الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وأما إذا قال: إن فعلته فعلى إذَن عتق عبدي. فاتفقوا على أنه لا يقع العتق بمجرد الفعل، لكن يجب عليه العتق. وهو مذهب مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة. وقيل: لا يجب عليه شيء، وهو قول طائفة من التابعين، وقول داود، وابن حزم. وقيل: عليه كفارة يمين، وهو قول الصحابة وجمهور التابعين، ومذهب الشافعي وأحمد، وهو مخير بين التكفير والإعتاق على المشهور عنهما. وقيل: يجب التكفير عينًا؛ ولم ينقل عن الصحابة شيء في الحلف بالطلاق فيما بلغنا بعد كثرة البحث، وتتبع كتب المتقدمين والمتأخرين، بل المنقول عنهم إما ضعيف؛ بل كذب من جهة النقل، وإما ألا يكون دليلا على الحلف بالطلاق؛ فإن الناس لم يكونوا يحلفون بالطلاق على عهدهم، ولكن نقل عن طائفة منهم في الحلف بالعتق أن يجزيه كفارة يمين، كما إذا قال: إن فعلت كذا فعبدي حر. وقد نقل عن بعض هؤلاء نقيض هذا القول. وأنه يعتق. وقد تكلمنا على أسانيد ذلك في غير هذا الموضع. ومن قال من الصحابة والتابعين: إنه لا يقع العتق، فإنه لا يقع الطلاق بطريق الأولى، كما صرح بذلك من صرح به من التابعين. وبعض العلماء ظن أن الطلاق لا نزاع فيه فاضطره ذلك إلى أن عكس موجب الدليل فقال: يقع الطلاق، دون العتاق! وقد بسط الكلام على هذه المسائل، وبين ما فيها من مذاهب الصحابة والتابعين لهم /بإحسان، والأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء المسلمين، وحجة كل قوم في غير هذا الموضع. وتنازع العلماء فيما إذا حلف بالله أو الطلاق أو الظهار أو الحرام أو النذر أنه لا يفعل شيئا ففعله ناسيًا ليمينه، أو جاهلاً بأنه المحلوف عليه: فهل يحنث، كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأحد القولين للشافعي وإحدى الروايات عن أحمد؟ أو لا يحنث بحال، كقول المكيين، والقول الآخر للشافعي والرواية الثانية عن أحمد؟ أو يفرق بين اليمين بالطلاق والعتاق وغيرهما، كالرواية الثالثة عن أحمد، وهو اختيار القاضي والخرقي وغيرهما من أصحاب أحمد، والقفال من أصحاب الشافعي؟ وكذلك لو اعتقد أن امرأته بانت بفعل المحلوف عليه، ثم تبين له أنها لم تبن؟ ففيه قولان. وكذلك إذا حلف بالطلاق أو غيره على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه؟ ففيه ثلاثة أقوال كما ذكر، ولو حلف على شيء يشك فيه ثم تبين صدقه؟ ففيه قولان. عند مالك يقع، وعند الأكثرين لا يقع، وهو المشهور من مذهب أحمد. والمنصوص عنه في رواية حرب التوقف في المسألة، فيخرج على وجهين، كما إذا حلف ليفعلن اليوم كذا ومضى اليوم، أوشك في فعله هل يحنث؟ على وجهين. واتفقوا على أنه يرجع في اليمين إلى نية الحالف إذا احتملها لفظه، ولم يخالف الظاهر، أو خالفه وكان مظلومًا. وتنازعوا: هل يرجع إلى سبب / اليمين وسياقها وما هيجها؟ على قولين: فمذهب المدنيين كمالك وأحمد وغيره أنه يرجع إلى ذلك، والمعروف في مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يرجع، لكن في مسائلهما ما يقتضي خلاف ذلك. وإن كان السبب أعم من اليمين عمل به عند من يري السبب. وإن كان خاصًا: فهل يقصر اليمين عليه؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره. وإن حلف على معين يعتقده على صفة فتبين بخلافها؟ ففيه أيضًا قولان. وكذلك لو طلق امرأته بصفة؛ ثم تبين بخلافها مثل أن يقول: أنت طالق أن دخلت الدار ـ بالفتح ـ أي لأجل دخولك الدار، ولم تكن دخلت. فهل يقع به الطلاق؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. وكذلك إذا قال: أنت طالق لأنك فعلت كذا ونحو ذلك، ولم تكن فعلته؟ ولو قيل له: امرأتك فعلت كذا، فقال: هي طالق. ثم تبين أنهم كذبوا عليها؟ ففيه قولان وتنازعوا في الطلاق المحرم. كالطلاق في الحيض، وكجمع الثلاث عند الجمهور الذين يقولون: إنه حرام، ولكن الأربعة وجمهور العلماء يقولون: كونه حرامًا لا يمنع وقوعه، كما أن الظهار محرم وإذا ظاهر ثبت حكم الظهار، وكذلك [النذر] قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عنه، ومع هذا يجب عليه الوفاء به بالنص والإجماع. والذين قالوا لا يقع: اعتقدوا أن كل ما نهي الله عنه فإنه يقع فاسدًا لا يترتب عليه حكم، والجمهور فرقوا بين أن يكون الحكم يعمه لا يناسب فعل / المحرم: كحل الأموال والإبضاع وإجزاء العبادات وبين أن يكون عبادة تناسب فعل المحرم كالإيجاب والتحريم؛ فإن المنهي عن شيء إذا فعله قد تلزمه بفعله كفارة أو حد، أو غير ذلك من العقوبات، فكذلك قد ينهي عن فعل شيء فإذا فعله لزمه به واجبات ومحرمات، ولكن لا ينهي عن شيء إذا فعله أحلت له بسبب فعل المحرم الطيبات؛ فبرئت ذمته من الواجبات؛ فإن هذا من [باب الإكرام والإحسان]، والمحرمات لا تكون سببًا محضًا للإكرام والإحسان، بل هي سبب للعقوبات إذا لم يتقوا الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: ومن هنا قال طائفة من العلماء: إن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق؛ فإن الله يبغض الطلاق، وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال تعالى في السحر: والله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بأفضل الشرائع وهي الحنيفية السمحة، كما قال: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)، فأباح لعباده المؤمنين الوطء بالنكاح. والوطء بملك اليمين. واليهود والنصارى لا يطؤون الا بالنكاح؛ لا يطؤون بملك اليمين. و[أصل ابتداء الرق] إنما يقع من السبي. والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال: (فضلنا على الأنبياء بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، / وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصه وبعثت إلى الناس عامة، وأعطيت الشفاعة). فأباح ـ سبحانه ـ للمؤمنين أن ينكحوا وأن يطلقوا، وأن يتزوجوا المرأة المطلقة بعد أن تتزوج بغير زوجها. و [النصارى] يحرمون النكاح على بعضهم، ومن أباحوا له النكاح لم يبيحوا له الطلاق. و[اليهود] يبيحون الطلاق، لكن إذا تزوجت المطلقة بغير زوجها حرمت عليه عندهم. والنصارى لا طلاق عندهم. واليهود لا مراجعة بعد أن تتزوج غيره عندهم. والله تعالى أباح للمؤمنين هذا وهذا. ولو أبيح الطلاق بغير عدد ـ كما كان في أول الأمر ـ لكان الناس يطلقون دائمًا؛ إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق، وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك، ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط؛ كالطلاق في الحيض حتى يباح دائمًا بسؤالها، بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء؛ إما نهي تحريم، أو نهي تنزيه. وما كان مباحًا للحاجة قدر بقدر الحاجة. والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، وكما قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج / فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا)، وكما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا. وهذه الأحاديث في الصحيح. وهذا مما احتج به من لا يري وقوع الطلاق إلا من القصد، ولا يري وقوع طلاق المكره؛ كما لا يكفر من تكلم بالكفر مكرها بالنص والإجماع؛ ولو تكلم بالكفر مستهزئًا بآيات الله وبالله ورسوله كفر؛ كذلك من تكلم بالطلاق هازلاً وقع به. ولو حلف بالكفر فقال: إن فعل كذا فهو بريء من الله ورسوله، أو فهو يهودي أو نصراني، لم يكفر بفعل المحلوف عليه، وإن كان هذا حكمًا معلقًا بشرط في اللفظ؛ لأن مقصوده الحلف به بغضاً له ونفورًا عنه؛ لا إرادة له، بخلاف من قال: إن أعطيتموني ألفًا كفرت فإن هذا يكفر. وهكذا يقول من يفرق بين الحلف بالطلاق وتعليقه بشرط لا يقصد كونه، وبين الطلاق المقصود عند وقوع الشرط. ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن الخُلع فسخ للنكاح، وليس هو من الطلقات الثلاث؛ كقول ابن عباس، والشافعي وأحمد في أحد قوليهما؛ لأن المرأة افتدت نفسها من الزوج كافتداء الأسير، وليس هو من الطلاق المكروه في الأصل؛ ولهذا يباح في الحيض، بخلاف الطلاق. وأما إذا عدل هو عن الخلع وطلقها إحدى الثلاث بعوض فالتفريط منه. وذهب طائفة من السلف؛ كعثمان بن عفان وغيره، ورووا في ذلك حديثًا مرفوعًا. وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد جعلوه مع الأجنبي فسخًا؛ كالإقاله. والصواب أنه مع الأجنبي كما هو مع المرأة؛فإنه إذا كان افتداء المرأة كما يفدي / الأسير فقد يفتدي الأسير بمال منه ومال من غيره، وكذلك العبد يعتق بمال يبذله هو وما يبذله الأجنبي، وكذلك الصلح يصح مع المدعي عليه ومع أجنبي، فإن هذا جميعه من باب الإسقاط والإزالة. وإذ كان الخلع رفعًا للنكاح، وليس هو من الطلاق الثلاث، فلا فرق بين أن يكون المال المبذول من المرأة، أو من أجنبي. وتشبيه فسخ النكاح بفسخ البيع، فيه نظر؛ فإن البيع لا يزول إلا برضا المتبايعين، لا يستقل أحدهما بإزالته؛ بخلاف النكاح؛ فإن المرأة ليس إليها إزالته، بل الزوج يستقل بذلك؛ لكن افتداؤها نفسها منه كافتداء الأجنبي لها. ومسائل الطلاق وما فيها من الإجماع والنزاع مبسوط في غير هذا الموضوع. والمقصود هنا إذا وقع به الثلاث حرمت عليه المرأة بإجماع المسلمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولا يباح إلا بنكاح ثان، وبوطئه لها عند عامة السلف والخلف؛ فإن النكاح المأمور به يؤمر فيه بالعقد. وبالوطء، بخلاف المنهي عنه؛ فإنه ينهي فيه عن كل من العقد والوطء؛ ولهذا كان النكاح الواجب والمستحب يؤمر فيه بالوطء من العقد، و[النكاح المحرم] يحرم فيه مجرد العقد، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا مرأة رفاعة القرظي ـ لما أرادت أن ترجع إلى رفاعة بدون الوطء ـ: (لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك). وليس في هذا خلاف إلا عن سعيد بن المسيب، فإنه ـ مع أنه أعلم التابعين ـ لم تبلغه السنة في هذه المسألة. و[النكاح المبيح] هو النكاح المعروف عند المسلمين، وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين / الزوجين مودة ورحمة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك)، فأما [نكاح المحلل] فإنه لا يحلها للأول عند جماهير السلف، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له)، وقال عمر بن الخطاب: لا أوتي بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما. وكذلك قال عثمان وعلى وابن عباس وابن عمر وغيرهم: إنه لا يبيحها إلا بنكاح رغبة؛ لا نكاح محلل. ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه رخص في نكاح التحليل. ولكن تنازعوا في [نكاح المتعة] فإن نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان مباحًا في أول الإسلام، بخلاف التحليل. الثاني: أنه رخص فيه ابن عباس وطائفة من السلف، بخلاف التحليل، فإنه لم يرخص فيه أحد من الصحابة. الثالث: أن المتمتع له رغبة في المرأة وللمرأة رغبة فيه إلى أجل، بخلاف المحلل فإن المرأة ليس لها رغبة فيه بحال، وهو ليس له رغبة فيها، بل في أخذ ما يعطاه، وإن كان له رغبة فهي من رغبته في الوطء، لا في اتخاذها زوجة، من جنس رغبة الزاني؛ ولهذا قال ابن عمر: لا يزالان زانيين، وإن مكثا عشرين سنة. إذ الله علم من قلبه أنه يريد أن يحلها له. ولهذا تعدم فيه خصائص النكاح؛ فإن النكاح المعروف كما قال تعالى: ومن ذلك الوليمة عليه، والنثار، والطيب، والشراب، ونحو ذلك مما جرت به عادات الناس في النكاح. وأما [التحليل] فإنه لا يفعل فيه شيء من هذا؛ لأن أهله لم يريدوا أن يكون المحلل زوج المرأة، ولا أن تكون المرأة امرأته؛ وإنما المقصود استعارته لينزو عليها، كما جاء في الحديث المرفوع تسميته بالتيس المستعار؛ ولهذا شبه بحمار العشريين الذي يكتري للتقفيز على الإناث؛ ولهذا لا تبقي المرأة مع زوجها بعد التحليل كما كانت قبله، بل يحصل بينهما نوع من النفرة. ولهذا لما لم يكن في التحليل مقصود صحيح يأمر به الشارع، صار الشيطان يشبه به أشياء مخالفة للإجماع، فصار طائفة من عامة الناس يظنون أن ولادتها لذكر يحلها، أو أن وطئها بالرجل على قدمها أو رأسها أو فوق سقف أو سلم هي تحته يحلها. ومنهم من يظن أنهما إذا التقيا بعرفات، كما التقي آدم وامرأته أحلها ذلك. ومنهن من إذا تزوجت بالمحلل به لم تمكنه من نفسها، بل تمكنه من أمة لها. ومنهن من تعطيه شيئا، وتوصيه بأن يقر بوطئها. ومنهم من يحلل الأم وبنتها. إلى أمور أخر قد بسطت في غير هذا الموضع، بيناها /في كتاب [بيان الدليل على بطلان التحليل]. ولا ريب أن المنسوخ من الشريعة وما تنازع فيه السلف خير من مثل هذا؛ فإنه لو قدر أن الشريعة تأتي بأن الطلاق لا عدد له لكان هذا ممكنا وإن كان هذا منسوخًا. وإما أن يقال: إن من طلق امرأته لا تحل له حتى يستكري من يطأها فهذا لا تأتي به شريعة. وكثير من أهل التحليل يفعلون أشياء محرمة باتفاق المسلمين؛ فإن المرأة المعتدة لا يحل لغير زوجها أن يصرح بخطبتها، سواء كانت معتدة من عدة طلاق أو عدة وفاة، قال تعالى: وهؤلاء [أهل التحليل] قد يواعد أحدهم المطلقة ثلاثًا، ويعزمان قبل أن تنقضي عدتها وقبل نكاح الثاني على عقدة النكاح بعد النكاح الثاني نكاح المحلل، ويعطيها ما تنفقه على شهود عقد التحليل، وللمحلل، وما ينفقه عليها في عدة التحليل، والزوج المحلل لا يعطها مهرًا، ولا نفقة عدة، ولا نفقة طلاق؛ فإذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز في هذه وقت نكاحها بالثاني أن يخطبها الأول ـ لا تصريحًا ولا تعريضًا ـ فكيف إذا خطبها قبل أن تتزوج بالثاني؟ أو إذا كان بعد أن يطلقها الثاني لا يحل للأول أن يواعدها سرًا، ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، فكيف إذا فعل ذلك من قبل أن يطلق؟ ! بل قبل أن يتزوج! بل قبل أن تنقضي عدتها منه! فهذا كله يحرم باتفاق المسلمين. وكثير من أهل التحليل يفعله، وليس في التحليل صورة اتفق المسلمون على حلها ولا صورة أباحها النص، بل من صور التحليل ما أجمع المسلمون على تحريمه، ومنها ما تنازع فيه العلماء. وأما الصحابة فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له منهم؛ وهذا وغيره يبين أن من التحليل ما هو شر من نكاح المتعة وغيره / من الأنكحة التي تنازع فيها السلف، وبكل حال فالصحابة أفضل هذه الأمة وبعدهم التابعون، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فنكاح تنازع السلف في جوازه أقرب من نكاح أجمع السلف على تحريمه. وإذا تنازع فيه الخلف فإن أولئك أعظم علمًا ودينًا؛ وما أجمعوا على تعظيم تحريمه كان أمره أحق مما اتفقوا على تحريمه وإن اشتبه تحريمه على من بعدهم. والله تعالى أعلم.
فأجاب: الحمد لله، لا يحل للزوج أن يتزوجها إذا طلقها ثلاثًا عند جمهور العلماء، فإن مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه: أن نكاح هذه صحيح، وإن كان قبل البلوغ. ومذهب مالك وأحمد في المشهور أن الطلاق يقع في النكاح الفاسد المختلف فيه. ومثل هذه المسائل يقبح، فإنها / من أهل البغي، فإنهم لا يتكلمون في صحة النكاح حين كان يطأها ويستمتع بها، حتى إذا طلقت ثلاثًا أخذوا يسعون فيما يبطل النكاح، حتى لا يقال: إن الطلاق وقع؟ ! وهذا من المضادة لله في أمره، فإنه حين كان الوطء حرامًا لم يتحر ولم يسأل، فلما حرمه الله أخذ يسأل عما يباح به الوطء. ومثل هذا يقع في المحرم بإجماع المسلمين، وهو فاسق؛ لأن مثل هذه المرأة إما أن يكون نكاحها الأول صحيحًا، وإما ألا يكون. فإن كان صحيحًا فالطلاق الثلاث واقع، والوطء قبل نكاح زوج غيره حرام. وإن كان النكاح الأول باطلاً كان الوطء فيه حرامًا، وهذا الزوج لم يتب من ذلك الوطء. وإنما سأل حين طلق؛ لئلا يقع به الطلاق، فكان سؤالهم عما به يحرم الوطء الأول، لأجل استحلال الوطء الثاني. وهذه المضادة لله ورسوله. والسعي في الأرض بالفساد، فإن كان هذا الرجل طلقها ثلاثًا فليتق الله، وليجتنبها، وليحفظ حدود الله؛ فإن
فأجاب: لا يجب في هذا النكاح حد إذا اعتقد صحته، بل يلحق به النسب ويجب فيه المهر، ولا يحصل الإحصان بالنكاح الفاسد. ويقع الطلاق في النكاح المختلف فيه إذا اعتقد صحته. وإذا تبين أن المزوج ليس له ولاية بحال ففارقها الزوج حين علم فطلقها ثلاثًا لم يقع طلاق والحال هذه؛ وله أن يتزوجها من غير أن تنكح زوجًا غيره.
فأجاب: الحمد لله، إن كان قد طلقها ثلاثًا فقد وقع به الطلاق، وليس لأحد بعد الطلاق الثلاث أن ينظر في الولي: هل كان عدلاً أو فاسقًا؛ ليجعل فسق الولي ذريعة إلى عدم وقوع الطلاق؛ فإن أكثر / الفقهاء يصححون ولاية الفاسق، وأكثرهم يوقعون الطلاق في مثل هذا النكاح، بل وفي غيره من الأنكحة الفاسدة. فإذا فرع على أن النكاح فاسد، وأن الطلاق لا يقع فيه، فإنما يجوز أن يستحل الحلال من يحرم الحرام؛ وليس لأحد أن يعتقد الشيء حلالاً حرامًا. وهذا الزوج كان وطئها قبل الطلاق، ولو ماتت لورثها، فهو عامل على صحة النكاح، فكيف يعمل بعد الطلاق على فساده؟ ! فيكون النكاح صحيحًا إذا كان له غرض في صحته، فاسدًا إذا كان له غرض في فساده! وهذا القول يخالف إجماع المسلمين؛ فإنهم متفقون على أن من اعتقد حل الشيء كان عليه أن يعتقد ذلك، سواء وافق غرضه أو خالفه، ومن اعتقد تحريمه كان عليه أن يعتقد ذلك في الحالين. وهؤلاء المطلقون لا يفكرون في فساد النكاح بفسق الولي إلا عند الطلاق الثلاث، لا عند الاستمتاع والتوارث، فيكونون في وقت يقلدون من يفسده، وفي وقت يقلدون من يصححه بحسب الغرض والهوى! ومثل هذا لا يجوز باتفاق الأمة. ونظير هذا أن يعتقد الرجل ثبوت [شفعة الجوار] إذا كان طالبًا لها، ويعتقد عدم الثبوت إذا كان مشتريًا؛ فإن هذا لا يجوز بالإجماع، وهذا أمر مبني على صحة ولاية الفاسق في حال نكاحه، وبني على فساد ولايته / في حال طلاقه، فلم يجز ذلك بإجماع المسلمين. ولو قال المستفتي المعين: أنا لم أكن أعرف ذلك، وأنا من اليوم ألتزم ذلك، لم يكن من ذلك؛ لأن ذلك يفتح باب التلاعب بالدين، وفتح للذريعة إلى أن يكون التحليل والتحريم بحسب الأهواء. والله أعلم.
فأجاب: إذا طلقها ثلاثًا وقع به الطلاق. ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة العقد، ولم ينظر في صفته قبل ذلك، فهو من المتعدين لحدود الله، فإنه يريد أن يستحل محارم الله قبل الطلاق، وبعده. والطلاق في النكاح الفاسد المختلف فيه عند مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة، والنكاح بولاية الفاسق، يصح عند جماهير الأئمة. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، إذا تزوجها بلا ولي ولا شهود، وكتما النكاح، فهذا نكاح باطل باتفاق الأئمة، بل الذي عليه العلماء أنه (لا نكاح إلا بولي)، (وأيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). وكلا هذين اللفظين مأثور في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال غير واحد من السلف: لا نكاح إلا بشاهدين. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. ومالك يوجب إعلان النكاح. و[نكاح السر] هو من جنس نكاح البغايا، وقد قال الله تعالى:
فأجاب: إذا تزوجت بالثاني قبل أن توفي عدة الأول، وقد فارقها الأول؛ إما لفساد نكاحه، وإما لتطليقه لها، وإما لتفريق الحاكم بينهما، فنكاحها فاسد، تستحق العقوبة، هي، وهو، ومن زوجها، بل عليها أن تتم عدة الأول، ثم إن كان الثاني قد وطئها اعتدت له عدة أخري؛ فإذا انقضت العدتان تزوجت حينئذ بمن شاءت؛ بالأول، أو بالثاني، أو غيرهما.
/ فأجاب: إن كان تزوجها نكاحًا شرعيًا؛ إما على قول أبي حنيفة بصحة نكاح الحر بالأمة، وإما على قول مالك والشافعي وأحمد بأن يكون عادمًا للطول، خائفًا من العنت، فنكاحه لا يبطل بعتقها، بل هي زوجته بعد العتق، لكن عند أبي حنيفة في رواية لها الفسخ، فلها أن تفسخ النكاح، فإذا قضت عدته تزوجت بغيره إن شاءت، وعند مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه لا خيار لها، بل هي زوجته؛ ومتى تزوجت قبل أن يفسخ النكاح، فنكاحها باطل باتفاق الأئمة. وأما إن كان نكاحها الأول فاسدًا فإنه يفرق بينهما، وتتزوج من شاءت بعد انقضاء العدة.
فأجاب: الحمد لله، أما إن كان المقر فاسقًا أو مجهولاً لم يقبل قوله في إسقاط العدة التي فيها حق الله، وليس هذا إقرارًا محضاً على نفسه حتى يقبل من الفاسق بل فيه حق لله، إذ في العدة حق الله، وحق للزوج. وأما إذا كان عدلاً غير متهم؛ مثل أن يكون غائبًا فلما حضر أخبرها أنه طلق من مدة كذا وكذا: فهل تعتد من حين بلغها الخبر إذا لم تقم بذلك بينة؟ أو من حين الطلاق، كما لو قامت به بينة؟ فيه خلاف مشهور عن أحمد وغيره، والمشهور عنه هو الثاني. والله أعلم.
فأجاب: /الحمد لله، لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين، وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين، لكن للعلماء في العقد قولان: أصحهما أن العقد باطل؛ كمذهب مالك وأحمد وغيرهما. وحينئذ فيجب التفريق بينهما، ولا مهر عليه، ولا نصف مهر، ولا متعة، كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول، لكن ينبغي أن يفرق بينهما حاكم يري فساد العقد؛ لقطع النزاع. والقول الثاني: أن العقد صحيح، ثم لا يحل له الوطء حتى تضع؛ كقول أبي حنيفة. وقيل: يجوز له الوطء قبل الوضع؛ كقول الشافعي. فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر، لكن هذا النزاع إذا كانت حاملاً من وطء شبهة أو سيد أو زوج؛ فإن النكاح باطل باتفاق المسلمين؛ ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول. وأما الحامل من الزنا فلا كلام في صحة نكاحها، والنزاع فيما إذا كان نكحها طائعًا، وأما إذا نكحها مكرهًا فالنكاح باطل في مذهب الشافعي، وأحمد، وغيرهما.
فأجاب: له أن يتزوج، لكن ينكح نكاحًا مطلقًا لا يشترط فيه توقيتًا بحيث يكون إن شاء مسكها وإن شاء طلقها. وإن نوي طلاقها حتمًا عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك. وفي صحة النكاح نزاع، ولو نوي أنه إذا سافر وأعجبته أمسكها وإلا طلقها جاز ذلك. فأما أن يشترط التوقيت فهذا [نكاح المتعة] الذي اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريمه، وإن كان طائفة يرخصون فيه: إما مطلقًا، وإما للمضطر، كما قد كان ذلك في صدر الإسلام، فالصواب أن ذلك منسوخ، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رخص لهم في المتعة عام الفتح قال: (إن الله قد حرم المتعة إلى يوم القيامة)، والقرآن قد حرم أن يطأ الرجل إلا زوجة أو مملوكته بقوله: وإذا اشترط الأجل قبل العقد فهو كالشرط المقارن في أصح قولي العلماء، وكذلك في [نكاح المحلل]. وأما إذا نوي الزوج الأجل ولم يظهره للمرأة، فهذا فيه نزاع: يرخص فيه أبو حنيفة والشافعي، ويكرهه مالك وأحمد وغيرهما، كما أنه لو نوي التحليل كان ذلك مما اتفق الصحابة على النهي عنه، وجعلوه من نكاح المحلل، لكن نكاح المحلل شر من نكاح المتعة؛ فإن نكاح المحلل لم يبح قط، إذ ليس مقصود المحلل أن ينكح، وإنما مقصوده أن يعيدها إلى المطلق قبله، فهو يثبت العقد ليزيله، وهذا لا يكون مشروعًا بحال، بخلاف المستمتع فإن له غرضًا في الاستمتاع، لكن التأجيل يخل بمقصود النكاح من المودة والرحمة والسكن، ويجعل الزوجة بمنزلة المستأجرة، فلهذا كانت النية في نكاح المتعة أخف من النية في نكاح المحلل، وهو يتردد بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه. وأما [العزل] فقد حرمه طائفة من العلماء، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز بإذن المرأة. والله أعلم.
/ فأجاب: هذا قول باطل، مخالف لأئمة المسلمين المشهورين وغيرهم من أئمة المسلمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمطلقة ثلاثًا: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، وهذا نص في أنه لابد من العسيلة. وهذا لا يكون بالدبر، ولا يعرف في هذا خلاف. وأما ما يذكر عن بعض المالكية ـ وهم يطعنون في أن يكون هذا قولاً ـ وما يذكر عن سعيد بن المسيب من عدم اشتراط الوطء، فذاك لم يذكر فيه وطء الدبر، وهو قول شاذ صحت السنة بخلافه، وانعقد الإجماع قبله وبعده. نكاح الزانية حرام حتى تتوب، سواء كان زني بها هو أو غيره. هذا هو الصواب بلا ريب، وهو مذهب طائفة من السلف والخلف ـ منهم / أحمد بن حنبل وغيره ـ وذهب كثير من السلف والخلف إلى جوازه، وهو قول الثلاثة، لكن مالك يشترط الاستبراء، وأبو حنيفة يجوز العقد قبل الاستبراء إذا كانت حاملاً، لكن إذا كانت حاملاً لا يجوز وطؤها حتى تضع، والشافعي يبيح العقد والوطء مطلقًا؛ لأن ماء الزاني غير محترم، وحكمه لا يلحقه نسبه. هذا مأخذه. وأبو حنيفة يفرق بين الحامل وغير الحامل؛ فان الحامل إذا وطئها استلحق ولدا ليس منه قطعًا، بخلاف غير الحامل. ومالك وأحمد يشترطان [الاستبراء] وهو الصواب، لكن مالك وأحمد في رواية يشترطان الاستبراء بحيضة، والرواية الأخرى عن أحمد ـ هي التي عليها كثير من أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه ـ أنه لابد من ثلاث حيض، والصحيح أنه لا يجب إلا الاستبراء فقط؛ فإن هذه ليست زوجة يجب عليها عدة، وليست أعظم من المستبرأة التي يلحق ولدها سيدها، وتلك لا يجب عليها إلا الاستبراء، فهذه أولي. وإن قدر أنها حرة ـ كالتي أعتقت بعد وطء سيدها وأريد تزويجها إما من المعتق وإما من غيره ـ فإن هذه عليها استبراء عند الجمهور، ولا عدة عليها. وهذه الزانية ليست كالموطوءة بشبهة التي يلحق ولدها بالواطئ، مع أن في إيجاب العدة على تلك نزاعًا. وقد ثبت بدلالة الكتاب وصريح السنة وأقوال الصحابة: أن [المختلعة] ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة، لا عدة كعدة المطلقة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول عثمان بن عفان، وابن عباس، وابن عمر في آخر قوليه. وذكر مكي: أنه إجماع الصحابة، وهو قول قبيصة بن ذؤيب، / وإسحاق بن راهويه، وابن المنذر، وغيرهم من فقهاء الحديث. وهذا هو الصحيح كما قد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر. فإذا كانت المختلعة لكونها ليست مطلقة ليس عليها عدة المطلقة بل الاستبراء ـ ويسمى الاستبراء عدة ـ فالموطوءة بشبهة أولي، والزانية أولى. وأيضًا، [فالمهاجرة] من دار الكفر كالممتحنة التي أنزل الله فيها: /أما أولاً، فإن عائشة قد ثبت عنها من غير وجه أن العدة عندها ثلاثة أطهار، وأنها إذا طعنت في الحيضة الثالثة حلت، فكيف تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها أن تعتد بثلاث حيض؟ ! والنزاع بين المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم في العدة: هل هي ثلاث حيض، أو ثلاث أطهار؟ وما سمعنا أحدًا من أهل العلم احتج بهذا الحديث على أنها ثلاث حيض، ولو كان لهذا أصل عن عائشة، لم يخف ذلك على أهل العلم قاطبة. ثم هذه سنة عظيمة تتوافر الهمم والدواعي على معرفتها؛ لأن فيها أمرين عظيمين: أحدهما: أن المعتقة تحت عبد تعتد بثلاث حيض. والثاني: أن العدة ثلاث حيض. وأيضًا فلو ثبت ذلك كان يحتج به من يري أن المعتقة إذا اختارت نفسها كان ذلك طلقة بائنة ـ كقول مالك وغيره ـ وعلى هذا، فالعدة لا تكون إلا من طلاق، لكن هذا ـ أيضًا ـ قول ضعيف. والقرآن والسنة والاعتبار يدل على أن الطلاق لا يكون إلا رجعيًا، وأن كل فرقة مباينة، فليست من الطلقات الثلاث حتى الخلع، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. والمقصود هنا الكلام في نكاح الزانية، وفيه مسألتان: إحداهما: في استبرائها، وهو عدتها، وقد تقدم قول من قال: لا حرمة لماء الزاني. يقال له: الاستبراء، لم يكن لحرمة ماء الأول، بل لحرمة ماء الثاني؛ فإن الإنسان ليس له أن يستلحق ولدًا ليس منه، وكذلك إذا لم يستبرئها وكانت قد علقت من الزاني. وأيضًا ففي استلحاق الزاني ولده إذا لم تكن المرأة / فراشًا قولان لأهل العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فجعل الولد للفراش دون العاهر. فإذا لم تكن المرأة فراشًا لم يتناوله الحديث، وعمر ألحق أولادًا ولدوا في الجاهلية بآبائهم. وليس هذا موضع بسط هذه المسألة. والثانية: أنها لا تحل حتى تتوب؛ وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، والمشهور في ذلك آية النور قوله تعالى: أما أولاً: فليس في القرآن لفظ نكاح إلا ولابد أن يراد به العقد، وإن دخل فيه الوطء أيضًا. فإما أن يراد به مجرد الوطء، فهذا لا يوجد في كتاب الله قط. وثانيها: أن سبب نزول الآية إنما هو استفتاء النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج بزانية، فكيف يكون سبب النزول خارجًا من اللفظ؟ ! الثالث: أن قول القائل: الزاني لا يطأ إلا زانية، أو الزانية لا يطؤها إلا زان، كقوله: الآكل لا يأكل إلا مأكولاً، والمأكول لا يأكله إلا / آكل، والزوج لا يتزوج إلا بزوجة، والزوجة لا يتزوجها إلا زوج؛ وهذا كلام ينزه عنه كلام الله. الرابع: أن الزاني قد يستكره امرأة فيطؤها فيكون زانيًا ولا تكون زانية، وكذلك المرأة قد تزني بنائم ومكره على أحد القولين، ولا يكون زانيًا. الخامس: أن تحريم الزنا قد علمه المسلمون بآيات نزلت بمكة وتحريمه أشهر من أن تنزل هذه الآية بتحريمه. السادس: قال: السابع: أنه قد قال قبل ذلك: وأما النسخ، فقال سعيد بن المسيب وطائفة: نسخها قوله: وقول من قال: هي منسوخة بقوله: /وقد احتجوا بالحديث الذي فيه: إن امرأتي لا ترد يد لامس. فقال: (طلقها). فقال: إني أحبها. قال: (فاستمتع بها) الحديث. رواه النسائي، وقد ضعفه أحمد وغيره، فلا تقوم به حجة في معارضة الكتاب والسنة؛ ولو صح لم يكن صريحًا؛ فإن من الناس من يؤول [اللامس] بطالب المال؛ لكنه ضعيف. لكن لفظ [اللامس] قد يراد به من مسها بيده، وإن لم يطأها فإن من النساء من يكون فيها تبرج، وإذا نظر إليها رجل أو وضع يده عليها لم تنفر عنه. ولا تمكنه من وطئها. ومثل هذا نكاحها مكروه؛ ولهذا أمره بفراقها، ولم يوجب ذلك عليه؛ لما ذكر أنه يحبها؛ فإن هذه لم تزن، ولكنها مذنبة ببعض المقدمات؛ ولهذا قال: لا ترد يد لامس. فجعل اللمس باليد فقط. ولفظ: [اللمس، والملامسة] إذا عني بهما الجماع لا يخص باليد، بل إذا قرن باليد فهو كقوله تعالى: وأيضًا، فالتي تزني بعد النكاح ليست كالتي تتزوج وهي زانية؛ فإن دوام النكاح أقوي من ابتدائه. والإحرام والعدة تمنع الابتداء دون الدوام فلو قدر أنه قام دليل شرعي على أن الزانية بعد العقد لا يجب فراقها لكان الزنا كالعدة تمنع الابتداء دون الدوام جمعًا بين الدليلين. فإن قيل: ما معني قوله: ولهذا لما كان المتزوج بالزانية زانيًا كان مذمومًا عند الناس؛ وهو مذموم أعظم مما يذم الذي يزني بنساء الناس؛ ولهذا يقول في الشتمة: سبه بالزاي والقاف. أي قال: يا زوج القحبة، فهذا أعظم ما يتشاتم به الناس؛ لما قد استقر عند المسلمين من قبح ذلك، فكيف يكون مباحًا؟ ! ولهذا كان قذف المرأة طعنًا في زوجها، فلو كان يجوز له التزوج ببغي لم يكن ذلك طعنًا في الزوج؛ ولهذا قال من قال من السلف: ما بغت امرأة نبي قط. فالله تعالى أباح للأنبياء أن يتزوجوا كافرة، ولم يبح تزوج البغي؛ لأن هذه تفسد مقصود النكاح، بخلاف الكافرة؛ ولهذا أباح الله للرجل أن يلاعن مكان أربعة شهداء إذا زنت امرأته وأسقط عنه الحد بلعانه؛ لما في ذلك من الضرر عليه. وفي الحديث: (لا يدخل الجنة ديوث). والذي يتزوج ببغي هو ديوث، وهذا مما فطر الله على ذمه وعيبه بذلك جميع عباده المؤمنين بل وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم، كلهم يذم من تكون / امرأته بغيًّا، ويشتم بذلك، ويعير به فكيف ينسب إلى شرع الإسلام إباحة ذلك؟ ! وهذا لا يجوز أن يأتي به نبي من الأنبياء، فضلاً عن أفضل الشرائع؛ بل يجب أن تنزه الشريعة عن مثل هذا القول الذي إذا تصوره المؤمن ولوازمه استعظم أن يضاف مثل هذا إلى الشريعة، ورأي أن تنزيهها عنه أعظم من تنزيه عائشة عما قاله أهل الإفك، وقد أمر الله المؤمنين أن يقولوا: أحدها: أنها ليست من أمهات المؤمنين. والثاني: أنها من أمهات المؤمنين. والثالث: يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها. والأول أصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خير نساءه بين الإمساك والفراق وكان المقصود لمن فارقها أن يتزوجها غيره. فلو كان هذا مباحًا لم يكن ذلك قدحًا في دينه. /وبالجملة فهذه المسألة في قلوب المؤمنين أعظم من أن تحتاج إلى كثرة الأدلة؛ فإن الإيمان والقرآن يحرم مثل ذلك، لكن لما كان قد أباح مثل ذلك كثير من علماء المسلمين ـ الذين لا ريب في علمهم ودينهم من التابعين ومن بعدهم وعلو قدرهم ـ بنوع تأويل تأولوه احتيج إلى البسط في ذلك. ولهذا نظائر كثيرة، يكون القول ضعيفًا جدًا، وقد اشتبه أمره على كثير من أهل العلم والإيمان وسادات الناس؛ لأن الله لم يجعل العصمة عند تنازع المسلمين إلا في الرد إلى الكتاب والسنة، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق على الهوى. فإن قيل: فقد قال: /وأيضًا، فإنه إذا كان يزني بنساء الناس كان هذا مما يدعو المرأة إلى أن تمكن منها غيره، كما هو الواقع كثيرًا، فلم أر من يزني بنساء الناس أو ذكران إلا فيحمل امرأته على أن تزني بغيره مقابلة على ذلك ومغايظة. وأيضًا، فإذا كان عادته الزنا استغني بالبغايا، فلم يكف امرأته في الإعفاف، فتحتاج إلى الزنا. وأيضًا، فإذا زني بنساء الناس طلب الناس أن يزنوا بنساءه، كما هو الواقع. فامرأة الزاني تصير زانية من وجوه كثيرة، وإن استحلت ما حرمه الله كانت مشركة؛ وإن لم تزن بفرجها زنت بعينها وغير ذلك، فلا يكاد يعرف في نساء الرجال الزناة المصرين على الزنا الذين لم يتوبوا منه امرأة سليمة سلامة تامة، وطبع المرأة يدعو إلى الرجال الأجانب إذا رأت زوجها يذهب إلى النساء الأجانب، وقد جاء في الحديث: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم). فقوله: وكذلك حصان رزان مـا تـزن بريبـة ** وتصبح غرثي من لحوم الغوافل ثم عادة العرب أن الحرة عندهم لا تعرف بالزنا، وإنما تعرف بالزنا الإماء؛ ولهذا لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم هند امرأة أبي سفيان على ألا تزني قالت: أو تزني الحرة؟ ! فهذا لم يكن معروفًا عندهم. والحرة خلاف الأمة صارت في عرف العامة أن الحرة هي العفيفة؛ لأن الحرة التي ليست أمة كانت معروفة عندهم بالعفة، وصار لفظ الإحصان يتناول الحرية مع العفة؛ لأن الإماء لم يكن عفائف، وكذلك الإسلام هو ينهي عن الفحشاء والمنكر وكذلك المرأة المتزوجة زوجها يحصنها؛ لأنها تستكفي به، ولأنه يغار عليها، فصار لفظ الإحصان يتناول: الإسلام، والحرية، والنكاح. وأصله إنما هو العفة؛ فإن العفيفة هي التي أحصن فرجها من غير صاحبها، كالمحصن الذي يمتنع من غير أهله، وإذا كان الله إنما أباح من المسلمين وأهل الكتاب نكاح المحصنات، والبغايا لسن محصنات فلم يبح الله نكاحهن. ومما يدل على ذلك قوله: /فإن قيل: إنما أراد بذلك أنك تبتغي بمالك النكاح لا تبتغي به السفاح فتعطيها المهر على أن تكون زوجتك ليس لغيرك فيها حق، بخلاف ما إذا أعطيتها على أنها مسافحة لمن تريد، وأنها صديقة لك تزني بك دون غيرك، فهذا حرام؟ قيل: فإذا كان النكاح مقصوده أنها تكون له، لا لغيره، وهي لم تتب من الزنا، لم تكن موفية بمقتضي العقد؟ فإن قيل: فإنه يحصنها بغير اختيارها، فيسكنها حيث لا يمكنها الزنا. قيل: أما إذا أحصنها بالقهر فليس هو بمثل الذي يمكنها من الخروج إلى الرجال، ودخول الرجال إليها؛ لكن قد عرف بالعادات والتجارب أن المرأة إذا كانت لها إرادة في غير الزوج احتالت إلى ذلك بطرق كثيرة وتخفي على الزوج، وربما افسدت عقل الزوج بما تطعمه، وربما سحرته أيضًا، وهذا كثير موجود: رجال أطعمهم نساؤهم، وسحرتهم نساؤهم، حتى يمكن المرأة أن تفعل ما شاءت. وقد يكون قصدها مع ذلك ألا يذهب هو إلى غيرها، فهي تقصد منعه من الحلال، أو من الحرام والحلال. وقد تقصد أن يمكنها أن تفعل ما شاءت فلا يبقي محصنا لها قوامًا عليها، بل تبقي هي الحاكمة عليه. فإذا كان هذا موجودًا فيمن تزوجت ولم تكن بغيًا، فكيف بمن كانت بغيًا؟ ! والحكايات في هذا الباب كثيرة. وياليتها مع التوبة يلزم / معه دوام التوبة، فهذا إذا أبيح له نكاحها، وقيل له: أحصنها، واحتفظ أمكن ذلك. أما بدون التوبة، فهذا متعذر أو متعسر. ولهذا تكلموا في توبتها فقال ابن عمر وأحمد بن حنبل: يراودها على نفسها. فإن أجابته كما كانت تجيبه لم تتب. وقالت طائفة ـ منهم أبو محمد: لا يراودها؛ لأنها قد تكون تابت فإذا راودها نقضت التوبة؛ ولأنه يخاف عليه إذا راودها أن يقع في ذنب معها. والذين اشترطوا امتحانها قالوا: لا يعرف صدق توبتها بمجرد القول، فصار كقوله: وقوله تعالى: وقد روي عن ابن عباس: {الْمُحْصَنَاتِ} عفائف غير زوان. فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على نكاح السر، فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان شبيه به، لا سيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود / وكتما ذلك، فهذا مثل الذي يتخذ صديقة ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا، فلا يشاء من يزني بامرأة صديقة له إلا قال: تزوجتها. ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر: إنه يزني بها إلا قال ذلك، فلابد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين. قال الله تعالى: واشتراط الإشهاد وحده ضعيف، ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث. ومن الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائمًا له شروط لم يبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما تعم به البلوي، فجميع المسلمين يحتاجون إلى معرفة هذا. وإذا كان هذا شرطًا كان ذكره أولى من ذكر المهر وغيره مما لم يكن له ذكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبين أنه ليس مما / أوجبه الله على المسلمين في مناكحهم. قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإشهاد على النكاح شيء، ولو أوجبه لكان الإيجاب إنما يعرف من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا من الأحكام التي يجب إظهارها وإعلانها، فاشتراط المهر أولي؛ فإن المهر لا يجب تقديره في العقد بالكتاب والسنة والإجماع، ولو كان قد أظهر ذلك لنقل ذلك عن الصحابة، ولم يضيعوا حفظ ما لابد للمسلمين عامة من معرفته، فإن الهمم والدواعي تتوافر على نقل ذلك، والذي يأمر بحفظ ذلك ـ وهم قد حفظوا نهيه عن نكاح الشغار، ونكاح المحرم، ونحو ذلك من الأمور التي تقع قليلاً ـ فكيف النكاح بلا إشهاد إذا كان الله ورسوله قد حرمه وأبطله كيف لا يحفظ في ذلك نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! بل لو نقل في ذلك شيء من أخبار الآحاد، لكان مردودًا عند من يري مثل ذلك؛ فإن هذا من أعظم ما تعم به البلوى أعظم من البلوى بكثير من الأحكام، فيمتنع أن يكون كل نكاح للمسلمين لا يصح إلا بإشهاد، وقد عقد المسلمون من عقود الأنكحة ما لا يحصيه إلا رب السموات؛ فعلم أن اشتراط الإشهاد دون غيره باطل قطعًا؛ ولهذا كان المشترطون للإشهاد مضطربين اضطرابًا يدل على فساد الأصل، فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع، إذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين، والشهادة التي لا تجب عندهم قد أمر الله فيها بإشهاد ذوي العدل، فكيف بالإشهاد الواجب؟ !. /ثم من العجب أن اللّه أمر بالإشهاد في الرجعة ولم يأمر به في النكاح، ثم يأمرون به في النكاح ولا يوجبه أكثرهم في الرجعة. واللّه أمر بالإشهاد في الرجعة؛ لئلا ينكر الزوج ويدوم مع امرأته، فيفضي إلى إقامته معها حراما، ولم يأمر بالإشهاد على طلاق لا رجعة معه. لأنه حنيئذ يسرحها بإحسان عقيب العدة فيظهر الطلاق. ولهذا قال يزيد بن هارون مما يعيب به أهل الرأي: أمر اللّه بالإشهاد في البيع دون النكاح، وهم أمروا به في النكاح دون البيع. وهو كما قال. والإشهاد في البيع إما واجب وإما مستحب، وقد دل القرآن والسنة على أنه مستحب. وأما النكاح فلم يرد الشرع فيه بإشهاد واجب ولا مستحب، وذلك أن النكاح أمر فيه بالإعلان فأغني إعلانه مع دوامه عن الإشهاد، فإن المرأة تكون عند الرجل والناس يعلمون أنها امرأته، فكان هذا الإظهار الدائم مغنيا عن الإشهاد كالنسب؛ فإن النسب لا يحتاج إلى أن يشهد فيه أحداً على ولادة امرأته، بل هذا يظهر ويعرف أن امرأته ولدت هذا فأغني هذا عن الإشهاد، بخلاف البيع، فإنه قد يجحد ويتعذر إقامة البينة عليه؛ ولهذا إذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان إعلانه بالإشهاد، فالإشهاد قد يجب في النكاح؛ لأنه به يعلن ويظهر؛ لا لأن كل نكاح لا ينعقد إلا بشاهدين، بل إذا زوجه وليته ثم خرجا فتحدثا بذلك وسمع الناس، أو جاء الشهود والناس بعد العقد فأخبروهم بأنه تزوجها، كان هذا كافيا. وهكذا كانت عادة السلف، لم يكونوا يكلفون إحضار شاهدين، ولا كتابة صداق . /ومن القائلين بالإيجاب من اشتراط شاهدين مستورين، وهو لا يقبل عند الأداء إلا من تعرف عدالته، فهذا ـ أيضا ـ لا يحصل به المقصود. وقد شذ بعضهم فأوجب من يكون معلوم العدالة، وهذا مما يعلم فساده قطعا، فإن أنكحة المسلمين لم يكونوا يلتزمون فيها هذا. وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد على قوله باشتراط الشهادة. فقيل: يجزئ فاسقان، كقول أبي حنيفة. وقيل: يجزئ مستوران، وهذا المشهور عن مذهبه، ومذهب الشافعي. وقيل: في المذهب لابد من معروف العدالة. وقيل: بل إن عقد حاكم فلا يعقده إلا بمعروف العدالة، بخلاف غيره؛ فإن الحكام هم الذين يميزون بين المبرور والمستور. ثم المعروف العدالة عند حاكم البلد، فهو خلاف ما أجمع المسلمون عليه قديما وحديثا، حيث يعقدون الأنكحة فيما بينهم، والحاكم بينهم والحاكم لا يعرفهم. وإن اشترطوا من يكون مشهوراً عندهم بالخير فليس من شرط العدل المقبول الشهادة أن يكون كذلك. ثم الشهود يموتون وتتغير أحوالهم، وهم يقولون: مقصود الشهادة إثبات الفراش عند التجاحد، حفظا لنسب الولد. فيقال: هذا حاصل بإعلان النكاح، ولا يحصل بالإشهاد مع الكتمان مطلقا. فالذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإعلان يصح، وإن لم يشهد شاهدان. وأما مع الكتمان والإشهاد فهذا مما ينظر فيه. وإذا اجتمع الإشهاد والإعلان، فهذا الذي لا نزاع في صحته. وإن خلا عن الإشهاد والإعلان، فهو باطل عند العامة؛فإن قدر فيه خلاف / فهو قليل. وقد يظن أن في ذلك خلافا في مذهب أحمد، ثم يقال: بما يميز هذا عن المتخذات أخدانا. وفي المشترطين للشهادة من أصحاب أبي حنيفة من لا يعلل ذلك بإثبات الفراش، لكن كان المقصود حضور اثنين تعظيما للنكاح. وهذا يعود إلى مقصود الإعلان. وإذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض، ولا يعرف من عنده هل هي امرأته أو خدينه، مثل الأماكن التي يكثر فيها الناس المجاهيل، فهذا قد يقال: يجب الإشهاد هنا. ولم يكن الصحابة يكتبون صداقات؛ لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخروه فهو معروف، فلما صار الناس يتزوجون على المؤخر والمدة تطول وينسي، صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق، وفي أنها زوجة له، لكن هذا الإشهاد يحصل به المقصود، سواء حضر الشهود العقد أو جاؤوا بعد العقد فشهدوا على إقرار الزوج والزوجة والولي وقد علموا أن ذلك نكاح قد أعلن، وإشهادهم عليه من غير تواص بكتمانه إعلان. وهذا بخلاف الولي، فإنه قد دل عليه القرآن في غير موضع والسنة في غير موضع، وهو عادة الصحابة، إنما كان يزوج النساء الرجال، لا يعرف أن امرأة تزوج نفسها. وهذا مما يفرق فيه بين النكاح ومتخذات أخدان؛ ولهذا قالت عائشة: لا تزوج المرأة نفسها؛ فإن البغي هي التي تزوج نفسها. لكن لا يكتفي بالولي حتىيعلن، فإن من الأولياء من يكون مستحسنا على قرابته / قال اللّه تعالى: وأيضًا، فإن اللّه أوجب الصداق في غير هذا الموضع، ولم يوجب الإشهاد. فمن قال: إن النكاح يصح مع نفي المهر، ولا يصح إلا مع الإشهاد، فقد أسقط ما أوجبه اللّه، وأوجب ما لم يوجبه اللّه. وهذا مما يبين أن قول المدنيين وأهل الحديث أصح من قول الكوفيين في تحريمهم نكاح الشغار وأن علة ذلك إنما هو نفي المهر، فحيث يكون المهر، فالنكاح صحيح، كما هو قول المدنيين، وهو نص الروايتين، وأصحهما عن أحمد بن حنبل، واختيار قدماء أصحابه. وهذا وأمثاله مما يبين رجحان أقوال أهل الحديث والأثر وأهل الحجاز ـ كأهل المدينة ـ على ما خالفها من الأقوال التي قيلت برأي يخالف النصوص، لكن الفقهاء الذين قالوا برأي يخالف النصوص بعد اجتهادهم واستفراغ وسعهم ـ رضي اللّه عنهم ـ قد فعلوا ما قدروا عليه من طلب العلم واجتهدوا، واللّه يثيبهم، وهم مطيعون للّه ـ سبحانه ـ في ذلك، واللّه يثيبهم على اجتهادهم، فآجرهم اللّه على ذلك. وإن كان الذين علموا ما جاءت به النصوص / أفضل ممن خفيت عليه النصوص، وهؤلاء لهم أجران، وأولئك لهم أجر، كما قال تعالى: ومن تدبر نصوص الكتاب والسنة وجدها مفسرة لأمر النكاح، لا تشترط فيه ما يشترطه طائفة من الفقهاء، كما اشترط بعضهم: ألا يكون إلا بلفظ الإنكاح والتزويج. واشترط بعضهم أن يكون بالعربية، واشترط هؤلاء وطائفة ألا يكون إلا بحضرة شاهدين. ثم إنهم مع هذا صححوا النكاح مع نفي المهر. ثم صاروا طائفتين: طائفة تصحح نكاح الشغار؛ لأنه لا مفسد له إلا نفي المهر، وذلك ليس بمفسد عندهم. وطائفة تبطله، وتعلل ذلك بعلل فاسدة؛ كما قد بسطناه في مواضع. وصححوا نكاح المحلل الذي يقصد التحليل، فكان قول أهل الحديث وأهل المدينة الذين لم يشترطوا لفظاً معيناً في النكاح ولا إشهاد شاهدين مع إعلانه وإظهاره، وأبطلوا نكاح الشغار، وكل نكاح نفي فيه المهر، وأبطلوا نكاح المحلل. . . أشبه بالكتاب والسنة وآثار الصحابة. ثم إن كثيراً من أهل الرأي الحجازي والعراقي وسعوا باب الطلاق فأوقعوا طلاق السكران، والطلاق المحلوف به، وأوقع هؤلاء طلاق / المكره، وهؤلاء الطلاق المشكوك فيه فيما حلف به، وجعلوا الفرقة البائنة طلاقا محسوبا من الثلاث، فجعلوا الخلع طلاقا بائنا محسوبا من الثلاث. إلى أمور أخرى وسعوا به الطلاق الذي يحرم الحلال، وضيقوا النكاح الحلال. ثم لما وسعوا الطلاق صار هؤلاء يوسعون في الاحتيال في عود المرأة إلى زوجها، وهؤلاء لا سبيل عندهم إلى ردها، فكان هؤلاء في آصار وأغلال، وهؤلاء في خداع واحتيال. ومن تأمل الكتاب والسنة وآثار الصحابة تبين له أن اللّه أغني عن هذا، وأن اللّه بعث محمداً بالحنيفية السمحة التي أمر فيها بالمعروف ونهي عن المنكر، وأحل الطيبات وحرم الخبائث واللّه ـ سبحانه ـ أعلم. وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم.
|