الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد وأما أبو حنيفة، فأصوله تقتضي أنه لا يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه؛ ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال؛ ولهذا منع بيع العين المؤجرة. وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته. وإنما جَوَّز الإجارة المؤخرة؛ لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع، أو الانتفاع به، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر، وسائر الشروط التي يبطلها غيره. ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ؛ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب، أو إعْسَار، أو نحوهما. ولا يبطل بالشروط / الفاسدة مطلقاً. وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر، وهو عنده موضع استحسان. والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضي العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص. فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع، ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع، حتي منع الإجارة المؤخرة؛ لأن موجبها ـ وهو القبض ـ لا يلي العقد، ولا يجوز ـ أيضا ـ ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق؛ لما فيه من السنة والمعني، لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه، وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء، ونحو ذلك. ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها، ولا أن يتزوج عليها ولا يتسري، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها. وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه، كالجمال ونحوه. وهو ممن يري فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، كاشتراط الأجل، والطلاق، ونكاح الشِّغَار. بخلاف فساد المهر ونحوه. وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي؛ كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها ألا ينقلها ولا / يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح. فيقولون: كل شرط ينافي مقتضي العقد فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين. وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي. فقد يوافقونه في الأصل، ويستثنون للمعارض أكثر مما استثني، كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل، ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض. وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر،ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر. وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة. وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني. فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها. فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى اله عليه وسلم جالس. فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى اله عليه وسلم فقال: (خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق) / ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى اله عليه وسلم في الناس. فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (أما بعد، ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل،وإن كان مائة شرط. قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، وفي رواية للبخاري: (اشتريها فأعتقيها، وليشترطوا ما شاؤوا). فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبي صلى اله عليه وسلم: (الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط). وفي لفظ: (شرط الله أحق وأوثق). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر: أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها. فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى اله عليه وسلم. فقال: (لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق). وفي مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها. فأبي أهلها إلا أن يكون لهم الولاء. فذكرت ذلك لرسول الله صلى اله عليه وسلم، فقال: (لا يمنعك ذلك. فإنما الولاء لمن أعتق). ولهم من هذا الحديث حجتان: إحداهما: قوله: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل). فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث، ولا في / الإجماع، فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع. فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع. ومن قال بالقياس ـ وهو الجمهور ـ قالوا: إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله، فهو في كتاب الله. والحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء؛ لأن العلة فيه كونه مخالفًا لمقتضي العقد؛ وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع. فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات. وهذا نكتة القاعدة. وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع؛ ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي ـ في أحد القولين ـ لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها. فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر، متابعة لعبد الله ابن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج. ويقول: اليس حسبكم سنة نبيكم؟ وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى: قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله، وزيادة / في الدين. وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا: ذلك منسوخ. كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى اله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية، أو قالوا: هذا عام أو مطلق، فيخص بالشرط الذي في كتاب الله. واحتجوا ـ أيضا ـ بحديث يروي في حكاية عن أبي حنيفة، وابن أبي ليلي، وشريك: أن النبي صلى اله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث. وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء. وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه، وأجمع الفقهاء المعروفـون ـ من غير خلاف أعلمـه من غيرهم ـ أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبًا أو صانعًا، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك ـ شرط صحيح. وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضي العقد، أو لم يرد به نص. وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى اله عليه وسلم والصحابة مالا تجده عند غيره من الأئمة. فقال بذلك، وبما في معناه قياسا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص، فقد يضعفه، أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس. وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة والتي سنذكرها في تصحيح الشروط؛ كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقًا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة. وأحمد ـ في إحدي الروايتين عنه ـ يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا، ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه. ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق. فإذا كان لها مقتضي عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط، والنقص منه بالشرط، مالم يتضمن مخالفة الشرع. كما سأذكره ـ إن شاء الله. فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكني الدار، ونحو ذلك، إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك / الغير، اتباعًا لحديث جابر لما باع النبي صلى اله عليه وسلم جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة. ويجوز ـ أيضا ـ للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما، اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة واشترطت عليه خدمة النبي صلى اله عليه وسلم ما عاش. ويجوز ـ على عامة أقواله ـ أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها؛ كما في حديث صفية، وكما فعله أنس بن مالك وغيره، وإن لم ترض المرأة؛ كأنه أعتقها واستثني منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح؛ إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة. ويجوز ـ أيضا ـ للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته وغلته جميعا لنفسه لمدة حياته؛ كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك، وروي فيه حديث مرسل عن النبي صلى اله عليه وسلم. وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه؟ فيه عنه روايتان. ويجوز ـ أيضا ـ على قياس قوله ـ استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة، والصداق وفدية الخلع، والصلح على القصاص، ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك، سواء كان بإسقاط كالعتق، أو بتمليك بعوض كالبيع. أو بغير عوض كالهبة. / ويجوز أحمد ـ أيضا ـ في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح؛ لما في الصحيحين عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) ومن قال بهذا الحديث قال: إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة.وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح. فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق، فتشترط ألا تسافر معه ولا تنتقل من دارها. وتزيد على ما يملكه بالإطلاق،فتشترط أن تكون مخلية به،فلا يتزوج عليها ولا يَتَسَرَّي. ويجوز ـ على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه ـ أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كاليسار والجمال، ونحو ذلك، ويملك الفسخ بفواته. وهو من أشد الناس قولاً بفسخ النكاح وانفساخه، فيجوز فسخه بالعيب، كما لو تزوج عليها، وقد شرطت عليه ألا يتزوج عليها، وبالتدليس كما لو ظنها حرة فظهرت أمة، وبالخلف في الصفة على الصحيح، كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر. وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت، واشتراط الطلاق. وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة، ونحو ذلك؟ فيه عنه روايتان. إحداهما: نعم؛ كنكاح الشِّغار. /وهو رواية عن مالك. والثانية: لا ينفسخ؛ لأنه تابع وهو عقد مفرد؛ كقول أبي حنيفة والشافعي. وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلاً أو تركًا في المبيع مما هو مقصود للبائع، أو للمبيع نفسه. وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق. وقد يروي ذلك عنه، لكن الأول أكثر في كلامه. ففي جامع الخلال عن أبي طالب: سألت أحمد عن رجل اشتري جارية فشرط أن يتسري بها: تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسري بها، ولا تكون للخدمة؟ قال: لا بأس به. وقال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل اشتري من رجل جارية، فقال له: إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني؟ قال: لا بأس به، ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط؛ لأن ابن مسعود قال لرجل: لا تقربنها ولأحد فيها شرط. وقال حنبل: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ أن ابن مسعود اشتري جارية من امرأته، وشرط لها: إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به. فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب. فقال: لا تنكحها وفيها شرط. وقال حنبل: قال عَمِّي: كل شرط في فرج فهو على هذا. والشرط الواحد في البيع جائز، إلا أن عمر كره لابن مسعود / أن يطأها؛ لأنه شرط لامرأته الذي شرط. فكره عمر أن يطأها وفيها شرط. وقال الكرماني: سألت أحمد عن رجل اشتري جارية وشرط لأهلها ألا يبيعها ولا يهبها؟ فكأنه رخص فيه. ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن، فلا يقربها. يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب، حين قال لعبد الله بن مسعود. فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول، كالمقايلة. وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط، وربما تأولوا قوله: [جائز] أي العقد جائز، وبقية نصوصه تصرح بأن مراده [الشرط] أيضا. واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة. وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه، ولا يهبه، أو يتسراها ونحو ذلك، مما فيه تعيين لمصرف واحد؛ كما روي عمر بن شبة في أخبار عثمان: أنه اشتري من صهيب دارًا، وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده. وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة. فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع، وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، جوز ـ أيضا ـ استثناء بعض التصرفات. وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضي العقد. قيل له:/ أينافي مقتضي العقد المطلق، أو مقتضي العقد مطلقا؟ فإن أراد الأول، فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني، لم يسلم له. وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد؛ كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد. فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم ينافِ مقصوده. هذا القول هو الصحيح: بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار، مع الاستصحاب، وعدم الدليل المنافي. أما الكتاب: فقال الله تعالى: ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن الهدنة لا تصح إلا مؤقتة، فقوله ـ مع أنه مخالف لأصول أحمد ـ يرده القرآن. وترده سنة رسول الله صلى اله عليه وسلم في أكثر المعاهدين، فإنه لم / يوقت معهم وقتا. فأما من كان عهده مؤقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله: وفي الصحيحين عن ابن عباس، عن أبي سفيان بن حرب ـ لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى اله عليه وسلم: هل يغدر؟ ـ فقال: لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها: قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة.وقال هرقل في جوابه: سألتــك هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر،وكذلك الرسل لا تغدر.فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين. وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج) فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها. وروى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي، ثم غدر. ورجل باع حرًا، ثم أكل ثمنه. ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يُعْطه أجره) فذم الغادر. وكل من شرط شرطًا ثم نقضه فقد غدر. فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق/ والعقود،وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك. ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع، لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبًا؛ كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقا. وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس، ونحو ذلك. وكذلك الصدق في الحديث مأمور به، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض، ويجب السكوت أو التعريض. وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط؛ إذ لا معني للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به. فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
وقد روى أبو داود، والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: / قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حـلالا، والمسلمون على شروطهم) وكثير بن زيد قال يحيي بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخري. وقد روى الترمذي، والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي ابن ماجه منه اللفظ الأول، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة. وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به. فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه. وقد روي أبو بكر البزار ـ أيضا ـ عن محمد بن عبد الرحمن ابن السلماني، عـن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس على شروطهم ما وافقت الحق). وهذه الأسانيد ـ وإن كان الواحد منها ضعيفا ـ فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا. وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب؛ فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما / أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله. وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله،وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط مالم يكن واجبًا بدونه. فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبًا ولا حرامًا، وعدم الإيجاب ليس نفيًا للإيجاب،حتي يكون المشترط مناقضًا للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب مالم يكن واجبًا؛ فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض مالم يكن واجبا؛ ويباح ـ أيضا ـ لكل منهما مالم يكن مباحًا، ويحرم على كل منهما مالم يكن حرامًا. وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين. وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رَهْنا،أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛فإنه يجب،ويحرم ويباح بهذا الشرط مالم يكن كذلك. وهذا المعنى هو الذي أَوْهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال: لأنها إما أن تبيح حرامًا، أو تحرم حلالًا، أو توجب ساقطًا، أو تسقط واجبًا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع. وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتي توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حرامًا بدون الشرط، فالشرط لا يبيحه؛ كالربا، وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح، أو ملك يمين. فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة، فإنه جائز. وكذلك الولاء،/ فقد نهى النبي صلى اله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته. وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد. وقال صلى اله عليه وسلم: (من ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، أو انتساب المعتق إلى غير مولاه. فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما. وأما ما كان مباحًا بدون الشرط، فالشرط يوجبه؛ كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء؛ فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبًا، وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالًا وحرامًا مطلقًا فالشرط لا يغيره. وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحْهُ مطلقًا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله. وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقًا، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة / والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب. وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب. فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع. وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: مقاطع الحقوق عند الشروط. وأما الاعتبار فمن وجوه: وأيضا، فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين ـ إن شاء الله ـ معني حديث عائشة، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم. فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالًا، وإما عفوًا؛ كالأعيان التي لم تحرم. / وغالب ما يســتدل به على أن الأصــل في الأعيــان عــدم التحريم من النصــوص العامة والأقيســة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل ـ أيضا ـ به على عدم تحريم العقود والشــروط فيها؛ سواء سمي ذلك حلالا، أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنــا وغيرهم؛ فإن ما ذكــره الله تعالى في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع؛ منه ما ســببه تحريم الأعيان، ومنه ما سببه تحريم الأفعال. كما كانوا يحرمــون على المحــرم لــبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أَحْمَسِيّا، ويأمرونه بالتعري، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مَجْبِيَّة ويحرمون الطواف بالصفا والمروة، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع. فأمرهم الله ـ سبحانه ـ في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم. فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة، وإن لم يثبت حِلُّها بشرع خاص، كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمروا بالوفاء بها. وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم، وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله، ولا يحرم إلا ما حرمه الله؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين مالم يأذن به الله، وحرموا مالم يحرمه الله، فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل / شرعي، كنا محرمين مالم يحرمه الله، بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله؛ فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين مالم يأذن به. فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر. فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع؛ كالعتق والصدقة. فإن قيل: العقود تغير ما كان مشروعا؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال، فعقد عقدًا أزاله عن تلك الحال، فقد غير ما كان مشروعا، بخلاف الأعيان التي لم تحرم، فإنه لا تغير في إباحتها. فيقال: لا فرق بينهما؛ وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكًا لشخص، أو لا تكون. فإن كانت ملكًا فانتقالها بالبيع أو غيره لا يغيرها، وهو من باب العقود. وإن لم تكن ملكًا فملكها بالاستيلاء ونحوه، هو فعل من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود. وأيضا، فإنها قبل الذكاة محرمة.فالذكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال. فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والذكاة،الأصل فيها الحل،وإن غير حكم العين. فكذلك أفعالنا في الأملاك بالعقود /ونحوها،الأصل فيها الحل.وإن غيرت حكم الملك له. وسبب ذلك: أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء. كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة. فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه، لم يحرم علينا رفعه. فمن اشتري عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره؛ لإثباته سبب ذلك، وهو الملك الثابت بالبيع. ومالم يحرم الشارع عليه رفع ذلك، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب، مالم يحرمه الشارع عليه. كمن أعطي رجلا مالًا، فالأصل ألا يحرم عليه التصرف فيه. وإن كان مزيلًا للملك الذي أثبته المعطي مالم يمنع منه مانع. وهذه نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية ـ من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو ـ لم يشرعها الشارع شرعًا جزئيًا، وإنما شرعها شرعًا كليًا، مثل قوله: وإنما تَوَهَّم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام، وليس كذلك؛ فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته، وهو الشارع. وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق اليه، فكذلك إخراجه؛ إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدًا، مثل أن يقول: هذا الثوب بِعْهُ أو لا تبعه، أو هِبْه أو لا تهبْه، وإنما حكم على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين. فتدبر هذا، وفَرِّق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق، وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد. وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا، إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم. وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذًا، ولإيجاب العقل أيضا. / / فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود. فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا. والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق؛ فإن هذا لا ينافي مقتضي العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصودًا للعقد. فإن اشْتِراء العبد لعتقه يقصد كثيرًا. فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه؛ كما بينه النبي صلى اله عليه وسلم بقوله: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوًا. وإذا كان منافيًا لمقصود الشارع كان مخالفًا لله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغوًا، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؛ لأنه عَمَلٌ مقصود للناس يحتاجون اليه؛ إذ لولا حاجتهم اليه لما فعلوه؛ فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة اليه. ولم يثبت تحريمه، فيباح؛ لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج. وأيضا، فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال: لا تحل ولا تصح، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص؛ من نص، أو إجماع، أو / قياس عند الجمهور. كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال: لا تحل وتصح حتي يدل على حلها دليل سمعي، وإن كان عامًا، أو يقال: تصح ولا تحرم، إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام. والقول الأول باطل؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم. فقال ـ سبحانه ـ في آية الربا: فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث ـ أهل الحجاز ـ على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله، مضت، ولم يؤمروا باستئنافها؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فليس ما عقدوه بغير شرع بدون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء. قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به القبض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ، لا قبل القبض ولا بعده، ولم أَرَ الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سَوَّوْا بين الإسلام قبل الدخول وبعده؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها. كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما، وإن كان بغير نكاح. فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودًا في نفسه ـ وإن لم يقترن بالآخرـ أقرهم / الشارع على ذلك، بخلاف الأموال؛ فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع؛ لعدم حصول المقصود. فتبين بذلك أن مقصـود العباد مــن المعامــلات لا يبطلـه الشارع إلا مع التحريم؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل.
|