الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن
والغرة النسمة من الرقيق ذكرًا كان أو أنثى، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، وإنما سمي غرة لبياضه لا يقبل في الدية عبد أسود أو جارية سوداء.حدثني بذلك أبو محمد الكُرابي حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا بن يحيى المنقري عن الأصمعي، عَن أبي عمرو ويرى أن عمر إنما استشهد مع المغيرة بغيره استثباتًا في القضية واستبراء للشبهة، وذلك أن الديات إنما جاء فيها الإبل والذهب والورق.وقد ذكر أيضًا في بعض الروايات البقر والغنم والحلل ولم يأت في شيء منها في الرقيق فاستنكر عمر رضي الله عنه ذلك في بدأة الرأي فاستزاده في البيان حتى جاء الثبت والله أعلم.قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار سمع طاوسًا عن ابن عباس عن عمر «أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل».قال الشيخ: المسطح عود من عيدان الخباء، وفيه دليل على أن القتل إذا وقع بما يقتل مثله غالبًا من خشب أو حجر أو نحوهما ففيه القصاص كالحديث إلاّ أن قوله: «وأن تقتل» لم يذكر في غير هذه الرواية.قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حَدَّثنا مجالد قال: حدثني الشعبي عن جابر بن عبد الله «أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد قال فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها، قال فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ميراثها لزوجها وولدها».قال الشيخ: دلالة هذا الحديث أن القتل كان يشبه الخطأ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديتها على عاقلة القاتلة.وفيه بيان أن الولد ليس من العاقلة وأن العاقلة لا ترث إلاّ ما فضل عن أصحاب السهام.قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان وابن السرح قالا: حَدَّثنا ابن وهب خبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عَن أبي هريرة قال:«اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية جنينها غرة عبد أو أمة وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حَمَل بن النابغة الهذلي كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع».قال الشيخ: قوله: «وورثها ولدها ومن معهم» يريد الدية.وفيه بيان أن الدية موروثة كسائر مالها الذي كانت تملكه أيام حياتها.وفيه دليل على أن الجنين يورث وتكون ديتها على سهام الميراث وذلك أن كل نفس تضمن بالدية فإنه يورث كما لو خرج حيًا ثم مات.وقوله: «ولا استهل»، الاستهلال رفع الصوت، يريد أنه تعلم حياته بصوت نطقٍ أو بكاء أو نحو ذلك.وقوله: «ذلك يطل»، يروى هذا الحرف على وجهين: أحدهما بطل على معنى الفعل الماضي من البطلان والآخر يطل على مذهب الفعل الغائب من قولهم طُل دمه إذا أهدر يُطل.وقوله صلى الله عليه وسلم: «هذا من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع فإنه لم يعبه بمجرد السجع دون ما تضمنه سجعه من الباطل.وإنما ضرب المثل بالكهان لأنهم كانوا يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون القلوب ويستصغون الأسماع إليها. فأما إذا وضع السجع في موضع حق فإنه ليس بمكروه وقد تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسجع في مواضع من كلامه كقوله للأنصار: «إما أنكم تقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع».وروي عنه أنه قال: «خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة».وقال أبا عمير ما فعل النغير.وقال في دعائه «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقول لا يسمع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع. أعوذ بك من هؤلاء الأربع». ومثل ذلك في الكلام كثير.وفي الخبر دليل على أن الدية في شبه الخطأ على العاقلة.قلت: والغرة إنما تجب في الجنين إذا سقط ميتًا فإن سقط حيًا ثم مات ففيه الدية كاملة.وفيه بيان أن الأجنة وإن كثرت ففي كل واحد منها غرة.واختلفوا في سن الغرة التي يجب قبولها ومبلغ قيمتها، فقال أبو حنيفة وأصحابه عبد أو أمة تعدل خمسمائة درهم، وقال مالك ستمائة درهم، وقصد كل واحد من الفريقين نصف عشر الدية، لأن الدية عند العراقي عشرة آلاف درهم، وعند المدني اثنا عشر ألفًا.وقيل خمسون دينارًا وهي أيضًا نصف العشر من دية الحر لأنهم لم يختلفوا أن الدية من الذهب ألف دينار.وقد استدل بعض الفقهاء من قوله: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة» على أن دية الأجنة سواء ذكرانًا كانت أو إناثا لأنه أرسل الكلام ولم يقيده بصفة.قال ولو كان يختلف الأمر في ذلك بالأنوثة والذكورة لبينه كما بين الدية في الذكر والأنثى من الأحرار البالغين.قلت: وهذه القضية صادقة في الحكم، إلاّ أن الاستدلال فيه بهذا اللفظ من هذا الحديث لا يصح لأنه حكاية فعل ولا عموم لحكاية الفعل. وإنما يصح هذا الاستدلال من رواية من روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة» من غير تفصيل والله أعلم.ومذهب الشافعي في دية الجنين قريب من مذاهب من تقدم ذكرهم، إلاّ أنه قومها من الإبل، فقال خمس من الإبل خمساها وهو بعيران قيمة خَلَفتين وثلاثة أخماسها قيمة ثلاث جذاع وحقاق، وذلك لأن دية شبه العمد عنده مغلظة منها أربعون خلفة وثلاثون حقة وثلاثون جذعة، فإن أعطى الغرة دون القيمة لم يقبل حتى يكون ابن سبع سنين أو ثمان.ويقبل عند أبي حنيفة الطفل وما دون السبع كالرقبة المستحقة في الكفارات.قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا عيسى عن محمد، يَعني ابن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل».قال أبو داود روى هذا الحديث حماد وخالد الواسطي عن محمد، يَعني ابن عمرو ولم يذكرا فيه بفرس أو بغل.قال الشيخ: يقال إن عيسى بن يونس قد وهم فيه وهو يغلط أحيانًا فيما يرويه إلاّ أنه قد روى عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير أنهم قالوا الغرة عبد أو أمة أو فرس. ويشبه أن يكون الأصل عندهم فيما ذهبوا إليه حديث أبي هريرة هذا والله أعلم.وأما البغل فأمره أعجب ويحتمل أن تكون هذه الزيادة إنما جاءت من قبل بعض الرواة على سبيل القيمة إذا عدمت الغرة من الرقاب والله أعلم.
|