الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ومما تمس الحاجة اليه من فروع هذه القاعدة، ومن مسائل بيع الثمر قبل بَدْوِ صلاحه: ما قد عَمَّت به البلوي في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها، لاسيما دمشق؛ وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس، وأرض تصلح للزرع، وربما اشتملت مع ذلك على مساكن، /فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزرعها، أو يسكنها مع ذلك. فهذا ـ إذا كان فيها أرض وغراس ـ مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، وهو قول الكوفيين والشافعي، وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه. والقول الثاني: يجوز إذا كان الشجر قليلًا وكان البياض الثلثين أو أكثر، وكذلك إذا استكري دارًا فيها نخلات قليلة، أو شجرات عنب، ونحو ذلك. وهذا قول مالك، وعن أحمد كالقولين. قال الكرماني: قيل لأحمد: الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات؟ قال: أخاف أن يكون استأجر شجرًا لم يثمر، وكأنه لم يعجبه، أظنه: إذا أراد الشجر، فلم أفهم عن أحمد أكثر من هذا. وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس، كشاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن، روايتان. وأكثر أصوله على الجواز، كقول مالك، فإنه يقول: إذا ابتاع عبدًا وله مال، وكان مقصوده العبد: جاز، وإن كان المال مجهولًا، أو من جنس الثمن؛ ولأنه يقول: إذا ابتاع أرضًا أو شجرًا فيها ثمر، أو زرع لم يدرك: يجوز إذا كان مقصوده / الأرض والشجر. وهذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة، فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها. واشتراء النخل، ودخول الثمرة التي لم تأمن العاهة في البيع تبعًا للأصل، بمنزلة دخول ثمر النخلات والعنب في الإجارة تبعًا. وحجة الفريقين في المنع: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن بيع السنين. وبيع الثمر حتي يبدو صلاحه. كما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتي يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع. وفيهما عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتي تَشْقَح. قيل: وما تشقح؟ قال: تحمارُّ أو تصفار، ويؤكل منها. وفي رواية لمسلم: أن هذا التفسير من كلام سعيد بن المثني المحدث عن جابر. وفي الصحيحين عن جابر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقَلَة والمزابَنَة والمعاوَمَة والمخابرة. وفي رواية لهما: وعن بيع السنين بدل [المعاومة] . وفيهما ـ أيضًا ـ عن زيد ابن أبي أنيسة، عن عطاء، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وأن يشتري النخل حتي يشقه، والإشقاه :/ أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء. والمحاقلة: أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم. والمزابنة: أن يباع النخل بأوساق من التمر. والمخابرة: الثلث أو الربع، وأشباه ذلك. قال زيد: قلت لعطاء: أسمعت جابرًا يذكر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وفيهما عن أبي البختري. قال: سألت ابن عباس عن بيع النخل. فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتي يأكل منه، أو يؤكل، وحتى يوزن. فقلت: ما يوزن؟ فقال رجل عنده: حتي يحرز. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تتبايعوا الثمار حتي يبدو صلاحها، ولا تبتاعوا التمر بالتمر). وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز. قالوا: فإذا أكراه الأرض والشجر فقد باعه الثمر قبل أن يخلق. وباعه سنة أو سنتين. وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم من منع منه مطلقًا طرد العموم والقياس. ومن جوزه إذا كان قليلًا قال: الغرر اليسير يحتمل في العقود، كما لو ابتاع النخل وعليها ثمر لم يؤْبَرْ، أو أبر ولم يبْدُ صلاحه، فإنه يجوز، وإن لم يجز إفراده بالعقد. وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء / الحديث، ولكن لا يتوجه على أصل أبي حنيفة؛ لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء، ويجوز ابتياعه قبل بَدْو صلاحه. وموجب العقد: القطع في الحال، فإذا ابتاعه مع الأصل، فإنما استحق إبقاءه؛ لأن الأصل ملكه. وسنتكلم ـ إن شاء الله ـ على هذا الأصل. وذكر أبو عبيد: أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر كثير: إجماع. والقول الثالث: أنه يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر، ودخول الشجر في الإجارة مطلقًا. وهذا قول ابن عقيل، واليه مال حرب الكرماني. وهذا القول كالإجماع من السلف، وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه. فقد روي سعيد بن منصور ـ ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله ـ قال: حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم فدعا عمر غرماءه، فقبلهم أرضه سنين، وفيها النخل والشجر. وأيضًا، فإن عمر بن الخطاب ضرب الخَرَاج على أرض السواد وغيرها. فأقر الأرض التي فيها النخل والعنب في أيدي أهل الأرض، وجعل على كل جَرِيب من أَجْرِبة الأرض السوداء والبيضاء خراجًا / مقدرًا. والمشهور: أنه جعل على جريب العنب: عشرة دراهم، وعلى جريب النخل: ثمانية دراهم، وعلى جريب الرطبة: ستة دراهم، وعلى جريب الزرع: درهمًا وقَفِيزًا من طعام. والمشهور عند مالك والشافعي وأحمد: أن هذه المخارجة تجري مجري المؤاجرة. وإنما لم يؤقته لعموم المصلحة. وأن الخراج أجرة الأرض. فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر، وهو مما أجمع عليه عمر والمسلمون في زمانه وبعده؛ ولهذا تعجب أبو عبيد في [كتاب الأموال] من هذا، فرأي أن هذه المعاملة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء. وحجة ابن عقيل: أن إجارة الأرض جائزة. والحاجة اليها داعية، ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر، وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز؛ لأن المستأجر لا يتبرع بسَقْي الشجر، وقد لا يساقي عليها. وهذا كما أن مالكًا والشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة. فإذا ساقي العامل على شجر فيها بياض جَوَّزا المزارعة في ذلك البياض، تبعًا للمساقاة، فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث، كما قال في بيع الشجر تبعًا للأرض، وكذلك الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلًا /لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه، وإن كان كثيرًا والنخل قليلًا ففيه لأصحابه وجهان. هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد، وسوي بينهما في الجزء المشروط، كالثلث أو الربع، فأما إن فاضل بين الجزئين، ففيه وجهان لأصحابه. وكذلك إن فرق بينهما في عقدين وقَدَّم المساقاة، ففيه وجهان. فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجهًا واحدًا. فقد جوز المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعًا للمساقاة. فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعًا لإجارة الأرض. وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك؛ ولأن المانعين من هذا هم بين محتالٍ على جوازه، أو مرتكب لما يظن أنه حرام، أو ضار ومتضرر. فإن الكوفيين احتالوا على الجواز: تارة بأن يؤجر الأرض فقط ويبيحه ثمر الشجر، كما يقولون في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، يبيعه إياها مطلقًا، أو بشرط القطع بجميع الأجرة ويبيحه إبقاءها. وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة، والثوري، وغيرهما. وتارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة ويساقيه على الشجر بالمحاباة، مثل: أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك. ولفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب الإمام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل ـ أعني حيلة المحاباة في المساقاة ـ والمنصوص عن أحمد، وأكثر أصحابه: إبطال هذه الحيلة بعينها، كمذهب مالك، وغيره. والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعًا؛ لما روي عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك). رواه الأئمة الخمسة: أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. فنهى صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين سلف وبيع. فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع، أو مثله. وكل تبرع يجمعه إلى البيع والإجارة، مثل: الهبة، والعارية، والعرية، والمحاباة في المساقاة، والمزارعة، وغير ذلك: هي مثل القرض. فجماع معنى الحديث: ألا يجمع بين معاوضة وتبرع؛ لأن ذلك / التبرع إنما كان لأجل المعاوضة، لا تبرعًا مطلقًا. فيصير جزءًا من العوض، فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين، فإن من أقرض رجلًا ألف درهم، وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف، لم يرض بالإقراض إلا بالثمن الزائد للسلعة، والمشتري لم يرْضَ ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها. فلا هذا باع بيعًا بألف، ولا هذا أقرض قرضًا محضًا، بل الحقيقة: أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين، فهي مسألة [مد عجوة] فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف، حرم بلا تردد، وإلا خرج على الخلاف المعروف. وهكذا من اكتري الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر، أو رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء. فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها، وأن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة،فالثمرة هي جل المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربًا من اللعب والإفساد، وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر. والذين لا يحتالون، أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة، هم بين أمرين: إما أن يفعلوا ذلك للحاجة، ويعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم، كما رأينا عليه أكثر الناس. وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة، فيدخل عليهم من الضرر /والاضطرار ما لا يعلمه إلا الله. وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان، فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال التي لا تأتي به شريعة قط، فضلًا عن شريعة قال الله فيها: والغرض من هذا: أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط؛ لما فيه من الفساد الذي لا يطاق. فعلم أنه ليس بحرام، بل هو أشد من الأغلال والآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: من غير أن ينكر ذلك منكر، لم يكن إجماع أعظم من هذا، بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا. لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن أجلي عمر اليهود إلى تيماء. وقد تأول من أبطل المزارعة والمساقاة ذلك بتأويلات مردودة. مثل أن قال: كان اليهود عبيدًا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد وسيده. ومعلوم بالنقل المتواتر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم ولم يسترِقَّهم حتي أجلاهم عمر، ولم يبعهم، ولا مَكَّن أحدًا من المسلمين من استرقاق أحد منهم. ومثل أن قال:هذه معاملة مع الكفار. فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين.وهذا مردود؛ فإن خيبر قد صارت دار إسلام،وقد أجمع المسلمون على أنه يحرم في دار الإسلام بين المسلمين وأهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة. ثم إنا قد ذكرنا أن / النبي صلى الله عليه وسلم عامل بين المهاجرين والأنصار، وأن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم على ذلك،وأن الصحابة كانوا يعاملون بذلك. والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب والسنة المبيحة، أو النافية للحرج،ومع الاستصحاب، وذلك من وجوه. أحدها: أن هذه المعاملة مشاركة، ليست مثل المؤاجرة المطلقة؛ فإن النماء الحادث يحصل من منفعة أصلين: منفعة العين التي لهذا؛ كبدنه وبقره. ومنفعة العين التي لهذا؛ كأرضه وشجره، كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين وخيلهم، وكما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم ونصرهم، بخلاف الإجارة؛ فإن المقصود فيها هو العمل، أو المنفعة. فمن استؤجر لبناء، أو لخياطة، أو شق الأرض، أو بذرها، أو حصاد، فإذا وَفَّاه ذلك العمل فقد استوفي المستأجر مقصوده بالعقد، واستحق الأجير أجره؛ ولذلك يشترط في الإجارة اللازمة: أن يكون العمل مضبوطًا، كما يشترط مثل ذلك في المبيع. وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده: هو مثل منفعة أرض المالك وشجره. ليس مقصود واحد منهما استيفاء منفعة الآخر، وإنما مقصودهما جميعًا ما يتولد من اجتماع المنفعتين. فإن حصل نماء اشتركا فيه. وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته، فيشتركان في المغنم وفي المغرم، كسائر / المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم. وهذا جنس من التصرفات يخالف في حقيقته ومقصوده وحكمه الإجارة المحضة، وما فيه من شَوْب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة. فإن التصرفات العدلية في الأرض جنسان: معاوضات، ومشاركات. فالمعاوضات: كالبيع والإجارة. والمشاركات: شركة الأملاك وشركة العقد. ويدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال، واشتراك الناس في المباحات؛ كمنافع المساجد والأسواق المباحة، والطرقات، وما يحيي من الموات، أو يوجد من المباحات، واشتراك الورثة في الميراث، واشتراك الموصي لهم والموقوف عليهم في الوصية والوقف، واشتراك التجار والصناع شركة عنان أو أبدان، ونحو ذلك. وهـذان الجنسان هما منشأ الظلم. كما قال تعالى ـ عن داود عليه السلام ـ: والتصرفات الأخر هي الفضيلة؛ كالقرض، والعارية، والهبة، والوصية. وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة، أو مشاركة، فمعلوم قطعًا أن المساقاة والمزارعة، ونحوهما من جنس المشاركة، ليسا من جنس المعاوضة المحضة، والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة؛ لأنه أكل مال بالباطل. وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر؛ لأنه إن لم / ينبت الزرع فإن رب الأرض لم يأخذ منفعة الآخر؛ إذ هو لم يستوفها، ولا ملكها بالعقد، ولا هي مقصودة، بل ذهبت منفعة بدنه، كما ذهبت منفعة أرض هذا، ورب الأرض لم يحصل له شيء حتي يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئًا، بخلاف بيوع الغرر، وإجارة الغرر؛ فإن أحد المتعاوضين يأخذ شيئًا، والآخر يبقي تحت الخطر، فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما. وهذا المعني منتفٍ في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة، لا في غرر، ولا في غير غرر. ومن تأمل هذا تبين له مأخذ هذه الأصول، وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة، وأعرف في العقول، وأبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض، بل ومن جواز كثير من البيوع والإجارات المجمع عليها، حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد. وإنما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار، من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول؛ لما فيها من عمل بعوض. وليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرًا، كعمل الشريكين في المال المشترك، وعمل الشريكين في شركة الأبدان، وكاشتراك الغانمين في المغانم، ونحو ذلك مما لا يعد ولا يحصي، نعم، لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله، كان هذا إجارة. / الوجه الثاني: أن هذه من جنس المضاربة. فإنها عين تنمو بالعمل عليها، فجاز العمل عليها ببعض نمائها، كالدراهم والدنانير، والمضاربة، جوزها الفقهاء كلهم، اتباعًا لما جاء فيها عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولقد كان أحمد يري أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة، لثبوتها بالنص، فتجعل أصلاً يقاس عليه، وإن خالف فيهما من خالف. وقياس كل منهما على الآخر صحيح. فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويهما. فإن قيل: الربح في المضاربة ليس من عين الأصل، بل الأصل يذهب ويجيء بدله. فالمال المقسم حصل بنفس العمل، بخلاف الثمر والزرع، فإنه من نفس الأصل. قيل: هذا الفرق فرق في الصورة، وليس له تأثير شرعي. فإنا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل، ومنفعة رأس المال؛ ولهذا يرد إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح، كما أن العامل يبقي بنفسه التي هي نظير الدراهم. وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولي من إضافته إلى منفعة مال هذا. ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر، إنما حصلت بغير عقد لما / أقرض أبو موسي الأشعري لابني عمر من مال بيت المال، فحملاه إلى أبيهما. فطلب عمر جميع الربح؛ لأنه رأي ذلك كالغَصّب؛ حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين، والمال مشترك. وأحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك، وقال له ابنه عبد اللّه: الضمان كان علينا، فيكون الربح لنا. فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة. وإذا كان أصل المضاربة الذي قد اعتمدوا عليه، راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة، فأخذ مثل الدراهم يجري مجري عينها؛ ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده القرض مَنِيحة، يقال: منيحة وَرِق. ويقول الناس: أَعِرّني دراهمك. يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية، والمقترض انتفع بها وردها. وسموا المضاربة قراضا؛ لأنها في المقابلات نظير القرض في التبرعات. ويقال ـ أيضا ـ: لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثراً لكان اقتضاؤه / لتجويز المزارعة دون المضاربة أولي من العكس؛ لأن النماء إذا حصل مع بقاء الأصلين كان أولي بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما. وإن قيل: الزرع نماء الأرض دون البدن. فقد يقال: والربح نماء العامل، دون الدراهم أو بالعكس. وكل هذا باطل، بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء والهواء ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد. ثم لو سُلِّم أن بينها وبين المضاربة فرقا، فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة؛ لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل، ويشترط أن يكون معلوماً، والأجرة مضمونة في الذمة أو عين معينة. وهنا ليس المقصود إلا النماء، ولا يشترط معرفة العمل، والأجرة ليست عيناً ولا شيئاً في الذمة، وإنما هي بعض ما يحصل من النماء؛ ولهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد، كما تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا، أو أجرة معلومة في الذمة. وهذا بَيِّنٌ في الغاية. فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جداً، والفرق الذي بينهما وبين المضاربة ضعيف، والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع والعقل، وكان لابد من إلحاقها بأحد الأصلين، فإلحاقها بما هي به أشبه أولي. وهذا أجلي من أن يحتاج فيه إلى إطناب. الوجه الثالث: أن نقول: لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص./ فإنها على ثلاث مراتب. أحدها: أن يقال: لكل من بذل نفعا بعوض. فيدخل في ذلك المهر. كما في قوله تعالى: المرتبة الثانية: الإجارة التي هي جعالة، وهو أن يكون النفع غير معلوم، لكن العوض مضموناً، فيكون عقداً جائزاً غير لازم، مثل أن يقول: من رد على عبدي فله كذا. فقد يرده من بعيد أو قريب. الثالثة: الإجارة الخاصة. وهي أن يستأجر عينا، أو يستأجره على عمل في الذمة، بحيث تكون المنفعة معلومة، فيكون الأجر معلوماً والإجارة لازمة. وهذه الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه. والفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة، أو قالوا: [باب الإجارة] أرادوا هذا المعني. فيقال: المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوهن من المشاركات على نماء يحصل، من قال: هي إجارة بالمعني الأعم أو العام، فقد صدق. ومن قال: هي إجارة بالمعني الخاص فقد أخطأ. وإذا كانت إجارة / بالمعني العام التي هي الجعالة. فهنالك إن كان العوض شيئا مضموناً من عين أو دين، فلابد أن يكون معلوما، وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءاً شائعا فيه.كما لو قال الأمير في الغزو: من دلنا على حصن كذا فله منه كذا، فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال، مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه. فالشركة أولي وأحري. ويسلك في هذا طريقة أخري. فيقال: الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة الخاصة يشترط فيها ألا يكون العوض غرراً، قياساً على الثمن. فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة، فلا تشبه هذه الإجارة؛ لما تقدم، فلا يجوز إلحاقها بها، فتبقي على الأصل المبيح. فتحرير المسألة: أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة. فإن أراد الخاصة، لم يصح. وإن أراد العامة، فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم؟ فإن ذكر قياساً بين له الفرق الذي لا يخفي على غير فقيه، فضلا عن الفقيه، ولن يجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا. فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحل. ويسلك في هـذا طريقة أخري. وهو قياس العكس. وهو أن / يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل؛ لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل.فيقال:المعني الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة:منتفٍ في باب المزارعة ونحوها؛ لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر. فيكون في معني بيع الغرر المقتضي أكل المال بالباطل، أو ما يذكر من هذا الجنس. وهذه المعاني منتفية في الفرع. فإذا لم يكن للتحريم موجب إلا كذا ـ وهو منتفٍ ـ فلا تحريم. وأما الأحاديث ـ حديث رافع بن خديج وغيره ـ فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن نهيا عما فعل هو والصحابة في عهده وبعده، بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه. فعن رافع بن خديج قال: كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمي لسيد الأرض. قـال: مما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك؟ فنهينا. فأما الذهب والوَرِق فلم يكن يومئذ. رواه البخاري. وفي رواية له. قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلا. وكان أحدنا يكري أرضه. فيقول: هذه القطعة لي. وهذه لك، فربما أَخْرجتْ ذه، ولم تخرج ذه. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية له:فربما أخرجت هذه كذا، ولم تخرج ذه، فنهينا عن ذلك. ولم نُنْهَ عن الوَرِق. وفي صحيح مسلم عن رافع قال: كنا أكثر أهل / الأنصار حقلا. وكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه. فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه،فنهانا عن ذلك. وأما الوَرِق فلم ينهنا.وفي مسلم ـ أيضا ـ عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؛ قال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويهلك هذا،ويسلم هذا. فلم يكن للناس كراء إلا هذا؛ فلذلك زجر الناس عنه. فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به. فهذا رافع بن خديج ـ الذي عليه مدار الحديث ـ يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل. وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة، وحرموا نظيره في المضاربة. فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز. وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات. وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين. فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم، فحرمها اللّه الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله محرمًا على عباده. فإذا كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن وبقي الآخر تحت الخطر، لم يجز؛ ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الثمر قبل بدو صلاحه./ فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد الشريكين مكانًا معينًا خرجا عن موجب الشركة؛ فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء. فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب، ودخله الخطر ومعني القمار، كما ذكره رافع في قوله: فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فيفوز أحدهما ويخيب الآخر. وهذا معني القمار. وأخبر رافع: أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا. وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة ومعني القمار، وأن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود، لا إلى ما تكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة. وسأشير ـ إن شاء اللّه ـ إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتي يبدو صلاحها، ورافع أعلم بنهى النبي صلى الله عليه وسلم : عن أي شيء وقع؟ وهذا ـ واللّه أعلم ـ هو الذي انتهي عنه عبد اللّه بن عمر، فإنه قال لما حدثه رافع: قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وبشيء من التبن. فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين، وكان ابن عمر يفعله؛ لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتي بلغه النهي. يدل على ذلك: أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائماً ويفتي به، ويفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء، وأهل بيته ـ أيضا ـ بعد حديث رافع. فروي حرب الكرماني قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم / بن راهويه، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت كليب بن وائل قال: أتيت ابن عمر، فقلت: أتاني رجل له أرض وماء، وليس له بذر ولا بقر، فأخذتها بالنصف، فبذرت فيها بذري، وعملت فيها ببقري فناصفته؟ قال: حسن. وقال: حدثنا ابن أخي حزم،حدثنا يحيي بن سعيد، حدثنا سعيد بن عبــيد، سمعت سالم بن عبد الله ـ وأتاه رجل ـ فقال:الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول:أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك،فما أخرج اللّه منه فلك منه كذا،ولي منه كذا؟ قال:لا بأس به،ونحن نصنعه. وهكذا أخبر أقارب رافع. ففي البخاري عن رافع قال: حدثني عمومتي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض. فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقيل لرافع: فكيف بالدينار والدرهم؟ فقال: ليس به بأس بالدينار والدرهم. وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه، لما فيه من المخاطرة. وعن أسيد بن ظهير قال: كان أحدنا إذا استغني عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف. ويشترط ثلاث جداول والقُصَارَة وما سقي الربيع. وكان العيش إذ ذاك شديداً، وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء اللّه، ويصيب منها منفعة. فأتانا رافع بن خديج فقال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم / ينهاكم عن الحقل، ويقول: (من استغني عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع) رواه أحمد وابن ماجه. وروي أبو داود قول النبي صلى الله عليه وسلم ، زاد أحمد (وينهاكم عن المزابنة. والمزابنة: أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل، فيأتيه الرجل فيقول: أخذته بكذا وكذا وَسَقاً من تمر. والقُصَارَة: ما سقط من السنبل). وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص، وجابر. فأخبر سعد: أن أصحاب المزارع في زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع، وما سعد بالماء مما حول البئر. فجاؤوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاختصموا في ذلك، فنهاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك، وقال: (اكروا بالذهب والفضة) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة، وأن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين. وعن جابر ـ رضي اللّه عنه ـ قال: كنا نخابر على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنصيب من القِصْرِي ومن كذا. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، أو فليدعها) رواه مسلم. فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها، والعلة التي نهى من أجلها. وإذا / كان قد جاء في بعض طرق الحديث: أنه نهى عن كراء المزارع مطلقا، فالتعريف للكراء المعهود بينهم. وإذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تكروا المزارع) فإنما أراد الكراء الذي يعـرفونه، كما فهموه من كلامه، وهم أعلم بمقصوده. وكما جاء مفسراً عنه: أنه رخص في غير ذلك الكراء. ومما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها. واللفظ ـ وإن كان في نفسه مطلقاً ـ فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال، أو عقب حكاية حال ونحو ذلك، فإنه كثيراً ما يكون مقيداً بمثل حال المخاطب. كما لو قال المريض للطبيب: إن به حرارة. قال له: لا تأكل الدسم. فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال. وذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمي معهود، أو حال يقتضيه، انصرف اليه. وإن كان نكرة، كالمتبايعين إذا قال أحدهما: بعتك بعشرة دراهم، فإنها مطلقة في اللفظ، ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم. فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ [الكراء] إلا لذلك الذي كانوا يفعلونه، ثم خوطبوا به، لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه. وكان ذلك من باب التخصيص العرفي، كلفظ [الدابة] إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس، أو ذوات الحافر. فقال: لا تأتني بدابة، لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم لهم كان مقيداً /بالعرف والسؤال وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج، وعن ظهير بن رافع؛ قال: دعاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: (ما تصنعون بمحَاقِلِكم؟) قلت: نؤاجرها بما على الربيع، وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال: (لا تفعلوا. ازْرَعوها أو أَزْرِعوها، أو أمسكوها). فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه، وأما المزارعة المحضة، فلم يتناولها النهي، ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء؛ لأنها ـ واللّه أعلم ـ عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد؛ فإن الكراء اسم لما وجب فيه أجرة معلومة، إما عَيْن، وإما دَيْن. فإن كان دينا في الذمة مضموناً فهو جائز. وكذلك إن كان عينا من غير الزرع، وأما إن كان عينا من الزرع لم يجز. فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق،بل هو شركة محضة؛ إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض بجزء من الزرع بأولي من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر،وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا.فإنما هو كراء بالمعني العام الذي تقدم بيانه. فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا، ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز،وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه، ولم يتعرض للشركة؛ لأنها جنس آخر. /بقي أن يقال: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، وإلا فليمسكها) أمر ـ إذا لم يفعل واحداً من الزرع والمنيحة ـ أن يمسكها. وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم. فيقال: الأمر بهذا أمر ندب واستحباب، لا أمر إيجاب، أو كان أمر إيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد. وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية، قال في الآنية التي كانوا يطبخونها فيها: (أهريقوا ما فيها،/ واكسروها). وقال صلى الله عليه وسلم في آنية أهل الكتاب ـ حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني ـ: (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فارْحَضُوها بالماء)؛ وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدًا إلا بترك ما يقاربها من المباح. كما قيل: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوي حتي يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال) كما أنها أحياناً لا تترك المعصية إلا بتدريج، لا تتركها جملة. فهذا يقع تارة، وهذا يقع تارة؛ ولهذا يوجد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن خشي منه النفرة عن الطاعة، الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم، ولمن وثق بإيمانه وصبره، النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل؛ ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه / وصبره ـ من فعل المستحبات البدنية والمالية، كالخروج عن جميع ماله، مثل أبي بكر الصديق ـ مالا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك، كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب، فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته. ثم قال: (يذهب أحدكم فيخرج ماله، ثم يجلس كَلاًّ على الناس). يدل على ذلك: ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة، عن ثابت بن الضحاك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة. وأمر بالمؤاجرة. وقال: (لا بأس بها)، وما ذكرناه من رواية سعد ابن أبي وقاص: أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين، وقال: (اكروا بالذهب والفضة) وكذلك فهمته الصحابة. فإن رافع بن خديج قد روي ذلك وأخبر أنه: لا بأس بكرائها بالذهب والفضة. وكذلك فقهاء الصحابة؛ كزيد بن ثابت، وابن عباس. ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار. قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة؟ فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها. قال: أي عمرو، إني أعطيهم وأعينهم، وإن أعلمهم أخبرني ـ يعني ابن عباس ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنه؛ ولكن قال: (إن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجًا معلوما). وعن ابن عباس ـ أيضا ـ: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة،/ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض. رواه مسلم مجملاً والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وقد أخبر طاوس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعاهم إلى الأفضل، وهو التبرع، قال: وأنا أعينهم وأعطيهم. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق الذي منه واجب، وهو ترك الربا والغرر. ومنه مستحب، كالعارية والقرض. ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به، فقال: (لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما) وقال: (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، أو ليمسكها) فكان الأخ هو الممنوح. ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمنحهم، لا سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غني. فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة، كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر، وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم، حيث عاملوا عليها المهاجرين. وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة، كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفَّت؛ ليطعموا الجياع؛ لأن إطعامهم واجب. فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة / ليجودوا بالتبرع، ولم يأمرهم بالتبرع عينا، كما نهاهم عن الادخار. فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله؛ إذ لا يترك بطالا، وقد ينهى النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال؛ لما في ذلك من منفعة المنهي، كما نهاهم في بعض المغازي... وأما ما رواه جابر من نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، فهذه هي المخابرة التي نهى عنها. واللام لتعريف العهد. ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك. يبين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال: كنا لا نري بالخبر بأساً حتي كان عام أول. فزعم رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، فتركناه من أجله. فأخبر ابن عمر أن رافعاً روي النهي عن الخبر. وقد تقدم معني حديث رافع. قال أبو عبيد: الخِبر ـ بكسر الخاء ـ بمعني المخابرة. والمخابرة: المزارعة بالنصف والثلث والربع، وأقل وأكثر. وكان أبو عبيد يقول: لهذا سمي الأكَّارُ خبيراً؛ لأنه يخابر على الأرض، والمخابرة: هي المؤَاكَرة. وقد قال بعضهم: أصل هذا من خيبر؛ لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقرها في أيديهم على النصف، فقيل: خابرهم، أي عاملهم في خيبر. وليس هذا بشيء؛ فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط، بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته. وإنما روي حديث المخابرة رافع بن خديج، /وجابر. وقد فسرا ما كانوا يفعلونه. والخبير: هو الفلاح، سمي بذلك؛ لأنه يخبر الأرض. وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة. فقالوا: [المخابرة] هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل، و[المزارعة] على أن يكون البذر من المالك. قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، لا المزارعة. وهذا ـ أيضا ـ ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما في الصحيح من أنه: نهى عن المزارعة كما نهى عن المخابر، وكما نهى عن كراء الأرض. وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه؛ وإنما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظاً وفعلا، ولأجل القرينة اللفظية، وهي لام العهد وسؤال السائل، وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة: هي المزارعة، والاشتقاق يدل على ذلك.
والذين جَوَّزوا المزارعة، منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك. وقالوا: هذه هي المزارعة. فأما إن كان البذر من العامل لم/ يجز. وهذا إحدي الروايتين عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي، حيث يجوزون المزارعة. وحجة هؤلاء: قياسها على المضاربة، وبذلك احتج أحمد أيضا. قال الكرماني: قيل لأبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل: رجل دفع أرضه إلى الأكَّار على الثلث أو الربع ؟ قال: لا بأس بذلك، إذا كان البذر من رب الأرض والبقر والحديد والعمل من الأكار، يذهب فيه مذهب المضاربة. ووجه ذلك: أن البذر هو أصل الزرع، كما أن المال هو أصل الربح. فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل، ليكون من أحدهما العمل، ومن الآخر الأصل. والرواية الثانية عنه: لا يشترط ذلك، بل يجوز أن يكون البذر من العامل، وقد نقل عنه جماهير أصحابه ـ أكثر من عشرين نفسا ـ أنه يجوز أن يكري أرضه بالثلث أو الربع، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر. فقالت طائفة من أصحابه ـ كالقاضي أبي يعلى ـ إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك، فإن كان على وجه الإجارة جاز، وإن كان على وجه المزارعة لم يجز، وجعلوا هذا التفريق تقريراً / لنصوصه؛ لأنهم رأوا في عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها، ورأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم، من أنه لا يجوز في المزارعة أن يكون البذر من المالك كالمضاربة. ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة، وباب الإجارة. وقال آخرون ـ منهم أبو الخطاب ـ معني قوله في رواية الجماعة: يجوز كراء الأرض ببعض الخارج منها، أراد به: المزارعة والعمل من الأكَّار. قال أبو الخطاب ومتبعوه: فعلى هذه الرواية: إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها، وإن كان من صاحب الأرض، فهو مستأجر للعامل بما شرط له. قال: فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره، وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط. وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاري ببعض الخارج هو المزارعة،على أن يبذر الأكار:هو الصحيح،ولا يحتمل الفقه إلا هذا،أو أن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولي.وجواز هذه المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرًا ونظرًا.وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه،واختيار طائفة من أصحابه. والقول الأول ـ قول من اشترط أن يبذر رب الأرض،وقول / من فرق بين أن يكون إجارة أو مزارعة ـ هو في الضعف نظير من سوي بين الإجارة الخاصة والمزارعة،أو أضعف. أما بيان نص أحمد: فهو أنه إنما جَوَّز المؤاجرة ببعض الزرع، استدلالا بقصة معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر، ومعاملته لهم إنما كانت مزارعة، لم تكن بلفظ الإجارة. فمن الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ إجارة، ويمنع فعله باللفظ المشهور. وأيضا، فقد ثبت في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم، ولم يدفع اليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذرا، فإذا كانت المعالمة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم، فكيف يحتجُّ بها أحمد على المزارعة، ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة، ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل ؟! والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال لليهود: (نُقِرٌّكم فيها ما أقركم اللّه) لم يشترط مدة معلومة، حتي يقال: كانت إجارة لازمة، لكن أحمد حيث قال ـ في إحدي الروايتين ـ: إنه يشترط كون البذر من المالك، فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياساً على المضاربة، وإذا أفتي العالم بقول لحجة ولها معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض / الراجح، ثم لما أفتي بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالاً بمزارعة خيبر، فلابد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل، وإلا لم يصح الاستدلال. فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل، كما فرق بينهما طائفة من أصحابه، فمستند هذا الفرق ليس مأخذاً شرعيا؛ فإن أحمد لا يري اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات، كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة، ويمنعونها بلفظ المزارعة، وكذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعًا حالاً بلفظ البيع، ويمنعونه بلفظ السلم؛ لأنه يصير سلماً حالا، ونصوص أحمد وأصوله تأبي هذا، كما قدمناه عنه في مسألة صِيغ العقود؛ فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا بما يحمل على الألفاظ، كما تشهد به أجوبته في الأَيْمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات، وإن كان هو قد فرق بينهما، كما فرق طائفة من أصحابه، فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة، كالرواية المانعة من الأمرين. وأما الدليل على جواز ذلك: فالسنة، والإجماع، والقياس. أما السنة: فما تقدم من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر على أن يَعْتملوها من أموالهم، ولم يدفع اليهم بذرا، وكما عامل الأنصار المهاجرين على أن البذر من عندهم. قال حرب الكرماني:/ حدثنا محمد بن نصر، حدثنا حسان بن إبراهيم، عن حماد بن سلمة، عن يحيي بن إسماعيل بن حكيم؛ أن عمر بن الخطاب أَجْلي أهل نجران وأهل فدك وأهل خيبر، واستعمل يعلى بن منية، فأعطي العنب والنخل على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث، وأعطي البياض ـ يعني بياض الأرض ـ على أن كان البذر والبقر والحديد من عند عمر، فلعمر الثلثان ولهم الثلث، وإن كان منهم فلعمر الشطر، ولهم الشطر. فهذا عمر ـ رضي اللّه عنه ـ ويعلى بن منية عامله، صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، قد عمل في خلافته بتجويز كلا الأمرين: أن يكون البذر من رب الأرض، وأن يكون من العامل. وقـال حرب: حدثنـا أبـو معن، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن الحارث بن حصيرة الأزدي، عن صخر بن الوليد، عن عمرو بن صليع بن محارب، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال: إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها، وفعل. فدعاه فقال: ما هذه الأرض التي أخذت؟ فقال: أرض أخذتها أكري أنهارها وأعمرها وأزرعها. فما أخرج اللّه من شيء فلي النصف وله النصف، فقال: لا بأس بهذا. فظاهره: أن البذر من عنده، ولم ينهه على عن ذلك، ويكفي إطلاق سؤاله، وإطلاق على الجواب. وأما القياس: فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة، ليست / من الإجارة الخاصة. وإن جعلت إجارة فهي من الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة، والسبق والرمي. وعلى التقديرين: فيجوز أن يكون البذر منهما؛ وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع إلى ربها؛ كالثمن في المضاربة، بل البذر يتلف كما تتلف المنافع، وإنما ترجع الأرض، أو بدن البقرة والعامل. فلو كان البذر مثل رأس المال، لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه. ثم يقتسمان الفضل، وليس الأمر كذلك، بل يشتركان في جميع الزرع. فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائها، وبدن العامل والبقر وأكثر الحرث والبذر يذهب كما تذهب المنافع،وكما تذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب، فيستحيل زرعاً. واللّه ـ سبحانه ـ يخلق الزرع من نفس الحب والتراب والماء والهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين، بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب، والحب يستحيل فلا يبقي، بل يفلقه اللّه ويحيله كما يحيل أجزاء الماء والهواء، وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان، والمعدن والنبات. ولما وقع ما وقع من رأي كثير من الفهاء، اعتقدوا أن الحَبَّ والنوي في الزرع والشجر: هو الأصل، والباقي تبع، حتي قضوا في مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوي والحب مع قلة قيمته، ولرب / الأرض أجرة أرضه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قضي بضد هذا، حيث قال: (من زرع في أرضِ قومٍ بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) فأخذ أحمد وغيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث. وبعض من أخذ به يري أنه خلاف القياس، وأنه من صور الاستحسان، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم، وهو أن الزرع تبع للبذر، والشجر تبع للنوي. وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة؛ فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء؛ ولهذا سمي اللّه النساء حَرّثا في قوله تعالى: فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء: أصول باقية، وهي الأرض وبدن العامل والبقر والحديد. ومنافع فانية. وأجزاء فانية أيضا، وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره. فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء، فتكون الخيرة اليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء، ويشتركان على أي وجه شاءا، ما لم يفض إلى بعض ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الغرر، أو الربا، وأكل المال بالباطل؛ ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة، مثل أن يدفع دابته، أو سفينته، أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما.
فصل وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه /ذلك يجمع اليسر في هذه الأبواب. فإنك تجد كثيراً ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة، أو بضَرْب من القياس المعنوي أو الشبهي. فرضي اللّه عن أحمد حيث يقول: ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل، والقياس. وقال ـ أيضاًـ: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. ثم هذا التمسك يفضي إلى ما لا يمكن اتباعه البتة. ومن هذا الباب: بيع الديون، دين السلم وغيره، وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك. ولولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا.
|