقتل، وقطع الطريق، وأخذ المال. ومنها مالا يباح فيه القصاص؛كالفواحش،والكذب،ونحو ذلك.قال تعالى في الأول:
فأجاب: يبيعها ويستوفي من الثمن ما له في ذمة الميت من الأجرة والثمن، وما بقي يوصله إلى مستحق تركته. وإذا حلفوه فله أن يحلف أنه ليس له عندي غير هذا، وإن أحب أن يشتري بضاعة مثل تلك البضاعة، ويحلف أنه لا يستحق عنده إلا هذا. بشرط أن تكون البضاعة مثل تلك، أو خيرًا منها.
فأجاب: أما من غصب له مال، أو مطل به، فالمطالبة في الآخرة له. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت لأخيه عنده مظلمة في دم أو مال أو عرض، فليستحلل من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه، ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فألقيت عليه). /فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلامة إذا كانت في المـال طـالب المظلوم بهـا ظالمه، ولـم يجعـل المطالبة لورثته، وذلك أن الورثة يخلفونه في الدنيا، فما أمكن استيفاؤه في الدنيا كان للورثة،وما لم يمكن استيفاؤه في الدنيا، فالطالب به في الآخرة المظلوم نفسه. واللّه أعلم.
فأجاب: ليس لهم دفع البهائم الداخلة إلى زرعهم إلا بالأسهل، فالأسهل. فإذا أمكن إخراجهما بدون العرقبة فعرقبوهما عزروا على تعذيب الحيوان بغير حق. وعلى العدوان على أموال الناس بما يردعهم عن ذلك، وضمنوا للمالك بدلهما. وعلى أهل الزرع حفظ زرعهم بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل، كما قال بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. / فأجاب: أعدل الأقوال في ذلك: أن يجعل نماء المال بين المالك والعامل، كما لو دفعه إلى من يقوم عليه بجزء من نمائه، ثم إن الأصل: ونصيب المالك إذا تعذر دفعه إلى مالكه، صرفه في مصالح المسلمين.
فأجاب: نعم إذا تراضي هو ومالكها جاز أكلها. / فأجاب: إذا رفسته برجلها فلا ضمان على الغلام، ولا على صاحب الفرس، بل الفرس باق على ملك صاحبه، وهذا مذهب جمهور الأئمة؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد وغيرهم. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الرِّجْل جُبَار)، وقال الشافعي: يضمن ما ضربه برجله إذا كان على الفرس راكب، أو قائد، أو سائق، كما وافقه أحمد وغيره على ذلك في اليد. وأما إذا لم يفرط الغلام الذي هو ممسك للفرس، فلا ضمان عليه باتفاق العلماء، مثل أن تجفل الفرس، ويحذر القريب منها. فيقول: حاذروا. فإذا قال ذلك فمن رفست منهما كان هو المفرط، ولم يكن على أحد ضمان باتفاق الأئمة، واللّه أعلم. / فأجاب: إذا كان صاحب الجمل الكبير لم يفرط في منعه فلا ضمان عليه، مثل أن يكون قيده القيد الذي يمنعه. وأما إذا كان قد فرط بأن قيده قيدًا خفيفًا،لا يمنعه، فعليه ضمان ما أتلفه. واللّه أعلم. / فصل اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة ـ قسمة الإجبار ـ كالقرية، والبستان، ونحو ذلك. وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار؛ وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي. هل تثبت فيه الشفعة؟ على قولين: أحدهما: تثبت، وهو مذهب أبي حنيفة، واختاره بعض أصحاب الشافعي؛ كابن سريج. وطائفة من أصحاب أحمد؛ كأبي الوفاء بن عقيل. وهي رواية المهذب عن مالك. وهذا القول هو الصواب، كما سنبينه إن شاء اللّه. والثاني: لا تثبت فيه الشفعة، وهـو قـول الشافعي نفسه، واختيار /كثير مـن أصحاب أحمد. وهذا القول له حجتان: أحدهما: قولهم: إن الشفعة إنما شرعت لرفع ضرر مؤنة القسمة، وما لا تجب قسمته ليس فيه هذا الضرر. والثاني: أنه لو وجبت فيه الشفعة لتضرر الشريك؛ فإنه إن باعه لم يرغب الناس في الشراء؛ لخوفهم من انتزاعه بالشفعة. وإن طلب القسمة لم تجب إجابته، فلا يمكنه البيع ولا القسمة، فلا يقدر أن يتخلص من ضرر شريكه. فلو أثبتنا فيه الشفعة لرفع ضرر الشريك الذي لم يبع لزم إضرار الشريك البائع. والضرر لا يزال بالضرر. والقول الأول أصح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له شريك في أرض، أو ربعة، أو حائط. فلا يحل له أن يبيع حتي يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك. فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به). ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، والربعة، والحائط، أن يكون مما يقبل القسمة. فلا يجوز تقييد كلام الرسول بغير دلالة من كلامه، لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة. وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضي بالشفعة في كل ما لم يقسم،/ فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة. فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود، وصرف الطرق، وهذا الحديث في الصحيح عن جابر. وفي السنن عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا)، فإذا قضي بها للاشتراك في الطريق؛ فلأن يقضي بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى. وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال. أعدلها هذا القول: أنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا. وأيضا، فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما يقبل القسمة، فما لا يقبل القسمة أولي بثبوت الشفعة فيه؛ فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة، وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد. وظن من ظن أنها تثبت لرفع المقاسمة، لا لضرر المشاركة، كلام ظاهر البطلان؛ فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها، وجبت إجابته إلى المقاسمة، ولو كان ضرر المشاركة أقوي لم يرفع أدني الضررين بالتزام أعلاهما، ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل؛ فإن شريعة /الله منزهة عن مثل هذا. وأما قولهم: هذا يستلزم ضرر الشريك البائع. فجوابه: أنه إذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين؛ فإن العين تباع، ويجبر الممتنع على البيع، ويقسم الثمن بينهما. وهذا مذهب جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل. وذكر بعض المالكية أن هذا إجماع. وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعتق شركا له في غلام، وكان له من المال ما يبلغ ثمن الغلام، قوم عليه قيمة عدل، لا وَكْس، ولا شَطَط، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)، فدل هذا الحديث على أن حق الشريك في نصف قيمة الجميع، لا في قيمة نصف الجميع؛ فإنه إذا بيع العبد كله ساوي ألف درهم مثلا، وإذا بيع نصفه ساوي أقل من خمسمائة درهم، وحق الشريك نصف الألف. فهكذا في العقار الذي لا يقسم يستحق نصف قيمته جميعه، فيباع جميع العقار، ويعطي حصته من الثمن إذا طلب ذلك، وبهذا يرتفع عنه الضرر، وبهذا يتبين كمال محاسن الشريعة وما فيها من مصالح العباد في المعاش، والمعاد. والحمد لله وحده. / فأجاب: إذا باعه بثمن معلوم، كان على المشتري أداء ذلك الثمن. وإن كان البيع فاسدًا، وقد فات، كان عليه قيمة مثله. وإذا كان الشقص مشفوعا فللشريك فيه الشفعة. والله أعلم.
فأجاب: الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق، وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها، وبعد انعقاد السبب وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع، مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل. وما ذكر من إظهار صورة انفساخ المبيع، وعود الشقص إلى البائع، ثم إظهار براءة البائع ووقفه، فكل ذلك باطل، والشقص باق على ملك المشتري، وحق الشفيع ثابت فيه، إلا أن يترك تركا يسقط الشفعة. والله أعلم.
وسئل عن شقص مشفوع ثبت وقفه فأجاب: لا يبطل الوقف إلا إذا أثبت أن الشريك يملك الشقص المشفوع الموقوف، على ما في تملكه من اختلاف العلماء. وأما مجرد حكم الحاكم باستحقاق الشفعة فلا ينقض الوقف المتقدم /قبل ذلك، كما لا يزيل ملك المشتري، بل يبقي الأمر موقوفًا، فإن أخذ الشريك الشقص بالشفعة بطل التصرف الموجود فيه قبل ذلك عند من يقول به، وإلا فلا.
فأجاب: إذا كان الأمر كذلك فلا شفعة له؛ فإن المشتري الثاني وقفه فلا شفعة فيه، وشفعة الأول بطلت؛ لكونه أخر الطلب بعد علمه حتي خرجت عن ملك المشتري بوقف أو غيره، فلا شفعة. وإن كان قد أخرجه من ملكه بالبيع قبل علمه بالبيع فله الشفعة. وأما الوقف والهبة ففيه نزاع. والله أعلم. / فأجاب: لا يحل الكذب والاحتيال على إسقاط حق المسلم، ويجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن، إذا طلب الشريك ذلك، وأن منعه ذلك قدح في دينه. وعلى الحاكم أن يحكم بالشفعة إذا تبين حقيقة الأمر. / فأجاب: الحمد لله، إذا ادعوا عدم قبض الوديعة، وأنكر ذلك الدلال، فالقول قوله مع يمينه، ما لم تقم حجة شرعية على تصديق دعواهم. وإما إذا عدم منها شيء، فإن كان الدلال فرط بحيث فعل ما لم يؤذن فيه لفظًا ولا عرفا ضمن، فإذا كان من عادتهم الإيداع عند هذا الأمين، وأصحاب القماش يعلمون ذلك، ويقرونه عليه فلا ضمان على الدلالين. والله أعلم. / فأجاب: الحمد لله، هذا المال صار تحت يده أمانة، فعليه أن يحفظه حفظ الأمانات، ولا يودعه إلا لحاجة. فإن أودعه عند من يغلب على الظن حفظه له؛ كالحاكم العادل إن وجد، أو غيره بحيث لا يكون في إيداعه تفريطًا، فلا ضمان عليه. وإن فرط في إيداعه فأودعه لخائن /أو عاجز مع إمكان ألا يفعل ذلك فهو مفرط ضامن. وأما المودع إذا لم يعلم أنه وديعة عنده، ففي تضمينه قولان لأهل العلم في مذهب أحمد، وغيره. أظهرهما أنه لا ضمان عليه، وما حصل بسبب المال المشترك من المغارم التي تؤخذ ظلما، أو غير ظلم، فهي على المال جميعه لا يختص بها بعضه، وإذا غصب الوديعة غاصب فلناظر المودع أن يطالبه. وللمودع ـ أيضا ـ أن يطالبه في غيبة المودع. وأما المستحق المالك فله أن يطالب الغاصب، وله أن يطالب الناظر أو المودع، إن حصل منه تفريط. فأما بدون التفريط والعدوان فليس له المطالبة. وإذا مات هذا المودع ولم يعلم حال الوديعة: هل أخذت منه، أو أخذها، أو تلفت، فإنها تكون دينا على تركته عند جماهير العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو ظاهر نص الشافعي، وأحد القولين في مذهبه. وإذا كانت دينًا عليه وجب وفاؤها من ماله، فإن كان له مال غير الوقف وفيت منه، وإن لم يكن له مال غير الوقف ففي الوقف على المدين الذي أحاط الدين بماله نزاع مشهور بين أهل العلم. /وكذلك الوقف الذي لم يخرج عن يده حتي مات، فإنه يبطل في أحد قولي العلماء. كمالك، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وأحمد. وأما إن كان الوقف قد صح ولزم، وله مستحقون، ولم يكن صاحب الدين ممن تناوله الوقف، لم يكن وفاء الدين من ذلك،لكن إن كان ممن تناوله الوقف مثل أن يكون على الفقراء، وصاحب الدين فقير، فلا ريب أن الصرف إلى هذا الفقير الذي له دين على الواقف أولي من الصرف إلى غيره. والله أعلم.
/فأجاب: إذا كان هذا المال للمودع وجب أن يوصل إلى كل وارث حقه منه،سواء خص به المالك أولاده، أو لم يخصهم. وليس لهذا المستودع أن يخص بعض الورثة إلا بإجازة الباقين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قد أعطي كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث). ولو صرح الوصي بتخصيص بعض الورثة بالمال لم يجز ذلك بدون إجازة الباقين باتفاق الأئمة. وأما المدعي المستولدة فلا يحكم له بمجرد دعواه باتفاق المسلمين، لا سيما إن اعترف أنه أعطاه الجارية؛ فإن هذا إقرار منه بالتمليك، بل الأمة أم الولد، وأولاده منها أحرار. ولو فرض أنها أمة المدعي في نفس الأمر، وكان الواطئ يعتقد أنها أمته، فأولاده أحرار باتفاق الأئمة. وهذا المودع يحفظ نصيب هؤلاء الصغار. فإن كان في البلد حاكم عالم عادل قادر يحفظ هذا المال لهم سلمه اليه، وإن لم يجد من يحفظ المال لهم أبقاه بيده، وليتجر فيه بالمعروف، والربح لليتيم، وأجره على الله. وأم الولد لا ترث من سيدها شيئًا، لكن إذا مات أحد بنيها. والله أعلم. / فأجاب: أما إذا ملك قبضه، والاستيلاء عليه، فلا حنث عليه في ذلك، ولا إثم، وإن قصد أنه ملكه الملك المعروف، فهذا كذب، لكنه إذا اعتقد جواز هذا لدفع الظلم، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، وليستغفر اللّه من ذلك، ويتوب اليه، ولا كفارة عليه. واللّه أعلم.
فأجاب: وأما الاقتراض من مال المودع، فإن علم المودع علما اطمأن اليه قلبه أن صاحب المال راض بذلك فلا بأس بذلك.وهذا /إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة، وعلمت منزلتك عنده، كما نقل مثل ذلك عن غير واحد، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في بيوت بعض أصحابه، وكما بايع عن عثمان ـ رضي اللّه عنه ـ وهو غائب، ومتي وقع في ذلك شك لم يجز الاقتراض. وَقَـالَ: إذا اشتري إنسان سلعة؛ جملا، أو غيره، وهو مودع، فأودعه المشتري عند المودع، ثم باعه الآخر، كان البيع الثاني باطلا. وإذا سلمه المودع إلى المشتري الثاني كان لمالكه ـ وهو المشتري الأول ـ أن يطالب به المودع الذي سلمه، ويطالب به المشتري الذي تسلمه.
فأجاب: الحمد للّه، إذا ظهر أن المال الذي للمودع لم يذهب، فادعي أن الوديعة ذهبت دون ماله، فهنا يكون ضامنا للوديعة في أحد قولي العلماء؛ كقول مالك، وأحمد، في إحدى الروايتين؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ ضمن أنس بن مالك وديعة ادعي أنها ذهبت دون ماله. وأما إذا ادعي أنه ذهب جميع المال ثم ظهر كذبه، فهنا وجوب الضمان عليه أوكد. فإذا ادعي المودع صاحب الوديعة أنه طلب الوديعة منه فلم يسلمها اليه، أو أنه خان في الوديعة ولم تتلف، كان قبول قوله مع يمينه أقوي وأوكد، بل يستحق في مثل هذه الصورة التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله عن الكذب. وهذا مع كونه من أهل الذمة. وإذا شهد عليه من أهل دينه المقبولين عندهم قبلت شهادتهم في أحد قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين. وقبول شهادتهم عليه هنا أوكد. ومن لم يقبل شهادتهم فإنه يحكم بيمين المدعي عليه في مثل هذه الصورة؛ لظهور رجحان قول المدعي /في أحد قوليه أيضا. وأما من كان من أهل الذمة يؤوي أهل الحرب، أو يعاونهم على المسلمين، فإنه قد انتقض عهده، وحل دمه وماله، والواجب على ولاة الأمور ألا يتركوا مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون على المسلمين في موضع يخاف ضررهم على المسلمين، أو ينقل اليهم أولاد المسلمين؛ فإنه قد انتقض عهده، وحل دمه وماله.
فأجاب: إن تلفت بغير تفريط منه ولا عدوان لم يلزمه ضمان. وإذا ذهبت مع ماله كان أبلغ، وإذا ادعي ذلك بسبب ظاهر معلوم، كلف البينة وقبل قوله. /مَا تَقُول السَّادة الفقهَاء في إنسان يضع في بيت إنسان وديعة بيده من مدة تزيد على عشر سنين، تزيد وتنقص في صندوق غير مقفـول بقفل، وهو يعلم ذلك، فمرض المودع مرضا بلغ فيه الموت، وصاحبها حاضر عنده يبيت ويصبح، فسأله مرارًا كثيرة أن يأخذ وديعته، أو يقفل عليها بقفل، فلم يفعل، فعدمت الوديعة من حرزه ـ بغير تفريط ـ وحدها، ولم يعلم هل عدمت في المرض، أو في الصحة. فهل يجب على المودع والحالة هذه ضمانها؟ أم لا؟ وهل يجوز لصاحبها إلزام المودع بها وعسفه بالولاية؟ أم محرم عليه طلب ذلك بالولاية؟ وهل إذا أصر على ذلك يجب على ولي الأمر ـ وفقه اللّه ـ ردعه وزجره عن ذلك؟ أم لا؟ أفتونا مأجورين، إن شاء اللّه تعالى. فأجاب: الحمد للّه، إذا كان الأمر على ما وصف، وعدمت بغير تفريط ولا عدوان من المودع، وعدمت مع ماله، لم يضمنها باتفاق الأئمة. وكذلك إذا عدمت بتفريط صاحبها كما ذكر، فإنه لا ضمان على المودع سواء ضاعت وحدها، أو ضاعت مع ماله.
|