الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقوله في الحديث: (في الغنم في سائمتها، إذا كانت أربعين، ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت، ففيها شاتان، إلى مائتين، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة، ففيها ثلاث شياه. فإذا زادت على ثلاثمائة، ففي كل مائة شاة) . هذا متفق عليه في صدقة الغنم ـ أيضًا ـ والضأن والمعز سواء. والسوم شرط في الزكاة، إلا عند مالك، والليث -كما تقدم- فإنهما يوجبان الزكاة في غير السائمة، ولا خلاف بين الفقهاء أن الضأن والمعز يجمعان في الزكاة، وكذلك الإبل على اختلاف أصنافها، وكذلك البقر والجواميس. /واختلفوا فيما إذا كان بعض الجنس أرفع من بعض. فقيل: يأخذ من أيها شاء، وقيل: من الوسط.
وأما [صدقة البقر]، فقد ثبت عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن، أمره أن يأخذ صدقة البقر من كل ثلاثين تبيعًا أو تبيعة. ومن كل أربعين مسنة. وأن يأخذ الجزية من كل حالم دينارًا. رواه أحمد، والنسائي، والترمذي، عن مسروق عنه. وكذلك في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم، ورواه مالك في موطئه، عن طاوس عن معاذ، وحكي أبو عبيد الإجماع عليه، وجماهير العلماء على أنه ليس فيما دون الثلاثين شيء. وحكي عن سعيد والزهري أن في الخمس شاة كالإبل. ومـن شـرطها أن تكـون سائمـة، كما في حـديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عـن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في العوامل صدقة). رواه أبو داود. وروي عن علي، ومعاذ، وجابر أنهم قالوا: لا صدقة في البقر العوامل. ومالك، والليث يقولان: فيها الصدقة. /ويخرج في الثلاثين الذكر. وفي الأربعين الأنثي، فإن أخرج ذكرًا، هل يجزيه؟ قولان. قال ابن القاسم: يجزيه، وأشهب قال: لا يجزيه وهو مذهب أحمد، وجماعة من العلماء. فإن كانت كلها ذكورًا، أخرج منها. وإذا بلغت مائة وعشرين، خُير رب المال، بين ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة، والتبيع: الذي له سنة، ودخل في الثانية. والبقرة المسنة مالها سنتان.
و[الجواميس] بمنزلة البقر، حكي ابن المنذر فيه الإجماع. وأما [بقر الوحش]، فلا زكاة فيها عند الجمهور. وقال بعضهم: فيها الزكاة. فإن تولد من الوحشي والأهلي، فقال الشافعي: لا زكاة. وقال أحمد: تزكي. ومالك يفرق بين الأمهات والآباء، فإن كانت الأمهات أهلية أخرج الزكاة، وإلا فلا. وصغار كل صنف من جميع الماشية تبع يعد مع الكبار، ولكن لا يؤخذ إلا من الوسط، فإن كان الجميع صغارًا، فقيل: يأخذ منها، وقيل: يشتري كبارًا.
والخلطاء في الماشـية ـ وهو إذا كان مال كل منهما متميزًا عن الآخرـ فإن لم يتمـيز، فهما شريكان، وإذا كانا خليطين، زكيا زكاة المال الواحد، مثل أن يكون لكل منهما أربعـون، فعليهـما في الخلطـة شـاة واحـدة، ويترادان قيمتها. وتعتبر الخلطـة بثـلاثـة شـروط. وقيـل: بشـرطين. وقيـل: بشـرط واحـد: وهـو الدلو، والحوض، والمراح. والمبيت، والراعي، والفحل. وقيل: بالراعي وحده؛ لأنه به يجتمعان ويجتمعون في غير ذلك. وهل من شرط الخلطة: أن يكون لكل منهما نصابًا أم لا؟ بالأول قال مالك. وقال غيره: لا يعتبر ذلك.
إذا ملك ماشية فتوالدت، فإن كانت الأمهات نصابًا، زكي الأولاد تبعًا، وبنى على حول الأمهات عند الجمهور. وإن كانت دون النصاب /فتوالدت ـ ولو قبل الحول بيوم، وتم النصاب ـ أخرج الزكاة عند مالك وبني الأولاد على حول الأمهات. وإن باع النصاب بجنسه بني الثاني على حول الأول، وإن اشتري بنصاب من العين نصابًا من الماشية، وكان الأول لم يتم له حول، بني الماشية على حول العين، في أحد القولين.
وتفرقته زكاة كل بلد في موضعه، فزكاة الشام في الشام، وزكاة مصر في مصر، وهل يجوز نقلها لمصلحة فتنقل من الشام إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيرها؟ فيه قولان لأهل العلم. قال مالك: لا بأس بنقلها للحاجة، وإذا لم يكن أهل البلد مستحقين، فتنقل بلا خلاف. ولما نقل معاذ بن جبل الصدقة من اليمن إلى المدينة، أنكر عمر، فقال: ما بعثتك جابيًا. فقال: ما وجدت آخذًا. فعند الشافعي، وأحمد: لا تنقل، وعند مالك: يجوز نقلها.
وأما [قسمة الصدقات]، فقد بين الله ذلك في القرآن بقوله: قال الإمام أبو جعفر الطبري: عامة أهل العلم يقولون: للمتولي قسمتها، ووضعها في أي الأصناف الثمانية شاء، وإنما سمي الله الأصناف الثمانية: إعلامًا منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها، لا إيجابًا لقسمتها بين الأصناف الثمانية، وروي بإسناده عن حذيفة، وعن ابن عباس أنهما قالا: إن شئت جعلته في صنف أو صنفين أو ثلاثة. قال: وروي عن عمر أنه قال: أيما صنف أعطيته أجزأك، وروي عنه أنه كان عمر يأخذ الفرض في الصدقة، فيجعله في الصنف الواحد، وهو قول أبي العالية، وميمون بن مهران، وإبراهيم النخعي. قال: وكان بعض المتأخرين يقول: عليه وضعها في ستة أصناف؛ لأنه يقسمها، فسقط العامل، والمؤلفة سقطوا. قال: والصواب أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما: سد خلة المسلمين. والثاني: معونة الإسلام وتقويته. فما كان معونة للإسلام يعطي منه الغني والفقير، كالمجاهد، ونحوه، ومن هذا الباب يعطي المؤلفة، وما كان في سد خلة المسلمين.
وقال شيخ الإسلام: الأصْل الثّاني: الزكَاة وهم ـ أيضًا ـ متبعون فيها لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، آخذين بأوسط الأقوال الثلاثة، أو بأحسنها في السائمة، فأخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق ـ رضي الله عنه ـ ومتابعته، المتضمن: أن في الإبل الكثيرة في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة؛ لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين، فإنه متقدم على هذا؛ لأن استعمال عمرو بن حزم على نَجْران كان قبل موته بمدة، وأما كتاب الصديق، فإنه صلى الله عليه وسلم كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر. وتوسطوا في المعشرات بين أهل الحجاز وأهل العراق، فإن أهل /العراق ـ كأبي حنيفة ـ يوجبون العشر في كل ما أخرجت الأرض إلا القَصَب ونحوه في القليل والكثير منه، بناء على أن العشر حق الأرض كالخراج؛ ولهذا لا يجمعون بين العشر والخراج. وأهل الحجاز لا يوجبون العشر إلا في النصاب المقدر بخمسة أوسق، ووافقهم عليه أبو يوسف ومحمد، ولا يوجبون من الثمار إلا في التمر والزبيب، وفي الزروع في الأقوات، ولا يوجبون في عسل ولا غيره. والشافعي على مذهب أهل الحجاز. وأما أحمد وغيره من فقهاء الحديث، فيوافق في النصاب قول أهل الحجاز؛ لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا يوجبون الزكاة في الخضراوات؛ لما في الترك من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه والأثر عنه، لكن يوجبها في الحبوب والثمار التي تدخر، وإن لم تكن تمرًا أو زبيبًا ـ كالفستق والبندق ـ جعلاً للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول في الماشية والجرين، فيفرق بين الخضراوات وبين المدخرات. وقد يلحق بالموسق الموزونات، كالقطن على إحدي الروايتين؛ لما في ذلك من الآثار عن الصحابة ـ رضي الله عنهم. ويوجبها في العسل؛ لما فيه من الآثار التي جمعها هو، وإن كان غيره لم تبلغه إلا من طريق ضعيفة، وتسوية بين جنس ما أنزله الله من /السماء وما أخرجه من الأرض. ويجمعون بين العشر والخراج؛ لأن العشر حق الزرع، والخراج حق الأرض. وصاحبا أبي حنيفة قولهما هو قول أحمد أو قريب منه. وأما مقدار الصاع والمد، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصاع خمسة أرطال وثلث، والمد ربعه، وهذا قول أهل الحجاز في الأطعمة والمياه، وقصة مالك مع أبي يوسف فيه مشهورة، وهو قول الشافعي وكثير من أصحاب أحمد أو أكثرهم. والثاني: أنه ثمانية أرطال، والمد ربعه، وهو قول أهل العراق في الجميع. والقول الثالث: أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث، وصاع الطهارة ثمانية أرطال، كما جاء بكل واحد منهما الأثر. فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر، هو ثلثا صاع الغسل والوضوء، وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب لمن تأمل الأخبار الواردة في ذلك. /ومن أصولها: أن أبا حنيفة أوسع في إيجابها من غيره، فإنه يوجب في الخيل السائمة المشتملة على الآثار، ويوجبها في جميع أنواع الذهب والفضة من الحلي المباح وغيره، ويجعل الركاز المعدن وغيره، فيوجب فيه الخمس، لكنه لا يوجب ما سوي صدقة الفطر والعشر إلا على مكلف، ويجوز الاحتيال لإسقاطها، واختلف أصحابه: هل هو مكروه أم لا؟ فكرهه محمد، ولم يكرهه أبو يوسف، وأما مالك والشافعي، فاتفقا على أنه لا يشترط لها التكليف لما في ذلك من الآثار الكثيرة عن الصحابة. ولم يوجبها في الخيل، ولا في الحلي المباح، ولا في الخارج، إلا ما تقدم ذكره، وحرم مالك الاحتيال لإسقاطها، وأوجبها مع الحيلة، وكره الشافعي الحيلة في إسقاطها. وأما أحمد، فهو في الوجوب بين أبي حنيفة ومالك، كما تقدم في المعشرات، وهو يوجبها في مال المكلف وغير المكلف. واختلف قوله في الحلي المباح، وإن كان المنصور عند أصحابه: أنه لا يجب. وقوله في الاحتيال كقول مالك: يحرم الاحتيال لسقوطها،/ويوجبها مع الحيلة ، كما دلت عليه سورة [ن] وغيرها من الدلائل. والأئمة الأربعة وسائر الأمة ـ إلا من شذ ـ متفقون على وجوبها في عرض التجارة، سواء كان التاجر مقيمًا أو مسافرًا، وسواء كان متربصًا ـ وهو الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر ـ أو مديرًا كالتجار الذين في الحوانيت، سواء كانت التجارة بَزا من جديد، أو لبيس، أو طعامًا من قوت أو فاكهة، أو أدم أو غير ذلك، أو كانت آنية كالفخار ونحوه، أو حيوانًا من رقيق أو خيل، أو بغال، أو حمير، أو غنم معلوفة، أو غير ذلك، فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة، كما أن الحيوانات الماشية هي أغلب الأموال الظاهرة.
ولابد في الزكاة من الملك. واختلفوا في اليد، فلهم في زكاة ما ليس في اليد كالدين ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تجب في كل دين وكل عين، وإن لم تكن تحت يد /صاحبها كالمغصوب والضال، والدين المجحود، وعلى معسر أو مماطل، وأنه يجب تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه، كالدين على الموسر، وهذا أحد قولي الشافعي وهو أقواهما.
وللناس في إخراج القيم في الزكاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجزئ بكل حال. كما قاله أبو حنيفة. والثاني: لا يجزئ بحال، كما قاله الشافعي. والثالث: أنه لا يجزئ إلا عند الحاجة، مثل من تجب عليه شاة في الإبل وليست عنده، ومثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس. وهذا هو المنصوص عن أحمد صريحًا، فإنه منع من إخراج القيم، وجوزه في مواضع للحاجة، لكن من أصحابه من نقل عنه جوازه. فجعلوا عنه في إخراج القيمة روايتين. واختاروا المنع؛ لأنه المشهور عنه، كقول الشافعي. وهذا القول أعدل الأقوال، كما ذكرنا مثله في الصلاة، فإن الأدلة الموجبة للعين نصًا وقياسًا، كسائر أدلة الوجوب. ومعلوم أن مصلحة وجوب العين، قد يعارضها أحيانًا في القيمة من المصلحة الراجحة، وفي العين من المشقة المنفية شرعًا.
/ فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة فيها للعلماء أقوال: قيل: يجب تزكية السنين الماضية، سواء كان الزوج موسرًا أو معسرًا، كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد نصره طائفة من أصحابهما. وقيل: يجب مع يساره، وتمكنها من قبضها، دون ما إذا لم يمكن تمكينه من القبض، كالقول الآخر في مذهبهما. وقيل: تجب لسنة واحدة، كقول مالك، وقول في مذهب أحمد. وقيل: لا تجب بحال، كقول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد. /وأضعف الأقوال: من يوجبها للسنين الماضية، حتى مع العجز عن قبضه، فإن هذا القـول باطل، فأما أن يجب لهم ما يأخذونه مع أنه لم يحصل له شيء، فهذا ممتنع في الشـريعـة، ثم إذا طـال الزمـان كانت الزكـاة أكثر من المال، ثم إذا نقص النصاب، وقيل: إن الزكـاة تجـب في عـين النصاب، لم يعلم الواجب إلا بحساب طويل، يمتنع إتيان الشريعة به. وأقرب الأقوال قول من لا يوجب فيه شيئًا بحال حتى يحول عليه الحول، أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض، فهذا القول له وجه، وهذا وجه، وهذا قول أبي حنيفة، وهذا قول مالك، وكلاهما قيل به في مذهب أحمد، والله أعلم.
فأجاب: إذا كانت راعية أكثر العام، مثل أن يشتري لها ثلاثة أشهر أو أربعة، فإنه يزكيها، هذا أظهر قولي العلماء. /وقال ـ رحمه الله: إذا كانت الغنم أربعين صغارًا، أو كبارًا، وجبت فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، وإن كانت أقل من أربعين، فحال الحول وهي أربعون، ففي هذا نزاع، والأحوط أداء الزكاة. والله أعلم.
فأجاب: هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أن ابتداء الحول حين صارت أربعين، كقول الشافعي. والثاني: أن ابتداء الحول من حين ملك الأُمهات، كقول مالك. والله أعلم.
/ فأجاب: إن كان المطلوب هو مقدار ما فرضه الله على من تجب عليه الزكاة اختصوا بأدائه، وإن كان المطلوب فوق الواجب على سبيل الظلم اشترك فيه الجميع، بحسب أموالهم. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، النصاب خمسة أوسق، والوسق ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وصاع النبي صلى الله عليه وسلم قَدَّره الأئمة لما بنيت بغداد بخمسة أرطال وثلث بالرطل العراقي إذ ذاك، فيكون ألفًا وستمائة رطل بالعراقي. وكان الرطل العراقي إذ ذاك تسعين مثقالاً ـ مائة وثمانية وعشرين درهمًا، وأربعة أسباع درهم. ولكن زيد فيه بعد ذلك حتى صار مائة وثلاثين، ثم زيد فيه حتى صارمائة وأربعة وأربعين، فظن بعض متأخري الفقهاء أن هذا أو هذا هو الرطل الذي قَدَّره به الأئمة غلطًا منهم. وإذا كان كذلك، فمقداره بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم /ثلاثمائة رطل، واثنان وأربعون رطل، وستة أسباع رطل. وستة أسباع الرطل: هو أربعمائة درهم وثمانية وعشرون، وأربعة أسباع، وهو ثلثا رطل، وأربعة أسباع أوقية. ومن ظن من الفقهاء المتأخرين أن الرطل البغدادي: مائة وثلاثون درهمًا، زاد في كل رطل بغدادي مثقالاً، وهو درهم وثلاثة أسباع درهم، فيزيد ألفين وخمسة أسباع درهم، فيصير النصاب على قوله: ثلاثمائة وستة وأربعين رطلاً، وثلاثمائة درهم، وأربعة عشر وسبعي درهم وهو نصف رطل، وسبعا أوقية. والعشر على من يملك الزرع، فإذا زارع الفلاح، ففي صحة المزارعة قولان للعلماء. فمن اعتقد جواز المزارعة أخذ نصيبه، وأعطي الفلاح نصيبه، وعلى كل منهما زكاة نصيبه، ومن لم يصحح المزارعة جعل الزرع كله لصاحب الحَبِ، فإذا كان هو الفلاح استحق الزرع كله، ولم يكن للمالك إلا أجرة الأرض، والزكاة حينئذ على الفلاح. ولم يقل أحد من المسلمين: إن المقاسمة جائزة، والعشر كله على الفلاح، بل من قال: العشر على الفلاح، قال: ليس للمالك في الزرع شيء، ولا المقطع، ولا غيرهما، فمن ظن أن العشر على الفلاح /مع جواز المقاسمة؛ فقد خالف إجماع المسلمين. والعمل في بلاد الشام عند المسلمين على جواز المزارعة، كما مضت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، وسواء كان البذر من المالك، أو من العامل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، على أن يعمروها من أموالهم، فكان البذر من عندهم، وهذا هو الذي اتفق عليه الصحابة، وعليه عمل المسلمين في عامة بلاد الإسلام في زمن نبيهم، وإلى اليوم. فمن كان يعامل بالمزارعة؛ كان عليه زكاة نصيبهم، ومن كان يتقلد قول من يبطل هذه المزارعة، ويري أنه لا يستحق من الزرع شيئًا، وأنه ليس له عند الفلاح إلا الأجرة، وأنه إذا أخذ المقاسمة بغير اختيار الفلاح كان ظالمًا، آكلاً للحرام، فعليه أن يعطي الزرع للفلاح، ويعرفه أنه لا يستحق عليه إلا أجرة المثل، فإن طابت نفس الفلاح بعد هذا بأن يقاسمه ويؤدي الزكاة؛ كان الفلاح حينئذ متفضلاً عليه بطيب نفسه. ومن المعلوم أن الفلاحين لو علموا هذا لما طابت بذلك نفس أكثرهم، فهذا حقيقة هذه المسألة على قول الطائفتين. والله أعلم.
/وقال ـ رحمه الله: وأما [العشر]، فهو عند جمهور العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم على من نبت الزرع على ملكه، كما قال الله ـ تعالى ـ: فمن أخرج الله له الحَبَّ فعليه العشر، فإذا استأجر أرضًا ليزرعها، فالعشر على المستأجر عند هؤلاء العلماء كلهم، وكذلك عند أبي يوسف ومحمد. وأبو حنيفة يقول: العشر على المؤجر. وإذا زارع أرضًا على النصف، فما حصل للمالك فعليه عشره، وما حصل للعامل فعليه عشره، على كل واحد منهما عشر ما أخرجه الله له. /ومن أعير أرضًا، أو أقطعها، أو كانت موقوفة على عينه، فازدرع فيها زرعًا، فعليه عشره، وإن آجرها، فالعشر على المستأجر، وإن زارعها، فالعشر بينهما. وأصل هؤلاء الأئمة: أن العشر حق الزرع؛ ولهذا كان عندهم يجتمع العشر والخراج؛ لأن العشر حق الزرع، ومستحقه أهل الزكاة، والخراج حق الزرع ومستحقه أهل الفيء، فهما حقان لمستحقين بسببين مختلفين، فاجتمعا، كما لو قتل مسلمًا خطأ فعليه الدية لأهله، والكفارة حق الله وكما لو قتل صيدًا مملوكًا، وهو محرم فعليه البدل لمالكه، وعليه الجزاء حقًاالله. وأبو حنيفة يقول: العشر حق الأرض، فلا يجتمع عليها حقان، ومما احتج به الجمهور: أن الخراج يجب في الأرض التي يمكن أن تزرع سواء زرعت أو لم تزرع، وأما العشر فلا يجب إلا في الزرع. والحديث المرفوع: (لا يجتمع العشر والخراج) كذب باتفاق أهل الحديث.
/ فأجاب: أما العنب الذي لا يصير زبيبًا، فإذا أخرج عنه زبيبًا بقدر عشره لو كان يصير زبيبًا جاز ـ وهو أفضل ـ وأجزأه ذلك بلا ريب، ولا يتعين على صاحب المال الإخراج من عين المال، لا في هذه الصورة ولا غيرها، بل من كان معه ذهب أو فضة أو عرض تجارة، أو له حَبٌّ أو ثمر يجب فيه العشر، أو ماشية تجب فيها الزكاة، وأخرج مقدار الواجب المنصوص من غير ذلك المال أجزأه، فكيف في هذه الصورة؟! وإن أخرج العشر عنبًا ففيه قولان في مذهب أحمد: أحدهما: وهو المنصوص عنه: أنه لا يجزئه. والثاني: يجزئه، وهو قول القاضي أبي يعلى، وهذا قول أكثر العلماء، وهو أظهر. /وأما العنب الذي يصير زبيبًا لكنه قطعه قبل أن يصير زبيبًا، فهنا يخرج زبيبًا بلا ريب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث سعاته فَيَخْرُصُون النَّخْل والكَرْم، ويطالب أهله بمقدار الزكاة يابسًاـ وإن كان أهل الثمار يأكلون كثيرًا منها رطبًا- ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخَارِصِينَ أن يَدَعُوا لأهل الأموال الثلث، أو الربع، لا يؤخذ منه عشر، ويقول: (إذا خَرَصْتُم فدعوا الثلثَ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) وفي رواية: (فإن في المال العَرِيَّة، والوَطِيَّة والسَابِلَة) يعني: أن صاحب المال يتبرع بما يعريه من النخل لمن يأكله وعليه ضيف يطؤون حديقته يطعمهم، ويطعم السَابِلَةَ وهم أبناء السبيل، وهذا الإسقاط مذهب الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث. وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء، وكذلك في الأولى. وأما الثانية، فما علمت فيها نزاعًا، فإن حق أهل السهمان لا يسقط باختيار قطعه رطبًا، إذا كان ييبس. نعم لو باع عنبه أو رُطَبَة بعد بدو صلاحه، فقد نص أحمد في هذه الصورة على أنه يجزئه إخراج عُشْر الثمن، ولا يحتاج إلى إخراج عنب أو زبيب، فإن في إخراج القيمة نزاعًا في مذهبه، ونصوصه الكثيرة تدل على أنه يجوز ذلك للحاجة، ولا يجوز بدون الحاجة، والمشهور عند كثير من أصحابه: لا يجوز مطلقًا، وخرجت عنه رواية بالجواز مطلقًا، ونصوصه الصريحة إنما هي بالفرق. /ومثل هذا كثير في مذهبه، ومذهب الشافعي، وغيرهما من الأئمة قد ينص على مسألتين متشابهتين بجوابين مختلفين، ويخرج بعض أصحابه جواب كل واحدة إلى الأخرى، ويكون الصحيح إقرار نصوصه بالفرق بين المسألتين. كما قد نص على أن الوصية للقاتل تجوز بعد الجرح، ونص على أن المُدْبر إذا قتل سيده بطل التدبير، فمن أصحابه من خرج في المسألتين روايتين. ومنهم من قال: بل إذا قتل بعد الوصية بطلت الوصية، كما يمنع قتل الوارث لمورثه أن يرثه، وأما إذا أوصي له بعد الجرح فهنا الوصية صحيحة، فإنه رضي بها بعد جرحه. ونظائر هذا كثيرة.
فأجاب: ما نبت على ملك الإنسان فعليه عشره، فالأرض المقطعة إذا كانت المقاسمة نصفين، فعلى الفلاح تعشير نصفه، وعلى المقطع تعشير نصفه، هذا على القول الصحيح الذي عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا. وهو قول من قال: إن المزارعة صحيحة، سواء كان البذر من المالك، أو من العامل. /وأما من قال: إن المزارعة باطلة، فعنده لا يستحق المقطع إلا أجرة المثل، والزرع كله لرب البذر العامل، وحينئذ فالعشر كله على العامل، فإن أراد المقطع أن يأخذ نصف المغل مقاسمة، ويجعل العشر كله على صاحب النصف الآخر؛ لم يكن له هذا باتفاق العلماء والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، نعم ما يثبت على ملكه فعليه عشره، سواء كان مقطعًا، أو مستأجرًا، أو مالكًا، أو مستعيرًا، والله أْعلم.
فأجاب: أما الزكاة في المساقاة والمزارعة، فهذا مبني على أصل، /وهو أن المزارعة والمساقاة هل هي جائزة أم لا؟ على قولين مشهورين: أحدهما: قول من قال: إنها لا تجوز، واعتقدوا أنها نوع من الإجارة بعوض مجهول، ثم من هؤلاء من أبطلها مطلقًا ـ كأبي حنيفة ـ ومنهم من استثني ما تدعو إليه الحاجة، فيجوز المساقاة للحاجة؛ لأن الشجر لا يمكن إجازته، بخلاف الأرض، وجوزوا المزارعة على الأرض التي فيها شجر تبعًا للمساقاة، إما مطلقًا كقول الشافعي، وإما إذا كان البياض قدر الثلث فما دونه، كقول مالك. ثم منهم من جوز المساقاة مطلقًا، كقول مالك، والشافعي في القديم، وفي الجديد: قصر الجواز على النخل، والعنب. والقول الثاني: قول من يجوز المساقاة والمزارعة، ويقول: إن هذه مشاركة، وهي جنس غير جنس الإجارة التي يشترط فيها قدر النفع والأجرة، فإن العمل في هذه العقود ليس بمقصود، بل المقصود هو الثمر الذي يشتركان فيه، ولكن هذا شارك بنفع ماله، وهذا بنفع بدنه، وهكذا المضاربة. فعلى هذا، فإذا افترق أصحاب هذه العقود؛ وجب للعامل قسط مثله من الربح، إما ثلث الربح، وإما نصفه، ولم تجب أجرة المثل للعامل، وهذا القول هو الصواب المقطوع به، وعليه إجماع الصحابة. /والقول بجواز المساقاة والمزارعة، قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم. وهو مذهب الليث بن سعد، وابن أبي ليلي، وأبي يوسف، ومحمد، وفقهاء الحديث ـ كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، والخطابي وغيرهم. والصواب: أن المزارعة أَحَلُّ من الإجارة بثمن مسمى؛ لأنها أقرب إلى العدل، وأبعد عن الخطر؛ فإن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من العقود، منه ما يدخل في جنس الربا المحرم في القرآن، ومنه ما يدخل في جنس الميسر الذي هو القمار، وبيع الغرر هو من نوع القمار والميسر، فالأجرة والثمن إذا كانت غررا مثل ما لم يوصف ولم ير ولم يعلم جنسه؛ كان ذلك غَرَرًا وقمارًا. ومعلوم أن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالأرض بحصول الزرع له، فإذا أعطي الأجرة المسماة؛ كان المؤجر قد حصل له مقصوده بيقين. وأما المستأجر فلا يدري هل يحصل له الزرع أم لا؟ بخلاف المزارعة، فإنهما يشتركان في المغنم وفي الحرمان ـ كما في المضاربة ـ فإن حصل شيء اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان، وكان ذهاب نفع مال هذا في مقابلة ذهاب نفع بدن هذا. /ولهذا لم يجز أن يشترط لأحدهما شيء مقدر من النماء، لا في المضاربة، ولا في المساقاة، ولا في المزارعة؛ لأن ذلك مخالف للعدل، إذ قد يحصل لأحدهما شيء، والآخر لا يحصل له شيء، وهذا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي روي فيها: أنه نهى عن المخابرة، أو عن كراء الأرض، أو عن المزارعة، كحديث رافع بن خديج وغيره، فإن ذلك قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يعملون عليها بزرع بقعة معينة من الأرض للمالك؛ ولهذا قال الليث بن سعد: إن الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أمرا إذا نظر فيه ذو علم بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز. فأما المزارعة، فجائزة بلا ريب سواء كان البذر من المالك أو العامل أو منهما، وسواء كان بلفظ الإجارة أو المزارعة أو غير ذلك. هذا أصح الأقوال في هذه المسألة. وكذلك كل ما كان من هذا الجنس، مثل أن يدفع دابته، أو سفينته إلى من يكتسب عليها، والربح بينهما، أو من يدفع ماشيته أو نخله لمن يقوم عليها، والصوف، واللبن، والولد، والعسل بينهما. فإذا عرف هذان القولان في المزارعة، فمن قال من العلماء: إن /المزارعة باطلة، قال: الزرع كله لرب الأرض، إذا كان البذر منه، أو للعامل إذا كان البذر منه. ومن قال: له الزرع؛ كان عليه العشر، وأما من قال: إن رب الأرض يستحق جزءًا مشاعًا من الزرع، فإن عليه عشره باتفاق الأئمة، ولم يقل أحد من المسلمين: إن رب الأرض يقاسم العامل، ويكون العشر كله على العامل، فمن قال هذا، فقد خالف إجماع المسلمين.
|